هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

دخول

تفسيرالقران

descriptionتفسيرالقران - صفحة 3 Emptyتفسيرالقران

more_horiz
تذكير بمساهمة فاتح الموضوع :

السسلام عليكم ورحمه الله وبركاته
هاذا موضوع مخصص لتفسير القراان كامل

وباذن الله بضع التفسيرات كامله

وجزاكم الله خير




عدل سابقا من قبل PriNcE A7MeD في الأربعاء 3 أكتوبر 2012 - 12:26 عدل 1 مرات

descriptionتفسيرالقران - صفحة 3 Emptyرد: تفسيرالقران

more_horiz
-
تفسير
سورة
الملك
عدد آياتها
30

(



آية


1-30 )
وهي مكية






{ 1 - 4 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تَبَارَكَ الَّذِي
بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ
الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا
وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ * الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ
طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ
الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ
كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ }




{ تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ }

أي: تعاظم وتعالى، وكثر خيره، وعم إحسانه، من عظمته أن بيده ملك العالم
العلوي والسفلي، فهو الذي خلقه، ويتصرف فيه بما شاء، من الأحكام القدرية،
والأحكام الدينية، التابعة لحكمته، ومن عظمته، كمال قدرته التي يقدر بها
على كل شيء، وبها أوجد ما أوجد من المخلوقات العظيمة، كالسماوات والأرض.




وخلق الموت والحياة أي: قدر لعباده أن يحييهم ثم يميتهم؛


{ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا }

أي: أخلصه وأصوبه، فإن الله خلق عباده، وأخرجهم لهذه الدار، وأخبرهم
أنهم سينقلون منها، وأمرهم ونهاهم، وابتلاهم بالشهوات المعارضة لأمره،
فمن انقاد لأمر الله وأحسن العمل، أحسن الله له الجزاء في الدارين، ومن
مال مع شهوات النفس، ونبذ أمر الله، فله شر الجزاء.




{ وَهُوَ الْعَزِيزُ }

الذي له العزة كلها، التي قهر بها جميع الأشياء، وانقادت له المخلوقات.




{ الْغَفُورُ }

عن المسيئين والمقصرين والمذنبين، خصوصًا إذا تابوا وأنابوا، فإنه يغفر
ذنوبهم، ولو بلغت عنان السماء، ويستر عيوبهم، ولو كانت ملء الدنيا.




{ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا }

أي: كل واحدة فوق الأخرى، ولسن طبقة واحدة، وخلقها في غاية الحسن
والإتقان


{ مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ }

أي: خلل ونقص.




وإذا انتفى النقص من كل وجه، صارت حسنة كاملة، متناسبة من كل وجه، في
لونها وهيئتها وارتفاعها، وما فيها من الشمس والقمر والكواكب النيرات،
الثوابت منهن والسيارات.




ولما كان كمالها معلومًا، أمر [الله] تعالى بتكرار النظر إليها والتأمل
في أرجائها، قال:




{ فَارْجِعِ الْبَصَرَ }

أي: أعده إليها، ناظرًا معتبرًا


{ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ }

أي: نقص واختلال.




{ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ }

المراد بذلك: كثرة التكرار


{ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ }

أي: عاجزًا عن أن يرى خللًا أو فطورًا، ولو حرص غاية الحرص.




ثم صرح بذكر حسنها فقال:







{ 5 - 10 } { وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ
وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ
السَّعِيرِ * وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ
وَبِئْسَ الْمَصِيرُ * إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا
وَهِيَ تَفُورُ * تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ
فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ *
قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ
اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ *
وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ
السَّعِيرِ }




أي: ولقد جملنا


{ السَّمَاءَ الدُّنْيَا }

التي ترونها وتليكم،


{ بِمَصَابِيحَ }

وهي: النجوم، على اختلافها في النور والضياء، فإنه لولا ما فيها من
النجوم، لكانت سقفًا مظلمًا، لا حسن فيه ولا جمال.




ولكن جعل الله هذه النجوم زينة للسماء، [وجمالا]، ونورًا وهداية يهتدى
بها في ظلمات البر والبحر، ولا ينافي إخباره أنه زين السماء الدنيا
بمصابيح، أن يكون كثير من النجوم فوق السماوات السبع، فإن السماوات
شفافة، وبذلك تحصل الزينة للسماء الدنيا، وإن لم تكن الكواكب فيها،


{ وَجَعَلْنَاهَا }

أي: المصابيح


{ رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ }

الذين يريدون استراق خبر السماء، فجعل الله هذه النجوم، حراسة للسماء عن
تلقف الشياطين أخبار الأرض، فهذه الشهب التي ترمى من النجوم، أعدها الله
في الدنيا للشياطين،


{ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ }

في الآخرة


{ عَذَابِ السَّعِيرِ }

لأنهم تمردوا على الله، وأضلوا عباده، ولهذا كان أتباعهم من الكفار
مثلهم، قد أعد الله لهم عذاب السعير، فلهذا قال:


{ وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ
الْمَصِيرُ }

الذي يهان أهله غاية الهوان.




{ إِذَا أُلْقُوا فِيهَا }

على وجه الإهانة والذل


{ سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا }

أي: صوتًا عاليًا فظيعًا،


{ وَهِيَ تَفُورُ }

.




{ تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ }

أي: تكاد على اجتماعها أن يفارق بعضها بعضًا، وتتقطع من شدة غيظها على
الكفار، فما ظنك ما تفعل بهم، إذا حصلوا فيها؟" ثم ذكر توبيخ الخزنة
لأهلها فقال:


{ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ
يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ }

؟ أي: حالكم هذا واستحقاقكم النار، كأنكم لم تخبروا عنها، ولم تحذركم
النذر منها.




{ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا
نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ }

فجمعوا بين تكذيبهم الخاص، والتكذيب العام بكل ما أنزل الله ولم يكفهم
ذلك، حتى أعلنوا بضلال الرسل المنذرين وهم الهداة المهتدون، ولم يكتفوا
بمجرد الضلال، بل جعلوا ضلالهم، ضلالًا كبيرًا، فأي عناد وتكبر وظلم،
يشبه هذا؟




{ وَقَالُوا }

معترفين بعدم أهليتهم للهدى والرشاد:


{ لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ
السَّعِيرِ }

فنفوا عن أنفسهم طرق الهدى، وهي السمع لما أنزل الله، وجاءت به الرسل،
والعقل الذي ينفع صاحبه، ويوقفه على حقائق الأشياء، وإيثار الخير،
والانزجار عن كل ما عاقبته ذميمة، فلا سمع [لهم] ولا عقل، وهذا بخلاف أهل
اليقين والعرفان، وأرباب الصدق والإيمان، فإنهم أيدوا إيمانهم بالأدلة
السمعية، فسمعوا ما جاء من عند الله، وجاء به رسول الله، علمًا ومعرفة
وعملًا.




والأدلة العقلية: المعرفة للهدى من الضلال، والحسن من القبيح، والخير من
الشر، وهم -في الإيمان- بحسب ما من الله عليهم به من الاقتداء بالمعقول
والمنقول، فسبحان من يختص بفضله من يشاء، ويمن على من يشاء من عباده،
ويخذل من لا يصلح للخير.




قال تعالى عن هؤلاء الداخلين للنار، المعترفين بظلمهم وعنادهم:


{ فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ }

أي: بعدًا لهم وخسارة وشقاء.




فما أشقاهم وأرداهم، حيث فاتهم ثواب الله، وكانوا ملازمين للسعير، التي
تستعر في أبدانهم، وتطلع على أفئدتهم!




{ 12 } { إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ
مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ }




لما ذكر حالة الأشقياء الفجار، ذكر حالة السعداء الأبرار فقال:


{ إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ }

أي: في جميع أحوالهم، حتى في الحالة التي لا يطلع عليهم فيها إلا الله،
فلا يقدمون على معاصيه، ولا يقصرون فيما أمر به


{ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ }

لذنوبهم، وإذا غفر الله ذنوبهم؛ وقاهم شرها، ووقاهم عذاب الجحيم، ولهم
أجر كبير وهو ما أعده لهم في الجنة، من النعيم المقيم، والملك الكبير،
واللذات [المتواصلات]، والمشتهيات، والقصور [والمنازل] العاليات، والحور
الحسان، والخدم والولدان.




وأعظم من ذلك وأكبر، رضا الرحمن، الذي يحله الله على أهل الجنان.





{ 13 - 14 } { وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ
عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ
اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ }




هذا إخبار من الله بسعة علمه، وشمول لطفه فقال:


{ وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ }

أي: كلها سواء لديه، لا يخفى عليه منها خافية، فـ


{ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ }

أي: بما فيها من النيات، والإرادات، فكيف بالأقوال والأفعال، التي تسمع
وترى؟!




ثم قال -مستدلا بدليل عقلي على علمه-:


{ أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ }

فمن خلق الخلق وأتقنه وأحسنه، كيف لا يعلمه؟!


{ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ }

الذي لطف علمه وخبره، حتى أدرك السرائر والضمائر، والخبايا [والخفايا
والغيوب]، وهو الذي


{ يعلم السر وأخفى }

ومن معاني اللطيف، أنه الذي يلطف بعبده ووليه، فيسوق إليه البر والإحسان
من حيث لا يشعر، ويعصمه من الشر، من حيث لا يحتسب، ويرقيه إلى أعلى
المراتب، بأسباب لا تكون من [العبد] على بال، حتى إنه يذيقه المكاره،
ليتوصل بها إلى المحاب الجليلة، والمقامات النبيلة.







{ 15 } { هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي
مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ }





أي: هو الذي سخر لكم الأرض وذللها، لتدركوا منها كل ما تعلقت به حاجتكم،
من غرس وبناء وحرث، وطرق يتوصل بها إلى الأقطار النائية والبلدان
الشاسعة،


{ فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا }

أي: لطلب الرزق والمكاسب.




{ وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ }

أي: بعد أن تنتقلوا من هذه الدار التي جعلها الله امتحانًا، وبلغة يتبلغ
بها إلى الدار الآخرة، تبعثون بعد موتكم، وتحشرون إلى الله، ليجازيكم
بأعمالكم الحسنة والسيئة.




{ 16 - 18 } { أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ
الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ * أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ
أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ *
وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ }




هذا تهديد ووعيد، لمن استمر في طغيانه وتعديه، وعصيانه الموجب للنكال
وحلول العقوبة، فقال:


{ أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ }

وهو الله تعالى، العالي على خلقه.




{ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ }

بكم وتضطرب، حتى تتلفكم وتهلككم




{ أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ
حَاصِبًا }

أي: عذابًا من السماء يحصبكم، وينتقم الله منكم


{ فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ }

أي: كيف يأتيكم ما أنذرتكم به الرسل والكتب، فلا تحسبوا أن أمنكم من الله
أن يعاقبكم بعقاب من الأرض ومن السماء ينفعكم، فستجدون عاقبة أمركم، سواء
طال عليكم الزمان أو قصر، فإن من قبلكم، كذبوا كما كذبتم، فأهلكهم الله
تعالى، فانظروا كيف إنكار الله عليهم، عاجلهم بالعقوبة الدنيوية، قبل
عقوبة الآخرة، فاحذروا أن يصيبكم ما أصابهم.







{ 19 } { أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ
وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ
شَيْءٍ بَصِيرٌ }




وهذا عتاب وحث على النظر إلى حالة الطير التي سخرها الله، وسخر لها الجو
والهواء، تصف فيه أجنحتها للطيران، وتقبضها للوقوع، فتظل سابحة في الجو،
مترددة فيه بحسب إرادتها وحاجتها.




{ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ }

فإنه الذي سخر لهن الجو، وجعل أجسادهن وخلقتهن في حالة مستعدة للطيران،
فمن نظر في حالة الطير واعتبر فيها، دلته على قدرة الباري، وعنايته
الربانية، وأنه الواحد الأحد، الذي لا تنبغي العبادة إلا له،


{ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ }

فهو المدبر لعباده بما يليق بهم، وتقتضيه حكمته.







{ 20 - 21 } { أَمْ مَنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ
مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي


غُرُورٍ

* أَمْ مَنْ هَذَا
الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ
وَنُفُورٍ }




يقول تعالى للعتاة النافرين عن أمره، المعرضين عن الحق:


{ أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ
الرَّحْمَنِ }

أي: ينصركم إذا أراد بكم الرحمن سوءًا، فيدفعه عنكم؟ أي: من الذي ينصركم
على أعدائكم غير الرحمن؟ فإنه تعالى هو الناصر المعز المذل، وغيره من
الخلق، لو اجتمعوا على نصر عبد، لم ينفعوه مثقال ذرة، على أي عدو كان،
فاستمرار الكافرين على كفرهم، بعد أن علموا أنه لا ينصرهم أحد من دون
الرحمن، غرور وسفه.




{ أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ }

أي: الرزق كله من الله، فلو أمسك عنكم رزقه، فمن الذي يرسله لكم؟ فإن
الخلق لا يقدرون على رزق أنفسهم، فكيف بغيرهم؟ فالرزاق المنعم، الذي لا
يصيب العباد نعمة إلا منه، هو الذي يستحق أن يفرد بالعبادة، ولكن
الكافرون


{ لَجُّوا }

أي: استمروا


{ فِي عُتُوٍّ }

أي: قسوة وعدم لين للحق


{ وَنُفُورٍ }

أي: شرود عن الحق.







{ 22 } { أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمْ مَنْ
يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ }




أي: أي الرجلين أهدى؟ من كان تائها في الضلال، غارقًا في الكفر قد انتكس
قلبه، فصار الحق عنده باطلًا، والباطل حقًا؟ ومن كان عالمًا بالحق،
مؤثرًا له، عاملًا به، يمشي على الصراط المستقيم في أقواله وأعماله وجميع
أحواله؟ فبمجرد النظر إلى حال هذين الرجلين، يعلم الفرق بينهما، والمهتدي
من الضال منهما، والأحوال أكبر شاهد من الأقوال.




{ 23 - 26 } { قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ
وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ * قُلْ هُوَ
الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * وَيَقُولُونَ
مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قُلْ إِنَّمَا
الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ }





يقول تعالى - مبينًا أنه المعبود وحده، وداعيًا عباده إلى شكره، وإفراده
بالعبادة-:


{ قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ }

أي: أوجدكم من العدم، من غير معاون له ولا مظاهر، ولما أنشأكم، كمل لكم
الوجود بالسمع والأبصار والأفئدة، التي هي أنفع أعضاء البدن وأكمل القوى
الجسمانية، ولكنه مع هذا الإنعام


{ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ }

الله، قليل منكم الشاكر، وقليل منكم الشكر.




{ قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ }

أي: بثكم في أقطارها، وأسكنكم في أرجائها، وأمركم، ونهاكم، وأسدى عليكم
من النعم، ما به تنتفعون، ثم بعد ذلك يحشركم ليوم القيامة.




ولكن هذا الوعد بالجزاء، ينكره هؤلاء المعاندون


{ وَيَقُولُونَ }

تكذيبًا:




{ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ }

جعلوا علامة صدقهم أن يخبروا بوقت مجيئه، وهذا ظلم وعناد فإنما العلم
عند الله لا عند أحد من الخلق، ولا ملازمة بين صدق هذا الخبر وبين
الإخبار بوقته، فإن الصدق يعرف بأدلته، وقد أقام الله من الأدلة
والبراهين على صحته ما لا يبقى معه أدنى شك لمن ألقى السمع وهو شهيد.




{ 27 - 30 } { فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ
كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ * قُلْ
أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا
فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * قُلْ هُوَ
الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ
هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ
غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ }




يعني أن محل تكذيب الكفار وغرورهم به حين كانوا في الدنيا، فإذا كان يوم
الجزاء، ورأوا العذاب منهم


{ زُلْفَةً }

أي: قريبًا، ساءهم ذلك وأفظعهم، وقلقل أفئدتهم، فتغيرت لذلك وجوههم،
ووبخوا على تكذيبهم، وقيل لهم هذا الذي كنتم به تكذبون، فاليوم رأيتموه
عيانًا، وانجلى لكم الأمر، وتقطعت بكم الأسباب ولم يبق إلا مباشرة
العذاب.




ولما كان المكذبون للرسول صلى الله عليه وسلم، [الذين] يردون دعوته،
ينتظرون هلاكه، ويتربصون به ريب المنون، أمره الله أن يقول لهم: أنتم
وإن حصلت لكم أما*-تم الحذف. كلمة غير محترمة لا يسمح بها في هذا المنتدى-*م وأهلكني الله ومن معي، فليس ذلك بنافع لكم شيئًا،
لأنكم كفرتم بآيات الله، واستحققتم العذاب، فمن يجيركم من عذاب أليم قد
تحتم وقوعه بكم؟ فإذًا، تعبكم وحرصكم على هلاكي غير مفيدة، ولا مجد لكم
شيئًا.




ومن قولهم، إنهم على هدى، والرسول على ضلال، أعادوا في ذلك وأبدوا،
وجادلوا عليه وقاتلوا، فأمر الله نبيه أن يخبر عن حاله وحال أتباعه، ما
به يتبين لكل أحد هداهم وتقواهم، وهو أن يقولوا:


{ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا }

والإيمان يشمل التصديق الباطن، والأعمال الباطنة والظاهرة، ولما كانت
الأعمال، وجودها وكمالها، متوقفة على التوكل، خص الله التوكل من بين سائر
الأعمال، وإلا فهو داخل في الإيمان، ومن جملة لوازمه كما قال تعالى:


{ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ }

فإذا كانت هذه حال الرسول وحال من اتبعه، وهي الحال التي تتعين للفلاح،
وتتوقف عليها السعادة، وحالة أعدائه بضدها، فلا إيمان [لهم] ولا توكل،
علم بذلك من هو على هدى، ومن هو في ضلال مبين.




ثم أخبر عن انفراده بالنعم، خصوصًا، بالماء الذي جعل الله منه كل شيء حي
فقال:


{ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا }

أي: غائرًا


{ فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ }

تشربون منه، وتسقون أنعامكم وأشجاركم وزروعكم؟ وهذا استفهام بمعنى النفي،
أي: لا يقدر أحد على ذلك غير الله تعالى.




تمت ولله الحمد.

descriptionتفسيرالقران - صفحة 3 Emptyرد: تفسيرالقران

more_horiz
-
تفسير
سورة
التحريم
عدد آياتها
12

(



آية


1-12 )
وهي مدنية






{ 1-5 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يَا أَيُّهَا
النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ
أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ
تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ
الْحَكِيمُ * وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ
حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ
بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ
أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ * إِنْ
تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا
عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ
الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ * عَسَى رَبُّهُ
إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ
مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ
ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا }




هذا عتاب من الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، حين حرم على نفسه سريته
"مارية" أو شرب العسل، مراعاة لخاطر بعض زوجاته، في قصة معروفة، فأنزل
الله [تعالى] هذه الآيات


{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ }

أي: يا أيها الذي أنعم الله عليه بالنبوة والوحي والرسالة


{ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ }

من الطيبات، التي أنعم الله بها عليك وعلى أمتك.




{ تَبْتَغِيَ }

بذلك التحريم


{ مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ }

هذا تصريح بأن الله قد غفر لرسوله، ورفع عنه اللوم، ورحمه، وصار ذلك
التحريم الصادر منه، سببًا لشرع حكم عام لجميع الأمة، فقال تعالى حاكما
حكما عاما في جميع الأيمان:




{ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ }

أي: قد شرع لكم، وقدر ما به تنحل أيمانكم قبل الحنث، وما به الكفارة بعد
الحنث، وذلك كما في قوله تعالى:


{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا
أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا }

إلى أن قال:


{ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا
تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ
فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ
أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ }

.




فكل من حرم حلالًا عليه، من طعام أو شراب أو سرية، أو حلف يمينًا بالله،
على فعل أو ترك، ثم حنث أو أراد الحنث، فعليه هذه الكفارة المذكورة،
وقوله:


{ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ }

أي: متولي أموركم، ومربيكم أحسن تربية، في أمور دينكم ودنياكم، وما به
يندفع عنكم الشر، فلذلك فرض لكم تحلة أيمانكم، لتبرأ ذممكم،


{ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ }

الذي أحاط علمه بظواهركم وبواطنكم، وهو الحكيم في جميع ما خلقه وحكم به،
فلذلك شرع لكم من الأحكام، ما يعلم أنه موافق لمصالحكم، ومناسب لأحوالكم.




[وقوله:]


{ وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا }

قال كثير من المفسرين: هي حفصة أم المؤمنين رضي الله عنها، أسر لها النبي
صلى الله عليه وسلم حديثًا، وأمر أن لا تخبر به أحدًا، فحدثت به عائشة
رضي الله عنهما، وأخبره الله بذلك الخبر الذي أذاعته، فعرفها صلى الله
عليه وسلم، ببعض ما قالت، وأعرض عن بعضه، كرمًا منه صلى الله عليه وسلم،
وحلمًا، فـ


{ قَالَتِ }

له:


{ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا }

الخبر الذي لم يخرج منا؟


{ قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ }

الذي لا تخفى عليه خافية، يعلم السر وأخفى.




[وقوله:]


{ إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا }

الخطاب للزوجتين الكريمتين من أزواجه صلى الله عليه وسلم عائشة وحفصة رضي
الله عنهما، كانتا سببًا لتحريم النبي صلى الله عليه وسلم على نفسه ما
يحبه، فعرض الله عليهما التوبة، وعاتبهما على ذلك، وأخبرهما أن قلوبهما
قد صغت أي: مالت وانحرفت عما ينبغي لهن، من الورع والأدب مع الرسول صلى
الله عليه وسلم، واحترامه، وأن لا يشققن عليه،


{ وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ }

أي: تعاونا على ما يشق عليه، ويستمر هذا الأمر منكن،


{ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ
وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ }

أي: الجميع أعوان للرسول، مظاهرون، ومن كان هؤلاء أعوانه فهو المنصور،
وغيره ممن يناوئه مخذول وفي هذا أكبر فضيلة وشرف لسيد المرسلين، حيث جعل
الباري نفسه [الكريمة]، وخواص خلقه، أعوانًا لهذا الرسول الكريم.




وهذا فيه من التحذير للزوجتين الكريمتين ما لا يخفى، ثم خوفهما أيضا،
بحالة تشق على النساء غاية المشقة، وهو الطلاق، الذي هو أكبر شيء عليهن،
فقال:


{ عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا
مِنْكُنَّ }

.




{ عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا
مِنْكُنَّ }

أي: فلا ترفعن عليه، فإنه لو طلقكن، لم يضق عليه الأمر، ولم يكن مضطرًا
إليكن، فإنه سيلقى ويبدله الله أزواجًا خيرًا منكن، دينا وجمالًا، وهذا
من باب التعليق الذي لم يوجد، ولا يلزم وجوده، فإنه ما طلقهن، ولو طلقهن،
لكان ما ذكره الله من هذه الأزواج الفاضلات، الجامعات بين الإسلام، وهو
القيام بالشرائع الظاهرة، والإيمان، وهو: القيام بالشرائع الباطنة، من
العقائد وأعمال القلوب.




القنوت هو دوام الطاعة واستمرارها


{ تَائِبَاتٍ }

عما يكرهه الله، فوصفهن بالقيام بما يحبه الله، والتوبة عما يكرهه الله،


{ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا }

أي: بعضهن ثيب، وبعضهن أبكار، ليتنوع صلى الله عليه وسلم، فيما يحب، فلما
سمعن -رضي الله عنهن- هذا التخويف والتأديب، بادرن إلى رضا رسول الله صلى
الله عليه وسلم، فكان هذا الوصف منطبقًا عليهن، فصرن أفضل نساء المؤمنين،
وفي هذا دليل على أن الله لا يختار لرسوله صلى الله عليه وسلم إلا أكمل
الأحوال وأعلى الأمور، فلما اختار الله لرسوله بقاء نسائه المذكورات معه
دل على أنهن خير النساء وأكملهن.







{ 6 } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ
نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ
غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا
يُؤْمَرُونَ }




أي: يا من من الله عليهم بالإيمان، قوموا بلوازمه وشروطه.




فـ


{ قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا }

موصوفة بهذه الأوصاف الفظيعة، ووقاية الأنفس بإلزامها أمر الله، والقيام
بأمره امتثالًا، ونهيه اجتنابًا، والتوبة عما يسخط الله ويوجب العذاب،
ووقاية الأهل [والأولاد]، بتأديبهم وتعليمهم، وإجبارهم على أمر الله، فلا
يسلم العبد إلا إذا قام بما أمر الله به في نفسه، وفيما يدخل تحت ولايته
من الزروجات والأولاد وغيرهم ممن هو تحت ولايته وتصرفه.




ووصف الله النار بهذه الأوصاف، ليزجر عباده عن التهاون بأمره فقال:


{ وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ }

كما قال تعالى:


{ إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ
أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ }

.




{ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ }

أي: غليظة أخلاقهم، عظيم انتهارهم، يفزعون بأصواتهم ويخيفون بمرآهم،
ويهينون أصحاب النار بقوتهم، ويمتثلون فيهم أمر الله، الذي حتم عليهم
العذاب وأوجب عليهم شدة العقاب،


{ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ }

وهذا فيه أيضًا مدح للملائكة الكرام، وانقيادهم لأمر الله، وطاعتهم له في
كل ما أمرهم به.




{ 7 } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ
إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ }




أي: يوبخ أهل النار يوم القيامة بهذا التوبيخ فيقال لهم:


{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ }

[أي:] فإنه ذهب وقت الاعتذار، وزال نفعه، فلم يبق الآن إلا الجزاء على
الأعمال، وأنتم لم تقدموا إلا الكفر بالله، والتكذيب بآياته، ومحاربة
رسله وأوليائه.




{ 8 } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً
نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ
وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا
يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ
يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا
أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
قَدِيرٌ }




قد أمر الله بالتوبة النصوح في هذه الآية، ووعد عليها بتكفير السيئات،
ودخول الجنات، والفوز والفلاح، حين يسعى المؤمنون يوم القيامة بنور
إيمانهم، ويمشون بضيائه، ويتمتعون بروحه وراحته، ويشفقون إذا طفئت
الأنوار، التي لا تعطى المنافقين، ويسألون الله أن يتمم لهم نورهم
فيستجيب الله دعوتهم، ويوصلهم ما معهم من النور واليقين، إلى جنات
النعيم، وجوار الرب الكريم، وكل هذا من آثار التوبة النصوح.




والمراد بها: التوبة العامة الشاملة للذنوب كلها، التي عقدها العبد لله،
لا يريد بها إلا وجهه والقرب منه، ويستمر عليها في جميع أحواله.







{ 9 } { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ
وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ }




يأمر [الله] تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم، بجهاد الكفار والمنافقين،
والإغلاظ عليهم في ذلك، وهذا شامل لجهادهم، بإقامة الحجة [عليهم ودعوتهم]
بالموعظة الحسنة ، وإبطال ما هم عليه من أنواع الضلال، وجهادهم بالسلاح
والقتال لمن أبى أن يجيب دعوة الله وينقاد لحكمه، فإن هذا يجاهد ويغلظ
له، وأما المرتبة الأولى، فتكون بالتي هي أحسن، فالكفار والمنافقون لهم
عذاب في الدنيا، بتسليط الله لرسوله وحزبه [عليهم و] على جهادهم وقتالهم،
وعذاب النار في الآخرة وبئس المصير، الذي يصير إليها كل شقي خاسر.







{ 10 - 12 } { ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ
نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا
صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ
شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ * وَضَرَبَ
اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ
رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ
فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ *
وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا
فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ
وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ }




هذان المثلان اللذان ضربهما الله للمؤمنين والكافرين، ليبين لهم أن اتصال
الكافر بالمؤمن وقربه منه لا يفيده شيئًا، وأن اتصال المؤمن بالكافر لا
يضره شيئًا مع قيامه بالواجب عليه.




فكأن في ذلك إشارة وتحذيرًا لزوجات النبي صلى الله عليه وسلم، عن
المعصية، وأن اتصالهن به صلى الله عليه وسلم، لا ينفعهن شيئًا مع
الإساءة، فقال:




{ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ
وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا }

أي: المرأتان


{ تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ }

وهما نوح، ولوط عليهما السلام.




{ فَخَانَتَاهُمَا }

في الدين، بأن كانتا على غير دين زوجيهما، وهذا هو المراد بالخيانة لا
خيانة النسب والفراش، فإنه ما بغت امرأة نبي قط، وما كان الله ليجعل
امرأة أحد من أنبيائه بغيًا،


{ فَلَمْ يُغْنِيَا }

أي: نوح ولوط


{ عَنْهُمَا }

أي: عن امرأتيهما


{ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ }

لهما


{ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ }

.




{ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ }

وهي آسية بنت مزاحم رضي الله عنها


{ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ
وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ
الظَّالِمِينَ }

فوصفها الله بالإيمان والتضرع لربها، وسؤالها لربها أجل المطالب، وهو
دخول الجنة، ومجاورة الرب الكريم، وسؤالها أن ينجيها الله من فتنة فرعون
وأعماله الخبيثة، ومن فتنة كل ظالم، فاستجاب الله لها، فعاشت في إيمان
كامل، وثبات تام، ونجاة من الفتن، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:


{ كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء، إلا مريم بنت عمران، وآسية
بنت مزاحم، وخديجة بنت خويلد، وفضل عائشة على النساء، كفضل الثريد على
سائر الطعام }

.




وقوله


{ وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا }

أي: صانته وحفظته عن الفاحشة، لكمال ديانتها، وعفتها، ونزاهتها.




{ فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا }

بأن نفخ جبريل [عليه السلام] في جيب درعها فوصلت نفخته إلى مريم، فجاء
منها عيسى ابن مريم [عليه السلام]، الرسول الكريم والسيد العظيم.




{ وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ }

وهذا وصف لها بالعلم والمعرفة، فإن التصديق بكلمات الله، يشمل كلماته
الدينية والقدرية، والتصديق بكتبه، يقتضي معرفة ما به يحصل التصديق، ولا
يكون ذلك إلا بالعلم والعمل، [ولهذا قال]


{ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ }

أي: المطيعين لله، المداومين على طاعته بخشية وخشوع، وهذا وصف لها بكمال
العمل، فإنها رضي الله عنها صديقة، والصديقية: هي كمال العلم والعمل.




تمت ولله الحمد

descriptionتفسيرالقران - صفحة 3 Emptyرد: تفسيرالقران

more_horiz
-
تفسير
سورة
الطلاق

عدد آياتها
12

(



آية


1-12 )
وهي مدنية






{ 1-3 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يَا أَيُّهَا
النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ
وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ
مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ
مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ
فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ
ذَلِكَ أَمْرًا * فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ
بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ
مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ
كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ
يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ
وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ
أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا }




يقول تعالى مخاطبًا لنبيه صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين:




{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ }

أي: أردتم طلاقهن


{ فـ }

التمسوا لطلاقهن الأمر المشروع، ولا تبادروا بالطلاق من حين يوجد سببه،
من غير مراعاة لأمر الله.




بل


{ طَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ }

أي: لأجل عدتهن، بأن يطلقها زوجها وهي طاهر، في طهر لم يجامعها فيه، فهذا
الطلاق هو الذي تكون العدة فيه واضحة بينة، بخلاف ما لو طلقها وهي حائض،
فإنها لا تحتسب تلك الحيضة، التي وقع فيها الطلاق، وتطول عليها العدة
بسبب ذلك، وكذلك لو طلقها في طهر وطئ فيه، فإنه لا يؤمن حملها، فلا يتبين
و [لا] يتضح بأي عدة تعتد، وأمر تعالى بإحصاء العدة، أي: ضبطها بالحيض إن
كانت تحيض، أو بالأشهر إن لم تكن تحيض، وليست حاملاً، فإن في إحصائها
أداء لحق الله، وحق الزوج المطلق، وحق من سيتزوجها بعد، [وحقها في النفقة
ونحوها] فإذا ضبطت عدتها، علمت حالها على بصيرة، وعلم ما يترتب عليها من
الحقوق، وما لها منها، وهذا الأمر بإحصاء العدة، يتوجه [للزوج] وللمرأة،
إن كانت مكلفة، وإلا فلوليها، وقوله:


{ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ }

أي: في جميع أموركم، وخافوه في حق الزوجات المطلقات، فـ


{ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ }

مدة العدة، بل يلزمن بيوتهن الذي طلقها زوجها وهي فيها.




{ وَلَا يَخْرُجْنَ }

أي: لا يجوز لهن الخروج منها، أما النهي عن إخراجها، فلأن المسكن، يجب
على الزوج للزوجة ، لتكمل فيه عدتها التي هي حق من حقوقه.




وأما النهي عن خروجها، فلما في خروجها، من إضاعة حق الزوج وعدم صونه.




ويستمر هذا النهي عن الخروج من البيوت، والإخراج إلى تمام العدة.




{ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ }

أي: بأمر قبيح واضح، موجب لإخراجها، بحيث يدخل على أهل البيت الضرر من
عدم إخراجها، كالأذى بالأقوال والأفعال الفاحشة، ففي هذه الحال يجوز لهم
إخراجها، لأنها هي التي تسببت لإخراج نفسها، والإسكان فيه جبر لخاطرها،
ورفق بها، فهي التي أدخلت الضرر على نفسها ، وهذا في المعتدة الرجعية،
وأما البائن، فليس لها سكنى واجبة، لأن السكن تبع للنفقة، والنفقة تجب
للرجعية دون البائن،


{ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ }

[أي:] التي حددها لعباده وشرعها لهم، وأمرهم بلزومها، والوقوف معها،


{ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ }

بأن لم يقف معها، بل تجاوزها، أو قصر عنها،


{ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ }

أي: بخسها حظها، وأضاع نصيبه من اتباع حدود الله التي هي الصلاح في
الدنيا والآخرة.


{ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا }

أي: شرع الله العدة، وحدد الطلاق بها، لحكم عظيمة: فمنها: أنه لعل الله
يحدث في قلب المطلق الرحمة والمودة، فيراجع من طلقها، ويستأنف عشرتها،
فيتمكن من ذلك مدة العدة، أولعله يطلقها لسبب منها، فيزول ذلك السبب في
مدة العدة، فيراجعها لانتفاء سبب الطلاق.




ومن الحكم: أنها مدة التربص، يعلم براءة رحمها من زوجها.




وقوله:


{ فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ }

أي: إذا قاربن انقضاء العدة، لأنهن لو خرجن من العدة، لم يكن الزوج
مخيرًا بين الإمساك والفراق.


{ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ }

أي: على وجه المعاشرة [الحسنة]، والصحبة الجميلة، لا على وجه الضرار،
وإرادة الشر والحبس، فإن إمساكها على هذا الوجه، لا يجوز،


{ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ }

أي: فراقًا لا محذور فيه، من غير تشاتم ولا تخاصم، ولا قهر لها على أخذ
شيء من مالها.




{ وَأَشْهِدُوا }

على طلاقها ورجعتها


{ ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ }

أي: رجلين مسلمين عدلين، لأن في الإشهاد المذكور، سدًا لباب المخاصمة،
وكتمان كل منهما ما يلزمه بيانه.




{ وَأَقِيمُوا }

أيها الشهداء


{ الشَّهَادَةَ لِلَّهِ }

أي: ائتوا بها على وجهها، من غير زيادة ولا نقص، واقصدوا بإقامتها وجه
الله وحده ولا تراعوا بها قريبًا لقرابته، ولا صاحبًا لمحبته،


{ ذَلِكُمْ }

الذي ذكرنا لكم من الأحكام والحدود


{ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ }

فإن من يؤمن بالله، واليوم الآخر، يوجب له ذلك أن يتعظ بمواعظ الله، وأن
يقدم لآخرته من الأعمال الصالحة، ما يتمكن منها، بخلاف من ترحل الإيمان
عن قلبه، فإنه لا يبالي بما أقدم عليه من الشر، ولا يعظم مواعظ الله لعدم
الموجب لذلك، ولما كان الطلاق قد يوقع في الضيق والكرب والغم، أمر تعالى
بتقواه، وأن من اتقاه في الطلاق وغيره فإن الله يجعل له فرجًا ومخرجًا.




فإذا أراد العبد الطلاق، ففعله على الوجه الشرعي، بأن أوقعه طلقة واحدة،
في غير حيض ولا طهر قد وطئ فيه فإنه لا يضيق عليه الأمر، بل جعل الله له
فرجًا وسعة يتمكن بها من مراجعة النكاح إذا ندم على الطلاق، والآية، وإن
كانت في سياق الطلاق والرجعة، فإن العبرة بعموم اللفظ، فكل من اتقى الله
تعالى، ولازم مرضاة الله في جميع أحواله، فإن الله يثيبه في الدنيا
والآخرة.




ومن جملة ثوابه أن يجعل له فرجًا ومخرجًا من كل شدة ومشقة، وكما أن من
اتقى الله جعل له فرجًا ومخرجًا، فمن لم يتق الله، وقع في الشدائد
والآصار والأغلال، التي لا يقدر على التخلص منها والخروج من تبعتها،
واعتبر ذلك بالطلاق، فإن العبد إذا لم يتق الله فيه، بل أوقعه على الوجه
المحرم، كالثلاث ونحوها، فإنه لا بد أن يندم ندامة لا يتمكن من
استدراكها والخروج منها.




وقوله


{ وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ }

أي: يسوق الله الرزق للمتقي، من وجه لا يحتسبه ولا يشعر به.




{ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ }

أي: في أمر دينه ودنياه، بأن يعتمد على الله في جلب ما ينفعه ودفع ما
يضره، ويثق به في تسهيل ذلك


{ فَهُوَ حَسْبُهُ }

أي: كافيه الأمر الذي توكل عليه به، وإذا كان الأمر في كفالة الغني القوي
[العزيز] الرحيم، فهو أقرب إلى العبد من كل شيء، ولكن ربما أن الحكمة
الإلهية اقتضت تأخيره إلى الوقت المناسب له؛ فلهذا قال تعالى:


{ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ }

أي: لا بد من نفوذ قضائه وقدره، ولكنه


{ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا }

أي: وقتًا ومقدارًا، لا يتعداه ولا يقصر عنه.







{ 4-5 } { وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ
ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ
يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ
وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا * ذَلِكَ
أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ
عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا }




لما ذكر تعالى أن الطلاق المأمور به يكون لعدة النساء، ذكر تعالى العدة،
فقال:




{ وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْْ }

بأن كن يحضن، ثم ارتفع حيضهن، لكبر أو غيره، ولم يرج رجوعه، فإن عدتها
ثلاثة أشهر، جعل لكل شهر، مقابلة حيضة.




{ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ }

أي: الصغار، اللائي لم يأتهن الحيض بعد، و البالغات اللاتي لم يأتهن حيض
بالكلية، فإنهن كالآيسات، عدتهن ثلاثة أشهر، وأما اللائي يحضن، فذكر الله
عدتهن في قوله:


{ وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ }

[وقوله:]


{ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ }

أي: عدتهن


{ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ }

أي: جميع ما في بطونهن، من واحد، ومتعدد، ولا عبرة حينئذ، بالأشهر ولا
غيرها،


{ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا }

أي: من اتقى الله تعالى، يسر له الأمور، وسهل عليه كل عسير.




{ ذَلِكَ }

[أي:] الحكم الذي بينه الله لكم


{ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ }

لتمشوا عليه، [وتأتموا] وتقوموا به وتعظموه.




{ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ
أَجْرًا }

أي: يندفع عنه المحذور، ويحصل له المطلوب.




{ 6-7 } { أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا
تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ
فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ
لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ
وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى * لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ
مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا
آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا
سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا }




تقدم أن الله نهى عن إخراج المطلقات عن البيوت وهنا أمر بإسكانهن وقدر
الإسكان بالمعررف، وهو البيت الذي يسكنه مثله ومثلها، بحسب وجد الزوج
وعسره،


{ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ }

أي: لا تضاروهن، عند سكناهن بالقول أو الفعل، لأجل أن يمللن، فيخرجن من
البيوت، قبل تمام العدة، فتكونوا، أنتم المخرجين لهن، وحاصل هذا أنه نهى
عن إخراجهن، ونهاهن عن الخروج، وأمر بسكناهن، على وجه لا يحصل به عليهن،
ضرر ولا مشقة، وذلك راجع إلى العرف،


{ وَإِنْ كُنَّ }

أي: المطلقات


{ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ
}

وذلك لأجل الحمل الذي في بطنها، إن كانت بائنًا، ولها ولحملها إن كانت
رجعية، ومنتهى النفقة حتى يضعن حملهن فإذا وضعن حملهن، فإما أن يرضعن
أولادهن أو لا،


{ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ }

المسماة لهن، إن كان مسمى، وإلا فأجر المثل،


{ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ }

أي: وليأمر كل واحد من الزوجين ومن غيرهما، الآخر بالمعروف، وهو كل ما
فيه منفعة ومصلحة في الدنيا والآخرة، فإن الغفلة عن الائتمار بالمعروف،
يحصل فيه من الشر والضرر، ما لا يعلمه إلا الله، وفي الائتمار، تعاون
على البر والتقوى، ومما يناسب هذا المقام، أن الزوجين عند الفراق وقت
العدة، خصوصًا إذا ولد لهما ولد في الغالب يحصل من التنازع والتشاجر
لأجل النفقة عليها وعلى الولد مع الفراق، الذي في الغالب ما يصدر إلا عن
بغض، ويتأثر منه البغض شيء كثير




فكل منهما يؤمر بالمعروف، والمعاشرة الحسنة، وعدم المشاقة والمخاصمة
وينصح على ذلك.




{ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ }

بأن لم يتفقوا على إرضاعها لولدها، فلترضع له أخرى غيرها


{ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ
بِالْمَعْرُوفِ }

وهذا حيث كان الولد يقبل ثدي غير أمه، فإن لم يقبل إلا ثدي أمه، تعينت
لإرضاعه، ووجب عليها، وأجبرت إن امتنعت، وكان لها أجرة المثل إن لم يتفقا
على مسمى، وهذا مأخوذ من الآية الكريمة من حيث المعنى، فإن الولد لما كان
في بطن أمه مدة الحمل، ليس له خروج منه عين تعالى على وليه النفقة، فلما
ولد، وكان يمكن أن يتقوت من أمه، ومن غيرها، أباح تعالى، الأمرين، فإذا،
كان بحالة لا يمكن أن يتقوت إلا من أمه، كان بمنزلة الحمل، وتعينت أمه
طريقًا لقوته، ثم قدر تعالى النفقة، بحسب حال الزوج فقال:


{ لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ }





أي: لينفق الغني من غناه، فلا ينفق نفقة الفقراء.




{ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ }

أي: ضيق عليه


{ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ }

من الرزق.




{ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا }

وهذا مناسب للحكمة والرحمة الإلهية حيث جعل كلا بحسبه، وخفف عن المعسر،
وأنه لا يكلفه إلا ما آتاه، فلا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، في باب
النفقة وغيرها.


{ سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا }

وهذه بشارة للمعسرين، أن الله تعالى سيزيل عنهم الشدة، ويرفع عنهم
المشقة،


{ فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا }








{ 8-11 } { وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا
وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا
نُكْرًا * فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا
خُسْرًا * أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ
يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ
إِلَيْكُمْ ذِكْرًا * رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ
مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ
صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ
خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا }





يخبر تعالى عن إهلاكه الأمم العاتية، والقرون المكذبة للرسل أن كثرتهم
وقوتهم، لم تنفعهم شيئًا، حين جاءهم الحساب الشديد، والعذاب الأليم، وأن
الله أذاقهم من العذاب ما هو موجب أعمالهم السيئة.




ومع عذاب الدنيا، فإن الله أعد لهم في الآخرة عذابا شديدًا،


{ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ }

أي: يا ذوي العقول، التي تفهم عن الله آياته وعبره، وأن الذي أهلك القرون
الماضية، بتكذيبهم، أن من بعدهم مثلهم، لا فرق بين الطائفتين.




ثم ذكر عباده المؤمنين بما أنزل عليهم من كتابه، الذي أنزله على رسوله
محمد صلى الله عليه وسلم، ليخرج الخلق من ظلمات الكفر والجهل والمعصية،
إلى نور العلم والإيمان والطاعة، فمن الناس، من آمن به، ومنهم من لم يؤمن
[به]،


{ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا }

من الواجبات والمستحبات.


{ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ }

فيها من النعيم المقيم، ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب
بشر،


{ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا }

[أي:] ومن لم يؤمن بالله ورسوله، فأولئك أصحاب النار، هم فيها خالدون.







{ 12 } { اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ
مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ
اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ
بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا }




[ثم] أخبر [تعالى] أنه خلق الخلق من السماوات السبع ومن فيهن والأرضين
السبع ومن فيهن، وما بينهن، وأنزل الأمر، وهو الشرائع والأحكام الدينية
التي أوحاها إلى رسله لتذكير العباد ووعظهم، وكذلك الأوامر الكونية
والقدرية التي يدبر بها الخلق، كل ذلك لأجل أن يعرفه العباد ويعلموا
إحاطة قدرته بالأشياء كلها، وإحاطة علمه بجميع الأشياء فإذا عرفوه
بأوصافه المقدسة وأسمائه الحسنى وعبدوه وأحبوه وقاموا بحقه، فهذه الغاية
المقصودة من الخلق والأمر معرفة الله وعبادته، فقام بذلك الموفقون من
عباد الله الصالحين، وأعرض عن ذلك، الظالمون المعرضون.




[تم تفسيرها والحمد لله]

descriptionتفسيرالقران - صفحة 3 Emptyرد: تفسيرالقران

more_horiz
-
تفسير
سورة
ا
لتغابن
عدد آياتها
18

(



آية


1-18 )
وهي مكية






{ 1-4 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا
فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ
وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ
كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ *
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ
صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ * يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ
عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ }




هذه الآيات [الكريمات]، مشتملات على جملة كثيرة واسعة، من أوصاف الباري
العظيمة، فذكر كمال ألوهيته تعالى، وسعة غناه، وافتقار جميع الخلائق
إليه، وتسبيح من في السماوات والأرض بحمد ربها، وأن الملك كله لله، فلا
يخرج مخلوق عن ملكه، والحمد كله له، حمد على ما له من صفات الكمال، وحمد
على ما أوجده من الأشياء، وحمد على ما شرعه من الأحكام، وأسداه من النعم.




وقدرته شاملة، لا يخرج عنها موجود، فلا يعجزه شيء يريده.




وذكر أنه خلق العباد، وجعل منهم المؤمن والكافر، فإيمانهم وكفرهم كله،
بقضاء الله وقدره، وهو الذي شاء ذلك منهم، بأن جعل لهم قدرة وإرادة، بها
يتمكنون من كل ما يريدون من الأمر والنهي،


{ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }

.




فلما ذكر خلق الإنسان المكلف المأمور المنهي، ذكر خلق باقي المخلوقات،
فقال:


{ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ }

أي: أجرامهما، [وجميع] ما فيهما، فأحسن خلقهما،


{ بِالْحَقِّ }

أي: بالحكمة، والغاية المقصودة له تعالي،


{ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ }

كما قال تعالى:


{ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ }

فالإنسان أحسن المخلوقات صورة، وأبهاها منظرًا.


{ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ }

أي: المرجع يوم القيامة، فيجازيكم على إيمانكم وكفركم، ويسألكم عن النعم
والنعيم، الذي أولاكموه هل قمتم بشكره، أم لم تقوموا بشكره؟ ثم ذكر عموم
علمه، فقال:


{ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ }

أي: من السرائر والظواهر، والغيب والشهادة.


{ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ
بِذَاتِ الصُّدُورِ }

أي: بما فيها من الأسرار الطيبة، والخبايا الخبيثة، والنيات الصالحة،
والمقاصد الفاسدة، فإذا كان عليمًا بذات الصدور، تعين على العاقل البصير،
أن يحرص ويجتهد في حفظ باطنه، من الأخلاق الرذيلة، واتصافه بالأخلاق
الجميلة.







{ 5-6 } { أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ
فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * ذَلِكَ
بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا
أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ
وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ }




لما ذكر تعالى من أوصافه الكاملة العظيمة، ما به يعرف ويعبد، ويبذل الجهد
في مرضاته، وتجتنب مساخطه، أخبر بما فعل بالأمم السابقين، والقرون
الماضين، الذين لم تزل أنباؤهم يتحدث بها المتأخرون، ويخبر بها الصادقون،
وأنهم حين جاءتهم الرسل بالحق، كذبوهم وعاندوهم، فأذاقهم الله وبال
أمرهم في الدنيا، وأخزاهم فيها،


{ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }

في [الدار] الآخرة، ولهذا ذكر السبب في هذه العقوبة فقال:


{ ذَلِكَ }

النكال والوبال، الذي أحللناه بهم


{ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ }

أي: بالآيات الواضحات، الدالة على الحق والباطل، فاشمأزوا، واستكبروا على
رسلهم،


{ فقالوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا }

أي: فليس لهم فضل علينا، ولأي: شيء خصهم الله دوننا، كما قال في الآية
الأخرى:


{ قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ
وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ }

فهم حجروا فضل الله ومنته على أنبيائه أن يكونوا رسلاً للخلق، واستكبروا
عن الانقياد لهم، فابتلوا بعبادة الأحجار والأشجار ونحوها


{ فَكَفَرُوا }

بالله


{ وَتَوَلَّوْا }

عن طاعه الله،


{ وَاسْتَغْنَى اللَّهُ }

عنهم، فلا يبالي بهم، ولا يضره ضلالهم شيئًا،


{ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ }

أي: هو الغني، الذي له الغنى التام المطلق، من جميع الوجوه، الحميد في
أقواله وأفعاله وأوصافه.







{ 7 } { زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى
وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ
عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ }




يخبر تعالى عن عناد الكافرين، وزعمهم الباطل، وتكذيبهم بالبعث بغير علم
ولا هدى ولا كتاب منير، فأمر أشرف خلقه، أن يقسم بربه على بعثهم، وجزائهم
بأعمالهم الخبيثة، وتكذيبهم بالحق،


{ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ }

فإنه وإن كان عسيرًا بل متعذرًا بالنسبة إلى الخلق، فإن قواهم كلهم، لو
اجتمعت على إحياء ميت [واحد]، ما قدروا على ذلك.




وأما الله تعالى، فإنه إذا أراد أمرًا فإنما يقول له كن فيكون، قال
تعالى:


{ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي
الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا
هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ }

.



{ 8 } { فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا
وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ }




لما ذكر تعالى إنكار من أنكر البعث، وأن ذلك [منهم] موجب كفرهم بالله
وآياته، أمر بما يعصم من الهلكة والشقاء، وهو الإيمان بالله ورسوله
وكتابه وسماه الله نورًا، فإن النور ضد الظلمة، وما في الكتاب الذي
أنزله الله من الأحكام والشرائع والأخبار، أنوار يهتدى بها في ظلمات
الجهل المدلهمة، ويمشى بها في حندس الليل البهيم، وما سوى الاهتداء بكتاب
الله، فهي علوم ضررها أكثر من نفعها، وشرها أكثر من خيرها، بل لا خير
فيها ولا نفع، إلا ما وافق ما جاءت به الرسل، والإيمان بالله ورسوله
وكتابه، يقتضي الجزم التام، واليقين الصادق بها، والعمل بمقتضى ذلك
التصديق، من امتثال الأوامر، واجتناب المناهي


{ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ }

فيجازيكم بأعمالكم الصالحة والسيئة.







{ 9-10 } { يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ
التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ
عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ *
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ
النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ }





يعني: اذكروا يوم الجمع الذي يجمع الله به الأولين والآخرين، ويقفهم
موقفًا هائلاً عظيمًا، وينبئهم بما عملوا، فحينئذ يظهر الفرق والتفاوت
بين الخلائق، ويرفع أقوام إلى أعلى عليين، في الغرف العاليات، والمنازل
المرتفعات، المشتملة على جميع اللذات والشهوات، ويخفض أقوام إلى أسفل
سافلين، محل الهم والغم، والحزن، والعذاب الشديد، وذلك نتيجة ما قدموه
لأنفسهم، وأسلفوه أيام حياتهم، ولهذا قال:


{ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ }

.




أي: يظهر فيه التغابن والتفاوت بين الخلائق، ويغبن المؤمنون الفاسقين،
ويعرف المجرمون أنهم على غير شيء، وأنهم هم الخاسرون، فكأنه قيل: بأي شيء
يحصل الفلاح والشقاء والنعيم والعذاب؟




فذكر تعالى أسباب ذلك بقوله:


{ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ }

[أي:] إيمانًا تامًا، شاملاً لجميع ما أمر الله بالإيمان به،


{ وَيَعْمَلْ صَالِحًا }

من الفرائض والنوافل، من أداء حقوق الله وحقوق عباده.


{ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ }

فيها ما تشتهيه الأنفس، وتلذ الأعين، وتختاره الأرواح، وتحن إليه القلوب،
ويكون نهاية كل مرغوب،


{ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ }

.




{ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا }

أي: كفروا [بها] من غير مستند شرعي ولا عقلي، بل جاءتهم الأدلة والبينات،
فكذبوا بها، وعاندوا ما دلت عليه.




{ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ }

لأنها جمعت كل بؤس وشدة، وشقاء وعذاب.







{ 11-13 } { مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ
يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ *
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ
فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ * اللَّهُ لَا إِلَهَ
إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ }








يقول تعالى:


{ مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ }

هذا عام لجميع المصائب، في النفس، والمال، والولد، والأحباب، ونحوهم،
فجميع ما أصاب العباد، فبقضاء الله وقدره، قد سبق بذلك علم الله [تعالى]،
وجرى به قلمه، ونفذت به مشيئته، واقتضته حكمته، والشأن كل الشأن، هل يقوم
العبد بالوظيفة التي عليه في هذا المقام، أم لا يقوم بها؟ فإن قام بها،
فله الثواب الجزيل، والأجر الجميل، في الدنيا والآخرة، فإذا آمن أنها من
عند الله، فرضي بذلك، وسلم لأمره، هدى الله قلبه، فاطمأن ولم ينزعج عند
المصائب، كما يجري لمن لم يهد الله قلبه، بل يرزقه الثبات عند ورودها
والقيام بموجب الصبر، فيحصل له بذلك ثواب عاجل، مع ما يدخر الله له يوم
الجزاء من الثواب كما قال تعالى:


{ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ }

وعلم من هذا أن من لم يؤمن بالله عند ورود المصائب، بأن لم يلحظ قضاء
الله وقدره، بل وقف مع مجرد الأسباب، أنه يخذل، ويكله الله إلى نفسه،
وإذا وكل العبد إلى نفسه، فالنفس ليس عندها إلا الجزع والهلع الذي هو
عقوبة عاجلة على العبد، قبل عقوبة الآخرة، على ما فرط في واجب الصبر. هذا
ما يتعلق بقوله:


{ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ }

في مقام المصائب الخاص، وأما ما يتعلق بها من حيث العموم اللفظي، فإن
الله أخبر أن كل من آمن أي: الإيمان المأمور به، من الإيمان بالله
وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، وصدق إيمانه بما
يقتضيه الإيمان من القيام بلوازمه وواجباته، أن هذا السبب الذي قام به
العبد أكبر سبب لهداية الله له في أحواله وأقواله، وأفعاله وفي علمه
وعمله.




وهذا أفضل جزاء يعطيه الله لأهل الإيمان، كما قال تعالى في الأخبار: أن
المؤمنين يثبتهم الله في الحياة الدنيا وفي الآخرة.




وأصل الثبات: ثبات القلب وصبره، ويقينه عند ورود كل فتنة، فقال:


{ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ }

فأهل الإيمان أهدى الناس قلوبًا، وأثبتهم عند المزعجات والمقلقات، وذلك
لما معهم من الإيمان.




[وقوله:]


{ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ }

أي: في امتثال أمرهما، واجتناب نهيهما، فإن طاعة الله وطاعة رسوله، مدار
السعادة، وعنوان الفلاح،


{ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ }

[أي] عن طاعة الله وطاعة رسوله،


{ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ }

أي: يبلغكم ما أرسل به إليكم، بلاغًا يبين لكم ويتضح وتقوم عليكم به
الحجة، وليس بيده من هدايتكم، ولا من حسابكم من شيء، وإنما يحاسبكم على
القيام بطاعة الله وطاعة رسوله، أو عدم ذلك، عالم الغيب والشهادة.




{ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ }

أي: هو المستحق للعبادة والألوهية، فكل معبود سواه فباطل،


{ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ }

أي: فيلعتمدوا عليه في كل أمر نابهم، وفيما يريدون القيام به، فإنه لا
يتيسر أمر من الأمور إلا بالله، ولا سبيل إلى ذلك إلا بالاعتماد على
الله، ولا يتم الاعتماد على الله، حتى يحسن العبد ظنه بربه، ويثق به في
كفايته الأمر الذي اعتمد عليه به، وبحسب إيمان العبد يكون توكله، فكلما
قوي الإيمان قوي التوكل







{ 14-15 } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ
وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا
وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * إِنَّمَا
أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ
عَظِيمٌ }




هذا تحذير من الله للمؤمنين، من الاغترار بالأزواج والأولاد، فإن بعضهم
عدو لكم، والعدو هو الذي يريد لك الشر، ووظيفتك الحذر ممن هذه وصفه
والنفس مجبولة على محبة الأزواج والأولاد، فنصح تعالى عباده أن توجب لهم
هذه المحبة الانقياد لمطالب الأزواج والأولاد، ولو كان فيها ما فيها من
المحذور الشرعي ورغبهم في امتثال أوامره، وتقديم مرضاته بما عنده من
الأجر العظيم المشتمل على المطالب العالية والمحاب الغالية، وأن يؤثروا
الآخرة على الدنيا الفانية المنقضية، ولما كان النهي عن طاعة الأزواج
والأولاد، فيما هو ضرر على العبد، والتحذير من ذلك، قد يوهم الغلظة عليهم
وعقابهم، أمر تعالى بالحذر منهم، والصفح عنهم والعفو، فإن في ذلك، من
المصالح ما لا يمكن حصره، فقال:


{ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ
رَحِيمٌ }

لأن الجزاء من جنس العمل.




فمن عفا عفا الله عنه، ومن صفح صفح الله عنه، ومن غفر غفر الله له، ومن
عامل الله فيما يحب، وعامل عباده كما يحبون وينفعهم، نال محبة الله ومحبة
عباده، واستوثق له أمره.







{ 16-18 } { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا
وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ
نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ
قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ
حَلِيمٌ * عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }




يأمر تعالى بتقواه، التي هي امتثال أوامره واجتناب نواهيه، ويقيد ذلك
بالاستطاعة والقدرة.




فهذه الآية، تدل على أن كل واجب عجز عنه العبد، أنه يسقط عنه، وأنه إذا
قدر على بعض المأمور، وعجز عن بعضه، فإنه يأتي بما يقدر عليه، ويسقط عنه
ما يعجز عنه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إذا أمرتكم بأمر فأتوا
منه ما استطعتم ".




ويدخل تحت هذه القاعدة الشرعية من الفروع، ما لا يدخل تحت الحصر، وقوله:


{ وَاسْمَعُوا }

أي: اسمعوا ما يعظكم الله به، وما يشرعه لكم من الأحكام، واعلموا ذلك
وانقادوا له


{ وَأَطِيعُوا }

الله ورسوله في جميع أموركم،


{ وَأَنْفِقُوا }

من النفقات الشرعية الواجبة والمستحبة، يكن ذلك الفعل منكم خيرًا لكم في
الدنيا والآخرة، فإن الخير كله في امتثال أوامر الله تعالى وقبول نصائحه،
والانقياد لشرعه، والشر كله، في مخالفة ذلك.




ولكن ثم آفة تمنع كثيرًا من الناس، من النفقة المأمور بها، وهو الشح
المجبولة عليه أكثر النفوس، فإنها تشح بالمال، وتحب وجوده، وتكره خروجه
من اليد غاية الكراهة.




فمن وقاه الله شر شح نفسه بأن سمحت نفسه بالإنفاق النافع لها


{ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }

لأنهم أدركوا المطلوب، ونجوا من المرهوب، بل لعل ذلك، شامل لكل ما أمر به
العبد، ونهي عنه، فإنه إن كانت نفسه شحيحة. لا تنقاد لما أمرت به، ولا
تخرج ما قبلها، لم يفلح، بل خسر الدنيا والآخرة، وإن كانت نفسه نفسًا
سمحة، مطمئنة، منشرحة لشرع الله، طالبة لمرضاة، فإنها ليس بينها وبين فعل
ما كلفت به إلا العلم به، ووصول معرفته إليها، والبصيرة بأنه مرض لله
تعالى، وبذلك تفلح وتنجح وتفوز كل الفوز.




ثم رغب تعالى في النفقة فقال:


{ إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا }

وهو كل نفقة كانت من الحلال، إذا قصد بها العبد وجه الله تعالى وطلب
مرضاته، ووضعها في موضعها


{ يُضَاعِفْهُ لَكُمْ }

النفقة، بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة.




{ و }

مع المضاعفة أيضًا


{ يغفر لَكُمُ }

بسبب الإنفاق والصدقة ذنوبكم، فإن الذنوب يكفرها الله بالصدقات والحسنات:


{ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ }

.




{ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ }

لا يعاجل من عصاه، بل يمهله ولا يهمله،


{ وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى
ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى }

والله تعالى شكور يقبل من عباده اليسير من العمل، ويجازيهم عليه الكثير
من الأجر، ويشكر تعالى لمن تحمل من أجله المشاق والأثقال، وناء
بالتكاليف الثقال، ومن ترك شيئًا لله، عوضه الله خيرًا منه.




{ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ }

أي: ما غاب عن العباد من الجنود التي لا يعلمها إلا هو، وما يشاهدونه من
المخلوقات،


{ الْعَزِيزُ }

الذي لا يغالب ولا يمانع، الذي قهر كل الأشياء،


{ الْحَكِيمُ }

في خلقه وأمره، الذي يضع الأشياء مواضعها.




تم تفسير سورة التغابن [ولله الحمد].

descriptionتفسيرالقران - صفحة 3 Emptyرد: تفسيرالقران

more_horiz
-
تفسير
سورة
ا
لمنافقون
عدد آياتها 11

(



آية




1-11
)
وهي مدنية






{ 1-6 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إِذَا جَاءَكَ
الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ
يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ
لَكَاذِبُونَ * اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ
اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ
آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا
يَفْقَهُونَ * وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ
يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ
يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ
قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ *وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ
تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ
وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ * سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ
أَأَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ
اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ }





لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، وكثر المسلمون في المدينة
واعتز الإسلام بها ، صار أناس من أهلها من الأوس والخزرج، يظهرون
الإيمان ويبطنون الكفر، ليبقى جاههم، وتحقن دماؤهم، وتسلم أموالهم، فذكر
الله من أوصافهم ما به يعرفون، لكي يحذر العباد منهم، ويكونوا منهم على
بصيرة، فقال:


{ إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا }

على وجه الكذب:


{ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ }

وهذه الشهادة من المنافقين على وجه الكذب والنفاق، مع أنه لا حاجة
لشهادتهم في تأييد رسوله، فإن


{ اللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ
الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ }

في قولهم ودعواهم، وأن ذلك ليس بحقيقة منهم.




{ اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً }

أي: ترسًا يتترسون بها من نسبتهم إلى النفاق.




فصدوا عن سبيله بأنفسهم، وصدوا غيرهم ممن يخفى عليه حالهم،


{ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ }

حيث أظهروا الإيمان وأبطنوا الكفر، وأقسموا على ذلك وأوهموا صدقهم.




{ ذَلِكَ }

الذي زين لهم النفاق


{ بـ }

سبب أنهم لا يثبتون على الإيمان.




بل


{ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ }

بحيث لا يدخلها الخير أبدًا،


{ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ }

ما ينفعهم، ولا يعون ما يعود بمصالحهم.




{ وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ }

من روائها ونضارتها،


{ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ }

أي: من حسن منطقهم تستلذ لاستماعه، فأجسامهم وأقوالهم معجبة، ولكن ليس
وراء ذلك من الأخلاق الفاضلة والهدى الصالح شيء، ولهذا قال:


{ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ }

لا منفعة فيها، ولا ينال منها إلا الضرر المحض،


{ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ }

وذلك لجبنهم وفزعهم وضعف قلوبهم، والريب الذي في قلوبهم يخافون أن يطلع
عليهم.




فهؤلاء


{ هُمُ الْعَدُوُّ }

على الحقيقة، لأن العدو البارز المتميز، أهون من العدو الذي لا يشعر به،
وهو مخادع ماكر، يزعم أنه ولي، وهو العدو المبين،


{ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ }

أي: كيف يصرفون عن الدين الإسلامي بعد ما تبينت أدلته، واتضحت معالمه،
إلى الكفر الذي لا يفيدهم إلا الخسار والشقاء.




{ وَإِذَا قِيلَ }

لهؤلاء المنافقين


{ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ }

عما صدر منكم، لتحسن أحوالكم، وتقبل أعمالكم، امتنعوا من ذلك أشد
الامتناع، و


{ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ }

امتناعًا من طلب الدعاء من الرسول،


{ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ }

عن الحق بغضًا له


{ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ }

عن اتباعه بغيًا وعنادًا، فهذه حالهم عندما يدعون إلى طلب الدعاء من
الرسول، وهذا من لطف الله وكرامته لرسوله، حيث لم يأتوا إليه، فيستغفر
لهم، فإنه سواء استغفر لهم أم لم يستغفر لهم فلن يغفر الله لهم، وذلك
لأنهم قوم فاسقون، خارجون عن طاعة الله، مؤثرون للكفر على الإيمان، فلذلك
لا ينفع فيهم استغفار الرسول، لو استغفر لهم كما قال تعالى:


{ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ
لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ }



{ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ }

.







{ 7-8 } { هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ
رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ * يَقُولُونَ
لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا
الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ
وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ }







وهذا من شدة عداوتهم للنبي صلى الله عليه وسلم، والمسلمين، لما رأوا
اجتماع أصحابه وائتلافهم، ومسارعتهم في مرضاة الرسول صلى الله عليه وسلم،
قالوا بزعمهم الفاسد:




{ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا
}

فإنهم - بزعمهم - لولا أموال المنافقين ونفقاتهم عليهم، لما اجتمعوا في
نصرة دين الله، وهذا من أعجب العجب، أن يدعى هؤلاء المنافقون الذين هم
أحرص الناس على خذلان الدين، وأذية المسلمين، مثل هذه الدعوى، التي لا
تروج إلا على من لا علم له بحقائق الأمور ولهذا قال الله ردًا لقولهم:


{ وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ }

فيؤتي الرزق من يشاء، ويمنعه من يشاء، وييسر الأسباب لمن يشاء، ويعسرها
على من يشاء،


{ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ }

فلذلك قالوا تلك المقالة، التي مضمونها أن خزائن الرزق في أيديهم، وتحت
مشيئتهم.




{ يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ
الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ }

وذلك في غزوة المريسيع، حين صار بين بعض المهاجرين والأنصار، بعض كلام
كدر الخواطر، ظهر حينئذ نفاق المنافقين، وأظهروا ما في نفوسهم .




وقال كبيرهم، عبد الله بن أبي بن سلول: ما مثلنا ومثل هؤلاء -يعني
المهاجرين- إلا كما قال القائل: " غذ كلبك يأكلك "




وقال: لئن رجعنا إلى المدينة


{ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ }

بزعمه أنه هو وإخوانه من المنافقين الأعزون، وأن رسول الله ومن معه هم
الأذلون، والأمر بعكس ما قال هذا المنافق، فلهذا قال [تعالى:]


{ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ }

فهم الأعزاء، والمنافقون وإخوانهم من الكفار [هم] الأذلاء.


{ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ }

ذلك زعموا أنهم الأعزاء، اغترارًا بما هم عليه من الباطل، ثم قال تعالى:




{ 9-11 } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ
وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ
فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ
مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا
أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ
الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا
وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ }




يأمر تعالى عباده المؤمنين بالإكثار من ذكره، فإن في ذلك الربح والفلاح،
والخيرات الكثيرة، وينهاهم أن تشغلهم أموالهم وأولادهم عن ذكره، فإن محبة
المال والأولاد مجبولة عليها أكثر النفوس، فتقدمها على محبة الله، وفي
ذلك الخسارة العظيمة، ولهذا قال تعالى:


{ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ }

أي: يلهه ماله وولده، عن ذكر الله


{ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ }

للسعادة الأبدية، والنعيم المقيم، لأنهم آثروا ما يفنى على ما يبقى، قال
تعالى:


{ إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ
أَجْرٌ عَظِيمٌ }

.




وقوله:


{ وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ }

يدخل في هذا، النفقات الواجبة، من الزكاة والكفارات ونفقة الزوجات،
والمماليك، ونحو ذلك، والنفقات المستحبة، كبذل المال في جميع المصالح،
وقال:


{ مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ }

ليدل ذلك على أنه تعالى، لم يكلف العباد من النفقة، ما يعنتهم ويشق
عليهم، بل أمرهم بإخراج جزء مما رزقهم الله الذي يسره لهم ويسر لهم
أسبابه.




فليشكروا الذي أعطاهم، بمواساة إخوانهم المحتاجين، وليبادروا بذلك، الموت
الذي إذا جاء، لم يمكن العبد أن يأتي بمثقال ذرة من الخير، ولهذا قال:


{ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ }

متحسرًا على ما فرط في وقت الإمكان، سائلاً الرجعة التي هي محال:


{ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ }

أي: لأتدارك ما فرطت فيه،


{ فَأَصَّدَّقَ }

من مالي، ما به أنجو من العذاب، وأستحق به جزيل الثواب،


{ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ }

بأداء المأمورات كلها، واجتناب المنهيات، ويدخل في هذا، الحج وغيره، وهذا
السؤال والتمني، قد فات وقته، ولا يمكن تداركه، ولهذا قال:


{ وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا }

المحتوم لها


{ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ }

من خير وشر، فيجازيكم على ما علمه منكم، من النيات والأعمال.




تم تفسير سورة المنافقون،



ولله الحمد

descriptionتفسيرالقران - صفحة 3 Emptyرد: تفسيرالقران

more_horiz
-
تفسير
سورة
ا
لجمعة
عدد آياتها
11

(



آية


1-11 )
وهي مدنية






{ 1 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا
فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ
الْحَكِيمِ }




أي: يسبح لله، وينقاد لأمره، ويتألهه، ويعبده، جميع ما في السماوات
والأرض، لأنه الكامل الملك، الذي له ملك العالم العلوي والسفلي، فالجميع
مماليكه، وتحت تدبيره،


{ الْقُدُّوسُ }

المعظم، المنزه عن كل آفة ونقص،


{ الْعَزِيزُ }

القاهر للأشياء كلها،


{ الْحَكِيمُ }

في خلقه وأمره.




فهذه الأوصاف العظيمة مما تدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له.




{ 2-4 } { هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ
يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ
وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ *
وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ
الْحَكِيمُ * ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ
ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ }








المراد بالأميين: الذين لا كتاب عندهم، ولا أثر رسالة من العرب وغيرهم،
ممن ليسوا من أهل الكتاب، فامتن الله تعالى عليهم، منة عظيمة، أعظم من
منته على غيرهم، لأنهم عادمون للعلم والخير، وكانوا في ضلال مبين،
يتعبدون للأشجار والأصنام والأحجار، ويتخلقون بأخلاق السباع الضارية،
يأكل قويهم ضعيفهم، وقد كانوا في غاية الجهل بعلوم الأنبياء، فبعث الله
فيهم رسولاً منهم، يعرفون نسبه، وأوصافه الجميلة وصدقه، وأنزل عليه كتابه


{ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ }

القاطعة الموجبة للإيمان واليقين،


{ وَيُزَكِّيهِمْ }

بأن يحثهم على الأخلاق الفاضلة، ويفصلها لهم، ويزجرهم عن الأخلاق
الرذيلة،


{ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ }

أي: علم القرآن وعلم السنة، المشتمل ذلك علوم الأولين والآخرين، فكانوا
بعد هذا التعليم والتزكية منه أعلم الخلق، بل كانوا أئمة أهل العلم
والدين، وأكمل الخلق أخلاقًا، وأحسنهم هديًا وسمتًا، اهتدوا بأنفسهم،
وهدوا غيرهم، فصاروا أئمة المهتدين، وهداة المؤمنين، فلله عليهم ببعثه
هذا الرسول صلى الله عليه وسلم، أكمل نعمة، وأجل منحة، وقوله


{ وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ }

أي: وامتن على آخرين من غيرهم أي: من غير الأميين، ممن يأتي بعدهم، ومن
أهل الكتاب، لما يلحقوا بهم، أي: فيمن باشر دعوة الرسول، ويحتمل أنهم
لما يلحقوا بهم في الفضل، ويحتمل أن يكونوا لما يلحقوا بهم في الزمان،
وعلى كل، فكلا المعنيين صحيح، فإن الذين بعث الله فيهم رسوله وشاهدوه
وباشروا دعوته، حصل لهم من الخصائص والفضائل ما لا يمكن أحدًا أن يلحقهم
فيها، وهذا من عزته وحكمته، حيث لم يترك عباده هملاً ولا سدى، بل ابتعث
فيهم الرسل، وأمرهم ونهاهم، وذلك من فضل الله العظيم، الذي يؤتيه من يشاء
من عباده، وهو أفضل من نعمته عليهم بعافية البدن وسعة الرزق، وغير ذلك،
من النعم الدنيوية، فلا أعظم من نعمة الدين التي هي مادة الفوز، والسعادة
الأبدية.




{ 5-8 } { مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ
يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ
الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي
الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ
زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ
فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * وَلَا
يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ
بِالظَّالِمِينَ * قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ
فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ
وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ }









لما ذكر تعالى منته على هذه الأمة، الذين ابتعث فيهم النبي الأمي، وما
خصهم الله به من المزايا والمناقب، التي لا يلحقهم فيها أحد وهم الأمة
الأمية الذين فاقوا الأولين والآخرين، حتى أهل الكتاب، الذين يزعمون أنهم
العلماء الربانيون والأحبار المتقدمون، ذكر أن الذين حملهم الله التوراة
من اليهود وكذا النصارى، وأمرهم أن يتعلموها، ويعملوا بما فيها ، وانهم
لم يحملوها ولم يقوموا بما حملوا به، أنهم لا فضيلة لهم، وأن مثلهم كمثل
الحمار الذي يحمل فوق ظهره أسفارًا من كتب العلم، فهل يستفيد ذلك الحمار
من تلك الكتب التي فوق ظهره؟ وهل يلحق به فضيلة بسبب ذلك؟ أم حظه منها
حملها فقط؟ فهذا مثل علماء اليهود الذين لم يعملوا بما في التوراة، الذي
من أجله وأعظمه الأمر باتباع محمد صلى الله عليه وسلم، والبشارة به،
والإيمان بما جاء به من القرآن، فهل استفاد من هذا وصفه من التوراة إلا
الخيبة والخسران وإقامة الحجة عليه؟ فهذا المثل مطابق لأحوالهم.





بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله الدالة على صدق رسولنا وصدق ما جاء
به.




{ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ }

أي: لا يرشدهم إلى مصالحهم، ما دام الظلم لهم وصفًا، والعناد لهم نعتًا
ومن ظلم اليهود وعنادهم، أنهم يعلمون أنهم على باطل، ويزعمون أنهم على
حق، وأنهم أولياء الله من دون الناس.




ولهذا أمر الله رسوله، أن يقول لهم: إن كنتم صادقين في زعمكم أنكم على
الحق، وأولياء الله:


{ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ }

وهذا أمر خفيف، فإنهم لو علموا أنهم على حق لما توقفوا عن هذا التحدي
الذي جعله الله دليلاً على صدقهم إن تمنوه، وكذبهم إن لم يتمنوه ولما لم
يقع منهم مع الإعلان لهم بذلك، علم أنهم عالمون ببطلان ما هم عليه
وفساده، ولهذا قال:


{ وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ }

أي من الذنوب والمعاصي، التي يستوحشون من الموت من أجلها،


{ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ }

فلا يمكن أن يخفى عليه من ظلمهم شيء، هذا وإن كانوا لا يتمنون الموت بما
قدمت أيديهم، و يفرون منه [غاية الفرار]، فإن ذلك لا ينجيهم، بل لا بد
أن يلاقيهم الموت الذي قد حتمه الله على العباد وكتبه عليهم.




ثم بعد الموت واستكمال الآجال، يرد الخلق كلهم يوم القيامة إلى عالم
الغيب والشهادة، فينبئهم بما كانوا يعملون، من خير وشر، قليل وكثير.




{ 9-11 } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ
مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا
الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * فَإِذَا
قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ
فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ *
وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا
وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ
وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ }




يأمر تعالى عباده المؤمنين بالحضور لصلاة الجمعة والمبادرة إليها، من حين
ينادى لها والسعي إليها، والمراد بالسعي هنا: المبادرة إليها والاهتمام
لها، وجعلها أهم الأشغال، لا العدو الذي قد نهي عنه عند المضي إلى
الصلاة، وقوله:


{ وَذَرُوا الْبَيْعَ }

أي: اتركوا البيع، إذا نودي للصلاة، وامضوا إليها.




فإن


{ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ }

من اشتغالكم بالبيع، وتفويتكم الصلاة الفريضة، التي هي من آكد الفروض.




{ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ }

أن ما عند الله خير وأبقى، وأن من آثر الدنيا على الدين، فقد خسر الخسارة
الحقيقية، من حيث ظن أنه يربح، وهذا الأمر بترك البيع مؤقت مدة الصلاة.




{ فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ }

لطلب المكاسب والتجارات ولما كان الاشتغال في التجارة، مظنة الغفلة عن
ذكر الله، أمر الله بالإكثار من ذكره، فقال:


{ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا }

أي في حال قيامكم وقعودكم وعلى جنوبكم،


{ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }

فإن الإكثار من ذكر الله أكبر أسباب الفلاح.




{ وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا }

أي: خرجوا من المسجد، حرصًا على ذلك اللهو، و [تلك] التجارة، وتركوا
الخير،


{ وَتَرَكُوكَ قَائِمًا }

تخطب الناس، وذلك [في] يوم جمعة، بينما النبي صلى الله عليه وسلم يخطب
الناس، إذ قدم المدينة، عير تحمل تجارة، فلما سمع الناس بها، وهم في
المسجد، انفضوا من المسجد، وتركوا النبي صلى الله عليه وسلم يخطب
استعجالًا لما لا ينبغي أن يستعجل له، وترك أدب،


{ قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ }

من الأجر والثواب، لمن لازم الخير وصبر نفسه على عبادة الله.




{ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ }

التي، وإن حصل منها بعض المقاصد، فإن ذلك قليل منغص، مفوت لخير الآخرة،
وليس الصبر على طاعة الله مفوتًا للرزق، فإن الله خير الرازقين، فمن اتقى
الله رزقه من حيث لا يحتسب.




وفي هذه الآيات فوائد عديدة:




منها: أن الجمعة فريضة على جميع المؤمنين، يجب عليهم السعي لها،
والمبادرة والاهتمام بشأنها.




ومنها: أن الخطبتين يوم الجمعة، فريضتان يجب حضورهما، لأنه فسر الذكر
هنا بالخطبتين، فأمر الله بالمضي إليه والسعي له.




ومنها: مشروعية النداء ليوم الجمعة، والأمر به.




ومنها: النهى عن البيع والشراء، بعد نداء الجمعة، وتحريم ذلك، وما ذاك
إلا لأنه يفوت الواجب ويشغل عنه، فدل ذلك على أن كل أمر ولو كان مباحًا
في الأصل، إذا كان ينشأ عنه تفويت واجب، فإنه لا يجوز في تلك الحال.




ومنها: الأمر بحضور الخطبتين يوم الجمعة، وذم من لم يحضرهما، ومن لازم
ذلك الإنصات لهما.




ومنها: أنه ينبغي للعبد المقبل على عبادة الله، وقت دواعي النفس لحضور
اللهو [والتجارات] والشهوات، أن يذكرها بما عند الله من الخيرات، وما
لمؤثر رضاه على هواه.




تم تفسير سورة الجمعة، ولله الحمد والثناء

descriptionتفسيرالقران - صفحة 3 Emptyرد: تفسيرالقران

more_horiz
-
تفسير
سورة
ا
لصف
عدد آياتها
14

(



آية


1-14 )
وهي مدنية






{
1-3 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي
السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ *
كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ }




وهذا بيان لعظمته تعالى وقهره، وذل جميع الخلق له تبارك وتعالى، وأن
جميع من في السماوات والأرض يسبحون بحمد الله ويعبدونه ويسألونه حوائجهم،


{ وَهُوَ الْعَزِيزُ }

الذي قهر الأشياء بعزته وسلطانه،


{ الْحَكِيمُ }

في خلقه وأمره.




{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ }

أي: لم تقولون الخير وتحثون عليه، وربما تمدحتم به وأنتم لا تفعلونه،
وتنهون عن الشر وربما نزهتم أنفسكم عنه، وأنتم متلوثون به ومتصفون به.




فهل تليق بالمؤمنين هذه الحالة الذميمة؟ أم من أكبر المقت عند الله أن
يقول العبد ما لا يفعل؟ ولهذا ينبغي للآمر بالخير أن يكون أول الناس إليه
مبادرة، وللناهي عن الشر أن يكون أبعد الناس منه، قال تعالى:


{ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ
وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ }

وقال شعيب عليه الصلاة والسلام لقومه:


{ وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه }

.




{ 4 } { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ
صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ }




هذا حث من الله لعباده على الجهاد في سبيله وتعليم لهم كيف يصنعون وأنه
ينبغي [لهم] أن يصفوا في الجهاد صفا متراصا متساويا، من غير خلل يقع في
الصفوف، وتكون صفوفهم على نظام وترتيب به تحصل المساواة بين المجاهدين
والتعاضد وإرهاب العدو وتنشيط بعضهم بعضا، ولهذا كان النبي صلى الله عليه
وسلم إذا حضر القتال، صف أصحابه، ورتبهم في مواقفهم، بحيث لا يحصل اتكال
بعضهم على بعض، بل تكون كل طائفة منهم مهتمة بمركزها وقائمة بوظيفتها،
وبهذه الطريقة تتم الأعمال ويحصل الكمال.




{ 5 } { وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي
وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا
أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ
الْفَاسِقِينَ }




[أي:]


{ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ }

موبخا لهم على صنيعهم، ومقرعا لهم على أذيته، وهم يعلمون أنه رسول الله:


{ لِمَ تُؤْذُونَنِي }

بالأقوال والأفعال


{ وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ }

.




والرسول من حقه الإكرام والإعظام، والانقياد بأوامره، والابتدار لحكمه.




وأما أذية الرسول الذي إحسانه إلى الخلق فوق كل إحسان بعد إحسان الله،
ففي غاية الوقاحة والجراءة والزيغ عن الصراط المستقيم، الذي قد علموه
وتركوه، ولهذا قال:


{ فَلَمَّا زَاغُوا }

أي: انصرفوا عن الحق بقصدهم


{ أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ }

عقوبة لهم على زيغهم الذي اختاروه لأنفسهم ورضوه لها، ولم يوفقهم الله
للهدى، لأنهم لا يليق بهم الخير، ولا يصلحون إلا للشر،


{ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ }

أي: الذين لم يزل الفسق وصفا لهم، لا لهم قصد في الهدى، وهذه الآية
الكريمة تفيد أن إضلال الله لعباده، ليس ظلما منه، ولا حجة لهم عليه،
وإنما ذلك بسبب منهم، فإنهم الذين أغلقوا على أنفسهم باب الهدى بعد ما
عرفوه، فيجازيهم بعد ذلك بالإضلال والزيغ الذي لا حيلة لهم في دفعه
وتقليب القلوب [عقوبة لهم وعدلا منه بهم] كما قال تعالى:


{ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا
بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ }

.




{
6-9 } { وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ
إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ
التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ
أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ
مُبِينٌ * وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ
وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ
الظَّالِمِينَ * يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ
وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي
أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى
الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ }




يقول تعالى مخبرا عن عناد بني إسرائيل المتقدمين، الذين دعاهم عيسى ابن
مريم، وقال لهم:


{ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ }

أي: أرسلني الله لأدعوكم إلى الخير وأنهاكم عن الشر، [وأيدني بالبراهين
الظاهرة]، ومما يدل على صدقي، كوني،


{ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ }

أي: جئت بما جاء به موسى من التوراة والشرائع السماوية، ولو كنت مدعيا
للنبوة، لجئت بغير ما جاءت به المرسلون، ومصدقا لما بين يدي من التوارة
أيضا، أنها أخبرت بي وبشرت، فجئت وبعثت مصداقا لها


{ ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد }

وهو: محمد بن عبد الله بن عبد المطلب النبي الهاشمي.




فعيسى عليه الصلاة والسلام، كالأنبياء يصدق بالنبي السابق، ويبشر بالنبي
اللاحق، بخلاف الكذابين، فإنهم يناقضون الأنبياء أشد مناقضة، ويخالفونهم
في الأوصاف والأخلاق، والأمر والنهي


{ فَلَمَّا جَاءَهُمْ }

محمد صلى الله عليه وسلم الذي بشر به عيسى


{ بِالْبَيِّنَاتِ }

أي: الأدلة الواضحة، الدالة على أنه هو، وأنه رسول الله [حقا].




{ قَالُوا }

معاندين للحق مكذبين له


{ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ }

وهذا من أعجب العجائب، الرسول الذي [قد] وضحت رسالته، وصارت أبين من شمس
النهار، يجعل ساحرا بينا سحره، فهل في الخذلان أعظم من هذا؟ وهل في
الافتراء أعظم من هذا الافتراء، الذي نفى عنه ما كان معلوما من رسالته،
وأثبت له ما كان أبعد الناس منه؟




{ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ }

بهذا وغيره، والحال أنه لا عذر له، وقد انقطعت حجته، لأنه


{ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ }

ويبين له ببراهينه وبيناته،


{ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ }

الذين لا يزالون على ظلمهم مستقيمين، لا تردهم عنه موعظة، ولا يزجرهم
بيان ولا برهان، خصوصا هؤلاء الظلمة القائمين بمقابلة الحق ليردوه،
ولينصروا الباطل، ولهذا قال الله عنهم:


{ يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ }

أي: بما يصدر منهم من المقالات الفاسدة، التي يردون بها الحق، وهي لا
حقيقة لها، بل تزيد البصير معرفة بما هم عليه من الباطل،


{ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ }

أي: قد تكفل الله بنصر دينه، وإتمام الحق الذي أرسل به رسله، وإشاعة
نوره على سائر الأقطار، ولو كره الكافرون، وبذلوا بسبب كراهتهم كل سبب
يتوصلون به إلى إطفاء نور الله فإنهم مغلوبون.




وصاروا بمنزلة من ينفخ عين الشمس بفيه ليطفئها، فلا على مرادهم حصلوا،
ولا سلمت عقولهم من النقص والقدح فيها.




ثم ذكر سبب الظهور والانتصار للدين الإسلامي، الحسي والمعنوي، فقال:


{ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ }

أي: بالعلم النافع والعمل الصالح.




بالعلم الذي يهدي إلى الله وإلى دار كرامته، ويهدي لأحسن الأعمال
والأخلاق، ويهدي إلى مصالح الدنيا والآخرة.




{ وَدِينِ الْحَقِّ }

أي: الدين الذي يدان به، ويتعبد لرب العالمين الذي هو حق وصدق، لا نقص
فيه، ولا خلل يعتريه، بل أوامره غذاء القلوب والأرواح، وراحة الأبدان،
وترك نواهيه سلامة من الشر والفساد فما بعث به النبي صلى الله عليه وسلم
من الهدى ودين الحق، أكبر دليل وبرهان على صدقه، وهو برهان باق ما بقي
الدهر، كلما ازداد العاقل تفكرا، ازداد به فرحا وتبصرا.




{ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ }

أي: ليعليه على سائر الأديان، بالحجة والبرهان، ويظهر أهله القائمين به
بالسيف والسنان، فأما نفس الدين، فهذا الوصف ملازم له في كل وقت، فلا
يمكن أن يغالبه مغالب، أو يخاصمه مخاصم إلا فلجه وبلسه، وصار له الظهور
والقهر، وأما المنتسبون إليه، فإنهم إذا قاموا به، واستناروا بنوره،
واهتدوا بهديه، في مصالح دينهم ودنياهم، فكذلك لا يقوم لهم أحد، ولا بد
أن يظهروا على أهل الأديان، وإذا ضيعوه واكتفوا منه بمجرد الانتساب إليه،
لم ينفعهم ذلك، وصار إهمالهم له سبب تسليط الأعداء عليهم، ويعرف هذا، من
استقرأ الأحوال ونظر في أول المسلمين وآخرهم







{ 10-14 } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى
تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ
وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ
وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ *
يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ
ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ
اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ * يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ
مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ
الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ
بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا
عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ }




هذه وصية ودلالة وإرشاد من أرحم الراحمين لعباده المؤمنين، لأعظم تجارة،
وأجل مطلوب، وأعلى مرغوب، يحصل بها النجاة من العذاب الأليم، والفوز
بالنعيم المقيم.




وأتى بأداة العرض الدالة على أن هذا أمر يرغب فيه كل متبصر، ويسمو إليه
كل لبيب، فكأنه قيل: ما هذه التجارة التي هذا قدرها؟ فقال


{ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ }

.




ومن المعلوم أن الإيمان التام هو التصديق الجازم بما أمر الله بالتصديق
به، المستلزم لأعمال الجوارح، ومن أجل أعمال الجوارح الجهاد في سبيل
الله فلهذا قال:


{ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ }

بأن تبذلوا نفوسكم ومهجكم، لمصادمة أعداء الإسلام، والقصد نصر دين الله
وإعلاء كلمته، وتنفقون ما تيسر من أموالكم في ذلك المطلوب، فإن ذلك، ولو
كان كريها للنفوس شاقا عليها، فإنه


{ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ }

فإن فيه الخير الدنيوي، من النصر على الأعداء، والعز المنافي للذل والرزق
الواسع، وسعة الصدر وانشراحه.




وفي الآخرة الفوز بثواب الله والنجاة من عقابه، ولهذا ذكر الجزاء في
الآخرة، فقال:


{ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ }

وهذا شامل للصغائر والكبائر، فإن الإيمان بالله والجهاد في سبيله، مكفر
للذنوب، ولو كانت كبائر.




{ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ }

أي: من تحت مساكنها [وقصورها] وغرفها وأشجارها، أنهار من ماء غير آسن،
وأنهار من لبن لم يتغير طعمه، وأنهار من خمر لذة للشاربين، وأنهار من عسل
مصفى، ولهم فيها من كل الثمرات،


{ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ }

أي: جمعت كل طيب، من علو وارتفاع، وحسن بناء وزخرفة، حتى إن أهل الغرف من
أهل عليين، يتراءاهم أهل الجنة كما يتراءى الكوكب الدري في الأفق الشرقي
أو الغربي، وحتى إن بناء الجنة بعضه من لبن ذهب [وبعضه من] لبن فضة،
وخيامها من اللؤلؤ والمرجان، وبعض المنازل من الزمرد والجواهر الملونة
بأحسن الألوان، حتى إنها من صفائها يرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من
ظاهرها، وفيها من الطيب والحسن ما لا يأتي عليه وصف الواصفين، ولا خطر
على قلب أحد من العالمين، لا يمكن أن يدركوه حتى يروه، ويتمتعوا بحسنه
وتقر أعينهم به، ففي تلك الحالة، لولا أن الله خلق أهل الجنة، وأنشأهم
نشأة كاملة لا تقبل العدم، لأوشك أن يموتوا من الفرح، فسبحان من لا يحصي
أحد من خلقه ثناء عليه، بل هو كما أثنى على نفسه وفوق ما يثني عليه
عباده وتبارك الجليل الجميل، الذي أنشأ دار النعيم، وجعل فيها من الجلال
والجمال ما يبهر عقول الخلق ويأخذ بأفئدتهم.




وتعالى من له الحكمة التامة، التي من جملتها، أنه الله لو أرى الخلائق
الجنة حين خلقها ونظروا إلى ما فيها من النعيم لما تخلف عنها أحد، ولما
هناهم العيش في هذه الدار المنغصة، المشوب نعيمها بألمها، وسرورها
بترحها.




وسميت الجنة جنة عدن، لأن أهلها مقيمون فيها، لا يخرجون منها أبدا، ولا
يبغون عنها حولا، ذلك الثواب الجزيل، والأجر الجميل، الفوز العظيم، الذي
لا فوز مثله، فهذا الثواب الأخروي.




وأما الثواب الدنيوي لهذه التجارة، فذكره بقوله:


{ وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا }

أي: ويحصل لكم خصلة أخرى تحبونها وهي:


{ نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ }

[لكم] على الأعداء، يحصل به العز والفرح،


{ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ }

تتسع به دائرة الإسلام، ويحصل به الرزق الواسع، فهذا جزاء المؤمنين
المجاهدين، وأما المؤمنون من غير أهل الجهاد، [إذا قام غيرهم بالجهاد]
فلم يؤيسهم الله تعالى من فضله وإحسانه، بل قال:


{ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ }

أي: بالثواب العاجل والآجل، كل على حسب إيمانه، وإن كانوا لا يبلغون مبلغ
المجاهدين في سبيل الله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن في
الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، أعدها الله
للمجاهدين في سبيله "




ثم قال تعالى:


{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ }

[أي:] بالأقوال والأفعال، وذلك بالقيام بدين الله، والحرص على إقامته
على الغير، وجهاد من عانده ونابذه، بالأبدان والأموال، ومن نصر الباطل
بما يزعمه من العلم ورد الحق، بدحض حجته، وإقامة الحجة عليه، والتحذير
منه.




ومن نصر دين الله، تعلم كتاب الله وسنة رسوله، والحث على ذلك، [والأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر].




ثم هيج الله المؤمنين بالاقتداء بمن قبلهم من الصالحين بقوله:


{ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي
إِلَى اللَّهِ }

أي: قال لهم عارضا ومنهضا من يعاونني ويقوم معي في نصرتي لدين الله،
ويدخل مدخلي، ويخرج مخرجي؟




فابتدر الحواريون، فقالوا:


{ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ }

فمضى عيسى عليه السلام على أمر الله ونصر دينه، هو ومن معه من الحواريين،


{ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ }

بسبب دعوة عيسى والحواريين،


{ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ }

منهم، فلم ينقادوا لدعوتهم، فجاهد المؤمنون الكافرين،


{ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ }

أي: قويناهم ونصرناهم عليهم.




{ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ }

عليهم وقاهرين [لهم]، فأنتم يا أمة محمد، كونوا أنصار الله ودعاة دينه،
ينصركم الله كما نصر من قبلكم، ويظهركم على عدوكم.




تمت ولله الحمد

descriptionتفسيرالقران - صفحة 3 Emptyرد: تفسيرالقران

more_horiz
-
تفسير
سورة
ا
لممتحنة
عدد آياتها
13

(



آية




1-13
)
وهي مدنية






{ 1-9 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ
إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ
الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ
رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ
مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا
أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ
ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ * إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ
أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ
بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ * لَنْ تَنْفَعَكُمْ
أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ
بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * قَدْ كَانَتْ لَكُمْ
أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا
لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ
اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ
وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا
قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ
لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا
وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ * رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا
فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ *لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ
لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ
فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * عَسَى اللَّهُ أَنْ
يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً
وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ
عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ
مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ
اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ
الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ
وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ
يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ }





ذكر كثير من المفسرين، [رحمهم الله]، أن سبب نزول هذه الآيات الكريمات في
قصة حاطب بن أبي بلتعة، حين غزا النبي صلى الله عليه وسلم غزوة الفتح،
فكتب حاطب إلى قريش يخبرهم بمسير رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم،
ليتخذ بذلك يدا عندهم لا [شكا و] نفاقا، وأرسله مع امرأة، فأخبر النبي
صلى الله عليه وسلم بشأنه، فأرسل إلى المرأة قبل وصولها وأخذ منها
الكتاب.




وعاتب حاطبا، فاعتذر رضي الله عنه بعذر قبله النبي صلى الله عليه وسلم،
وهذه الآيات فيها النهي الشديد عن موالاة الكفار من المشركين وغيرهم،
وإلقاء المودة إليهم، وأن ذلك مناف للإيمان، ومخالف لملة إبراهيم الخليل
عليه الصلاة والسلام، ومناقض للعقل الذي يوجب الحذر كل الحذر من العدو،
الذي لا يبقي من مجهوده في العداوة شيئا، وينتهز الفرصة في إيصال الضرر
إلى عدوه، فقال تعالى:


{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا }

اعملوا بمقتضى إيمانكم، من ولاية من قام بالإيمان، ومعاداة من عاداه،
فإنه عدو لله، وعدو للمؤمنين.




فلا تتخذوا عدو الله


{ وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ }

أي: تسارعون في مودتهم وفي السعي بأسبابها، فإن المودة إذا حصلت، تبعتها
النصرة والموالاة، فخرج العبد من الإيمان، وصار من جملة أهل الكفران،
وانفصل عن أهل الإيمان.




وهذا المتخذ للكافر وليا، عادم المروءة أيضا، فإنه كيف يوالي أعدى أعدائه
الذي لا يريد له إلا الشر، ويخالف ربه ووليه الذي يريد به الخير، ويأمره
به، ويحثه عليه؟! ومما يدعو المؤمن أيضا إلى معاداة الكفار، أنهم قد
كفروا بما جاء المؤمنين من الحق، ولا أعظم من هذه المخالفة والمشاقة،
فإنهم قد كفروا بأصل دينكم، وزعموا أنكم ضلال على غير هدى.




والحال أنهم كفروا بالحق الذي لا شك فيه ولا مرية، ومن رد الحق فمحال أن
يوجد له دليل أو حجة تدل على صحة قوله، بل مجرد العلم بالحق يدل على
بطلان قول من رده وفساده.




ومن عداوتهم البليغة أنهم


{ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ }

أيها المؤمنون من دياركم، ويشردونكم من أوطانكم، ولا ذنب لكم في ذلك
عندهم، إلا أنكم تؤمنون بالله ربكم الذي يتعين على الخلق كلهم القيام
بعبوديته، لأنه رباهم، وأنعم عليهم، بالنعم الظاهرة والباطنة، وهو الله
تعالى.




فلما أعرضوا عن هذا الأمر، الذي هو أوجب الواجبات، وقمتم به، عادوكم،
وأخرجوكم - من أجله - من دياركم، فأي دين، وأي مروءة وعقل، يبقى مع العبد
إذا والى الكفار الذين هذا وصفهم في كل زمان أو مكان؟" ولا يمنعهم منه
إلا خوف، أو مانع قوي.




{ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ
مَرْضَاتِي }

أي: إن كان خروجكم مقصودكم به الجهاد في سبيل الله، لإعلاء كلمة الله،
وابتغاء مرضاة الله فاعملوا بمقتضى هذا، من موالاة أولياء الله ومعاداة
أعدائه، فإن هذا هو الجهاد في سبيله وهو من أعظم ما يتقرب به المتقربون
إلى ربهم ويبتغون به رضاه.




{ تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا
أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ }

أي: كيف تسرون المودة للكافرين وتخفونها، مع علمكم أن الله عالم بما
تخفون وما تعلنون؟!، فهو وإن خفي على المؤمنين، فلا يخفى على الله تعالى،
وسيجازي العباد بما يعلمه منهم من الخير والشر،


{ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ }

أي: موالاة الكافرين بعد ما حذركم الله منها


{ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ }

لأنه سلك مسلكا مخالفا للشرع وللعقل والمروءة الإنسانية.




ثم بين تعالى شدة عداوتهم، تهييجا للمؤمنين على عداوتهم،


{ إِنْ يَثْقَفُوكُمْ }

أي: يجدوكم، وتسنح لهم الفرصة في أذاكم،


{ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً }

ظاهرين


{ وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ }

بالقتل والضرب، ونحو ذلك.




{ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ }

أي: بالقول الذي يسوء، من شتم وغيره،


{ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ }

فإن هذا غاية ما يريدون منكم.




فإن احتججتم وقلتم: نوالي الكفار لأجل القرابة والأموال، فلن تغني عنكم
أموالكم ولا أولادكم من الله شيئا.


{ والله بما تعملون بصير }

فلذلك حذركم من موالاة الكافرين الذين تضركم موالاتهم.




قد كان لكم يا معشر المؤمنين


{ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ }

أي: قدوة صالحة وائتمام ينفعكم،


{ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ }

من المؤمنين، لأنكم قد أمرتم أن تتبعوا ملة إبراهيم حنيفا،


{ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا
تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ }

أي: إذ تبرأ إبراهيم عليه السلام ومن معه من المؤمنين، من قومهم المشركين
ومما يعبدون من دون الله.




ثم صرحوا بعداوتهم غاية التصريح، فقالوا:


{ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا }

أي: ظهر وبان


{ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ }

أي: البغض بالقلوب، وزوال مودتها، والعداوة بالأبدان، وليس لتلك العداوة
والبغضاء وقت ولا حد، بل ذلك


{ أَبَدًا }

ما دمتم مستمرين على كفركم


{ حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ }

أي: فإذا آمنتم بالله وحده، زالت العداوة والبغضاء، وانقلبت مودة وولاية،
فلكم أيها المؤمنون أسوة [حسنة] في إبراهيم ومن معه في القيام بالإيمان
والتوحيد، والقيام بلوازم ذلك ومقتضياته، وفي كل شيء تعبدوا به لله وحده،


{ إِلَّا }

في خصلة واحدة وهي


{ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ }

آزر المشرك، الكافر، المعاند، حين دعاه إلى الإيمان والتوحيد، فامتنع،
فقال إبراهيم :


{ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ و }

الحال أني لا


{ أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ }

لكني أدعو ربي عسى أن لا أكون بدعاء ربي شقيا، فليس لكم أن تقتدوا
بإبراهيم في هذه الحالة التي دعا بها للمشرك، فليس لكم أن تدعوا
للمشركين، وتقولوا: إنا في ذلك متبعون لملة إبراهيم، فإن الله ذكر عذر
إبراهيم في ذلك بقوله:


{ وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ
مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ
لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إن إبراهيم لأواه حليم }





ولكم أسوة حسنة في إبراهيم ومن معه، حين دعوا الله وتوكلوا عليه وأنابوا
إليه، واعترفوا بالعجز والتقصير، فقالوا:


{ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا }

أي: اعتمدنا عليك في جلب ما ينفعنا ودفع ما يضرنا، ووثقنا بك يا ربنا في
ذلك.




{ وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا }

أي: رجعنا إلى طاعتك ومرضاتك وجميع ما يقرب إليك، فنحن في ذلك ساعون،
وبفعل الخيرات مجتهدون، ونعلم أنا إليك نصير، فسنستعد للقدوم عليك، ونعمل
ما يقربنا الزلفى إليك




{ رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا }

أي: لا تسلطهم علينا بذنوبنا، فيفتنونا، ويمنعونا مما يقدرون عليه من
أمور الإيمان، ويفتنون أيضا بأنفسهم، فإنهم إذا رأوا لهم الغلبة، ظنوا
أنهم على الحق وأنا على الباطل، فازدادوا كفرا وطغيانا،


{ وَاغْفِرْ لَنَا }

ما اقترفنا من الذنوب والسيئات، وما قصرنا به من المأمورات،


{ رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ }

القاهر لكل شيء،


{ الْحَكِيمُ }

الذي يضع الأشياء مواضعها، فبعزتك وحكمتك انصرنا على أعدائنا، واغفر لنا
ذنوبنا، وأصلح عيوبنا.




ثم كرر الحث [لهم] على الاقتداء بهم، فقال:


{ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ }

وليس كل أحد تسهل عليه هذه الأسوة، وإنما تسهل على من


{ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ }

فإن الإيمان واحتساب الأجر والثواب، يسهل على العبد كل عسير، ويقلل لديه
كل كثير، ويوجب له الإكثار من الاقتداء بعباد الله الصالحين، والأنبياء
والمرسلين، فإنه يرى نفسه مفتقرا ومضطرا إلى ذلك غاية الاضطرار.




{ وَمَنْ يَتَوَلَّ }

عن طاعة الله والتأسي برسل الله، فلن يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئا،


{ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ }

الذي له الغنى التام [المطلق] من جميع الوجوه، فلا يحتاج إلى أحد من خلقه
[بوجه]،


{ الْحَمِيدُ }

في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله، فإنه محمود على ذلك كله.




ثم أخبر تعالى أن هذه العداوة التي أمر بها المؤمنين للمشركين، ووصفهم
بالقيام بها أنهم ما داموا على شركهم وكفرهم، وأنهم إن انتقلوا إلى
الإيمان، فإن الحكم يدور مع علته، فإن المودة الإيمانية ترجع، فلا
تيأسوا أيها المؤمنون، من رجوعهم إلى الإيمان، فـ


{ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ
عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً }

سببها رجوعهم إلى الإيمان،


{ وَاللَّهُ قَدِيرٌ }

على كل شيء، ومن ذلك هداية القلوب وتقليبها من حال إلى حال،


{ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ }

لا يتعاظمه ذنب أن يغفره، ولا يكبر عليه عيب أن يستره،


{ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا
تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ
جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ }

وفي هذه الآية إشارة وبشارة إلى إسلام بعض المشركين، الذين كانوا إذ ذاك
أعداء للمؤمنين، وقد وقع ذلك، ولله الحمد والمنة.




ولما نزلت هذه الآيات الكريمات، المهيجة على عداوة الكافرين، وقعت من
المؤمنين كل موقع، وقاموا بها أتم القيام، وتأثموا من صلة بعض أقاربهم
المشركين، وظنوا أن ذلك داخل فيما نهى الله عنه.




فأخبرهم الله أن ذلك لا يدخل في المحرم فقال:


{ لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي
الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ
وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ }

أي: لا ينهاكم الله عن البر والصلة، والمكافأة بالمعروف، والقسط
للمشركين، من أقاربكم وغيرهم، حيث كانوا بحال لم ينتصبوا لقتالكم في
الدين والإخراج من دياركم، فليس عليكم جناح أن تصلوهم، فإن صلتهم في هذه
الحالة، لا محذور فيها ولا مفسدة كما قال تعالى عن الأبوين المشركين إذا
كان ولدهما مسلما:


{ وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ
فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا }





[وقوله:]


{ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي
الدِّينِ }

أي: لأجل دينكم، عداوة لدين الله ولمن قام به،


{ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا }

أي: عاونوا غيرهم


{ عَلَى إِخْرَاجِكُمْ }

نهاكم الله


{ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ }

بالمودة والنصرة، بالقول والفعل، وأما بركم وإحسانكم، الذي ليس بتول
للمشركين، فلم ينهكم الله عنه، بل ذلك داخل في عموم الأمر بالإحسان إلى
الأقارب وغيرهم من الآدميين، وغيرهم.




{ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ }

وذلك الظلم يكون بحسب التولي، فإن كان توليا تاما، صار ذلك كفرا مخرجا
عن دائرة الإسلام، وتحت ذلك من المراتب ما هو غليظ، وما هو دون ذلك.







{ 10-11 } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ
الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ
بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا
تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ
يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ
أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا
تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ
وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ
بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ
أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ
ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ
الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ }




لما كان صلح الحديبية، صالح النبي صلى الله عليه وسلم المشركين، على أن
من جاء منهم إلى المسلمين مسلما، أنه يرد إلى المشركين، وكان هذا لفظا
عاما، [مطلقا] يدخل في عمومه النساء والرجال، فأما الرجال فإن الله لم
ينه رسوله عن ردهم، إلى المشركين وفاء بالشرط وتتميما للصلح الذي هو من
أكبر المصالح، وأما النساء فلما كان ردهن فيه مفاسد كثيرة، أمر الله
المؤمنين إذا جاءهم المؤمنات مهاجرات، وشكوا في صدق إيمانهن، أن يمتحنوهن
ويختبروهن، بما يظهر به صدقهن، من أيمان مغلظة وغيرها، فإنه يحتمل أن
يكون إيمانها غير صادق بل رغبة في زوج أو بلد أو غير ذلك من المقاصد
الدنيوية.




فإن كن بهذا الوصف، تعين ردهن وفاء بالشرط، من غير حصول مفسدة، وإن
امتحنوهن، فوجدن صادقات، أو علموا ذلك منهن من غير امتحان، فلا يرجعوهن
إلى الكفار،


{ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ }

فهذه مفسدة كبيرة في ردهن راعاها الشارع، وراعى أيضا الوفاء بالشرط، بأن
يعطوا الكفار أزواجهن ما أنفقوا عليهن من المهر وتوابعه عوضا عنهن، ولا
جناح حينئذ على المسلمين أن ينكحوهن ولو كان لهن أزواج في دار الشرك،
ولكن بشرط أن يؤتوهن أجورهن من المهر والنفقة، وكما أن المسلمة لا تحل
للكافر، فكذلك الكافرة لا تحل للمسلم أن يمسكها ما دامت على كفرها، غير
أهل الكتاب، ولهذا قال تعالى:


{ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ }

وإذا نهى عن الإمساك بعصمتها فالنهي عن ابتداء تزويجها أولى،


{ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ }

أيها المؤمنون، حين ترجع زوجاتكم مرتدات إلى الكفار، فإذا كان الكفار
يأخذون من المسلمين نفقة من أسلمت من نسائهم، استحق المسلمون أن يأخذوا
مقابلة ما ذهب من نسائهم إلى الكفار، وفي هذا دليل على أن خروج البضع من
الزوج متقوم، فإذا أفسد مفسد نكاح امرأة رجل، برضاع أو غيره، كان عليه
ضمان المهر، وقوله:


{ ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ }

أي: ذلكم الحكم الذي ذكره الله وبينه لكم يحكم به بينكم


{ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ }

فيعلم تعالى، ما يصلح لكم من الأحكام، ويشرع لكم ما تقتضيه الحكمة




وقوله:


{ وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ }

بأن ذهبن مرتدات


{ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا
أَنْفَقُوا }

كما تقدم أن الكفار إذا كانوا يأخذون بدل ما يفوت من أزواجهم إلى
المسلمين، فمن ذهبت زوجته من المسلمين إلى الكفار وفاتت عليه، لزم أن
يعطيه فعلى المسلمون من الغنيمة بدل ما أنفق




{ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ }

فإيمانكم بالله، يقتضي منكم أن تكونوا ملازمين للتقوى على الدوام.




{ 12 } { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ
يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا
يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا
يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ
وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ
وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ }





هذه الشروط المذكورة في هذه الآية، تسمى "مبايعة النساء" اللاتي [كن]
يبايعن على إقامة الواجبات المشتركة، التي تجب على الذكور والنساء في
جميع الأوقات.




وأما الرجال، فيتفاوت ما يلزمهم بحسب أحوالهم ومراتبهم وما يتعين عليهم،
فكان النبي صلى الله عليه وسلم يمتثل ما أمره الله به، فكان إذا جاءته
النساء يبايعنه، والتزمن بهذه الشروط بايعهن، وجبر قلوبهن، واستغفر لهن
الله، فيما يحصل منهن من التقصير وأدخلهن في جملة المؤمنين بأن


{ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا }

بأن يفردن الله [وحده] بالعبادة.




{ وَلَا يَزْنِينَ }

كما كان ذلك موجودا كثيرا في البغايا وذوات الأخدان،


{ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ }

كما يجري لنساء الجاهلية الجهلاء.




{ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ
وَأَرْجُلِهِنَّ }

والبهتان: الافتراء على الغير أي: لا يفترين بكل حالة، سواء تعلقت بهن
وأزواجهن أو سواء تعلق ذلك بغيرهم،


{ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ }

أي: لا يعصينك في كل أمر تأمرهن به، لأن أمرك لا يكون إلا بمعروف، ومن
ذلك طاعتهن [لك] في النهي عن النياحة، وشق الثياب، وخمش الوجوه، والدعاء
بدعاء الجاهلية.




{ فَبَايِعْهُنَّ }

إذا التزمن بجميع ما ذكر.




{ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ }

عن تقصيرهن، وتطييبا لخواطرهن،


{ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ }

أي: كثير المغفرة للعاصين، والإحسان إلى المذنبين التائبين،


{ رَحِيمٌ }

وسعت رحمته كل شيء، وعم إحسانه البرايا.







{ 13 } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا
غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ
الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ }




أي: يا أيها المؤمنون، إن كنتم مؤمنين بربكم، ومتبعين لرضاه ومجانبين
لسخطه،


{ لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ }

وإنما غضب عليهم لكفرهم، وهذا شامل لجميع أصناف الكفار.


{ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ }

أي: قد حرموا من خير الآخرة، فليس لهم منها نصيب، فاحذروا أن تولوهم
فتوافقوهم على شرهم وكفرهم فتحرموا خير الآخرة كما حرموا.




[وقوله]


{ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ }

حين أفضوا إلى الدار الآخرة، ووقفوا على حقيقة الأمر وعلموا علم اليقين
أنهم لا نصيب لهم منها. ويحتمل أن المعنى: قد يئسوا من الآخرة أي: قد
أنكروها وكفروا بها، فلا يستغرب حينئذ منهم الإقدام على مساخط الله
وموجبات عذابه وإياسهم من الآخرة، كما يئس الكفار المنكرون للبعث في
الدنيا من رجوع أصحاب القبور إلى الله تعالى.




تم تفسير سورة الممتحنة، والحمد لله رب العالمين.

descriptionتفسيرالقران - صفحة 3 Emptyرد: تفسيرالقران

more_horiz
-
تفسير
سورة
ا
لحشر
عدد آياتها
24

(



آية



1-24
)
وهي مدنية






{ 1-7 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سَبَّحَ لِلَّهِ مَا
فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ *
هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ
دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا
وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ
اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ
الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي
الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ }




إلى آخر القصة.
هذه السورة تسمى { سورة بني النضير } وهم طائفة كبيرة من اليهود في جانب
المدينة، وقت بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما بعث النبي صلى الله
عليه وسلم، وهاجر إلى المدينة، كفروا به في جملة من كفر من اليهود، فلما
هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة هادن سائر طوائف اليهود الذين
هم جيرانه في المدينة، فلما كان بعد [وقعة] بدر بستة أشهر أو نحوها، خرج
إليهم النبي صلى الله عليه وسلم، وكلمهم أن يعينوه في دية الكلابيين
الذين قتلهم عمرو بن أمية الضمري، فقالوا: نفعل يا أبا القاسم، اجلس
هاهنا حتى نقضي حاجتك، فخلا بعضهم ببعض، وسول لهم الشيطان الشقاء الذي
كتب عليهم، فتآمروا بقتله صلى الله عليه وسلم، وقالوا: أيكم يأخذ هذه
الرحى فيصعد فيلقيها على رأسه يشدخه بها؟ فقال أشقاهم عمرو بن جحاش: أنا،
فقال لهم سلام بن مشكم: لا تفعلوا، فوالله ليخبرن بما هممتم به، وإنه
لنقض العهد الذي بيننا وبينه، وجاء الوحي على الفور إليه من ربه، بما
هموا به، فنهض مسرعا، فتوجه إلى المدينة، ولحقه أصحابه، فقالوا: نهضت ولم
نشعر بك، فأخبرهم بما همت يهود به.




وبعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أن اخرجوا من المدينة ولا
تساكنوني بها، وقد أجلتكم عشرا، فمن وجدت بعد ذلك بها ضربت عنقه"





فأقاموا أياما يتجهزون، وأرسل إليهم المنافق عبد الله بن أبي [بن سلول]:
"أن لا تخرجوا من دياركم، فإن معي ألفين يدخلون معكم حصنكم، فيموتون
دونكم، وتنصركم قريظة وحلفاؤكم من غطفان".




وطمع رئيسهم حيي بن أخطب فيما قال له، وبعث إلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم يقول: إنا لا نخرج من ديارنا، فاصنع ما بدا لك.




فكبر رسول الله صلى عليه وسلم وأصحابه، ونهضوا إليهم، وعلي بن أبي طالب
يحمل اللواء.




فأقاموا على حصونهم يرمون بالنبل والحجارة، واعتزلتهم قريظة، وخانهم ابن
أبي وحلفاؤهم من غطفان، فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقطع
نخلهم وحرق. فأرسلوا إليه: نحن نخرج من المدينة، فأنزلهم على أن يخرجوا
منها بنفوسهم، وذراريهم، وأن لهم ما حملت إبلهم إلا السلاح، وقبض رسول
الله صلى الله عليه وسلم، الأموال والسلاح.




وكانت بنو النضير، خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم لنوائبه ومصالح
المسلمين، ولم يخمسها، لأن الله أفاءها عليه، ولم يوجف المسلمون عليها
بخيل ولا ركاب، وأجلاهم إلى خيبر وفيهم حيي بن أخطب كبيرهم، واستولى على
أرضهم وديارهم، وقبض السلاح، فوجد من السلاح خمسين درعا، وخمسين بيضة،
وثلاثمائة وأربعين سيفا، هذا حاصل قصتهم كما ذكرها أهل السير.




فافتتح تعالى هذه السورة بالإخبار أن جميع من في السماوات والأرض تسبح
بحمد ربها، وتنزهه عما لا يليق بجلاله، وتعبده وتخضع لجلاله لأنه العزيز
الذي قد قهر كل شيء، فلا يمتنع عليه شيء، ولا يستعصي عليه مستعصي الحكيم
في خلقه وأمره، فلا يخلق شيئا عبثا، ولا يشرع ما لا مصلحة فيه، ولا يفعل
إلا ما هو مقتضى حكمته.




ومن ذلك، نصر الله لرسوله صلى الله عليه وسلم على الذين كفروا من أهل
الكتاب من بني النضير حين غدروا برسوله فأخرجهم من ديارهم وأوطانهم التي
ألفوها وأحبوها.




وكان إخراجهم منها أول حشر وجلاء كتبه الله عليهم على يد رسوله محمد صلى
الله عليه وسلم، فجلوا إلى خيبر، ودلت الآية الكريمة أن لهم حشرا وجلاء
غير هذا، فقد وقع حين أجلاهم النبي صلى الله عليه وسلم من خيبر، ثم عمر
رضي الله عنه، [أخرج بقيتهم منها].




{ مَا ظَنَنْتُمْ }

أيها المسلمون


{ أَنْ يَخْرُجُوا }

من ديارهم، لحصانتها، ومنعتها، وعزهم فيها.




{ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ }

فأعجبوا بها وغرتهم، وحسبوا أنهم لا ينالون بها، ولا يقدر عليها أحد،
وقدر الله تعالى وراء ذلك كله، لا تغني عنه الحصون والقلاع، ولا تجدي
فيهم القوة والدفاع.




ولهذا قال:


{ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا }

أي: من الأمر والباب، الذي لم يخطر ببالهم أن يؤتوا منه، وهو أنه تعالى


{ قذف فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ }

وهو الخوف الشديد، الذي هو جند الله الأكبر، الذي لا ينفع معه عدد ولا
عدة، ولا قوة ولا شدة، فالأمر الذي يحتسبونه ويظنون أن الخلل يدخل عليهم
منه إن دخل هو الحصون التي تحصنوا بها، واطمأنت نفوسهم إليها، ومن وثق
بغير الله فهو مخذول، ومن ركن إلى غير الله فهو عليه وبال فأتاهم أمر
سماوي نزل على قلوبهم، التي هي محل الثبات والصبر، أو الخور والضعف،
فأزال الله قوتها وشدتها، وأورثها ضعفا وخورا وجبنا، لا حيلة لهم ولا
منعة معه فصار ذلك عونا عليهم، ولهذا قال:


{ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ }

وذلك أنهم صالحوا النبي صلى الله عليه وسلم، على أن لهم ما حملت الإبل.




فنقضوا لذلك كثيرا من سقوفهم، التي استحسنوها، وسلطوا المؤمنين بسبب
بغيهم على إخراب ديارهم وهدم حصونهم، فهم الذين جنوا على أنفسهم، وصاروا
من أكبر عون عليها،


{ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ }

أي: البصائر النافذة، والعقول الكاملة، فإن في هذا معتبرا يعرف به صنع
الله تعالى في المعاندين للحق، المتبعين لأهوائهم، الذين لم تنفعهم
عزتهم، ولا منعتهم قوتهم، ولا حصنتهم حصونهم، حين جاءهم أمر الله، ووصل
إليهم النكال بذنوبهم، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فإن هذه
الآية تدل على الأمر بالاعتبار، وهو اعتبار النظير بنظيره، وقياس الشيء
على مثله، والتفكر فيما تضمنته الأحكام من المعاني والحكم التي هي محل
العقل والفكرة، وبذلك يزداد العقل، وتتنور البصيرة ويزداد الإيمان،
ويحصل الفهم الحقيقي، ثم أخبر تعالى أن هؤلاء اليهود لم يصبهم جميع ما
يستحقون من العقوبة، وأن الله خفف عنهم.




فلولا أنه كتب عليهم الجلاء الذي أصابهم وقضاه عليهم وقدره بقدره الذي لا
يبدل ولا يغير، لكان لهم شأن آخر من عذاب الدنيا ونكالها، ولكنهم - وإن
فاتهم العذاب الشديد الدنيوي - فإن لهم في الآخرة عذاب النار، الذي لا
يمكن أن يعلم شدته إلا الله تعالى، فلا يخطر ببالهم أن عقوبتهم قد انقضت
وفرغت ولم يبق لهم منها بقية، فما أعد الله لهم من العذاب في الآخرة أعظم
وأطم.




وذلك لأنهم


{ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ }

وعادوهما وحاربوهما، وسعوا في معصيتهما.




وهذه عادته وسنته فيمن شاقه


{ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ }





ولما لام بنو النضير رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين في قطع
النخيل والأشجار، وزعموا أن ذلك من الفساد، وتوصلوا بذلك إلى الطعن
بالمسلمين، أخبر تعالى أن قطع النخيل إن قطعوه أو إبقاءهم إياه إن أبقوه،
إنه بإذنه تعالى، وأمره


{ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ }

حيث سلطكم على قطع نخلهم، وتحريقها، ليكون ذلك نكالا لهم، وخزيا في
الدنيا، وذلا يعرف به عجزهم التام، الذي ما قدروا على استنقاذ نخلهم،
الذي هو مادة قوتهم. واللينة: اسم يشمل سائر النخيل على أصح الاحتمالات
وأولاها، فهذه حال بني النضير، وكيف عاقبهم الله في الدنيا.




ثم ذكر من انتقلت إليه أموالهم وأمتعتهم، فقال:


{ وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ }

أي: من أهل هذه القرية، وهم بنو النضير.




{ فـ }

إنكم يا معشر المسلمين


{ ما أَوْجَفْتُمْ }

أي: ما أجلبتم وأسرعتم وحشدتم،


{ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ }

أي: لم تتعبوا بتحصيلها، لا بأنفسكم ولا بمواشيكم، بل قذف الله في قلوبهم
الرعب، فأتتكم صفوا عفوا، ولهذا. قال:


{ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ
عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }

من تمام قدرته أنه لا يمتنع منه ممتنع، ولا يتعزز من دونه قوي. وتعريف
الفيء في اصطلاح الفقهاء: هو ما أخذ من مال الكفار بحق، من غير قتال،
كهذا المال الذي فروا وتركوه خوفا من المسلمين، وسمي فيئا، لأنه رجع من
الكفار الذين هم غير مستحقين له، إلى المسلمين الذين لهم الحق الأوفر
فيه.




وحكمه العام، كما ذكره الله في قوله


{ مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى }

عموما، سواء أفاء الله في وقت رسوله أو بعده، لمن يتولى من بعده أمته




{ فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى
وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ }

وهذه الآية نظير الآية التي في سورة الأنفال، في قوله:


{ وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ
وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ
السَّبِيلِ }





فهذا الفيء يقسم خمسة أقسام:




خمس لله ولرسوله يصرف في مصالح المسلمين [العامة]، وخمس لذوي القربى،
وهم: بنو هاشم وبنو المطلب، حيث كانوا يسوى [فيه] بين، ذكورهم وإناثهم،
وإنما دخل بنو المطلب في خمس الخمس، مع بني هاشم، ولم يدخل بقية بني عبد
مناف، لأنهم شاركوا بني هاشم في دخولهم الشعب، حين تعاقدت قريش على هجرهم
وعداوتهم فنصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم، بخلاف غيرهم، ولهذا قال
النبي صلى الله عليه وسلم، في بني عبد المطلب: "إنهم لم يفارقوني في
جاهلية ولا إسلام"




وخمس لفقراء اليتامى، وهم: من لا أب له ولم يبلغ، وخمس للمساكين، وسهم
لأبناء السبيل، وهم الغرباء المنقطع بهم في غير أوطانهم.




وإنما قدر الله هذا التقدير، وحصر الفيء في هؤلاء المعينين لـ


{ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً }

أي: مدوالة واختصاصا


{ بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ }

فإنه لو لم يقدره، لتداولته الأغنياء الأقوياء، ولما حصل لغيرهم من
العاجزين منه شيء، وفي ذلك من الفساد، ما لا يعلمه إلا الله، كما أن في
اتباع أمر الله وشرعه من المصالح ما لا يدخل تحت الحصر، ولذلك أمر الله
بالقاعدة الكلية والأصل العام، فقال:


{ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ
فَانْتَهُوا }

وهذا شامل لأصول الدين وفروعه، ظاهره وباطنه، وأن ما جاء به الرسول يتعين
على العباد الأخذ به واتباعه، ولا تحل مخالفته، وأن نص الرسول على حكم
الشيء كنص الله تعالى، لا رخصة لأحد ولا عذر له في تركه، ولا يجوز تقديم
قول أحد على قوله، ثم أمر بتقواه التي بها عمارة القلوب والأرواح
[والدنيا والآخرة]، وبها السعادة الدائمة والفوز العظيم، وبإضاعتها
الشقاء الأبدي والعذاب السرمدي، فقال:


{ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ }

على من ترك التقوى، وآثر اتباع الهوى.




(Cool ثم ذكر تعالى الحكمة والسبب الموجب لجعله تعالى الأموال أموال الفيء
لمن قدرها له، وأنهم حقيقون بالإعانة، مستحقون لأن تجعل لهم، وأنهم ما
بين مهاجرين قد هجروا المحبوبات والمألوفات، من الديار والأوطان والأحباب
والخلان والأموال، رغبة في الله ونصرة لدين الله، ومحبة لرسول الله،
فهؤلاء هم الصادقون الذين عملوا بمقتضى إيمانهم، وصدقوا إيمانهم بأعمالهم
الصالحة والعبادات الشاقة، بخلاف من ادعى الإيمان وهو لم يصدقه بالجهاد
والهجرة وغيرهما من العبادات، وبين أنصار وهم الأوس والخزرج الذين آمنوا
بالله ورسوله طوعا ومحبة واختيارا، وآووا رسول الله صلى الله عليه وسلم،
ومنعوه من الأحمر والأسود، وتبوأوا دار الهجرة والإيمان حتى صارت موئلا
ومرجعا يرجع إليه المؤمنون، ويلجأ إليه المهاجرون، ويسكن بحماه المسلمون
إذ كانت البلدان كلها بلدان حرب وشرك وشر، فلم يزل أنصار الدين تأوي إلى
الأنصار، حتى انتشر الإسلام وقوي، وجعل يزيد شيئا شيئا فشيئا، وينمو
قليلا قليلا، حتى فتحوا القلوب بالعلم والإيمان والقرآن، والبلدان بالسيف
والسنان.




الذين من جملة أوصافهم الجميلة أنهم


{ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ }

وهذا لمحبتهم لله ولرسوله، أحبوا أحبابه، وأحبوا من نصر دينه.




{ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا }

أي: لا يحسدون المهاجرين على ما آتاهم الله من فضله وخصهم به من الفضائل
والمناقب التي هم أهلها، وهذا يدل على سلامة صدورهم، وانتفاء الغل والحقد
والحسد عنها.




ويدل ذلك على أن المهاجرين، أفضل من الأنصار، لأن الله قدمهم بالذكر،
وأخبر أن الأنصار لا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا، فدل على أن الله
تعالى آتاهم ما لم يؤت الأنصار ولا غيرهم، ولأنهم جمعوا بين النصرة
والهجرة.




وقوله:


{ وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ }

أي: ومن أوصاف الأنصار التي فاقوا بها غيرهم، وتميزوا بها على من سواهم،
الإيثار، وهو أكمل أنواع الجود، وهو الإيثار بمحاب النفس من الأموال
وغيرها، وبذلها للغير مع الحاجة إليها، بل مع الضرورة والخصاصة، وهذا لا
يكون إلا من خلق زكي، ومحبة لله تعالى مقدمة على محبة شهوات النفس
ولذاتها، ومن ذلك قصة الأنصاري الذي نزلت الآية بسببه، حين آثر ضيفه
بطعامه وطعام أهله وأولاده وباتوا جياعا، والإيثار عكس الأثرة، فالإيثار
محمود، والأثرة مذمومة، لأنها من خصال البخل والشح، ومن رزق الإيثار فقد
وقي شح نفسه


{ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }

ووقاية شح النفس، يشمل وقايتها الشح، في جميع ما أمر به، فإنه إذا وقي
العبد شح نفسه، سمحت نفسه بأوامر الله ورسوله، ففعلها طائعا منقادا،
منشرحا بها صدره، وسمحت نفسه بترك ما نهى الله عنه، وإن كان محبوبا
للنفس، تدعو إليه، وتطلع إليه، وسمحت نفسه ببذل الأموال في سبيل الله
وابتغاء مرضاته، وبذلك يحصل الفلاح والفوز، بخلاف من لم يوق شح نفسه، بل
ابتلي بالشح بالخير، الذي هو أصل الشر ومادته، فهذان الصنفان، الفاضلان
الزكيان هم الصحابة الكرام والأئمة الأعلام، الذين حازوا من السوابق
والفضائل والمناقب ما سبقوا به من بعدهم، وأدركوا به من قبلهم، فصاروا
أعيان المؤمنين، وسادات المسلمين، وقادات المتقين




وحسب من بعدهم من الفضل أن يسير خلفهم، ويأتم بهداهم، ولهذا ذكر الله من
اللاحقين، من هو مؤتم بهم وسائر خلفهم فقال:


{ وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ }

أي: من بعد المهاجرين والأنصار


{ يَقُولُونَ }

على وجه النصح لأنفسهم ولسائر المؤمنين:


{ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا
بِالْإِيمَانِ }





وهذا دعاء شامل لجميع المؤمنين، السابقين من الصحابة، ومن قبلهم ومن
بعدهم، وهذا من فضائل الإيمان أن المؤمنين ينتفع بعضهم ببعض، ويدعو بعضهم
لبعض، بسبب المشاركة في الإيمان المقتضي لعقد الأخوة بين المؤمنين التي
من فروعها أن يدعو بعضهم لبعض، وأن يحب بعضهم بعضا.




ولهذا ذكر الله في الدعاء نفي الغل عن القلب، الشامل لقليل الغل وكثيره
الذي إذا انتفى ثبت ضده، وهو المحبة بين المؤمنين والموالاة والنصح، ونحو
ذلك مما هو من حقوق المؤمنين.




فوصف الله من بعد الصحابة بالإيمان، لأن قولهم:


{ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ }

دليل على المشاركة في الإيمان وأنهم تابعون للصحابة في عقائد الإيمان
وأصوله، وهم أهل السنة والجماعة، الذين لا يصدق هذا الوصف التام إلا
عليهم، ووصفهم بالإقرار بالذنوب والاستغفار منها، واستغفار بعضهم لبعض،
واجتهادهم في إزالة الغل والحقد عن قلوبهم لإخوانهم المؤمنين، لأن دعاءهم
بذلك مستلزم لما ذكرنا، ومتضمن لمحبة بعضهم بعضا، وأن يحب أحدهم لأخيه ما
يحب لنفسه وأن ينصح له حاضرا وغائبا، حيا وميتا، ودلت الآية الكريمة
[على] أن هذا من جملة حقوق المؤمنين بعضهم لبعض، ثم ختموا دعاءهم باسمين
كريمين، دالين على كمال رحمة الله وشدة رأفته وإحسانه بهم، الذي من
جملته، بل من أجله، توفيقهم للقيام بحقوق الله وحقوق عباده.




فهؤلاء الأصناف الثلاثة هم أصناف هذه الأمة، وهم المستحقون للفيء الذي
مصرفه راجع إلى مصالح الإسلام.




وهؤلاء أهله الذين هم أهله، جعلنا الله منهم، بمنه وكرمه.




ثم تعجب تعالى من حال المنافقين، الذين طمعوا إخوانهم من أهل الكتاب، في
نصرتهم، وموالاتهم على المؤمنين، وأنهم يقولون لهم:


{ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ
أَحَدًا أَبَدًا }

أي: لا نطيع في عدم نصرتكم أحدا يعذلنا أو يخوفنا،


{ وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ
لَكَاذِبُونَ }

في هذا الوعد الذي غروا به إخوانهم.




ولا يستكثر هذا عليهم، فإن الكذب وصفهم، والغرور والخداع، مقارنهم،
والنفاق والجبن يصحبهم، ولهذا كذبهم [الله] بقوله، الذي وجد مخبره كما
أخبر الله به، ووقع طبق ما قال، فقال:


{ لَئِنْ أُخْرِجُوا }

من ديارهم جلاء ونفيا


{ لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ }

لمحبتهم للأوطان، وعدم صبرهم على القتال، وعدم وفائهم بوعدهم





{ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ }

بل يستولي عليهم الجبن، ويملكهم الفشل، ويخذلون إخوانهم، أحوج ما كانوا
إليهم.




{ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ }

على الفرض والتقدير


{ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ }

أي: ليحصل منهم الإدبار عن القتال والنصرة، ولا يحصل لهم نصر من الله.




والسبب الذي أوجب لهم ذلك أنكم - أيها المؤمنون -


{ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ }

فخافوا منكم أعظم مما يخافون الله، وقدموا مخافة المخلوق الذي لا يملك
لنفسه ولا لغيره نفعا ولا ضرا، على مخافة الخالق، الذي بيده الضر والنفع،
والعطاء والمنع.




{ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ }

مراتب الأمور، ولا يعرفون حقائق الأشياء، ولا يتصورون العواقب، وإنما
الفقه كل الفقه، أن يكون خوف الخالق ورجاؤه ومحبته مقدمة على غيرها،
وغيرها تبعا لها.







{ 14 } { لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا }


أي: في حال الاجتماع


{ إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ }

أي: لا يثبتون لقتالكم ولا يعزمون عليه، إلا إذا كانوا متحصنين في
القرى، أو من وراء الجدر والأسوار.




فإنهم إذ ذاك ربما يحصل منهم امتناع، اعتمادا [على] حصونهم وجدرهم، لا
شجاعة بأنفسهم، وهذا من أعظم الذم،


{ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ }

أي: بأسهم فيما بينهم شديد، لا آفة في أبدانهم ولا في قوتهم، وإنما الآفة
في ضعف إيمانهم وعدم اجتماع كلمتهم، ولهذا قال:


{ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا }

حين تراهم مجتمعين ومتظاهرين.




{ و }

لكن


{ قلوبهم شَتَّى }

أي: متباغضة متفرقة متشتتة.




{ ذَلِكَ }

الذي أوجب لهم اتصافهم بما ذكر


{ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ }

أي: لا عقل عندهم، ولا لب، فإنهم لو كانت لهم عقول، لآثروا الفاضل على
المفضول، ولما رضوا لأنفسهم بأبخس الخطتين، ولكانت كلمتهم مجتمعة،
وقلوبهم مؤتلفة، فبذلك يتناصرون ويتعاضدون، ويتعاونون على مصالحهم
ومنافعهم الدينية والدنيوية.




مثل هؤلاء المخذولين من أهل الكتاب، الذين انتصر الله لرسوله منهم،
وأذاقهم الخزي في الحياة الدنيا.




وعدم نصر من وعدهم بالمعاونة


{ كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا }

وهم كفار قريش الذين زين لهم الشيطان أعمالهم، وقال:


{ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ
فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ [وَقَالَ
إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ] }

الآية.




فغرتهم أنفسهم، وغرهم من غرهم، الذين لم ينفعوهم، ولم يدفعوا عنهم
العذاب، حتى أتوا "بدرا" بفخرهم وخيلائهم، ظانين أنهم مدركون برسول الله
والمؤمنين أمانيهم.




فنصر الله رسوله والمؤمنين عليهم، فقتلوا كبارهم وصناديدهم، وأسروا من
أسروا منهم، وفر من فر، وذاقوا بذلك وبال أمرهم وعاقبة شركهم وبغيهم، هذا
في الدنيا،


{ وَلَهُمْ }

في الآخرة عذاب النار.




ومثل هؤلاء المنافقين الذين غروا إخوانهم من أهل الكتاب


{ كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ }

أي: زين له الكفر وحسنه ودعاه إليه، فلما اغتر به وكفر، وحصل له الشقاء،
لم ينفعه الشيطان، الذي تولاه ودعاه إلى ما دعاه إليه، بل تبرأ منه و


{ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ
الْعَالَمِينَ }

أي: ليس لي قدرة على دفع العذاب عنك، ولست بمغن عنك مثقال ذرة من الخير.




{ فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا }

أي: الداعي الذي هو الشيطان، والمدعو الذي هو الإنسان حين أطاعه


{ أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا }

كما قال تعالى:


{ إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ }



{ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ }

الذين اشتركوا في الظلم والكفر، وإن اختلفوا في شدة العذاب وقوته، وهذا
دأب الشيطان مع كل أوليائه، فإنه يدعوهم ويدليهم إلى ما يضرهم بغرور، حتى
إذا وقعوا في الشباك، وحاقت بهم أسباب الهلاك، تبرأ منهم وتخلى عنهم.




واللوم كل اللوم على من أطاعه، فإن الله قد حذر منه وأنذر، وأخبر بمقاصده
وغايته ونهايته، فالمقدم على طاعته، عاص على بصيرة لا عذر له.




{ 18-21 } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ
وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ
اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا
اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * لَا
يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ
الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ * لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ
عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ
وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ
}




يأمر تعالى عباده المؤمنين بما يوجبه الإيمان ويقتضيه من لزوم تقواه، سرا
وعلانية، في جميع الأحوال، وأن يراعوا ما أمرهم الله به من أوامره
وشرائعه وحدوده، وينظروا ما لهم وما عليهم، وماذا حصلوا عليه من الأعمال
التي تنفعهم أو تضرهم في يوم القيامة، فإنهم إذا جعلوا الآخرة نصب أعينهم
وقبلة قلوبهم، واهتموا بالمقام بها، اجتهدوا في كثرة الأعمال الموصلة
إليها، وتصفيتها من القواطع والعوائق التي توقفهم عن السير أو تعوقهم أو
تصرفهم، وإذا علموا أيضا، أن الله خبير بما يعملون، لا تخفى عليه
أعمالهم، ولا تضيع لديه ولا يهملها، أوجب لهم الجد والاجتهاد.




وهذه الآية الكريمة أصل في محاسبة العبد نفسه، وأنه ينبغي له أن يتفقدها،
فإن رأى زللا تداركه بالإقلاع عنه، والتوبة النصوح، والإعراض عن الأسباب
الموصلة إليه، وإن رأى نفسه مقصرا في أمر من أوامر الله، بذل جهده
واستعان بربه في تكميله وتتميمه، وإتقانه، ويقايس بين منن الله عليه
وإحسانه وبين تقصيره، فإن ذلك يوجب له الحياء بلا محالة.




والحرمان كل الحرمان، أن يغفل العبد عن هذا الأمر، ويشابه قوما نسوا الله
وغفلوا عن ذكره والقيام بحقه، وأقبلوا على حظوظ أنفسهم وشهواتها، فلم
ينجحوا، ولم يحصلوا على طائل، بل أنساهم الله مصالح أنفسهم، وأغفلهم عن
منافعها وفوائدها، فصار أمرهم فرطا، فرجعوا بخسارة الدارين، وغبنوا غبنا،
لا يمكنهم تداركه، ولا يجبر كسره، لأنهم هم الفاسقون، الذين خرجوا عن
طاعة ربهم وأوضعوا في معاصيه، فهل يستوي من حافظ على تقوى الله ونظر لما
قدم لغده، فاستحق جنات النعيم، والعيش السليم - مع الذين أنعم الله عليهم
من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين - ومن غفل عن ذكر الله، ونسي
حقوقه، فشقي في الدنيا، واستحق العذاب في الآخرة، فالأولون هم الفائزون،
والآخرون هم الخاسرون.




ولما بين تعالى لعباده ما بين، وأمرهم ونهاهم في كتابه العزيز، كان هذا
موجبا لأن يبادروا إلى ما دعاهم إليه وحثهم عليه، ولو كانوا في القسوة
وصلابة القلوب كالجبال الرواسي، فإن هذا القرآن لو أنزله على جبل لرأيته
خاشعا متصدعا من خشية الله أي: لكمال تأثيره في القلوب، فإن مواعظ القرآن
أعظم المواعظ على الإطلاق، وأوامره ونواهيه محتوية على الحكم والمصالح
المقرونة بها، وهي من أسهل شيء على النفوس، وأيسرها على الأبدان، خالية
من التكلف لا تناقض فيها ولا اختلاف، ولا صعوبة فيها ولا اعتساف، تصلح
لكل زمان ومكان، وتليق لكل أحد.




ثم أخبر تعالى أنه يضرب للناس الأمثال، ويوضح لعباده في كتابه الحلال
والحرام، لأجل أن يتفكروا في آياته ويتدبروها، فإن التفكر فيها يفتح
للعبد خزائن العلم، ويبين له طرق الخير والشر، ويحثه على مكارم الأخلاق،
ومحاسن الشيم، ويزجره عن مساوئ الأخلاق، فلا أنفع للعبد من التفكر في
القرآن والتدبر لمعانيه.







{ 22-24 } { هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ
الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * هُوَ اللَّهُ
الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ
الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ
سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ
الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ
مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }




هذه الآيات الكريمات قد اشتملت على كثير من أسماء الله الحسنى وأوصافه
العلى، عظيمة الشأن، وبديعة البرهان، فأخبر أنه الله المألوه المعبود،
الذي لا إله إلا هو، وذلك لكماله العظيم، وإحسانه الشامل، وتدبيره العام،
وكل إله سواه فإنه باطل لا يستحق من العبادة مثقال ذرة، لأنه فقير عاجز
ناقص، لا يملك لنفسه ولا لغيره شيئا، ثم وصف نفسه بعموم العلم الشامل،
لما غاب عن الخلق وما يشاهدونه، وبعموم رحمته التي وسعت كل شيء ووصلت إلى
كل حي.




ثم كرر [ذكر] عموم إلهيته وانفراده بها، وأنه المالك لجميع الممالك،
فالعالم العلوي والسفلي وأهله، الجميع، مماليك لله، فقراء مدبرون.




{ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ }

أي: المقدس السالم من كل عيب وآفة ونقص، المعظم الممجد، لأن القدوس يدل
على التنزيه عن كل نقص، والتعظيم لله في أوصافه وجلاله.




{ الْمُؤْمِنُ }

أي: المصدق لرسله وأنبيائه بما جاءوا به، بالآيات البينات، والبراهين
القاطعات، والحجج الواضحات.




{ الْعَزِيزُ }

الذي لا يغالب ولا يمانع، بل قد قهر كل شيء، وخضع له كل شيء،


{ الْجَبَّارُ }

الذي قهر جميع العباد، وأذعن له سائر الخلق، الذي يجبر الكسير، ويغني
الفقير،


{ الْمُتَكَبِّرُ }

الذي له الكبرياء والعظمة، المتنزه عن جميع العيوب والظلم والجور.




{ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ }

وهذا تنزيه عام عن كل ما وصفه به من أشرك به وعانده.




{ هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ }

لجميع المخلوقات


{ الْبَارِئُ }

للمبروءات


{ الْمُصَوِّرُ }

للمصورات، وهذه الأسماء متعلقة بالخلق والتدبير والتقدير، وأن ذلك كله قد
انفرد الله به، لم يشاركه فيه مشارك.




{ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى }

أي: له الأسماء الكثيرة جدا، التي لا يحصيها ولا يعلمها أحد إلا الله هو،
ومع ذلك، فكلها حسنى أي: صفات كمال، بل تدل على أكمل الصفات وأعظمها، لا
نقص في شيء منها بوجه من الوجوه، ومن حسنها أن الله يحبها، ويحب من
يحبها، ويحب من عباده أن يدعوه ويسألوه بها.




ومن كماله، وأن له الأسماء الحسنى، والصفات العليا، أن جميع من في
السماوات والأرض مفتقرون إليه على الدوام، يسبحون بحمده، ويسألونه
حوائجهم، فيعطيهم من فضله وكرمه ما تقتضيه رحمته وحكمته،


{ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }

الذي لا يريد شيئا إلا ويكون، ولا يكون شيئا إلا لحكمة ومصلحة.




تم تفسير سورة الحشر، فلله الحمد على ذلك، والمنة والإحسان.

descriptionتفسيرالقران - صفحة 3 Emptyرد: تفسيرالقران

more_horiz
-
تفسير
سورة
ا
لمجادلة
عدد آياتها
22

(



آية


1-22 )
وهي مدنية






{ 1-4 }



{ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ
الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ
يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ * الَّذِينَ
يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ
أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ
مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ *
وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا
قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ
تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ * فَمَنْ لَمْ
يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ
يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا
ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ
وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ }





نزلت هذه الآيات الكريمات في رجل من الأنصار اشتكته زوجته [إلى الله،
وجادلته] إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لما حرمها على نفسه، بعد
الصحبة الطويلة، والأولاد، وكان هو رجلا شيخا كبيرا، فشكت حالها وحاله
إلى الله وإلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكررت ذلك، وأبدت فيه
وأعادت.




فقال تعالى:


{ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا
وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا }

أي: تخاطبكما فيما بينكما،


{ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ }

لجميع الأصوات، في جميع الأوقات، على تفنن الحاجات.




{ بَصِيرٌ }

يبصر دبيب النملة السوداء، على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء، وهذا
إخبار عن كمال سمعه وبصره، وإحاطتهما بالأمور الدقيقة والجليلة، وفي ضمن
ذلك الإشارة بأن الله [تعالى] سيزيل شكواها، ويرفع بلواها، ولهذا ذكر
حكمها، وحكم غيرها على وجه العموم، فقال:


{ الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ
أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ }





المظاهرة من الزوجة: أن يقول الرجل لزوجته: "أنت علي كظهر أمي" أو غيرها
من محارمه، أو "أنت علي حرام" وكان المعتاد عندهم في هذا لفظ "الظهر"
ولهذا سماه الله "ظهارا" فقال:


{ الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ
أُمَّهَاتِهِمْ }

أي: كيف يتكلمون بهذا الكلام الذي يعلم أنه لا حقيقة له، فيشبهون
أزواجهم بأمهاتهم اللاتي ولدنهم؟ ولهذا عظم الله أمره وقبحه، فقال:


{ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا }

أي: قولا شنيعا،


{ وزورا }

أي: كذبا.




{ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ }

عمن صدر منه بعض المخالفات، فتداركها بالتوبة النصوح.




{ وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا
قَالُوا }

اختلف العلماء في معنى العود، فقيل: معناه العزم على جماع من ظاهر منها،
وأنه بمجرد عزمه تجب عليه الكفارة المذكورة، ويدل على هذا، أن الله تعالى
ذكر في الكفارة أنها تكون قبل المسيس، وذلك إنما يكون بمجرد العزم،
وقيل: معناه حقيقة الوطء، ويدل على ذلك أن الله قال:


{ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا }

والذي قالوا إنما هو الوطء.




وعلى كل من القولين


{ فـ }

إذا وجد العود، صار كفارة هذا التحريم


{ تحرير رَقَبَةٍ }

مُؤْمِنَةٍ كما قيدت في آية أخرى ذكر أو أنثى، بشرط أن تكون سالمة من
العيوب المضرة بالعمل.




{ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا }

أي: يلزم الزوج أن يترك وطء زوجته التي ظاهر منها حتى يكفر برقبة.




{ ذَلِكُمْ }

الحكم الذي ذكرناه لكم،


{ تُوعَظُونَ بِهِ }

أي: يبين لكم حكمه مع الترهيب المقرون به، لأن معنى الوعظ ذكر الحكم مع
الترغيب والترهيب، فالذي يريد أن يظاهر، إذا ذكر أنه يجب عليه عتق رقبة
كف نفسه عنه،


{ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ }

فيجازي كل عامل بعمله.




{ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ }

رقبة يعتقها، بأن لم يجدها أو [لم] يجد ثمنها


{ فـ }

عليه


{ صيام شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ
لَمْ يَسْتَطِعْ }

الصيام


{ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا }

إما بأن يطعمهم من قوت بلده ما يكفيهم، كما هو قول كثير من المفسرين،
وإما بأن يطعم كل مسكين مُدَّ بُرٍّ أو نصف صاع من غيره مما يجزي في
الفطرة، كما هو قول طائفة أخرى.




ذلك الحكم الذي بيناه لكم، ووضحناه لكم


{ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ }

وذلك بالتزام هذا الحكم وغيره من الأحكام، والعمل به، فإن التزام أحكام
الله، والعمل بها من الإيمان، [بل هي المقصودة] ومما يزيد به الإيمان
ويكمل وينمو.




{ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ }

التي تمنع من الوقوع فيها، فيجب أن لا تتعدى ولا يقصر عنها.




{ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ }

وفي هذه الآيات، عدة أحكام:




منها: لطف الله بعباده واعتناؤه بهم، حيث ذكر شكوى هذه المرأة المصابة،
وأزالها ورفع عنها البلوى، بل رفع البلوى بحكمه العام لكل من ابتلي بمثل
هذه القضية.




ومنها: أن الظهار مختص بتحريم الزوجة، لأن الله قال


{ مِنْ نِسَائِهِمْ }

فلو حرم أمته، لم يكن [ذلك] ظهارا، بل هو من جنس تحريم الطعام والشراب،
تجب فيه كفارة اليمين فقط.




ومنها: أنه لا يصلح الظهار من امرأة قبل أن يتزوجها، لأنها لا تدخل في
نسائه وقت الظهار، كما لا يصح طلاقها، سواء نجز ذلك أو علقه.




ومنها: أن الظهار محرم، لأن الله سماه منكرا [من القول] وزورا.




ومنها: تنبيه الله على وجه الحكم وحكمته، لأن الله تعالى قال:


{ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ }





ومنها: أنه يكره للرجل أن ينادي زوجته ويسميها باسم محارمه، كقوله


{ يا أمي }



{ يا أختي }

ونحوه، لأن ذلك يشبه المحرم.




ومنها: أن الكفارة إنما تجب بالعود لما قال المظاهر، على اختلاف القولين
السابقين، لا بمجرد الظهار.




ومنها: أنه يجزئ في كفارة الرقبة، الصغير والكبير، والذكر والأنثى،
لإطلاق الآية في ذلك.




ومنها: أنه يجب إخراجها إن كانت عتقا أو صياما قبل المسيس، كما قيده
الله. بخلاف كفارة الإطعام، فإنه يجوز المسيس والوطء في أثنائها.




ومنها: أنه لعل الحكمة في وجوب الكفارة قبل المسيس، أن ذلك أدعى
لإخراجها، فإنه إذا اشتاق إلى الجماع، وعلم أنه لا يمكن من ذلك إلا بعد
الكفارة، بادر لإخراجها.




ومنها: أنه لا بد من إطعام ستين مسكينا، فلو جمع طعام ستين مسكينا،
ودفعها لواحد أو أكثر من ذلك، دون الستين لم يجز ذلك، لأن الله قال:


{ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا }








{ 5 }



{ إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا
كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ
وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ }





محادة الله ورسوله: مخالفتهما ومعصيتهما خصوصا في الأمور الفظيعة، كمحادة
الله ورسوله بالكفر، ومعاداة أولياء الله.




وقوله:


{ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ }

أي: أذلوا وأهينوا كما فعل بمن قبلهم، جزاء وفاقا.




وليس لهم حجة على الله، فإن الله قد قامت حجته البالغة على الخلق، وقد
أنزل من الآيات البينات والبراهين ما يبين الحقائق ويوضح المقاصد، فمن
اتبعها وعمل عليها، فهو من المهتدين الفائزين،


{ وَلِلْكَافِرِينَ }

بها


{ عَذَابٌ مُهِينٌ }

أي: يهينهم ويذلهم، كما تكبروا عن آيات الله، أهانهم الله وأذلهم:







{ 6-7 }



{ يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا
أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ *
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي
الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ
وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا
أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ
بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ
عَلِيمٌ }






يقول الله تعالى:


{ يوم يبعثهم الله }

جميعا


{ فيقومون من أجداثهم سريعا }

فيجازيهم بأعمالهم


{ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا }

من خير وشر، لأنه علم ذلك، وكتبه في اللوح المحفوظ، وأمر الملائكة الكرام
الحفظة بكتابته، هذا


{ و }

العاملون قد نسوا ما عملوه، والله أحصى ذلك.




{ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ }

على بالظواهر والسرائر، والخبايا والخفايا.




ولهذا أخبر عن سعة علمه وإحاطته بما في السماوات والأرض من دقيق وجليل.




وأنه


{ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا
خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا
أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَمَا كَانُوا }

والمراد بهذه المعية معية العلم والإحاطة بما تناجوا به وأسروه فيما
بينهم، ولهذا قال:


{ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }

ثم قال تعالى:




{
8-9 } { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ
يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ
وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ
بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ
لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ
يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ
وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى
وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ }




النجوى هي: التناجي بين اثنين فأكثر، وقد تكون في الخير، وتكون في الشر.




فأمر الله تعالى المؤمنين أن يتناجوا بالبر، وهو اسم جامع لكل خير وطاعة،
وقيام بحق لله ولعباده والتقوى، وهي [هنا]: اسم جامع لترك جميع المحارم
والمآثم، فالمؤمن يمتثل هذا الأمر الإلهي، فلا تجده مناجيا ومتحدثا إلا
بما يقربه من الله، ويباعده من سخطه، والفاجر يتهاون بأمر الله، ويناجي
بالإثم والعدوان ومعصية الرسول، كالمنافقين الذين هذا دأبهم وحالهم مع
الرسول صلى الله عليه وسلم.




قال تعالى


{ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ }

أي: يسيئون الأدب معك في تحيتهم لك،


{ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ }

أي: يسرون في أنفسهم ما ذكره عالم الغيب والشهادة عنهم، وهو قولهم:


{ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ }

ومعنى ذلك أنهم يتهاونون بذلك، ويستدلون بعدم تعجيل العقوبة عليهم، أن ما
يقولون غير محذور، قال تعالى في بيان أنه يمهل ولا يهمل:


{ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ }

أي: تكفيهم جهنم التي جمعت كل شقاء وعذاب [عليهم]، تحيط بهم، ويعذبون بها


{ فَبِئْسَ الْمَصِيرُ }

وهؤلاء المذكورون إما أناس من المنافقين يظهرون الإيمان، ويخاطبون الرسول
صلى الله عليه وسلم بهذا الخطاب الذي يوهمون أنهم أرادوا به خيرا وهم
كذبة في ذلك، وإما أناس من أهل الكتاب، الذين إذا سلموا على النبي صلى
الله عليه وسلم، قالوا: "السام عليك يا محمد" يعنون بذلك الموت.







{ 10 } { إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ
آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى
اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ }




يقول تعالى:


{ إِنَّمَا النَّجْوَى }

أي: تناجي أعداء المؤمنين بالمؤمنين، بالمكر والخديعة، وطلب السوء من
الشيطان، الذي كيده ضعيف ومكره غير مفيد.




{ لِيَحزن الَّذِينَ آمَنُوا }

هذا غاية هذا المكر ومقصوده،


{ وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ }

فإن الله تعالى وعد المؤمنين بالكفاية والنصر على الأعداء، وقال تعالى:


{ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ }

فأعداء الله ورسوله والمؤمنين، مهما تناجوا ومكروا، فإن ضرر ذلك عائد
إلى أنفسهم، ولا يضر المؤمنين إلا شيء قدره الله وقضاه،


{ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ }

أي: ليعتمدوا عليه ويثقوا بوعده، فإن من توكل على الله كفاه، وتولى أمر
دينه ودنياه







{ 11 } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا
فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ
انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ
وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ
خَبِيرٌ }




هذا تأديب من الله لعباده المؤمنين، إذا اجتمعوا في مجلس من مجالس
مجتمعاتهم، واحتاج بعضهم أو بعض القادمين عليهم للتفسح له في المجلس، فإن
من الأدب أن يفسحوا له تحصيلا لهذا المقصود.




وليس ذلك بضار للجالس شيئا، فيحصل مقصود أخيه من غير ضرر يلحقه هو،
والجزاء من جنس العمل، فإن من فسح فسح الله له، ومن وسع لأخيه، وسع الله
عليه.




{ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا }

أي: ارتفعوا وتنحوا عن مجالسكم لحاجة تعرض،


{ فَانْشُزُوا }

أي: فبادروا للقيام لتحصيل تلك المصلحة، فإن القيام بمثل هذه الأمور من
العلم والإيمان، والله تعالى يرفع أهل العلم والإيمان درجات بحسب ما خصهم
الله به، من العلم والإيمان.




{ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ }

فيجازي كل عامل بعمله، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر.




وفي هذه الآية فضيلة العلم، وأن زينته وثمرته التأدب بآدابه والعمل
بمقتضاه.




{ 12-13 } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ
الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ
خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ
رَحِيمٌ * أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ
صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ
فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ
وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ }




يأمر تعالى المؤمنين بالصدقة، أمام مناجاة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم
تأديبا لهم وتعليما، وتعظيما للرسول صلى الله عليه وسلم، فإن هذا
التعظيم، خير للمؤمنين وأطهر أي: بذلك يكثر خيركم وأجركم، وتحصل لكم
الطهارة من الأدناس، التي من جملتها ترك احترام الرسول صلى الله عليه
وسلم والأدب معه بكثرة المناجاة التي لا ثمرة تحتها، فإنه إذا أمر
بالصدقة بين يدي مناجاته صار هذا ميزانا لمن كان حريصا على الخير والعلم،
فلا يبالي بالصدقة، ومن لم يكن له حرص ولا رغبة في الخير، وإنما مقصوده
مجرد كثرة الكلام، فينكف بذلك عن الذي يشق على الرسول، هذا في الواجد
للصدقة، وأما الذي لا يجد الصدقة، فإن الله لم يضيق عليه الأمر، بل عفا
عنه وسامحه، وأباح له المناجاة، بدون تقديم صدقة لا يقدر عليها.




ثم لما رأى تبارك وتعالى شفقة المؤمنين، ومشقة الصدقات عليهم عند كل
مناجاة، سهل الأمر عليهم، ولم يؤاخذهم بترك الصدقة بين يدي المناجاة،
وبقي التعظيم للرسول والاحترام بحاله لم ينسخ، لأن هذا الحكم من باب
المشروع لغيره، ليس مقصودا لنفسه، وإنما المقصود هو الأدب مع الرسول
والإكرام له، وأمرهم تعالى أن يقوموا بالمأمورات الكبار المقصودة بنفسها،
فقال:


{ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا }

أي: لم يهن عليكم تقديم الصدقة، ولا يكفي هذا، فإنه ليس من شرط الأمر أن
يكون هينا على العبد، ولهذا قيده بقوله:


{ وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ }

أي: عفا لكم عن ذلك،


{ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ }

بأركانها وشروطها، وجميع حدودها ولوازمها،


{ وَآتُوا الزَّكَاةَ }

المفروضة [في أموالكم] إلى مستحقيها.




وهاتان العبادتان هما أم العبادات البدنية والمالية، فمن قام بهما على
الوجه الشرعي، فقد قام بحقوق الله وحقوق عباده، [ولهذا قال بعده:]


{ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ }

وهذا أشمل ما يكون من الأوامر.




ويدخل في ذلك طاعة الله [وطاعة] رسوله، بامتثال أوامرهما واجتناب
نواهيهما، وتصديق ما أخبرا به، والوقوف عند حدود الله




والعبرة في ذلك على الإخلاص والإحسان، ولهذا قال:


{ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ }

فيعلم تعالى أعمالهم، وعلى أي: وجه صدرت، فيجازيهم على حسب علمه بما في
صدورهم.







{ 14-19 } { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ
اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ
عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا
شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * اتَّخَذُوا
أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ
مُهِينٌ * لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ
مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا
خَالِدُونَ * يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ
كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا
إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ * اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ
فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ
حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ }




يخبر تعالى عن شناعة حال المنافقين الذين يتولون الكافرين، من اليهود
والنصارى وغيرهم ممن غضب الله عليهم، ونالوا من لعنة الله أوفى نصيب،
وأنهم ليسوا من المؤمنين ولا من الكافرين،


{ مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى
هَؤُلَاءِ }





فليسوا مؤمنين ظاهرا وباطنا لأن باطنهم مع الكفار، ولا مع الكفار ظاهرا
وباطنا، لأن ظاهرهم مع المؤمنين، وهذا وصفهم الذي نعتهم الله به، والحال
أنهم يحلفون على ضده الذي هو الكذب، فيحلفون أنهم مؤمنون، وهم يعلمون
أنهم ليسوا مؤمنين.




فجزاء هؤلاء الخونة الفجرة الكذبة، أن الله أعد لهم عذابا شديدا، لا
يقادر قدره، ولا يعلم وصفه، إنهم ساء ما كانوا يعملون، حيث عملوا بما
يسخط الله ويوجب عليهم العقوبة واللعنة.




{ اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً }

أي: ترسا ووقاية، يتقون بها من لوم الله ورسوله والمؤمنين، فبسبب ذلك
صدوا أنفسهم وغيرهم عن سبيل الله، وهي الصراط الذي من سلكه أفضى به إلى
جنات النعيم. ومن صد عنه فليس إلا الصراط الموصل إلى الجحيم،


{ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ }

حيث استكبروا عن الإيمان بالله والانقياد لآياته، أهانهم بالعذاب
السرمدي، الذي لا يفتر عنهم ساعة ولا هم ينظرون.




{ لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ
اللَّهِ شَيْئًا }

فلا تدفع عنهم شيئا من العذاب، ولا تحصل لهم قسطا من الثواب،


{ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ }

الملازمون لها، الذين لا يخرجون عنها، و


{ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }

ومن عاش على شيء مات عليه.




فكما أن المنافقين في الدنيا يموهون على المؤمنين، ويحلفون لهم أنهم
مؤمنون، فإذا كان يوم القيامة وبعثهم الله جميعا، حلفوا لله كما حلفوا
للمؤمنين، ويحسبون في حلفهم هذا أنهم على شيء، لأن كفرهم ونفاقهم
وعقائدهم الباطلة، لم تزل ترسخ في أذهانهم شيئا فشيئا، حتى غرتهم وظنوا
أنهم على شيء يعتد به، ويعلق عليه الثواب، وهم كاذبون في ذلك، ومن
المعلوم أن الكذب لا يروج على عالم الغيب والشهادة.




وهذا الذي جرى عليهم من استحواذ الشيطان الذي استولى عليهم، وزين لهم
أعمالهم، وأنساهم ذكر الله، وهو العدو المبين، الذي لا يريد بهم إلا
الشر،


{ إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير }





{ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ
الْخَاسِرُونَ }

الذين خسروا دينهم ودنياهم وأنفسهم وأهليهم.







{ 20-21 } { إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ
فِي الْأَذَلِّينَ * كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ
اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ }




هذا وعد ووعيد، وعيد لمن حاد الله ورسوله بالكفر والمعاصي، أنه مخذول
مذلول، لا عاقبة له حميدة، ولا راية له منصورة.




ووعد لمن آمن به، وبرسله، واتبع ما جاء به المرسلون، فصار من حزب الله
المفلحين، أن لهم الفتح والنصر والغلبة في الدنيا والآخرة، وهذا وعد لا
يخلف ولا يغير، فإنه من الصادق القوي العزيز الذي لا يعجزه شيء يريده.




{ 22 } { لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ
يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ
أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ
كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ
وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ
فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ
اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }




يقول تعالى:


{ لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ
يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ }

أي: لا يجتمع هذا وهذا، فلا يكون العبد مؤمنا بالله واليوم الآخر حقيقة،
إلا كان عاملا على مقتضى الإيمان ولوازمه، من محبة من قام بالإيمان
وموالاته، وبغض من لم يقم به ومعاداته، ولو كان أقرب الناس إليه.




وهذا هو الإيمان على الحقيقة، الذي وجدت ثمرته والمقصود منه، وأهل هذا
الوصف هم الذين كتب الله في قلوبهم الإيمان أي: رسمه وثبته وغرسه غرسا،
لا يتزلزل، ولا تؤثر فيه الشبه والشكوك.




وهم الذين قواهم الله بروح منه أي: بوحيه، ومعونته، ومدده الإلهي وإحسانه
الرباني.




وهم الذين لهم الحياة الطيبة في هذه الدار، ولهم جنات النعيم في دار
القرار، التي فيها من كل ما تشتهيه الأنفس، وتلذ الأعين، وتختار، ولهم
أكبر النعيم وأفضله، وهو أن الله يحل عليهم رضوانه فلا يسخط عليهم أبدا،
ويرضون عن ربهم بما يعطيهم من أنواع الكرامات، ووافر المثوبات، وجزيل
الهبات، ورفيع الدرجات بحيث لا يرون فوق ما أعطاهم مولاهم غاية، ولا فوقه
نهاية




وأما من يزعم أنه يؤمن بالله واليوم الآخر، وهو مع ذلك مواد لأعداء الله،
محب لمن ترك الإيمان وراء ظهره، فإن هذا إيمان زعمي لا حقيقة له، فإن كل
أمر لا بد له من برهان يصدقه، فمجرد الدعوى، لا تفيد شيئا ولا يصدق
صاحبها.




تم تفسير سورة المجادلة ، بحمد الله وعونه وتسديده. والحمد لله رب
العالمين، وصلى الله على محمد وسلم تسليما

descriptionتفسيرالقران - صفحة 3 Emptyرد: تفسيرالقران

more_horiz
-
تفسير
سورة
ا
لحديد
عدد آياتها
29

(



آية



1-29

)

وهي مدنية






{ 1-6 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سَبَّحَ لِلَّهِ مَا
فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * لَهُ
مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ * هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ
وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ *هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ
يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا
يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ
مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * لَهُ مُلْكُ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ *
يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ
وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ }





يخبر تعالى عن عظمته وجلاله وسعة سلطانه، أن جميع ما في السماوات والأرض
من الحيوانات الناطقة والصامتة وغيرها، [والجوامد] تسبح بحمد ربها،
وتنزهه عما لا يليق بجلاله، وأنها قانتة لربها، منقادة لعزته، قد ظهرت
فيها آثار حكمته، ولهذا قال:


{ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }

فهذا فيه بيان عموم افتقار المخلوقات العلوية والسفلية لربها، في جميع
أحوالها، وعموم عزته وقهره للأشياء كلها، وعموم حكمته في خلقه وأمره.




ثم أخبر عن عموم ملكه، فقال:


{ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ }

أي: هو الخالق لذلك، الرازق المدبر لها بقدرته


{ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }





{ هُوَ الْأَوَّلُ }

الذي ليس قبله شيء،


{ وَالْآخِرُ }

الذي ليس بعده شيء


{ وَالظَّاهِرُ }

الذي ليس فوقه شيء،


{ وَالْبَاطِنُ }

الذي ليس دونه شيء.


{ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }

قد أحاط علمه بالظواهر والبواطن، والسرائر والخفايا، والأمور المتقدمة
والمتأخرة.




{ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ }

أولها يوم الأحد وآخرها يوم الجمعة


{ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ }

استواء يليق بجلاله، فوق جميع خلقه،


{ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ }

من حب وحيوان ومطر، وغير ذلك.


{ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا }

من نبات وشجر وحيوان وغير ذلك،


{ وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ }

من الملائكة والأقدار والأرزاق.




{ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا }

من الملائكة والأرواح، والأدعية والأعمال، وغير ذلك.


{ وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ }

كقوله:


{ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا
خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا
أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا }





وهذه المعية، معية العلم والاطلاع، ولهذا توعد ووعد على المجازاة
بالأعمال بقوله:


{ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }

أي: هو تعالى بصير بما يصدر منكم من الأعمال، وما صدرت عنه تلك الأعمال،
من بر وفجور، فمجازيكم عليها، وحافظها عليكم.




{ لَهُ ملك السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ }

ملكا وخلقا وعبيدا، يتصرف فيهم بما شاءه من أوامره القدرية والشرعية،
الجارية على الحكمة الربانية،


{ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ }

من الأعمال والعمال، فيعرض عليه العباد، فيميز الخبيث من الطيب، ويجازي
المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته.




{ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ
}

أي: يدخل الليل على النهار، فيغشيهم الليل بظلامه، فيسكنون ويهدأون، ثم
يدخل النهار على الليل، فيزول ما على الأرض من الظلام، ويضيء الكون،
فيتحرك العباد، ويقومون إلى مصالحهم ومعايشهم، ولا يزال الله يكور الليل
على النهار، والنهار على الليل، ويداول بينهما، في الزيادة والنقص،
والطول والقصر، حتى تقوم بذلك الفصول، وتستقيم الأزمنة، ويحصل من المصالح
ما يحصل بذلك، فتبارك الله رب العالمين، وتعالى الكريم الجواد، الذي أنعم
على عباده بالنعم الظاهرة والباطنة،


{ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ }

أي: بما يكون في صدور العالمين، فيوفق من يعلم أنه أهل لذلك، ويخذل من
يعلم أنه لا يصلح لهدايته







{ 7-11 } { آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا
جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ
وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ * وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ
بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ
أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ
عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ
إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ * وَمَا لَكُمْ
أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ
وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ
بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا
تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ * مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا
حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ }




يأمر تعالى عباده بالإيمان به وبرسوله وبما جاء به، وبالنفقة في سبيله،
من الأموال التي جعلها الله في أيديهم واستخلفهم عليها، لينظر كيف
يعملون، ثم لما أمرهم بذلك، رغبهم وحثهم عليه بذكر ما رتب عليه من
الثواب، فقال:


{ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا }

أي: جمعوا بين الإيمان بالله ورسوله، والنفقة في سبيله، لهم أجر كبير،
أعظمه [وأجله] رضا ربهم، والفوز بدار كرامته، وما فيها من النعيم المقيم،
الذي أعده الله للمؤمنين والمجاهدين، ثم ذكر [السبب] الداعي لهم إلى
الإيمان، وعدم المانع منه، فقال:




{ وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ
لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ
مُؤْمِنِينَ }

أي: وما الذي يمنعكم من الإيمان، والحال أن الرسول محمدا صلى الله عليه
وسلم أفضل الرسل وأكرم داع دعا إلى الله يدعوكم، فهذا مما يوجب المبادرة
إلى إجابة دعوته، والتلبية والإجابة للحق الذي جاء به، وقد أخذ عليكم
العهد والميثاق بالإيمان إن كنتم مؤمنين، ومع ذلك، من لطفه وعنايته بكم،
أنه لم يكتف بمجرد دعوة الرسول الذي هو أشرف العالم، بل أيده بالمعجزات،
ودلكم على صدق ما جاء به بالآيات البينات، فلهذا قال:


{ هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ }

أي: ظاهرات تدل أهل العقول على صدق كل ما جاء به وأنه حق اليقين،


{ لِيُخْرِجَكُمْ }

بإرسال الرسول إليكم، وما أنزله الله على يده من الكتاب والحكمة.




{ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ }

أي: من ظلمات الجهل والكفر، إلى نور العلم والإيمان، وهذا من رحمته بكم
ورأفته، حيث كان أرحم بعباده من الوالدة بولدها


{ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ }








{ 10 } { وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ
مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْض }




أي: وما الذي يمنعكم من النفقة في سبيل الله، وهي طرق الخير كلها، ويوجب
لكم أن تبخلوا،


{ و }

الحال أنه ليس لكم شيء، بل


{ لله مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ }

فجميع الأموال ستنتقل من أيديكم أو تنقلون عنها، ثم يعود الملك إلى مالكه
تبارك وتعالى، فاغتنموا الإنفاق ما دامت الأموال في أيديكم، وانتهزوا
الفرصة، ثم ذكر تعالى تفاضل الأعمال بحسب الأحوال والحكمة الإلهية، فقال:


{ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ
أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ
وَقَاتَلُوا }

المراد بالفتح هنا هو فتح الحديبية، حين جرى من الصلح بين الرسول وبين
قريش مما هو أعظم الفتوحات التي حصل بها نشر الإسلام، واختلاط المسلمين
بالكافرين، والدعوة إلى الدين من غير معارض، فدخل الناس من ذلك الوقت في
دين الله أفواجا، واعتز الإسلام عزا عظيما، وكان المسلمون قبل هذا الفتح
لا يقدرون على الدعوة إلى الدين في غير البقعة التي أسلم أهلها، كالمدينة
وتوابعها، وكان من أسلم من أهل مكة وغيرها من ديار المشركين يؤذى ويخاف،
فلذلك كان من أسلم قبل الفتح وأنفق وقاتل، أعظم درجة وأجرا وثوابا ممن لم
يسلم ويقاتل وينفق إلا بعد ذلك، كما هو مقتضى الحكمة، ولذلك كان السابقون
وفضلاء الصحابة، غالبهم أسلم قبل الفتح، ولما كان التفضيل بين الأمور قد
يتوهم منه نقص وقدح في المفضول، احترز تعالى من هذا بقوله:


{ وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى }

أي: الذين أسلموا وقاتلوا وأنفقوا من قبل الفتح وبعده، كلهم وعده الله
الجنة، وهذا يدل على فضل الصحابة [كلهم]، رضي الله عنهم، حيث شهد الله
لهم بالإيمان، ووعدهم الجنة،


{ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ }

فيجازي كلا منكم على ما يعلمه من عمله، ثم حث على النفقة في سبيله، لأن
الجهاد متوقف على النفقة فيه، وبذل الأموال في التجهز له، فقال:


{ مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا }

وهي النفقة [الطيبة] التي تكون خالصة لوجه الله، موافقة لمرضاة الله، من
مال حلال طيب، طيبة به نفسه، وهذا من كرم الله تعالى [حيث] سماه قرضا،
والمال ماله، والعبد عبده، ووعد بالمضاعفة عليه أضعافا كثيرة، وهو الكريم
الوهاب، وتلك المضاعفة محلها وموضعها يوم القيامة، يوم كل يتبين فقره،
ويحتاج إلى أقل شيء من الجزاء الحسن، ولذلك قال:




{ 12-15 } { يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى
نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ
جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ
هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ
وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ
نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ
بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ
مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ * يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ
قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ
وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ
وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ * فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ
فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ
مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ }



يقول تعالى -مبينا لفضل الإيمان واغتباط أهله به يوم القيامة-:


{ يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ
بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ }

أي: إذا كان يوم القيامة، وكورت الشمس، وخسف القمر، وصار الناس في
الظلمة، ونصب الصراط على متن جهنم، فحينئذ ترى المؤمنين والمؤمنات، يسعى
نورهم بين أيديهم وبأيمانهم، فيمشون بأيمانهم ونورهم في ذلك الموقف
الهائل الصعب، كل على قدر إيمانه، ويبشرون عند ذلك بأعظم بشارة، فيقال:


{ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ
خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ }

فلله ما أحلى هذه البشارة بقلوبهم، وألذها لنفوسهم، حيث حصل لهم كل مطلوب
[محبوب]، ونجوا من كل شر ومرهوب، فإذا رأى المنافقون نور المؤمنين يمشون
به وهم قد طفئ نورهم وبقوا في الظلمات حائرين، قالوا للمؤمنين:


{ انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ }

أي: أمهلونا لننال من نوركم ما نمشي به، لننجو من العذاب، فـ


{ قِيلَ }

لهم:


{ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا }

أي: إن كان ذلك ممكنا، والحال أن ذلك غير ممكن، بل هو من المحالات،


{ فَضُرِبَ }

بين المؤمنين والمنافقين


{ بِسُورٍ }

أي: حائط منيع، وحصن حصين،


{ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ }

وهو الذي يلي المؤمنين


{ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ }

وهو الذي يلي المنافقين، فينادي المنافقون المؤمنين، فيقولون لهم تضرعا
وترحما:


{ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ }

في الدنيا نقول:


{ لا إله إلا الله }

ونصلي ونصوم ونجاهد، ونعمل مثل عملكم؟


{ قَالُوا بَلَى }

كنتم معنا في الدنيا، وعملتم [في الظاهر] مثل عملنا، ولكن أعمالكم أعمال
المنافقين، من غير إيمان ولا نية [صادقة] صالحة، بل


{ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ }

أي: شككتم في خبر الله الذي لا يقبل شكا،


{ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ }

الباطلة، حيث تمنيتم أن تنالوا منال المؤمنين، وأنتم غير موقنين،


{ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ }

أي: حتى جاءكم الموت وأنتم بتلك الحال الذميمة.




{ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ }

وهو الشيطان، الذي زين لكم الكفر والريب، فاطمأننتم به، ووثقتم بوعده،
وصدقتم خبره.




{ فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ
كَفَرُوا }

فلو افتديتم بمثل الأرض ذهبا ومثله معه، لما تقبل منكم،


{ مَأْوَاكُمُ النَّارُ }

أي: مستقركم،


{ هِيَ مَوْلَاكُمْ }

التي تتولاكم وتضمكم إليها،


{ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ }

النار.




[قال تعالى:]


{ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ وَمَا
أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ نَارٌ حَامِيَةٌ }








{ 16-17 } { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ
لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا
كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ
الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ *
اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ
بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ }




لما ذكر حال المؤمنين والمؤمنات والمنافقين والمنافقات في الدار الآخرة،
كان ذلك مما يدعو القلوب إلى الخشوع لربها، والاستكانة لعظمته، فعاتب
الله المؤمنين [على عدم ذلك]، فقال:


{ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ
اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ }





أي: ألم يجئ الوقت الذي تلين به قلوبهم وتخشع لذكر الله، الذي هو
القرآن، وتنقاد لأوامره وزواجره، وما نزل من الحق الذي جاء به محمد صلى
الله عليه وسلم؟ وهذا فيه الحث على الاجتهاد على خشوع القلب لله تعالى،
ولما أنزله من الكتاب والحكمة، وأن يتذكر المؤمنون المواعظ الإلهية
والأحكام الشرعية كل وقت، ويحاسبوا أنفسهم على ذلك،


{ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ
عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ }

أي: ولا يكونوا كالذين أنزل الله عليهم الكتاب الموجب لخشوع القلب
والانقياد التام، ثم لم يدوموا عليه، ولا ثبتوا، بل طال عليهم الزمان
واستمرت بهم الغفلة، فاضمحل إيمانهم وزال إيقانهم،


{ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ }

فالقلوب تحتاج في كل وقت إلى أن تذكر بما أنزل له الله، وتناطق بالحكمة،
ولا ينبغي الغفلة عن ذلك، فإن ذلك سبب لقسوة القلب وجمود العين.




{ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ
بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ }

فإن الآيات تدل العقول على العلم بالمطالب الإلهية، والذي أحيا الأرض بعد
موتها قادر على أن يحيي الأموات بعد موتهم، فيجازيهم بأعمالهم، والذي
أحيا الأرض بعد موتها بماء المطر قادر على أن يحيي القلوب الميتة بما
أنزله من الحق على رسوله، وهذه الآية تدل على أنه لا عقل لمن لم يهتد
بآيات الله و[لم] ينقد لشرائع الله.







{ 18-19 } { إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا
اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ
*وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ
الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ
وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ
أَصْحَابُ الْجَحِيمِ }





{ إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ }

بالتشديد أي: الذين أكثروا من الصدقات الشرعية، والنفقات المرضية،


{ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا }

بأن قدموا من أموالهم في طرق الخيرات ما يكون مدخرا لهم عند ربهم،


{ يُضَاعَفُ لَهُمُ }

الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة،


{ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ }

وهو ما أعده الله لهم في الجنة، مما لا تعلمه النفوس.




{ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ }

والإيمان عند أهل السنة: هو ما دل عليه الكتاب والسنة، هو قول القلب
واللسان، وعمل القلب واللسان والجوارح، فيشمل ذلك جميع شرائع الدين
الظاهرة والباطنة، فالذين جمعوا بين هذه الأمور هم الصديقون أي: الذين
مرتبتهم فوق مرتبة عموم المؤمنين، ودون مرتبة الأنبياء.




[وقوله:]


{ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ }

كما ورد في الحديث الصحيح:


{ إن في الجنة مائة درجة، ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض، أعدها
الله للمجاهدين في سبيله }

وهذا يقتضي شدة علوهم ورفعتهم، وقربهم الله تعالى.




{ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ
الْجَحِيمِ }

فهذه الآيات جمعت أصناف الخلق، المتصدقين، والصديقين، والشهداء، وأصحاب
الجحيم، فالمتصدقون الذين كان جل عملهم الإحسان إلى الخلق، وبذل النفع
إليهم بغاية ما يمكنهم، خصوصا بالنفع بالمال في سبيل الله.




والصديقون هم الذين كملوا مراتب الإيمان والعمل الصالح، والعلم النافع،
واليقين الصادق، والشهداء هم الذين قاتلوا في سبيل الله [لإعلاء كلمة
الله، وبذلوا أنفسهم وأموالهم] فقتلوا، وأصحاب الجحيم هم الكفار الذين
كذبوا بآيات الله.




وبقي قسم ذكرهم الله في سورة فاطر، وهم المقتصدون الذين أدوا الواجبات
وتركوا المحرمات، إلا أنهم حصل منهم تقصير ببعض حقوق الله وحقوق عباده،
فهؤلاء مآلهم الجنة، وإن حصل لهم عقوبة ببعض ما فعلوا.







{ 20-21 } { اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ
وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ
وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ
يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ
عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ
الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ * سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ
رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ
أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ
اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ }




يخبر تعالى عن حقيقة الدنيا وما هي عليه، ويبين غايتها وغاية أهلها،
بأنها لعب ولهو، تلعب بها الأبدان، وتلهو بها القلوب، وهذا مصداقه ما هو
موجود وواقع من أبناء الدنيا، فإنك تجدهم قد قطعوا أوقات أعمارهم بلهو
القلوب، والغفلة عن ذكر الله وعما أمامهم من الوعد والوعيد، وتراهم قد
اتخذوا دينهم لعبا ولهوا، بخلاف أهل اليقظة وعمال الآخرة، فإن قلوبهم
معمورة بذكر الله، ومعرفته ومحبته، وقد أشغلوا أوقاتهم بالأعمال التي
تقربهم إلى الله، من النفع القاصر والمتعدي.




[وقوله:]


{ وَزِينَةً }

أي: تزين في اللباس والطعام والشراب، والمراكب والدور والقصور والجاه.
[وغير ذلك]


{ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ }

أي: كل واحد من أهلها يريد مفاخرة الآخر، وأن يكون هو الغالب في أمورها،
والذي له الشهرة في أحوالها،


{ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ }

أي: كل يريد أن يكون هو الكاثر لغيره في المال والولد، وهذا مصداقه،
وقوعه من محبي الدنيا والمطمئنين إليها.




بخلاف من عرف الدنيا وحقيقتها، فجعلها معبرا ولم يجعلها مستقرا، فنافس
فيما يقربه إلى الله، واتخذ الوسائل التي توصله إلى الله وإذا رأى من
يكاثره وينافسه بالأموال والأولاد، نافسه بالأعمال الصالحة.




ثم ضرب للدنيا مثلا بغيث نزل على الأرض، فاختلط به نبات الأرض مما يأكل
الناس والأنعام، حتى إذا أخذت الأرض زخرفها، وأعجب نباته الكفار، الذين
قصروا همهم ونظرهم إلى الدنيا جاءها من أمر الله [ما أتلفها] فهاجت
ويبست، فعادت على حالها الأولى، كأنه لم ينبت فيها خضراء، ولا رؤي لها
مرأى أنيق، كذلك الدنيا، بينما هي زاهية لصاحبها زاهرة، مهما أراد من
مطالبها حصل، ومهما توجه لأمر من أمورها وجد أبوابه مفتحة، إذ أصابها
القدر بما أذهبها من يده، وأزال تسلطه عليها، أو ذهب به عنها، فرحل منها
صفر اليدين، لم يتزود منها سوى الكفن، فتبا لمن أضحت هي غاية أمنيته ولها
عمله وسعيه.




وأما العمل للآخرة فهو الذي ينفع، ويدخر لصاحبه، ويصحب العبد على الأبد،
ولهذا قال تعالى:


{ وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ
وَرِضْوَانٌ }

أي: حال الآخرة، ما يخلو من هذين الأمرين: إما العذاب الشديد في نار
جهنم، وأغلالها وسلاسلها وأهوالها لمن كانت الدنيا هي غايته ومنتهى
مطلبه، فتجرأ على معاصي الله، وكذب بآيات الله، وكفر بأنعم الله.




وإما مغفرة من الله للسيئات، وإزالة للعقوبات، ورضوان من الله، يحل من
أحله به دار الرضوان لمن عرف الدنيا، وسعى للآخرة سعيها.




فهذا كله مما يدعو إلى الزهد في الدنيا، والرغبة في الآخرة، ولهذا قال:


{ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ }

أي: إلا متاع يتمتع به وينتفع به، ويستدفع به الحاجات، لا يغتر به ويطمئن
إليه إلا أهل العقول الضعيفة الذين يغرهم بالله الغرور.




ثم أمر بالمسابقة إلى مغفرة الله ورضوانه وجنته، وذلك يكون بالسعي بأسباب
المغفرة، من التوبة النصوح، والاستغفار النافع، والبعد عن الذنوب
ومظانها، والمسابقة إلى رضوان الله بالعمل الصالح، والحرص على ما يرضي
الله على الدوام، من الإحسان في عبادة الخالق، والإحسان إلى الخلق بجميع
وجوه النفع، ولهذا ذكر الله الأعمال الموجبة لذلك، فقال:


{ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ
لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ }

والإيمان بالله ورسله يدخل فيه أصول الدين وفروعها،


{ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ }

أي: هذا الذي بيناه لكم، وذكرنا لكم فيه الطرق الموصلة إلى الجنة، والطرق
الموصلة إلى النار، وأن فضل الله بالثواب الجزيل والأجر العظيم من أعظم
منته على عباده وفضله.


{ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ }

الذي لا يحصي ثناء عليه، بل هو كما أثنى على نفسه، وفوق ما يثني عليه
عباده




{ 22-24 } { مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي
أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ
ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا
فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ
مُخْتَالٍ فَخُورٍ * الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ
بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ
الْحَمِيدُ }




يقول تعالى مخبرا عن عموم قضائه وقدره:


{ مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ }

وهذا شامل لعموم المصائب التي تصيب الخلق، من خير وشر، فكلها قد كتبت في
اللوح المحفوظ، صغيرها وكبيرها، وهذا أمر عظيم لا تحيط به العقول، بل
تذهل عنده أفئدة أولي الألباب، ولكنه على الله يسير، وأخبر الله عباده
بذلك لأجل أن تتقرر هذه القاعدة عندهم، ويبنوا عليها ما أصابهم من الخير
والشر، فلا يأسوا ويحزنوا على ما فاتهم، مما طمحت له أنفسهم وتشوفوا
إليه، لعلمهم أن ذلك مكتوب في اللوح المحفوظ، لا بد من نفوذه ووقوعه، فلا
سبيل إلى دفعه، ولا يفرحوا بما آتاهم الله فرح بطر وأشر، لعلمهم أنهم ما
أدركوه بحولهم وقوتهم، وإنما أدركوه بفضل الله ومنه، فيشتغلوا بشكر من
أولى النعم ودفع النقم، ولهذا قال:


{ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ }

أي: متكبر فظ غليظ، معجب بنفسه، فخور بنعم الله، ينسبها إلى نفسه، وتطغيه
وتلهيه، كما قال تبارك وتعالى:


{ ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ
عَلَى عِلْمٍ بل هي فتنة }





{ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ }

أي: يجمعون بين الأمرين الذميمين، اللذين كل منهما كاف في الشر البخل:
وهو منع الحقوق الواجبة، ويأمرون الناس بذلك، فلم يكفهم بخلهم، حتى أمروا
الناس بذلك، وحثوهم على هذا الخلق الذميم، بقولهم وفعلهم، وهذا من
إعراضهم عن طاعة ربهم وتوليهم عنها،


{ وَمَنْ يَتَوَلَّ }

عن طاعة الله فلا يضر إلا نفسه، ولن يضر الله شيئا،


{ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ }

الذي غناه من لوازم ذاته، الذي له ملك السماوات والأرض، وهو الذي أغنى
عباده وأقناهم، الحميد الذي له كل اسم حسن، ووصف كامل، وفعل جميل، يستحق
أن يحمد عليه ويثنى ويعظم.




{ 25-27 } { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا
مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ
وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ
وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ
اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ * وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ
وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ
مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ * ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى
آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ
وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ
اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا
كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا
رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ
أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ }




يقول تعالى:


{ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ }

وهي الأدلة والشواهد والعلامات الدالة على صدق ما جاءوا به وحقيته.




{ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ }

وهو اسم جنس يشمل سائر الكتب التي أنزلها الله لهداية الخلق وإرشادهم،
إلى ما ينفعهم في دينهم ودنياهم،


{ وَالْمِيزَانَ }

وهو العدل في الأقوال والأفعال، والدين الذي جاءت به الرسل، كله عدل وقسط
في الأوامر والنواهي وفي معاملات الخلق، وفي الجنايات والقصاص والحدود
[والمواريث وغير ذلك]، وذلك


{ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ }

قياما بدين الله، وتحصيلا لمصالحهم التي لا يمكن حصرها وعدها، وهذا دليل
على أن الرسل متفقون في قاعدة الشرع، وهو القيام بالقسط، وإن اختلفت
أنواع العدل، بحسب الأزمنة والأحوال،


{ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ }

من آلات الحرب، كالسلاح والدروع وغير ذلك.




{ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ }

وهو ما يشاهد من نفعه في أنواع الصناعات والحرف، والأواني وآلات الحرث،
حتى إنه قل أن يوجد شيء إلا وهو يحتاج إلى الحديد.




{ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ }

أي: ليقيم تعالى سوق الامتحان بما أنزله من الكتاب والحديد، فيتبين من
ينصره وينصر رسله في حال الغيب، التي ينفع فيها الإيمان قبل الشهادة،
التي لا فائدة بوجود الإيمان فيها، لأنه حينئذ يكون ضروريا.




{ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ }

أي: لا يعجزه شيء، ولا يفوته هارب، ومن قوته وعزته أن أنزل الحديد الذي
منه الآلات القوية، ومن قوته وعزته أنه قادر على الانتصار من أعدائه،
ولكنه يبتلي أولياءه بأعدائه، ليعلم من ينصره بالغيب، وقرن تعالى في هذا
الموضع بين الكتاب والحديد، لأن بهذين الأمرين ينصر الله دينه، ويعلي
كلمته بالكتاب الذي فيه الحجة والبرهان والسيف الناصر بإذن الله، وكلاهما
قيامه بالعدل والقسط، الذي يستدل به على حكمة الباري وكماله، وكمال
شريعته التي شرعها على ألسنة رسله.




ولما ذكر نبوة الأنبياء عموما، ذكر من خواصهم النبيين الكريمين نوحا
وإبراهيم اللذين جعل الله النبوة والكتاب في ذريتهما، فقال:


{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي
ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ }

أي: الأنبياء المتقدمين والمتأخرين كلهم من ذرية نوح وإبراهيم عليهما
السلام، وكذلك الكتب كلها نزلت على ذرية هذين النبيين الكريمين،


{ فَمِنْهُمْ }

أي: ممن أرسلنا إليهم الرسل


{ مُهْتَدٍ }

بدعوتهم، منقاد لأمرهم، مسترشد بهداهم.




{ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ }

أي: خارجون عن [طاعة الله و] طاعة الرسل والأنبياء كما قال تعالى:


{ وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ }





{ ثُمَّ قَفَّيْنَا }

أي: أتبعنا


{ عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ }

خص الله عيسى عليه السلام؛ لأن السياق مع النصارى، الذين يزعمون اتباع
عيسى عليه السلام،


{ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ }

الذي هو من كتب الله الفاضلة،


{ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً }

كما قال تعالى:


{ لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ
وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ
آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ
قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ }

الآيات.




ولهذا كان النصارى ألين من غيرهم قلوبا، حين كانوا على شريعة عيسى عليه
السلام.




{ وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا }

والرهبانية: العبادة، فهم ابتدعوا من عند أنفسهم عبادة، ووظفوها على
أنفسهم، والتزموا لوازم ما كتبها الله عليهم ولا فرضها، بل هم الذين
التزموا بها من تلقاء أنفسهم، قصدهم بذلك رضا الله تعالى، ومع ذلك


{ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا }

أي: ما قاموا بها ولا أدوا

descriptionتفسيرالقران - صفحة 3 Emptyرد: تفسيرالقران

more_horiz
-
تفسير
سورة
ا
لواقعة
عدد آياتها 96

(



آية


1-96
)

وهي مكية






{ 1-12 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إِذَا وَقَعَتِ
الْوَاقِعَةُ * لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ * خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ *
إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا * وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا *
فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا * وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً *
فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ * وَأَصْحَابُ
الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ * وَالسَّابِقُونَ
السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ }




يخبر تعالى بحال الواقعة التي لا بد من وقوعها، وهي القيامة التي


{ لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ }

أي: لا شك فيها، لأنها قد تظاهرت عليها الأدلة العقلية والسمعية، ودلت
عليها حكمته تعالى.




{ خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ }

أي: خافضة لأناس في أسفل سافلين، رافعة لأناس في أعلى عليين، أو خفضت
بصوتها فأسمعت القريب، ورفعت فأسمعت البعيد.




{ إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا }

أي: حركت واضطربت.




{ وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا }

أي: فتتت.




{ فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا }

فأصبحت الأرض ليس عليها جبل ولا معلم، قاعا صفصفا، لا ترى فيها عوجا ولا
أمتا.




{ وَكُنْتُمْ }

أيها الخلق


{ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً }

أي: انقسمتم ثلاث فرق بحسب أعمالكم الحسنة والسيئة.




ثم فصل أحوال الأزواج الثلاثة، فقال:


{ فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ }

تعظيم لشأنهم، وتفخيم لأحوالهم.




{ وَأَصْحَابُ الْمَشئَمَةِ }

أي: الشمال،


{ مَا أَصْحَابُ الْمَشئَمَة }

تهويل لحالهم.




{ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ }

أي: السابقون في الدنيا إلى الخيرات، هم السابقون في الآخرة لدخول
الجنات.




أولئك الذين هذا وصفهم، المقربون عند الله، في جنات النعيم، في أعلى
عليين، في المنازل العاليات، التي لا منزلة فوقها.




وهؤلاء المذكورون


{ ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ }

أي: جماعة كثيرون من المتقدمين من هذه الأمة وغيرهم.




{ 14 } { وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ }




وهذا يدل على فضل صدر هذه الأمة في الجملة على متأخريها، لكون المقربين
من الأولين أكثر من المتأخرين.




والمقربون هم خواص الخلق،


{ عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ }

أي: مرمولة بالذهب والفضة، واللؤلؤ، والجوهر، وغير ذلك من [الحلي]
الزينة، التي لا يعلمها إلا الله تعالى.




{ مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا }

أي: على تلك السرر، جلوس تمكن وطمأنينة وراحة واستقرار.


{ مُتَقَابِلِينَ }

وجه كل منهم إلى وجه صاحبه، من صفاء قلوبهم، وحسن أدبهم، وتقابل قلوبهم.




{ 17 } { يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ }




أي: يدور على أهل الجنة لخدمة وقضاء حوائجهم، ولدان صغار الأسنان، في
غاية الحسن والبهاء،


{ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ }

أي: مستور، لا يناله ما يغيره، مخلوقون للبقاء والخلد، لا يهرمون ولا
يتغيرون، ولا يزيدون على أسنانهم.




ويدورون عليهم بآنية شرابهم


{ بِأَكْوَابٍ }

وهي التي لا عرى لها،


{ وَأَبَارِيقَ }

الأواني التي لها عرى،


{ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ }

أي: من خمر لذيذ المشرب، لا آفة فيها.




{ لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا }

أي: لا تصدعهم رءوسهم كما تصدع خمرة الدنيا رأس شاربها.




ولا هم عنها ينزفون، أي: لا تنزف عقولهم، ولا تذهب أحلامهم منها، كما
يكون لخمر الدنيا.




والحاصل: أن جميع ما في الجنة من أنواع النعيم الموجود جنسه في الدنيا،
لا يوجد في الجنة فيه آفة، كما قال تعالى:


{ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ
لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ
لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى }

وذكر هنا خمر الجنة، ونفى عنها كل آفة توجد في الدنيا.




{ وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ }

أي: مهما تخيروا، وراق في أعينهم، واشتهته نفوسهم، من أنواع الفواكه
الشهية، والجنى اللذيذ، حصل لهم على أكمل وجه وأحسنه.




{ وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ }

أي: من كل صنف من الطيور يشتهونه، ومن أي جنس من لحمه أرادوا، وإن شاءوا
مشويا، أو طبيخا، أو غير ذلك.




{ وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ }

أي: ولهم حور عين، والحوراء: التي في عينها كحل وملاحة، وحسن وبهاء،
والعين: حسان الأعين وضخامها وحسن العين في الأنثى، من أعظم الأدلة على
حسنها وجمالها.




{ كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ }

أي: كأنهن اللؤلؤ الأبيض الرطب الصافي البهي، المستور عن الأعين والريح
والشمس، الذي يكون لونه من أحسن الألوان، الذي لا عيب فيه بوجه من
الوجوه، فكذلك الحور العين، لا عيب فيهن [بوجه]، بل هن كاملات الأوصاف،
جميلات النعوت.




فكل ما تأملته منها لم تجد فيه إلا ما يسر الخاطر ويروق الناظر.




وذلك النعيم المعد لهم


{ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ }

فكما حسنت منهم الأعمال، أحسن الله لهم الجزاء، ووفر لهم الفوز والنعيم.




{ لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا }

أي: لا يسمعون في جنات النعيم كلاما يلغى، ولا يكون فيه فائدة، ولا كلاما
يؤثم صاحبه.




{ إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا }

أي: إلا كلاما طيبا، وذلك لأنها دار الطيبين، ولا يكون فيها إلا كل طيب،
وهذا دليل على حسن أدب أهل الجنة في خطابهم فيما بينهم، وأنه أطيب كلام،
وأسره للنفوس وأسلمه من كل لغو وإثم، نسأل الله من فضله.




{ 27 }

ثم ذكر نعيم أصحاب اليمين فقال:


{ وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ }


أي: شأنهم عظيم، وحالهم جسيم.




{ فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ }

أي: مقطوع ما فيه من الشوك والأغصان [الرديئة] المضرة، مجعول مكان ذلك
الثمر الطيب، وللسدر من الخواص، الظل الظليل، وراحة الجسم فيه.




{ وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ }

والطلح معروف، وهو شجر [كبار] يكون بالبادية، تنضد أغصانه من الثمر
اللذيذ الشهي.




{ وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ }

أي: كثير من العيون والأنهار السارحة، والمياه المتدفقة.




{ وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ }

أي: ليست بمنزلة فاكهة الدنيا تنقطع في وقت من الأوقات، وتكون ممتنعة
[أي: متعسرة] على مبتغيها، بل هي على الدوام موجودة، وجناها قريب يتناوله
العبد على أي حال يكون.




{ وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ }

أي: مرفوعة فوق الأسرة ارتفاعا عظيما، وتلك الفرش من الحرير والذهب
واللؤلؤ وما لا يعلمه إلا الله.




{ إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً }

أي: إنا أنشأنا نساء أهل الجنة نشأة غير النشأة التي كانت في الدنيا،
نشأة كاملة لا تقبل الفناء.




{ فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا }

صغارهن وكبارهن.




وعموم ذلك، يشمل الحور العين ونساء أهل الدنيا، وأن هذا الوصف -وهو
البكارة- ملازم لهن في جميع الأحوال، كما أن كونهن


{ عُرُبًا أَتْرَابًا }

ملازم لهن في كل حال، والعروب: هي المرأة المتحببة إلى بعلها بحسن لفظها،
وحسن هيئتها ودلالها وجمالها [ومحبتها]، فهي التي إن تكلمت سبت العقول،
وود السامع أن كلامها لا ينقضي، خصوصا عند غنائهن بتلك الأصوات الرخيمة
والنغمات المطربة، وإن نظر إلى أدبها وسمتها ودلها ملأت قلب بعلها فرحا
وسرورا، وإن برزت من محل إلى آخر، امتلأ ذلك الموضع منها ريحا طيبا
ونورا، ويدخل في ذلك الغنجة عند الجماع.




والأتراب اللاتي على سن واحدة، ثلاث وثلاثين سنة، التي هي غاية ما يتمنى
ونهاية سن الشباب، فنساؤهم عرب أتراب، متفقات مؤتلفات، راضيات مرضيات، لا
يحزن ولا يحزن، بل هن أفراح النفوس، وقرة العيون، وجلاء الأبصار.




{ لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ }

أي: معدات لهم مهيئات.




{ ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ }

أي: هذا القسم من أصحاب اليمين عدد كثير من الأولين، وعدد كثير من
الآخرين.







{ 41-48 } { وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ * فِي
سَمُومٍ وَحَمِيمٍ * وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ * لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ
* إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ * وَكَانُوا يُصِرُّونَ
عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ * وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا
وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * أَوَآبَاؤُنَا
الْأَوَّلُونَ }




المراد بأصحاب الشمال [هم:] أصحاب النار، والأعمال المشئومة.




فذكر [الله] لهم من العقاب، ما هم حقيقون به، فأخبر أنهم


{ فِي سَمُومٍ }

أي: ريح حارة من حر نار جهنم، يأخذ بأنفاسهم، وتقلقهم أشد القلق،


{ وَحَمِيمٍ }

أي: ماء حار يقطع أمعاءهم.




{ وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ }

أي: لهب نار، يختلط بدخان.




{ لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ }

أي: لا برد فيه ولا كرم، والمقصود أن هناك الهم والغم، والحزن والشر،
الذي لا خير فيه، لأن نفي الضد إثبات لضده.




ثم ذكر أعمالهم التي أوصلتهم إلى هذا الجزاء فقال:


{ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ }

أي: قد ألهتهم دنياهم، وعملوا لها، وتنعموا وتمتعوا بها، فألهاهم الأمل
عن إحسان العمل، فهذا هو الترف الذي ذمهم الله عليه.




{ وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ }

أي: وكانوا يفعلون الذنوب الكبار ولا يتوبون منها، ولا يندمون عليها، بل
يصرون على ما يسخط مولاهم، فقدموا عليه بأوزار كثيرة [غير مغفورة].




وكانوا ينكرون البعث، فيقولون استبعادا لوقوعه:


{ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ
أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ }

أي: كيف نبعث بعد موتنا وقد بلينا، فكنا ترابا وعظاما؟ [هذا من المحال]


{ أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ }

قال تعالى جوابا لهم وردا عليهم :




{ قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ والآخرين لمجموعون إلى ميقات يَوْمٍ
مَعْلُومٍ }

أي: قل إن متقدم الخلق ومتأخرهم، الجميع سيبعثهم الله ويجمعهم لميقات يوم
معلوم، قدره الله لعباده، حين تنقضي الخليقة، ويريد الله تعالى جزاءهم
على أعمالهم التي عملوها في دار التكليف.




{ ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ }

عن طريق الهدى، التابعون لطريق الردى،


{ الْمُكَذِّبُونَ }

بالرسول صلى الله عليه وسلم وما جاء به من الحق والوعد والوعيد.




{ لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ }

وهو أقبح الأشجار وأخسها، وأنتنها ريحا، وأبشعها منظرا.




{ فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ }

والذي أوجب لهم أكلها -مع ما هي عليه من الشناعة- الجوع المفرط، الذي
يلتهب في أكبادهم وتكاد تنقطع منه أفئدتهم. هذا الطعام الذي يدفعون به
الجوع، وهو الذي لا يسمن ولا يغني من جوع.




وأما شرابهم، فهو بئس الشراب، وهو أنهم يشربون على هذا الطعام من الماء
الحميم الذي يغلي في البطون شرب الإبل الهيم أي: العطاش، التي قد اشتد
عطشها، أو [أن الهيم] داء يصيب الإبل، لا تروى معه من شراب الماء.




{ هَذَا }

الطعام والشراب


{ نُزُلُهُمْ }

أي: ضيافتهم


{ يَوْمَ الدِّينِ }

وهي الضيافة التي قدموها لأنفسهم، وآثروها على ضيافة الله لأوليائه.




قال تعالى:


{ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ
جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا
حِوَلًا }





ثم ذكر الدليل العقلي على البعث، فقال:


{ نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ }

أي: نحن الذين أوجدناكم بعد أن لم تكونوا شيئا مذكورا، من غير عجز ولا
تعب، أفليس القادر على ذلك بقادر على أن يحيي الموتى؟ بلى إنه على كل شيء
قدير، ولهذا وبخهم على عدم تصديقهم بالبعث، وهم يشاهدون ما هو أعظم منه
وأبلغ.




{ 58-62 } { أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ * أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ
أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ * نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ
وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ * عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ
وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ * وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ
النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ }




أي: أفرأيتم ابتداء خلقتكم من المني الذي تمنون، فهل أنتم خالقون ذلك
المني وما ينشأ منه؟ أم الله تعالى الخالق الذي خلق فيكم من الشهوة
وآلتها من الذكر والأنثى، وهدى كلا منهما لما هنالك، وحبب بين الزوجين،
وجعل بينهما من المودة والرحمة ما هو سبب للتناسل.




ولهذا أحالهم الله تعالى على الاستدلال بالنشأة الأولى على النشأة
الأخرى، فقال:


{ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ }

أن القادر على ابتداء خلقكم، قادر على إعادتكم.







{ 63-67 } { أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ * أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ
أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ * لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا
فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ * إِنَّا لَمُغْرَمُونَ * بَلْ نَحْنُ
مَحْرُومُونَ }




وهذا امتنان منه على عباده، يدعوهم به إلى توحيده وعبادته والإنابة إليه،
حيث أنعم عليهم بما يسره لهم من الحرث للزروع والثمار، فتخرج من ذلك من
الأقوات والأرزاق والفواكه، ما هو من ضروراتهم وحاجاتهم ومصالحهم، التي
لا يقدرون أن يحصوها، فضلا عن شكرها، وأداء حقها، فقررهم بمنته، فقال:


{ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ }

أي: أأنتم أخرجتموه نباتا من الأرض؟ أم أنتم الذين نميتموه؟ أم أنتم
الذين أخرجتم سنبله وثمره حتى صار حبا حصيدا وثمرا نضيجا؟ أم الله الذي
انفرد بذلك وحده، وأنعم به عليكم؟ وأنتم غاية ما تفعلون أن تحرثوا الأرض
وتشقوها وتلقوا فيها البذر، ثم بعد ذلك لا علم عندكم بما يكون بعد ذلك،
ولا قدرة لكم على أكثر من ذلك ومع ذلك، فنبههم على أن ذلك الحرث معرض
للأخطار لولا حفظ الله وإبقاؤه لكم بلغة ومتاعا إلى حين.




فقال:


{ لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ }

أي: الزرع المحروث وما فيه من الثمار


{ حُطَامًا }

أي: فتاتا متحطما، لا نفع فيه ولا رزق،


{ فَظَلْتُمْ }

أي: فصرتم بسبب جعله حطاما، بعد أن تعبتم فيه وأنفقتم النفقات الكثيرة


{ تَفَكَّهُونَ }

أي: تندمون وتحسرون على ما أصابكم، ويزول بذلك فرحكم وسروركم وتفكهكم،
فتقولون:


{ إِنَّا لَمُغْرَمُونَ }

أي: إنا قد نقصنا وأصابتنا مصيبة اجتاحتنا.




ثم تعرفون بعد ذلك من أين أتيتم، وبأي سبب دهيتم، فتقولون:


{ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ }

فاحمدوا الله تعالى حيث زرعه الله لكم، ثم أبقاه وكمله لكم، ولم يرسل
عليه من الآفات ما به تحرمون نفعه وخيره.







{ 68-70 } { أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنْتُمْ
أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ * لَوْ
نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ }




لما ذكر تعالى نعمته على عباده بالطعام، ذكر نعمته عليهم بالشراب العذب
الذي منه يشربون، وأنهم لولا أن الله يسره وسهله، لما كان لكم سبيل إليه،
وأنه الذي أنزله من المزن، وهو السحاب والمطر، ينزله الله تعالى فيكون
منه الأنهار الجارية على وجه الأرض وفي بطنها، ويكون منه الغدران
المتدفقة، ومن نعمته أن جعله عذبا فراتا تسيغه النفوس، ولو شاء لجعله
ملحا أجاجا مكروها للنفوس. لا ينتفع به


{ فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ }

الله تعالى على ما أنعم به عليكم.







{ 71-74 } { أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ * أَأَنْتُمْ
أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ * نَحْنُ
جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ * فَسَبِّحْ بِاسْمِ
رَبِّكَ الْعَظِيمِ }




وهذه نعمة تدخل في الضروريات التي لا غنى للخلق عنها، فإن الناس محتاجون
إليها في كثير من أمورهم وحوائجهم، فقررهم تعالى بالنار التي أوجدها في
الأشجار، وأن الخلق لا يقدرون أن ينشئوا شجرها، وإنما الله تعالى الذي
أنشأها من الشجر الأخضر، فإذا هي نار توقد بقدر حاجة العباد، فإذا فرغوا
من حاجتهم، أطفأوها وأخمدوها.




{ نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً }

للعباد بنعمة ربهم، وتذكرة بنار جهنم التي أعدها الله للعاصين، وجعلها
سوطا يسوق به عباده إلى دار النعيم،


{ وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ }

أي: [المنتفعين أو] المسافرين وخص الله المسافرين لأن نفع المسافر بذلك
أعظم من غيره، ولعل السبب في ذلك، لأن الدنيا كلها دار سفر، والعبد من
حين ولد فهو مسافر إلى ربه، فهذه النار، جعلها الله متاعا للمسافرين في
هذه الدار، وتذكرة لهم بدار القرار، فلما بين من نعمه ما يوجب الثناء
عليه من عباده وشكره وعبادته، أمر بتسبيحه وتحميده فقال:


{ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ }

أي: نزه ربك العظيم، كامل الأسماء والصفات، كثير الإحسان والخيرات،
واحمده بقلبك ولسانك، وجوارحك، لأنه أهل لذلك، وهو المستحق لأن يشكر فلا
يكفر، ويذكر فلا ينسى، ويطاع فلا يعصى.







{ 75-87 } { فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ
لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ * إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ
مَكْنُونٍ * لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ * تَنْزِيلٌ مِنْ
رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ *
وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ * فَلَوْلَا إِذَا
بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ * وَنَحْنُ
أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ * فَلَوْلَا إِنْ
كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ }





أقسم تعالى بالنجوم ومواقعها أي: مساقطها في مغاربها، وما يحدث الله في
تلك الأوقات، من الحوادث الدالة على عظمته وكبريائه وتوحيده.




ثم عظم هذا المقسم به، فقال:


{ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ }

وإنما كان القسم عظيما، لأن في النجوم وجريانها، وسقوطها عند مغاربها،
آيات وعبرا لا يمكن حصرها.




وأما المقسم عليه، فهو إثبات القرآن، وأنه حق لا ريب فيه، ولا شك يعتريه،
وأنه كريم أي: كثير الخير، غزير العلم، فكل خير وعلم، فإنما يستفاد من
كتاب الله ويستنبط منه.




{ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ }

أي: مستور عن أعين الخلق، وهذا الكتاب المكنون هو اللوح المحفوظ أي: إن
هذا القرآن مكتوب في اللوح المحفوظ، معظم عند الله وعند ملائكته في الملأ
الأعلى.




ويحتمل أن المراد بالكتاب المكنون، هو الكتاب الذي بأيدي الملائكة الذين
ينزلهم الله بوحيه وتنزيله وأن المراد بذلك أنه مستور عن الشياطين، لا
قدرة لهم على تغييره، ولا الزيادة والنقص منه واستراقه.




{ لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ }

أي: لا يمس القرآن إلا الملائكة الكرام، الذين طهرهم الله تعالى من
الآفات، والذنوب والعيوب، وإذا كان لا يمسه إلا المطهرون، وأن أهل الخبث
والشياطين، لا استطاعة لهم، ولا يدان إلى مسه، دلت الآية بتنبيهها على
أنه لا يجوز أن يمس القرآن إلا طاهر، كما ورد بذلك الحديث، ولهذا قيل أن
الآية خبر بمعنى النهي أي: لا يمس القرآن إلا طاهر.




{ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ }

أي: إن هذا القرآن الموصوف بتلك الصفات الجليلة هو تنزيل رب العالمين،
الذي يربي عباده بنعمه الدينية والدنيوية، ومن أجل تربية ربى بها عباده،
إنزاله هذا القرآن، الذي قد اشتمل على مصالح الدارين، ورحم الله به
العباد رحمة لا يقدرون لها شكورا.




ومما يجب عليهم أن يقوموا به ويعلنوه ويدعوا إليه ويصدعوا به، ولهذا
قال:


{ أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ }

أي: أفبهذا الكتاب العظيم والذكر الحكيم أنتم تدهنون أي: تختفون وتدلسون
خوفا من الخلق وعارهم وألسنتهم؟ هذا لا ينبغي ولا يليق، إنما يليق أن
يداهن بالحديث الذي لا يثق صاحبه منه.




وأما القرآن الكريم، فهو الحق الذي لا يغالب به مغالب إلا غلب، ولا يصول
به صائل إلا كان العالي على غيره، وهو الذي لا يداهن به ولا يختفى، بل
يصدع به ويعلن.




وقوله:


{ وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ }

أي: تجعلون مقابلة منة الله عليكم بالرزق التكذيب والكفر لنعمة الله،
فتقولون: مطرنا بنوء كذا وكذا، وتضيفون النعمة لغير مسديها وموليها، فهلا
شكرتم الله تعالى على إحسانه، إذ أنزله الله إليكم ليزيدكم من فضله، فإن
التكذيب والكفر داع لرفع النعم وحلول النقم.




{ فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ
تَنْظُرُونَ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا
تُبْصِرُونَ }

أي: فهلا إذا بلغت الروح الحلقوم، وأنتم تنظرون المحتضر في هذه الحالة،
والحال أنا نحن أقرب إليه منكم، بعلمنا وملائكتنا، ولكن لا تبصرون.




{ فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ }

أي: فهلا إذا كنتم تزعمون، أنكم غير مبعوثين ولا محاسبين ومجازين.




ترجعون الروح إلى بدنها


{ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ }

وأنتم تقرون أنكم عاجزون عن ردها إلى موضعها، فحينئذ إما أن تقروا بالحق
الذي جاءكم به محمد صلى الله عليه وسلم، وإما أن تعاندوا وتعلم حالكم
وسوء مآلكم.







{ 88-96 } { فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ
وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ
الْيَمِينِ * فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * وَأَمَّا إِنْ
كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ * فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ *
وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ * فَسَبِّحْ
بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ }




ذكر الله تعالى أحوال الطوائف الثلاث: المقربين، وأصحاب اليمين،
والمكذبين الضالين، في أول السورة في دار القرار.




ثم ذكر أحوالهم في آخرها عند الاحتضار والموت، فقال:


{ فَأَمَّا إِنْ كَانَ }

الميت


{ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ }

وهم الذين أدوا الواجبات والمستحبات، وتركوا المحرمات والمكروهات وفضول
المباحات.




{ فـ }

لهم


{ رَوْحٌ }

أي: راحة وطمأنينة، وسرور وبهجة، ونعيم القلب والروح،


{ وَرَيْحَانٌ }

وهو اسم جامع لكل لذة بدنية، من أنواع المآكل والمشارب وغيرهما، وقيل:
الريحان هو الطيب المعروف، فيكون تعبيرا بنوع الشيء عن جنسه العام




{ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ }

جامعة للأمرين كليهما، فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على
قلب بشر، فيبشر المقربون عند الاحتضار بهذه البشارة، التي تكاد تطير منها
الأرواح من الفرح والسرور.




كما قال تعالى:


{ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا
تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أن لَّا تَخَافُوا وَلَا
تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ
نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ
وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا
تَدَّعُونَ نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ }





وقد أول قوله تبارك تعالى:


{ لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ }

أن هذه البشارة المذكورة، هي البشرى في الحياة الدنيا.




[وقوله:]


{ وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ }

وهم الذين أدوا الواجبات وتركوا المحرمات، و [إن] حصل منهم التقصير في
بعض الحقوق التي لا تخل بتوحيدهم وإيمانهم،


{ فـ }

يقال لأحدهم:


{ سَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ }

أي: سلام حاصل لك من إخوانك أصحاب اليمين أي: يسلمون عليه ويحيونه عند
وصوله إليهم ولقائهم له، أو يقال له: سلام لك من الآفات والبليات
والعذاب، لأنك من أصحاب اليمين، الذين سلموا من الذنوب الموبقات.




{ وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ }

أي: الذين كذبوا بالحق وضلوا عن الهدى.




{ فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ }

أي: ضيافتهم يوم قدومهم على ربهم تصلية الجحيم التي تحيط بهم، وتصل إلى
أفئدتهم، وإذا استغاثوا من شدة العطش والظمأ


{ يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ
وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا }





{ إِنَّ هَذَا }

الذي ذكره الله تعالى، من جزاء العباد بأعمالهم، خيرها وشرها، وتفاصيل
ذلك


{ لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ }

أي: الذي لا شك فيه ولا مرية، بل هو الحق الثابت الذي لا بد من وقوعه،
وقد أشهد الله عباده الأدلة القواطع على ذلك، حتى صار عند أولي الألباب
كأنهم ذائقون له مشاهدون له فحمدوا الله تعالى على ما خصهم به من هذه
النعمة العظيمة، والمنحة الجسيمة.




ولهذا قال تعالى:


{ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ }

فسبحان ربنا العظيم، وتعالى وتنزه عما يقول الظالمون والجاحدون علوا
كبيرا.




والحمد لله رب العالمين حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه.




[تم تفسير سورة الواقعة].

descriptionتفسيرالقران - صفحة 3 Emptyرد: تفسيرالقران

more_horiz
-
تفسير
سورة
ا
لرحمن
عدد آياتها
78

(



آية



1-41
)
وهي مكية






{
1-13 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ
الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ * الشَّمْسُ
وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ * وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ *
وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ * أَلَّا تَطْغَوْا فِي
الْمِيزَانِ * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا
الْمِيزَانَ * وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ * فِيهَا فَاكِهَةٌ
وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ * وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ
وَالرَّيْحَانُ * فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ }





هذه السورة الكريمة الجليلة، افتتحها باسمه "الرَّحْمَنُ" الدال على سعة
رحمته، وعموم إحسانه، وجزيل بره، وواسع فضله، ثم ذكر ما يدل على رحمته
وأثرها الذي أوصله الله إلى عباده من النعم الدينية والدنيوية [والآخروية
وبعد كل جنس ونوع من نعمه، ينبه الثقلين لشكره، ويقول:


{ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ }

].




فذكر أنه


{ عَلَّمَ الْقُرْآنَ }

أي: علم عباده ألفاظه ومعانيه، ويسرها على عباده، وهذا أعظم منة ورحمة
رحم بها عباده، حيث أنزل عليهم قرآنا عربيا بأحسن ألفاظ، وأحسن تفسير،
مشتمل على كل خير، زاجر عن كل شر.




{ خَلَقَ الْإِنْسَانَ }

في أحسن تقويم، كامل الأعضاء، مستوفي الأجزاء، محكم البناء، قد أتقن
البديع تعالى البديع خلقه أي إتقان، وميزه على سائر الحيوانات.




بأن


{ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ }

أي: التبيين عما في ضميره، وهذا شامل للتعليم النطقي والتعليم الخطي،
فالبيان الذي ميز الله به الآدمي على غيره من أجل نعمه، وأكبرها عليه.




{ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ }

أي: خلق الله الشمس والقمر، وسخرهما يجريان بحساب مقنن، وتقدير مقدر،
رحمة بالعباد، وعناية بهم، وليقوم بذلك من مصالحهم ما يقوم، وليعرف
العباد عدد السنين والحساب.




{ وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ }

أي: نجوم السماء، وأشجار الأرض، تعرف ربها وتسجد له، وتطيع وتخشع وتنقاد
لما سخرها له من مصالح عباده ومنافعهم.




{ وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا }

سقفها للمخلوقات الأرضية، ووضع الله الميزان أي: العدل بين العباد، في
الأقوال والأفعال، وليس المراد به الميزان المعروف وحده، بل هو كما
ذكرنا، يدخل فيه الميزان المعروف، والمكيال الذي تكال به الأشياء
والمقادير، والمساحات التي تضبط بها المجهولات، والحقائق التي يفصل بها
بين المخلوقات، ويقام بها العدل بينهم، ولهذا قال:


{ أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ }

أي: أنزل الله الميزان، لئلا تتجاوزوا الحد في الميزان، فإن الأمر لو كان
يرجع إلى عقولكم وآرائكم، لحصل من الخلل ما الله به عليم، ولفسدت
السماوات والأرض.




{ وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ }

أي: اجعلوه قائما بالعدل، الذي تصل إليه مقدرتكم وإمكانكم،


{ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ }

أي: لا تنقصوه وتعملوا بضده، وهو الجور والظلم والطغيان.




{ وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا }

الله على ما كانت عليه من الكثافة والاستقرار واختلاف [أوصافها و]
أحوالها


{ لِلْأَنَامِ }

أي: للخلق، لكي يستقروا عليها، وتكون لهم مهادا وفراشا يبنون بها،
ويحرثون ويغرسون ويحفرون ويسلكون سبلها فجاجا، وينتفعون بمعادنها وجميع
ما فيها، مما تدعو إليه حاجتهم، بل ضرورتهم.




ثم ذكر ما فيها من الأقوات الضرورية، فقال:


{ فِيهَا فَاكِهَةٌ }

وهي جميع الأشجار التي تثمر الثمرات التي يتفكه بها العباد، من العنب
والتين والرمان والتفاح، وغير ذلك،


{ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ }

أي: ذات الوعاء الذي ينفلق عن القنوان التي تخرج شيئا فشيئا حتى تتم،
فتكون قوتا يؤكل ويدخر، يتزود منه المقيم والمسافر، وفاكهة لذيذة من أحسن
الفواكه.




{ وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ }

أي: ذو الساق الذي يداس، فينتفع بتبنه للأنعام وغيرها، ويدخل في ذلك حب
البر والشعير والذرة [والأرز] والدخن، وغير ذلك،


{ وَالرَّيْحَانُ }

يحتمل أن المراد بذلك جميع الأرزاق التي يأكلها الآدميون، فيكون هذا من
باب عطف العام على الخاص، ويكون الله قد امتن على عباده بالقوت والرزق،
عموما وخصوصا، ويحتمل أن المراد بالريحان، الريحان المعروف، وأن الله
امتن على عباده بما يسره في الأرض من أنواع الروائح الطيبة، والمشام
الفاخرة، التي تسر الأرواح، وتنشرح لها النفوس.




ولما ذكر جملة كثيرة من نعمه التي تشاهد بالأبصار والبصائر، وكان الخطاب
للثقلين، الإنس والجن، قررهم تعالى بنعمه، فقال:


{ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ }

أي: فبأي نعم الله الدينية والدنيوية تكذبان؟




وما أحسن جواب الجن حين تلا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم هذه السورة،
فما مر بقوله:


{ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ }

إلا قالوا ولا بشيء من آلائك ربنا نكذب، فلك الحمد، فهذا الذي ينبغي
للعبد إذا تليت عليه نعم الله وآلاؤه، أن يقر بها ويشكر، ويحمد الله
عليها.







{ 14-16 } { خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ *
وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ * فَبِأَيِّ آلَاءِ
رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ }




وهذا من نعمه تعالى على عباده، حيث أراهم [من] آثار قدرته وبديع صنعته،
أن


{ خَلَقَ }

أبا الإنس وهو آدم عليه السلام


{ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ }

أي: من طين مبلول، قد أحكم بله وأتقن، حتى جف، فصار له صلصلة وصوت يشبه
صوت الفخار الذي طبخ على النار .




{ وَخَلَقَ الْجَانَّ }

أي: أبا الجن، وهو إبليس اللعين


{ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ }

أي: من لهب النار الصافي، أو الذي قد خالطه الدخان، وهذا يدل على شرف
عنصر الآدمي المخلوق من الطين والتراب، الذي هو محل الرزانة والثقل
والمنافع، بخلاف عنصر الجان وهو النار، التي هي محل الخفة والطيش والشر
والفساد.




ولما بين خلق الثقلين ومادة ذلك وكان ذلك منة منه [تعالى] على عباده
قال:


{ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ }





{ 17-18 } { رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ * فَبِأَيِّ
آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ }




أي: هو تعالى رب كل ما أشرقت عليه الشمس والقمر، والكواكب النيرة، وكل ما
غربت عليه، [وكل ما كانا فيه] فهي تحت تدبيره وربوبيته، وثناهما هنا
لإرادة العموم مشرقي الشمس شتاء وصيفا، ومغربها كذلك







{ 19-21 } { مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ
لَا يَبْغِيَانِ * فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ }





المراد بالبحرين: البحر العذب، والبحر المالح، فهما يلتقيان كلاهما، فيصب
العذب في البحر المالح، ويختلطان ويمتزجان، ولكن الله تعالى جعل بينهما
برزخا من الأرض، حتى لا يبغي أحدهما على الآخر، ويحصل النفع بكل منهما،
فالعذب منه يشربون وتشرب أشجارهم وزروعهم، والملح به يطيب الهواء ويتولد
الحوت والسمك، واللؤلؤ والمرجان، ويكون مستقرا مسخرا للسفن والمراكب،
ولهذا قال:



{ 24-25 } { وَلَهُ الْجَوَارِي الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ
كَالْأَعْلَامِ * فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ }





أي: وسخر تعالى لعباده السفن الجواري، التي تمخر البحر وتشقه بإذن الله،
التي ينشئها الآدميون، فتكون من كبرها وعظمها كالأعلام، وهي الجبال
العظيمة، فيركبها الناس، ويحملون عليها أمتعتهم وأنواع تجاراتهم، وغير
ذلك مما تدعو إليه حاجتهم وضرورتهم، وقد حفظها حافظ السماوات والأرض،
وهذه من نعم الله الجليلة، فلذلك قال:


{ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ }








{ 26-28 } { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو
الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ * فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ }




أي: كل من على الأرض، من إنس وجن، ودواب، وسائر المخلوقات، يفنى ويموت
ويبيد ويبقى الحي الذي لا يموت


{ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ }

أي: ذو العظمة والكبرياء والمجد، الذي يعظم ويبجل ويجل لأجله، والإكرام
الذي هو سعة الفضل والجود، والداعي لأن يكرم أولياءه وخواص خلقه بأنواع
الإكرام، الذي يكرمه أولياؤه ويجلونه، [ويعظمونه] ويحبونه، وينيبون إليه
ويعبدونه،


{ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ }








{ 29-30 } { يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ
هُوَ فِي شَأْنٍ * فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ }





أي: هو الغني بذاته عن جميع مخلوقاته، وهو واسع الجود والكرم، فكل الخلق
مفتقرون إليه، يسألونه جميع حوائجهم، بحالهم ومقالهم، ولا يستغنون عنه
طرفة عين ولا أقل من ذلك، وهو تعالى


{ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ }

يغني فقيرا، ويجبر كسيرا، ويعطي قوما، ويمنع آخرين، ويميت ويحيي، ويرفع
ويخفض، لا يشغله شأن عن شأن، ولا تغلطه المسائل، ولا يبرمه إلحاح
الملحين، ولا طول مسألة السائلين، فسبحان الكريم الوهاب، الذي عمت مواهبه
أهل الأرض والسماوات، وعم لطفه جميع الخلق في كل الآنات واللحظات، وتعالى
الذي لا يمنعه من الإعطاء معصية العاصين، ولا استغناء الفقراء الجاهلين
به وبكرمه، وهذه الشئون التي أخبر أنه تعالى كل يوم هو في شأن، هي
تقاديره وتدابيره التي قدرها في الأزل وقضاها، لا يزال تعالى يمضيها
وينفذها في أوقاتها التي اقتضته حكمته، وهي أحكامه الدينية التي هي الأمر
والنهي، والقدرية التي يجريها على عباده مدة مقامهم في هذه الدار، حتى
إذا تمت [هذه] الخليقة وأفناهم الله تعالى وأراد تعالى أن ينفذ فيهم
أحكام الجزاء، ويريهم من عدله وفضله وكثرة إحسانه، ما به يعرفونه
ويوحدونه، نقل المكلفين من دار الابتلاء والامتحان إلى دار الحيوان.




وفرغ حينئذ لتنفيذ هذه الأحكام، التي جاء وقتها، وهو المراد بقوله:




{ 31-32 } { سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلَانِ * فَبِأَيِّ آلَاءِ
رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ }




{ سَنَفْرُغُ لكم أيها الثقلان فبأي آلاء ربكما تكذبان }

أي: سنفرغ لحسابكم ومجازاتكم بأعمالكم التي عملتموها في دار الدنيا.




{ 33 } { يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ
تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا
تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ }




أي: إذا جمعهم الله في موقف القيامة، أخبرهم بعجزهم وضعفهم، وكمال
سلطانه، ونفوذ مشيئته وقدرته، فقال معجزا لهم:


{ يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا
مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ }

أي: تجدون منفذا مسلكا تخرجون به عن ملك الله وسلطانه،


{ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ }

أي: لا تخرجون عنه إلا بقوة وتسلط منكم، وكمال قدرة، وأنى لهم ذلك، وهم
لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا، ولا موتا ولا حياة ولا نشورا؟! ففي ذلك
الموقف لا يتكلم أحد إلا بإذنه، ولا تسمع إلا همسا، وفي ذلك الموقف يستوي
الملوك والمماليك، والرؤساء والمرءوسون، والأغنياء والفقراء.




{ 35-36 } { يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا
تَنْتَصِرَانِ * فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ }




ثم ذكر ما أعد لهم في ذلك الموقف العظيم فقال:


{ يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شواظ من نار [ونحاس فلا تنصران فبأي آلاء ربكما
تكذبان }

أي: يرسل عليكما] لهب صاف من النار.




{ ونحاس }

وهو اللهب، الذي قد خالطه الدخان، والمعنى أن هذين الأمرين الفظيعين
يرسلان عليكما يا معشر الجن والإنس، ويحيطان بكما فلا تنتصران، لا بناصر
من أنفسكم، ولا بأحد ينصركم من دون الله.




ولما كان تخويفه لعباده نعمة منه عليهم، وسوطا يسوقهم به إلى أعلى
المطالب وأشرف المواهب، امتن عليهم فقال:


{ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ }





{ 37 } { فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ
}




{ فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ }

[أي] يوم القيامة من شدة الأهوال، وكثرة البلبال، وترادف الأوجال،
فانخسفت شمسها وقمرها، وانتثرت نجومها،


{ فَكَانَتْ }

من شدة الخوف والانزعاج


{ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ }

أي: كانت كالمهل والرصاص المذاب ونحوه


{ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ
عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ }

أي: سؤال استعلام بما وقع، لأنه تعالى عالم الغيب والشهادة والماضي
والمستقبل، ويريد أن يجازي العباد بما علمه من أحوالهم، وقد جعل لأهل
الخير والشر يوم القيامة علامات يعرفون بها، كما قال تعالى:


{ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ }





{ 41 } { يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي
وَالْأَقْدَامِ }




وقال هنا:


{ يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي
وَالْأَقْدَامِ }

أي: فيؤخذ بنواصي المجرمين وأقدامهم، فيلقون في النار ويسحبون فيها،
وإنما يسألهم تعالى سؤال توبيخ وتقرير بما وقع منهم، وهو أعلم به منهم،
ولكنه تعالى يريد أن تظهر للخلق حجته البالغة، وحكمته الجليلة.

descriptionتفسيرالقران - صفحة 3 Emptyرد: تفسيرالقران

more_horiz
-
تفسير
سورة
ا
لرحمن
عدد آياتها
78

(
آية

42-78
)

وهي مكية




تاابع (2)


{ 43-45 } { هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ *
يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ * فَبِأَيِّ آلَاءِ
رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ }




أي: يقال للمكذبين بالوعد والوعيد حين تسعر الجحيم:


{ هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ }

فليهنهم تكذيبهم بها، وليذوقوا من عذابها ونكالها وسعيرها وأغلالها، ما
هو جزاء لتكذيبهم




{ يَطُوفُونَ بَيْنَهَا }

أي: بين أطباق الجحيم ولهبها


{ وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ }

أي: ماء حار جدا قد انتهى حره، وزمهرير قد اشتد برده وقره،


{ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ }

ولما ذكر ما يفعل بالمجرمين، ذكر جزاء المتقين الخائفين فقال:





{ 46-65 } { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ * فَبِأَيِّ
آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * ذَوَاتَا أَفْنَانٍ * فَبِأَيِّ آلَاءِ
رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ * فَبِأَيِّ
آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ
زَوْجَانِ * فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * مُتَّكِئِينَ
عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ
دَانٍ * فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ
الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ *
فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ
وَالْمَرْجَانُ * فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * هَلْ
جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ * فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا
تُكَذِّبَانِ * وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ * فَبِأَيِّ آلَاءِ
رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * مُدْهَامَّتَانِ * فَبِأَيِّ آلَاءِ
رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ }


إلى آخر السورة.




أي: وللذي خاف ربه وقيامه عليه، فترك ما نهى عنه، وفعل ما أمره به، له
جنتان من ذهب آنيتهما وحليتهما وبنيانهما وما فيهما، إحدى الجنتين جزاء
على ترك المنهيات، والأخرى على فعل الطاعات.




ومن أوصاف تلك الجنتين أنهما


{ ذَوَاتَا أَفْنَانٍ }

[أي: فيهما من ألوان النعيم المتنوعة نعيم الظاهر والباطن ما لا عين رأت
ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر] أن فيهما الأشجار الكثيرة الزاهرة
ذوات الغصون الناعمة، التي فيها الثمار اليانعة الكثيرة اللذيذة، أو
ذواتا أنواع وأصناف من جميع أصناف النعيم وأنواعه جمع فن، أي: صنف.




وفي تلك الجنتين


{ عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ }

يفجرونها على ما يريدون ويشتهون.




{ فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ }

من جميع أصناف الفواكه


{ زَوْجَانِ }

أي: صنفان، كل صنف له لذة ولون، ليس للنوع الآخر.




{ مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ }

هذه صفة فرش أهل الجنة وجلوسهم عليها، وأنهم متكئون عليها، [أي:] جلوس
تمكن واستقرار [وراحة]، كجلوس من الملوك على الأسرة، وتلك الفرش، لا يعلم
وصفها وحسنها إلا الله عز وجل، حتى إن بطائنها التي تلي الأرض منها، من
إستبرق، وهو أحسن الحرير وأفخره، فكيف بظواهرها التي تلي بشرتهم؟!


{ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ }

الجنى هو الثمر المستوي أي: وثمر هاتين الجنتين قريب التناول، يناله
القائم والقاعد والمضطجع.




{ فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ }

أي: قد قصرن طرفهن على أزواجهن، من حسنهم وجمالهم، وكمال محبتهن لهم،
وقصرن أيضا طرف أزواجهن عليهن، من حسنهن وجمالهن ولذة وصالهن،


{ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ }

أي: لم ينلهن قبلهم أحد من الإنس والجن، بل هن أبكار عرب، متحببات إلى
أزواجهن، بحسن التبعل والتغنج والملاحة والدلال، ولهذا قال:




{ كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ }

وذلك لصفائهن وجمال منظرهن وبهائهن.




{ هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ }

أي: هل جزاء من أحسن في عبادة الخالق ونفع عبيده، إلا أن يحسن إليه
بالثواب الجزيل، والفوز الكبير، والنعيم المقيم، والعيش السليم، فهاتان
الجنتان العاليتان للمقربين.




{ وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ }

من فضة بنيانهما وآنيتهما وحليتهما وما فيهما لأصحاب اليمين.




وتلك الجنتان


{ مُدْهَامَّتَانِ }

أي: سوداوان من شدة الخضرة التي هي أثر الري.







{ 66 } { فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ }




أي: فوارتان.




{ فِيهِمَا فَاكِهَةٌ }

من جميع أصناف الفواكه، وأخصها النخل والرمان، اللذان فيهما من المنافع
ما فيهما.




{ فِيهِنَّ }

أي: في الجنات كلها


{ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ }

أي: خيرات الأخلاق حسان الأوجه، فجمعن بين جمال الظاهر والباطن، وحسن
الخلق والخلق.




{ حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ }

أي: محبوسات في خيام اللؤلؤ، قد تهيأن وأعددن أنفسهن لأزواجهن، ولا ينفي
ذلك خروجهن في البساتين ورياض الجنة، كما جرت العادة لبنات الملوك ونحوهن
[المخدرات] الخفرات.




{ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ فَبِأَيِّ آلَاءِ
رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ }

أي: أصحاب هاتين الجنتين، متكأهم على الرفرف الأخضر، وهي الفرش التي فوق
المجالس العالية، التي قد زادت على مجالسهم، فصار لها رفرفة من وراء
مجالسهم، لزيادة البهاء وحسن المنظر،


{ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ }

العبقري: نسبة لكل منسوج نسجا حسنا فاخرا، ولهذا وصفها بالحسن الشامل،
لحسن الصنعة وحسن المنظر، ونعومة الملمس، وهاتان الجنتان دون الجنتين
الأوليين، كما نص الله على ذلك بقوله:


{ وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ }

وكما وصف الأوليين بعدة أوصاف لم يصف بها الأخريين، فقال في الأوليين:


{ فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ }

وفي الأخريين:


{ عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ }

ومن المعلوم الفرق بين الجارية والنضاخة.




وقال في الأوليين:


{ ذَوَاتَا أَفْنَانٍ }

ولم يقل ذلك في الأخريين. وقال في الأوليين:


{ فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ }

وفي الأخريين


{ فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ }

وقد علم ما بين الوصفين من التفاوت.




وقال في الأوليين:


{ مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى
الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ }

ولم يقل ذلك في الأخيرتين، بل قال:


{ مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ }





وقال في الأوليين، في وصف نسائهم وأزواجهم:


{ فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان }

وقال في الأخريين:


{ حور مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ }

وقد علم التفاوت بين ذلك.




وقال في الأوليين


{ هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ }

فدل ذلك أن الأوليين جزاء المحسنين، ولم يقل ذلك في الأخريين.




ومجرد تقديم الأوليين على الأخريين، يدل على فضلهما.




فبهذه الأوجه يعرف فضل الأوليين على الأخريين، وأنهما معدتان للمقربين من
الأنبياء، والصديقين، وخواص عباد الله الصالحين، وأن الأخريين معدتان
لعموم المؤمنين، وفي كل من الجنات [المذكورات] ما لا عين رأت، ولا أذن
سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وفيهن ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، وأهلها
في غاية الراحة والرضا والطمأنينة وحسن المأوى، حتى إن كلا منهم لا يرى
أحدا أحسن حالا منه، ولا أعلى من نعيمه [الذي هو فيه].




ولما ذكر سعة فضله وإحسانه، قال:


{ تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ }

أي: تعاظم وكثر خيره، الذي له الجلال الباهر، والمجد الكامل، والإكرام
لأوليائه.




تم تفسير سورة الرحمن، ولله الحمد والشكر والثناء الحسن.

descriptionتفسيرالقران - صفحة 3 Emptyرد: تفسيرالقران

more_horiz
-
تفسير
سورة
ا
لقمر
عدد آياتها
55

(



آية



1-22
)
وهي مكية






{ 1-5 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ
وَانْشَقَّ الْقَمَرُ * وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا
سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ * وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ
أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ * وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ
مُزْدَجَرٌ * حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ }




يخبر تعالى أن الساعة وهي القيامة اقتربت وآن أوانها، وحان وقت مجيئها،
ومع ذلك، فهؤلاء المكذبون لم يزالوا مكذبين بها، غير مستعدين لنزولها،
ويريهم الله من الآيات العظيمة الدالة على وقوعها ما يؤمن على مثله
البشر، فمن أعظم الآيات الدالة على صحة ما جاء به محمد بن عبد الله صلى
الله عليه وسلم، أنه لما طلب منه المكذبون أن يريهم من خوارق العادات ما
يدل على [صحة ما جاء به و] صدقه، أشار صلى الله عليه وسلم إلى القمر بإذن
الله تعالى، فانشق فلقتين، فلقة على جبل أبي قبيس، وفلقة على جبل
قعيقعان، والمشركون وغيرهم يشاهدون هذه الآية الكبرى الكائنة في العالم
العلوي، التي لا يقدر الخلق على التمويه بها والتخييل.




فشاهدوا أمرا ما رأوا مثله، بل ولم يسمعوا أنه جرى لأحد من المرسلين قبله
نظيره، فانبهروا لذلك، ولم يدخل الإيمان في قلوبهم، ولم يرد الله بهم
خيرا، ففزعوا إلى بهتهم وطغيانهم، وقالوا: سحرنا محمد، ولكن علامة ذلك
أنكم تسألون من قدم إليكم من السفر، فإنه وإن قدر على سحركم، لا يقدر
أن يسحر من ليس مشاهدا مثلكم، فسألوا كل من قدم، فأخبرهم بوقوع ذلك،
فقالوا:


{ سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ }

سحرنا محمد وسحر غيرنا، وهذا من البهت، الذي لا يروج إلا على أسفه الخلق
وأضلهم عن الهدى والعقل، وهذا ليس إنكارا منهم لهذه الآية وحدها، بل كل
آية تأتيهم، فإنهم مستعدون لمقابلتها بالباطل والرد لها، ولهذا قال:


{ وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا }

ولم يعد الضمير على انشقاق القمر فلم يقل: وإن يروها بل قال:


{ وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا }

وليس قصدهم اتباع الحق والهدى، وإنما قصدهم اتباع الهوى، ولهذا قال:


{ وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ }

كقوله تعالى:


{ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ
أَهْوَاءَهُمْ }

فإنه لو كان قصدهم اتباع الهدى، لآمنوا قطعا، واتبعوا محمدا صلى الله
عليه وسلم، لأنه أراهم الله على يديه من البينات والبراهين والحجج
القواطع، ما دل على جميع المطالب الإلهية، والمقاصد الشرعية،


{ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ }

أي: إلى الآن، لم يبلغ الأمر غايته ومنتهاه، وسيصير الأمر إلى آخره،
فالمصدق يتقلب في جنات النعيم، ومغفرة الله ورضوانه، والمكذب يتقلب في
سخط الله وعذابه، خالدا مخلدا أبدا.




وقال تعالى -مبينا أنهم ليس لهم قصد صحيح، ولا اتباع للهدى-:


{ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ }

أي: الأخبار السابقة واللاحقة والمعجزات الظاهرة


{ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ }

أي: زاجر يزجرهم عن غيهم وضلالهم، وذلك


{ حِكْمَةٌ }

منه تعالى


{ بَالِغَةٌ }

أي: لتقوم حجته على المخالفين ولا يبقى لأحد على الله حجة بعد الرسل،


{ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ }

كقوله تعالى:


{ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ لا يؤمنوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ
الْأَلِيمَ }








{ 6-8 }



{ فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُو الدَّاعِي إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ *
خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ
جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ * مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِي يَقُولُ الْكَافِرُونَ
هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ }





يقول تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: قد بان أن المكذبين لا حيلة في
هداهم، فلم يبق إلا الإعراض عنهم والتولي عنهم، [فقال:]


{ فَتَوَلَّ عَنْهُمْ }

وانتظر بهم يوما عظيما وهولا جسيما، وذلك حين


{ يدعو الداع }

إسرافيل عليه السلام


{ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ }

أي: إلى أمر فظيع تنكره الخليقة، فلم تر منظرا أفظع ولا أوجع منه، فينفخ
إسرافيل نفخة، يخرج بها الأموات من قبورهم لموقف القيامة




{ خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ }

أي: من الهول والفزع الذي وصل إلى قلوبهم، فخضعت وذلت، وخشعت لذلك
أبصارهم.




{ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ }

وهي القبور،


{ كَأَنَّهُمْ }

من كثرتهم، وروجان بعضهم ببعض


{ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ }

أي: مبثوث في الأرض، متكاثر جدا،


{ مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ }

أي: مسرعين لإجابة النداء الداعي وهذا يدل على أن الداعي يدعوهم ويأمرهم
بالحضور لموقف القيامة، فيلبون دعوته، ويسرعون إلى إجابته،


{ يَقُولُ الْكَافِرُونَ }

الذين قد حضر عذابهم:


{ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ }

كما قال تعالى


{ على الكافرين غير يسير }

[مفهوم ذلك أنه يسير سهل على المؤمنين]







{ 9-17 } { كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا
وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ * فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ
فَانْتَصِرْ * فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ *
وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ
قُدِرَ * وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ * تَجْرِي
بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ * وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا
آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ * فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ *
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ }




لما ذكر تبارك وتعالى حال المكذبين لرسوله، وأن الآيات لا تنفع فيهم، ولا
تجدي عليهم شيئا، أنذرهم وخوفهم بعقوبات الأمم الماضية المكذبة للرسل،
وكيف أهلكهم الله وأحل بهم عقابه.




فذكر قوم نوح، أول رسول بعثه الله إلى قوم يعبدون الأصنام، فدعاهم إلى
توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له، فامتنعوا من ترك الشرك وقالوا:


{ لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا
وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا }





ولم يزل نوح يدعوهم إلى الله ليلا ونهارا، وسرا وجهارا، فلم يزدهم ذلك
إلا عنادا وطغيانا، وقدحا في نبيهم، ولهذا قال هنا:


{ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ }

لزعمهم أن ما هم عليه وآباؤهم من الشرك والضلال هو الذي يدل عليه العقل،
وأن ما جاء به نوح عليه الصلاة والسلام جهل وضلال، لا يصدر إلا من
المجانين، وكذبوا في ذلك، وقلبوا الحقائق الثابتة شرعا وعقلا، فإن ما جاء
به هو الحق الثابت، الذي يرشد العقول النيرة المستقيمة، إلى الهدى والنور
والرشد، وما هم عليه جهل وضلال مبين، [وقوله:]


{ وَازْدُجِرَ }

أي: زجره قومه وعنفوه عندما دعاهم إلى الله تعالى، فلم يكفهم -قبحهم
الله- عدم الإيمان به، ولا تكذيبهم إياه، حتى أوصلوا إليه من أذيتهم ما
قدروا عليه، وهكذا جميع أعداء الرسل، هذه حالهم مع أنبيائهم.




فعند ذلك دعا نوح ربه [فقال:]


{ أَنِّي مَغْلُوبٌ }

لا قدرة لي على الانتصار منهم، لأنه لم يؤمن من قومه إلا القليل النادر،
ولا قدرة لهم على مقاومة قومهم،


{ فَانْتَصِرْ }

اللهم لي منهم، وقال في الآية الأخرى:


{ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا }

الآيات




فأجاب الله سؤاله، وانتصر له من قومه، قال تعالى:


{ فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ }

أي: كثير جدا متتابع




{ وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا }

فجعلت السماء ينزل منها من الماء شيء خارق للعادة، وتفجرت الأرض كلها،
حتى التنور الذي لم تجر العادة بوجود الماء فيه، فضلا عن كونه منبعا
للماء، لأنه موضع النار.




{ فَالْتَقَى الْمَاءُ }

أي: ماء السماء والأرض


{ عَلَى أَمْرٍ }

من الله له بذلك،


{ قَدْ قُدِرَ }

أي: قد كتبه الله في الأزل وقضاه، عقوبة لهؤلاء الظالمين الطاغين




{ وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ }

أي: ونجينا عبدنا نوحا على السفينة ذات الألواح والدسر أي: المسامير
[التي] قد سمرت [بها] ألواحها وشد بها أسرها




{ تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا }

أي: تجري بنوح ومن آمن معه، ومن حمله من أصناف المخلوقات برعاية من الله،
وحفظ [منه] لها عن الغرق [ونظر]، وكلائه منه تعالى، وهو نعم الحافظ
الوكيل،


{ جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ }

أي: فعلنا بنوح ما فعلنا من النجاة من الغرق العام، جزاء له حيث كذبه
قومه وكفروا به فصبر على دعوتهم، واستمر على أمر الله، فلم يرده عنه راد،
ولا صده عنه صاد، كما قال [تعالى] عنه في الآية الأخرى:


{ قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ
وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ }

الآية.




ويحتمل أن المراد: أنا أهلكنا قوم نوح، وفعلنا بهم ما فعلنا من العذاب
والخزي، جزاء لهم على كفرهم وعنادهم، وهذا متوجه على قراءة من قرأها بفتح
الكاف




{ وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ }

أي: ولقد تركنا قصة نوح مع قومه آية يتذكر بها المتذكرون، على أن من عصى
الرسل وعاندهم أهلكه الله بعقاب عام شديد، أو أن الضمير يعود إلى السفينة
وجنسها، وأن أصل صنعتها تعليم




من الله لعبده نوح عليه السلام، ثم أبقى الله تعالى صنعتها وجنسها بين
الناس ليدل ذلك على رحمته بخلقه وعنايته، وكمال قدرته، وبديع صنعته،


{ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ }

؟ أي: فهل من متذكر للآيات، ملق ذهنه وفكرته لما يأتيه منها، فإنها في
غاية البيان واليسر؟




{ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ }

أي: فكيف رأيت أيها المخاطب عذاب الله الأليم وإنذاره الذي لا يبقي لأحد
عليه حجة.




{ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ }

أي: ولقد يسرنا وسهلنا هذا القرآن الكريم، ألفاظه للحفظ والأداء، ومعانيه
للفهم والعلم، لأنه أحسن الكلام لفظا، وأصدقه معنى، وأبينه تفسيرا، فكل
من أقبل عليه يسر الله عليه مطلوبه غاية التيسير، وسهله عليه، والذكر
شامل لكل ما يتذكر به العاملون من الحلال والحرام، وأحكام الأمر والنهي،
وأحكام الجزاء والمواعظ والعبر، والعقائد النافعة والأخبار الصادقة،
ولهذا كان علم القرآن حفظا وتفسيرا، أسهل العلوم، وأجلها على الإطلاق،
وهو العلم النافع الذي إذا طلبه العبد أعين عليه، قال بعض السلف عند هذه
الآية: هل من طالب علم فيعان [عليه]؟ ولهذا يدعو الله عباده إلى الإقبال
عليه والتذكر بقوله:


{ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ }








{ 18-22 } { كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ * إِنَّا
أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ
* تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ * فَكَيْفَ
كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ * وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ
فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ }




{ وعاد }

هي القبيلة المعروفة باليمن، أرسل الله إليهم هودا عليه السلام يدعوهم
إلى توحيد الله وعبادته، فكذبوه، فأرسل الله عليهم


{ رِيحًا صَرْصَرًا }

أي: شديدة جدا،


{ فِي يَوْمِ نَحْسٍ }

أي: شديد العذاب والشقاء عليهم،


{ مُسْتَمِرٍّ }

عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما.




{ تَنْزِعُ النَّاسَ }

من شدتها، فترفعهم إلى جو السماء، ثم تدفعهم بالأرض فتهلكهم، فيصبحون


{ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ }

أي: كأن جثثهم بعد هلاكهم مثل جذوع النخل الخاوي الذي أصابته الريح فسقط
على الأرض، فما أهون الخلق على الله إذا عصوا أمره




{ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ }

كان [والله] العذاب الأليم، والنذارة التي ما أبقت لأحد عليه حجة،


{ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ }

كرر تعالى ذلك رحمة بعباده وعناية بهم، حيث دعاهم إلى ما يصلح دنياهم
وأخراهم.

descriptionتفسيرالقران - صفحة 3 Emptyرد: تفسيرالقران

more_horiz
-
تفسير
سورة
ا
لقمر
عدد آياتها
55

(
آية
2
3-55
)

وهي مكية
تابع (
2)






{ 23-32 } { كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ * فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا
وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ * أَؤُلْقِيَ
الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ *
سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ * إِنَّا مُرْسِلُو
النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ *وَنَبِّئْهُمْ
أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ *
فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ * فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي
وَنُذُرِ * إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا
كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ * وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ
فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ }





أي كذبت ثمود وهم القبيلة المعروفة المشهورة في أرض الحجر، نبيهم




صالحا عليه السلام، حين دعاهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وأنذرهم
العقاب إن هم خالفوه




فكذبوه واستكبروا عليه، وقالوا -كبرا وتيها-:


{ أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ }

أي: كيف نتبع بشرا، لا ملكا منا، لا من غيرنا، ممن هو أكبر عند الناس
منا، ومع ذلك فهو شخص واحد


{ إِنَّا إِذًا }

أي: إن اتبعناه وهو بهذه الحال


{ لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ }

أي: إنا لضالون أشقياء، وهذا الكلام من ضلالهم وشقائهم، فإنهم أنفوا أن
يتبعوا رسولا من البشر، ولم يأنفوا أن يكونوا عابدين للشجر والحجر
والصور.




{ أَؤُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا }

أي: كيف يخصه الله من بيننا وينزل عليه الذكر؟ فأي مزية خصه من بيننا؟
وهذا اعتراض من المكذبين على الله، لم يزالوا يدلون به، ويصولون ويجولون
ويردون به دعوة الرسل، وقد أجاب الله عن هذه الشبهة بقول الرسل لأممهم:


{ قالت رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده }

فالرسل من الله عليهم بصفات وأخلاق وكمالات، بها صلحوا لرسالات ربهم
والاختصاص بوحيه،




ومن رحمته وحكمته أن كانوا من البشر، فلو كانوا من الملائكة لم يمكن
البشر، أن يتلقوا عنهم، ولو جعلهم من الملائكة لعاجل الله المكذبين لهم
بالعقاب العاجل.




والمقصود بهذا الكلام الصادر من ثمود لنبيهم صالح، تكذيبه، ولهذا حكموا
عليه بهذا الحكم الجائر، فقالوا:


{ بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ }

أي: كثير الكذب والشر،




فقبحهم الله ما أسفه أحلامهم وأظلمهم، وأشدهم مقابلة للصادقين الناصحين
بالخطاب الشنيع، لا جرم عاقبهم الله حين اشتد طغيانهم




فأرسل الله الناقة التي هي من أكبر النعم عليهم، آية من آيات الله، ونعمة
يحتلبون من ضرعها ما يكفيهم أجمعين،


{ فِتْنَةً لَهُمْ }

أي: اختبارا منه لهم وامتحانا


{ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ }

أي: اصبر على دعوتك إياهم، وارتقب ما يحل بهم، أو ارتقب هل يؤمنون أو
يكفرون؟




{ وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ }

أي: وأخبرهم أن الماء أي: موردهم الذي يستعذبونه، قسمة بينهم وبين
الناقة، لها شرب يوم ولهم شرب يوم آخر معلوم،


{ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ }

أي: يحضره من كان قسمته، ويحظر على من ليس بقسمة له.




{ فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ }

الذي باشر عقرها، الذي هو أشقى القبيلة


{ فَتَعَاطَى }

أي: انقاد لما أمروه به من عقرها


{ فَعَقَرَ }





{ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ }

كان أشد عذاب، أرسل الله عليهم صيحة ورجفة أهلكتهم عن آخرهم، ونجى الله
صالحا ومن آمن معه


{ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ }








{ 33-40 } { كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ * إِنَّا أَرْسَلْنَا
عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ *
نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ * وَلَقَدْ
أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ * وَلَقَدْ
رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي
وَنُذُرِ * وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ *
فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ * وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ
لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ }




أي:


{ كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ }

لوطا عليه السلام، حين دعاهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، ونهاهم عن
الشرك والفاحشة التي ما سبقهم بها أحد من العالمين،




فكذبوه واستمروا على شركهم وقبائحهم، حتى إن الملائكة الذين جاءوه بصورة
أضياف حين سمع بهم قوم لوط، جاؤوهم مسرعين، يريدون إيقاع الفاحشة فيهم،
لعنهم الله وقبحهم، وراودوه عنهم،




فأمر الله جبريل عليه السلام، فطمس أعينهم بجناحه، وأنذرهم نبيهم بطشة
الله وعقوبته


{ فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ }



{ وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ }

قلب الله عليهم ديارهم، وجعل أسفلها أعلاها، وتتبعهم بحجارة من سجيل
منضود، مسومة عند ربك للمسرفين، ونجى الله لوطا وأهله من الكرب العظيم،
جزاء لهم على شكرهم لربهم، وعبادته وحده لا شريك له.







{ 41-55 } { وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ * كَذَّبُوا
بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ *
أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي
الزُّبُرِ * أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ * سَيُهْزَمُ
الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ * بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ
وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ * إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ
وَسُعُرٍ * يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا
مَسَّ سَقَرَ * إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ * وَمَا
أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ * وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا
أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ * وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي
الزُّبُرِ * وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ * إِنَّ الْمُتَّقِينَ
فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ
}





أي:


{ وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ }

أي: فرعون وقومه


{ النُّذُرُ }

فأرسل الله إليهم موسى الكليم، وأيده بالآيات الباهرات، والمعجزات
القاهرات وأشهدهم من العبر ما لم يشهد عليه أحدا غيرهم فكذبوا بآيات
الله كلها، فأخذهم أخذ عزيز مقتدر، فأغرقهم في اليم هو وجنوده والمراد
من ذكر هذه القصص تحذير [الناس و] المكذبين لمحمد صلى الله عليه وسلم،
ولهذا قال:


{ أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ }

أي: هؤلاء الذين كذبوا أفضل الرسل، خير من أولئك المكذبين، الذين ذكر
الله هلاكهم وما جرى عليهم؟ فإن كانوا خيرا منهم، أمكن أن ينجوا من
العذاب، ولم يصبهم ما أصاب أولئك الأشرار، وليس الأمر كذلك، فإنهم إن لم
يكونوا شرا منهم، فليسوا بخير منهم،


{ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ }

أي: أم أعطاكم الله عهدا وميثاقا في الكتب التي أنزلها على الأنبياء،
فتعتقدون حينئذ أنكم الناجون بإخبار الله ووعده؟ وهذا غير واقع، بل غير
ممكن عقلا وشرعا، أن تكتب براءتهم في الكتب الإلهية المتضمنة للعدل
والحكمة، فليس من الحكمة نجاة أمثال هؤلاء المعاندين المكذبين، لأفضل
الرسل وأكرمهم على الله، فلم يبق إلا أن يكون بهم قوة ينتصرون بها،




فأخبر تعالى أنهم يقولون:


{ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ }

قال تعالى مبينا لضعفهم، وأنهم مهزومون:


{ سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ }

فوقع كما أخبر، هزم الله جمعهم الأكبر يوم بدر، وقتل من صناديدهم
وكبرائهم ما ذلوا به ونصر الله دينه ونبيه وحزبه المؤمنين.




ومع ذلك، فلهم موعد يجمع به أولهم وآخرهم، ومن أصيب في الدنيا منهم، ومن
متع بلذاته، ولهذا قال:


{ بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ }

الذي يحازون به، ويؤخذ منهم الحق بالقسط،


{ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ }

أي: أعظم وأشق، وأكبر من كل ما يتوهم، أو يدور بالبال




{ إِنَّ الْمُجْرِمِينَ }

أي: الذين أكثروا من فعل الجرائم، وهي الذنوب العظيمة من الشرك وغيره، من
المعاصي


{ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ }

أي: هم ضالون في الدنيا، ضلال عن العلم، وضلال عن العمل، الذي ينجيهم من
العذاب، ويوم القيامة في العذاب الأليم، والنار التي تتسعر بهم، وتشتعل
في أجسامهم، حتى تبلغ أفئدتهم.




{ يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ }

التي هي أشرف ما بهم من الأعضاء، وألمها أشد من ألم غيرها، فيهانون بذلك
ويخزون، ويقال لهم:




{ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ }

أي: ذوقوا ألم النار وأسفها وغيظها ولهبها.




{ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ }

وهذا شامل للمخلوقات والعوالم العلوية والسفلية، أن الله تعالى وحده
خلقها لا خالق لها سواه، ولا مشارك له في خلقها




وخلقها بقضاء سبق به علمه، وجرى به قلمه، بوقتها ومقدارها، وجميع ما
اشتملت عليه من الأوصاف، وذلك على الله يسير، فلهذا قال:


{ وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ }

فإذا أراد شيئا قال له كن فيكون كما أراد، كلمح البصر، من غير ممانعة ولا
صعوبة.




{ وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ }

من الأمم السابقين الذين عملوا كما عملتم، وكذبوا كما كذبتم


{ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ }

أي: متذكر يعلم أن سنة الله في الأولين والآخرين واحدة، وأن حكمته كما
اقتضت إهلاك أولئك الأشرار، فإن هؤلاء مثلهم، ولا فرق بين الفريقين.




{ وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ }

أي: كل ما فعلوه من خير وشر مكتوب




عليهم في الكتب القدرية


{ وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ }

أي: مسطر مكتوب،




وهذا حقيقة القضاء والقدر، وأن جميع الأشياء كلها، قد علمها الله تعالى،
وسطرها عنده في اللوح المحفوظ، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، فما
أصاب الإنسان لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه.




{ إِنَّ الْمُتَّقِينَ }

لله، بفعل أوامره وترك نواهيه، الذين اتقوا الشرك والكبائر والصغائر.




{ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ }

أي: في جنات النعيم، التي فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على
قلب بشر، من الأشجار اليانعة، والأنهار الجارية، والقصور الرفيعة،
والمنازل الأنيقة، والمآكل والمشارب اللذيذة، والحور الحسان، والروضات
البهية في الجنان، ورضوان الملك الديان، والفوز بقربه، ولهذا قال:


{ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ }

فلا تسأل بعد هذا عما يعطيهم ربهم من كرامته وجوده، ويمدهم به من إحسانه
ومنته، جعلنا الله منهم، ولا حرمنا خير ما عنده بشر ما عندنا.




تم تفسير سورة القمر، ولله الحمد والشكر

descriptionتفسيرالقران - صفحة 3 Emptyرد: تفسيرالقران

more_horiz
-
تفسير
سورة
ا
لنجم
عدد آياتها
62

(



آية


1-32
)

وهي مكية






{ 1-18 }



{ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا
ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ
هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ
فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى *
فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا
أَوْحَى * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا
يَرَى * وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى
* عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى
* مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ
الْكُبْرَى }




يقسم تعالى بالنجم عند هويه أي: سقوطه في الأفق في آخر الليل عند إدبار
الليل وإقبال النهار، لأن في ذلك من آيات الله العظيمة، ما أوجب أن أقسم
به، والصحيح أن النجم، اسم جنس شامل للنجوم كلها، وأقسم بالنجوم على صحة
ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من الوحي الإلهي، لأن في ذلك مناسبة
عجيبة، فإن الله تعالى جعل النجوم زينة للسماء، فكذلك الوحي وآثاره زينة
للأرض، فلولا العلم الموروث عن الأنبياء، لكان الناس في ظلمة أشد من
الليل البهيم.




والمقسم عليه، تنزيه الرسول صلى الله عليه وسلم عن الضلال في علمه، والغي
في قصده، ويلزم من ذلك أن يكون مهتديا في علمه، هاديا، حسن القصد، ناصحا
للأمة بعكس ما عليه أهل الضلال من فساد العلم، وفساد القصد




وقال


{ صَاحِبُكُمْ }

لينبههم على ما يعرفونه منه، من الصدق والهداية، وأنه لا يخفى عليهم
أمره،


{ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى }

أي: ليس نطقه صادرا عن هوى نفسه




{ إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى }

أي: لا يتبع إلا ما أوحى الله إليه من الهدى والتقوى، في نفسه وفي غيره.




ودل هذا على أن السنة وحي من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم، كما قال
تعالى:


{ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ }

وأنه معصوم فيما يخبر به عن الله تعالى وعن شرعه، لأن كلامه لا يصدر عن
هوى، وإنما يصدر عن وحي يوحى.




ثم ذكر المعلم للرسول صلى الله عليه وسلم، وهو جبريل [عليه السلام]، أفضل
الملائكة [الكرام] وأقواهم وأكملهم، فقال:


{ عَلَّمَهُ [شَدِيدُ الْقُوَى] }

أي: نزل بالوحي على الرسول صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام،


{ شديد القوى }

أي: شديد القوة الظاهرة والباطنة، قوي على تنفيذ ما أمره الله بتنفيذه،
قوي على إيصال الوحي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، ومنعه من اختلاس
الشياطين له، أو إدخالهم فيه ما ليس منه، وهذا من حفظ الله لوحيه، أن
أرسله مع هذا الرسول القوي الأمين.




{ ذُو مِرَّةٍ }

أي: قوة، وخلق حسن، وجمال ظاهر وباطن.




{ فَاسْتَوَى }

جبريل عليه السلام


{ وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى }

أي: أفق السماء الذي هو أعلى من الأرض، فهو من الأرواح العلوية، التي لا
تنالها الشياطين ولا يتمكنون من الوصول إليها.




{ ثُمَّ دَنَا }

جبريل من النبي صلى الله عليه وسلم، لإيصال الوحي إليه.


{ فَتَدَلَّى }

عليه من الأفق الأعلى


{ فَكَانَ }

في قربه منه


{ قَابَ قَوْسَيْنِ }

أي: قدر قوسين، والقوس معروف،


{ أَوْ أَدْنَى }

أي: أقرب من القوسين، وهذا يدل على كمال المباشرة للرسول صلى الله عليه
وسلم بالرسالة، وأنه لا واسطة بينه وبين جبريل عليه السلام.




{ فَأَوْحَى }

الله بواسطة جبريل عليه السلام


{ إِلَى عَبْدِهِ }

محمد صلى الله عليه وسلم


{ مَا أَوْحَى }

أي: الذي أوحاه إليه من الشرع العظيم، والنبأ المستقيم.




{ مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى }

أي: اتفق فؤاد الرسول صلى الله عليه وسلم ورؤيته على الوحي الذي أوحاه
الله إليه، وتواطأ عليه سمعه وقلبه وبصره، وهذا دليل على كمال الوحي الذي
أوحاه الله إليه، وأنه تلقاه منه تلقيا لا شك فيه ولا شبهة ولا ريب، فلم
يكذب فؤاده ما رأى بصره، ولم يشك بذلك. ويحتمل أن المراد بذلك ما رأى صلى
الله عليه وسلم ليلة أسري به، من آيات الله العظيمة، وأنه تيقنه حقا
بقلبه ورؤيته، هذا [هو] الصحيح في تأويل الآية الكريمة، وقيل: إن المراد
بذلك رؤية الرسول صلى الله عليه وسلم لربه ليلة الإسراء، وتكليمه إياه،
وهذا اختيار كثير من العلماء رحمهم الله، فأثبتوا بهذا رؤية الرسول صلى
الله عليه وسلم لربه في الدنيا، ولكن الصحيح القول الأول، وأن المراد به
جبريل عليه السلام، كما يدل عليه السياق، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم
رأى جبريل في صورته الأصلية [التي هو عليها] مرتين، مرة في الأفق الأعلى،
تحت السماء الدنيا كما تقدم، والمرة الثانية فوق السماء السابعة ليلة
أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال:


{ وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى }

أي: رأى محمد جبريل مرة أخرى، نازلا إليه.




{ عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى }

وهي شجرة عظيمة جدا، فوق السماء السابعة، سميت سدرة المنتهى، لأنه ينتهي
إليها ما يعرج من الأرض، وينزل إليها ما ينزل من الله، من الوحي وغيره،
أو لانتهاء علم الخلق إليها أي: لكونها فوق السماوات والأرض، فهي
المنتهى في علوها أو لغير ذلك، والله أعلم.




فرأى محمد صلى الله عليه وسلم جبريل في ذلك المكان، الذي هو محل الأرواح
العلوية الزاكية الجميلة، التي لا يقربها شيطان ولا غيره من الأرواح
الخبيثة.




عند تلك الشجرة


{ جَنَّةُ الْمَأْوَى }

أي: الجنة الجامعة لكل نعيم، بحيث كانت محلا تنتهي إليه الأماني، وترغب
فيه الإرادات، وتأوي إليها الرغبات، وهذا دليل على أن الجنة في أعلى
الأماكن، وفوق السماء السابعة.




{ إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى }

أي: يغشاها من أمر الله، شيء عظيم لا يعلم وصفه إلا الله عز وجل.




{ مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى }

أي: ما زاغ يمنة ولا يسرة عن مقصوده


{ وَمَا طَغَى }

أي: وما تجاوز البصر، وهذا كمال الأدب منه صلوات الله وسلامه عليه، أن
قام مقاما أقامه الله فيه، ولم يقصر عنه ولا تجاوزه ولا حاد عنه،




وهذا أكمل ما يكون من الأدب العظيم، الذي فاق فيه الأولين والآخرين، فإن
الإخلال يكون بأحد هذه الأمور: إما أن لا يقوم العبد بما أمر به، أو يقوم
به على وجه التفريط، أو على وجه الإفراط، أو على وجه الحيدة يمينا
وشمالا، وهذه الأمور كلها منتفية عنه صلى الله عليه وسلم.




{ لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى }

من الجنة والنار، وغير ذلك من الأمور التي رآها صلى الله عليه وسلم ليلة
أسري به.







{ 19-25 }



{ أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ
الْأُخْرَى * أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى * تِلْكَ إِذًا
قِسْمَةٌ ضِيزَى * إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ
وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ
يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ
جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى * أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى *
فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى }





لما ذكر تعالى ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من الهدى ودين الحق،
والأمر بعبادة الله وتوحيده، ذكر بطلان ما عليه المشركون من عبادة من ليس
له من أوصاف الكمال شيء، ولا تنفع ولا تضر، وإنما هي أسماء فارغة عن
المعنى، سماها المشركون هم وآباؤهم الجهال الضلال، ابتدعوا لها من
الأسماء الباطلة التي لا تستحقها، فخدعوا بها أنفسهم وغيرهم من الضلال،
فالآلهة التي بهذه الحال، لا تستحق مثقال ذرة من العبادة، وهذه الأنداد
التي سموها بهذه الأسماء، زعموا أنها مشتقة من أوصاف هي متصفة بها، فسموا
"اللات" من "الإله" المستحق للعبادة، و"العزى" من "العزيز" و "مناة" من
"المنان" إلحادا في أسماء الله وتجريا على الشرك به، وهذه أسماء متجردة
عن المعاني، فكل من له أدنى مسكة من عقل، يعلم بطلان هذه الأوصاف فيها.




{ أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى }

أي: أتجعلون لله البنات بزعمكم، ولكم البنون؟.




{ تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى }

أي: ظالمة جائرة، [وأي ظلم أعظم من قسمة] تقتضي تفضيل العبد المخلوق على
الخالق؟ [تعالى عن قولهم علوا كبيرا].




وقوله:


{ إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا
أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ }

أي: من حجة وبرهان على صحة مذهبكم، وكل أمر ما أنزل الله به من سلطان،
فهو باطل فاسد، لا يتخذ دينا، وهم -في أنفسهم- ليسوا بمتبعين لبرهان،
يتيقنون به ما ذهبوا إليه، وإنما دلهم على قولهم، الظن الفاسد، والجهل
الكاسد، وما تهواه أنفسهم من الشرك، والبدع الموافقة لأهويتهم، والحال
أنه لا موجب لهم يقتضي اتباعهم الظن، من فقد العلم والهدى، ولهذا قال
تعالى:


{ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى }

أي: الذي يرشدهم في باب التوحيد والنبوة، وجميع المطالب التي يحتاج إليها
العباد، فكلها قد بينها الله أكمل بيان وأوضحه، وأدله على المقصود، وأقام
عليه من الأدلة والبراهين، ما يوجب لهم ولغيرهم اتباعه، فلم يبق لأحد عذر
ولا حجة من بعد البيان والبرهان، وإذا كان ما هم عليه، غايته اتباع الظن،
ونهايته الشقاء الأبدي والعذاب السرمدي، فالبقاء على هذه الحال، من أسفه
السفه، وأظلم الظلم، ومع ذلك يتمنون الأماني، ويغترون بأنفسهم.




ولهذا أنكر تعالى على من زعم أنه يحصل له ما تمنى وهو كاذب في ذلك، فقال:


{ أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى }

فيعطي منهما من يشاء، ويمنع من يشاء، فليس الأمر تابعا لأمانيهم، ولا
موافقا لأهوائهم.







{ 26 }



{ وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ
شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ
وَيَرْضَى }





يقول تعالى منكرا على من عبد غيره من الملائكة وغيرهم، وزعم أنها تنفعه
وتشفع له عند الله يوم القيامة:


{ وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ }

من الملائكة المقربين، وكرام الملائكة،


{ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا }

أي: لا تفيد من دعاها وتعلق بها ورجاها،


{ إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى }

أي: لا بد من اجتماع الشرطين: إذنه تعالى في الشفاعة، ورضاه عن المشفوع
له. ومن المعلوم المتقرر، أنه لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصا لوجه
الله، موافقا فيه صاحبه الشريعة، فالمشركون إذا لا نصيب لهم من شفاعة
الشافعين، وقد سدوا على أنفسهم رحمة أرحم الراحمين.




{ 27-30 } { إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ
الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى * وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ
إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ
الْحَقِّ شَيْئًا * فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ
يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ
الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ
وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى }




يعني أن المشركين بالله المكذبين لرسله، الذين لا يؤمنون بالآخرة، وبسبب
عدم إيمانهم بالآخرة تجرأوا على ما تجرأوا عليه، من الأقوال، والأفعال
المحادة لله ولرسوله، من قولهم:


{ الملائكة بنات الله }

فلم ينزهوا ربهم عن الولادة، ولم يكرموا الملائكة ويجلوهم عن تسميتهم
إياهم إناثا، والحال أنه ليس لهم بذلك علم، لا عن الله، ولا عن رسوله،
ولا دلت على ذلك الفطر والعقول، بل العلم كله دال على نقيض قولهم، وأن
الله منزه عن الأولاد والصاحبة، لأنه الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم
يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد، وأن الملائكة كرام مقربون إلى الله،
قائمون بخدمته


{ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ }

والمشركون إنما يتبعون في ذلك القول القبيح، وهو الظن الذي لا يغني من
الحق شيئا، فإن الحق لا بد فيه من اليقين المستفاد من الأدلة القاطعة
والبراهين الساطعة.




ولما كان هذا دأب هؤلاء المذكورين أنهم لا غرض لهم في اتباع الحق، وإنما
غرضهم ومقصودهم، ما تهواه نفوسهم، أمر الله رسوله بالإعراض عمن تولى عن
ذكره، الذي هو الذكر الحكيم، والقرآن العظيم، والنبأ الكريم، فأعرض عن
العلوم النافعة، ولم يرد إلا الحياة الدنيا، فهذا منتهى إرادته، ومن
المعلوم أن العبد لا يعمل إلا للشيء الذي يريده،




فسعيهم مقصور على الدنيا ولذاتها وشهواتها، كيف حصلت حصلوها، وبأي: طريق
سنحت ابتدروها،


{ ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ }

أي: هذا منتهى علمهم وغايته، وأما المؤمنون بالآخرة، المصدقون بها، أولو
الألباب والعقول،




فهمتهم وإرادتهم للدار الآخرة، وعلومهم أفضل العلوم وأجلها، وهو العلم
المأخوذ من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والله تعالى أعلم
بمن يستحق الهداية فيهديه، ممن لا يستحق ذلك فيكله إلى نفسه، ويخذله،
فيضل عن سبيل الله، ولهذا قال تعالى:


{ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ
أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى }

فيضع فضله حيث يعلم المحل اللائق به.







{ 31-32 } { وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ
لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ
أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى * الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ
وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ
هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ
أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ
أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى }




يخبر تعالى أنه مالك الملك، المتفرد بملك الدنيا والآخرة، وأن جميع من في
السماوات والأرض ملك لله، يتصرف فيهم تصرف الملك العظيم، في عبيده
ومماليكه، ينفذ فيهم قدره، ويجري عليهم شرعه، ويأمرهم وينهاهم، ويجزيهم
على ما أمرهم به ونهاهم [عنه]، فيثيب المطيع، ويعاقب العاصي، ليجزي الذين
أساؤوا العمل السيئات من الكفر فما دونه بما عملوا من أعمال الشر
بالعقوبة البليغة




{ وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا }

في عبادة الله تعالى، وأحسنوا إلى خلق الله، بأنواع المنافع


{ بِالْحُسْنَى }

أي: بالحالة الحسنة في الدنيا والآخرة، وأكبر ذلك وأجله رضا ربهم، والفوز
بنعيم الجنة




ثم ذكر وصفهم فقال:


{ الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ }

أي: يفعلون ما أمرهم الله به من الواجبات، التي يكون تركها من كبائر
الذنوب، ويتركون المحرمات الكبار، كالزنا، وشرب الخمر، وأكل الربا،
والقتل، ونحو ذلك من الذنوب العظيمة،


{ إِلَّا اللَّمَمَ }

وهي الذنوب الصغار، التي لا يصر صاحبها عليها، أو التي يلم بها العبد،
المرة بعد المرة، على وجه الندرة والقلة، فهذه ليس مجرد الإقدام عليها
مخرجا للعبد من أن يكون من المحسنين، فإن هذه مع الإتيان بالواجبات وترك
المحرمات، تدخل تحت مغفرة الله التي وسعت كل شيء، ولهذا قال:


{ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ }

فلولا مغفرته لهلكت البلاد والعباد، ولولا عفوه وحلمه لسقطت السماء على
الأرض، ولما ترك على ظهرها من دابة. ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:
"الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفرات لما
بينهن، ما اجتنبت الكبائر" [وقوله:]


{ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ
أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ }

أي: هو تعالى أعلم بأحوالكم كلها، وما جبلكم عليه، من الضعف والخور، عن
كثير مما أمركم الله به، ومن كثرة الدواعي إلى بعض المحرمات، وكثرة
الجواذب إليها، وعدم الموانع القوية، والضعف موجود مشاهد منكم حين
أنشاكم الله من الأرض، وإذ كنتم في بطون أمهاتكم، ولم يزل موجودا فيكم،
وإن كان الله تعالى قد أوجد فيكم قوة على ما أمركم به، ولكن الضعف لم
يزل، فلعلمه تعالى بأحوالكم هذه، ناسبت الحكمة الإلهية والجود الرباني،
أن يتغمدكم برحمته ومغفرته وعفوه، ويغمركم بإحسانه، ويزيل عنكم الجرائم
والمآثم، خصوصا إذا كان العبد مقصوده مرضاة ربه في جميع الأوقات، وسعيه
فيما يقرب إليه في أكثر الآنات، وفراره من الذنوب التي يتمقت بها عند
مولاه، ثم تقع منه الفلتة بعد الفلتة، فإن الله تعالى أكرم الأكرمين
وأرحم الراحمين أرحم بعباده من الوالدة بولدها، فلا بد لمثل هذا أن يكون
من مغفرة ربه قريبا وأن يكون الله له في جميع أحواله مجيبا، ولهذا قال
تعالى:


{ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ }

أي: تخبرون الناس بطهارتها على وجه التمدح




{ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى }

[فإن التقوى، محلها القلب، والله هو المطلع عليه، المجازي على ما فيه من
بر وتقوى، وأما الناس، فلا يغنون عنكم من الله شيئا].


descriptionتفسيرالقران - صفحة 3 Emptyرد: تفسيرالقران

more_horiz
-
تفسير
سورة
ا
لنجم
عدد آياتها
62

(
آية
33-62

)

وهي مكية
تااابع (2)






{ 33-62 } { أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى * وَأَعْطَى قَلِيلًا
وَأَكْدَى * أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى * أَمْ لَمْ
يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى * وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى *
أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى * وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ
إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ
الْجَزَاءَ الْأَوْفَى * وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى * وَأَنَّهُ
هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى * وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا *وَأَنَّهُ
خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى * مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا
تُمْنَى * وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى }





إلى آخر السورة يقول تعالى:


{ أَفَرَأَيْتَ }

قبح حالة من أمر بعبادة ربه وتوحيده، فتولى عن ذلك وأعرض عنه؟




فإن سمحت نفسه ببعض الشيء، القليل، فإنه لا يستمر عليه، بل يبخل ويكدى
ويمنع.




فإن المعروف ليس سجية له وطبيعة بل طبعه التولي عن الطاعة، وعدم الثبوت
على فعل المعروف، ومع هذا، فهو يزكي نفسه، وينزلها غير منزلتها التي
أنزلها الله بها.




{ أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى }

الغيب ويخبر به، أم هو متقول على الله، متجرئ على الجمع بين الإساءة
والتزكية كما هو الواقع، لأنه قد علم أنه ليس عنده علم من الغيب، وأنه
لو قدر أنه ادعى ذلك فالإخبارات القاطعة عن علم الغيب التي على يد النبي
المعصوم، تدل على نقيض قوله، وذلك دليل على بطلانه.




{ أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ }

هذا المدعي


{ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى }

أي: قام بجميع ما ابتلاه الله به، وأمره به من الشرائع وأصول الدين
وفروعه، وفي تلك الصحف أحكام كثيرة من أهمها ما ذكره الله بقوله:


{ أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ
إِلَّا مَا سَعَى }

أي: كل عامل له عمله الحسن والسيئ، فليس له من عمل غيره وسعيهم شيء، ولا
يتحمل أحد عن أحد ذنبا




{ وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى }

في الآخرة فيميز حسنه من سيئه،


{ ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى }

أي: المستكمل لجميع العمل الحسن الخالص بالحسنى، والسيئ الخالص بالسوأى،
والمشوب بحسبه، جزاء تقر بعدله وإحسانه الخليقة كلها، وتحمد الله عليه،
حتى إن أهل النار ليدخلون النار، وإن قلوبهم مملوءة من حمد ربهم،
والإقرار له بكمال الحكمة ومقت أنفسهم، وأنهم الذين أوصلوا أنفسهم
وأوردوها شر الموارد، وقد استدل بقوله تعالى:


{ وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى }

من يرى أن القرب لا يفيد إهداؤها للأحياء ولا للأموات قالوا لأن الله
قال:


{ وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ مَا سَعَى }

فوصول سعي غيره إليه مناف لذلك، وفي هذا الاستدلال نظر، فإن الآية إنما
تدل على أنه ليس للإنسان إلا ما سعى بنفسه، وهذا حق لا خلاف فيه، وليس
فيها ما يدل على أنه لا ينتفع بسعي غيره، إذا أهداه ذلك الغير له، كما
أنه ليس للإنسان من المال إلا ما هو في ملكه وتحت يده، ولا يلزم من ذلك،
أن لا يملك ما وهبه له الغير من ماله الذي يملكه.




وقوله:


{ وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى }

أي: إليه تنتهي الأمور، وإليه تصير الأشياء والخلائق بالبعث والنشور،
وإلى الله المنتهى في كل حال، فإليه ينتهي العلم والحكم، والرحمة وسائر
الكمالات.




{ وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى }

أي: هو الذي أوجد أسباب الضحك والبكاء، وهو الخير والشر، والفرح والسرور
والهم [والحزن]، وهو سبحانه له الحكمة البالغة في ذلك،




{ وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا }

أي: هو المنفرد بالإيجاد والإعدام، والذي أوجد الخلق وأمرهم ونهاهم،
سيعيدهم بعد موتهم، ويجازيهم بتلك الأعمال التي عملوها في دار الدنيا.




{ وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ }

فسر الزوجين بقوله:


{ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى }

وهذا اسم جنس شامل لجميع الحيوانات، ناطقها وبهيمها، فهو المنفرد بخلقها،


{ مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى }

وهذا من أعظم الأدلة على كمال قدرته وانفراده بالعزة العظيمة، حيث أوجد
تلك الحيوانات، صغيرها وكبيرها من نطفة ضعيفة من ماء مهين، ثم نماها
وكملها، حتى بلغت ما بلغت، ثم صار الآدمي منها إما إلى أرفع المقامات في
أعلى عليين، وإما إلى أدنى الحالات في أسفل سافلين.




ولهذا استدل بالبداءة على الإعادة، فقال:


{ وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى }

فيعيد العباد من الأجداث، ويجمعهم ليوم الميقات، ويجازيهم على الحسنات
والسيئات.




{ وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى }

أي: أغنى العباد بتيسير أمر معاشهم من التجارات وأنواع المكاسب، من الحرف
وغيرها، وأقنى أي: أفاد عباده من الأموال بجميع أنواعها، ما يصيرون به
مقتنين لها، ومالكين لكثير من الأعيان، وهذا من نعمه على عباده أن جميع
النعم منه تعالى وهذا يوجب للعباد أن يشكروه، ويعبدوه وحده لا شريك له




{ وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى }

وهي النجم المعروف بالشعرى العبور، المسماة بالمرزم، وخصها الله بالذكر،
وإن كان رب كل شيء، لأن هذا النجم مما عبد في الجاهلية، فأخبر تعالى أن
جنس ما يعبده المشركون مربوب مدبر مخلوق،




فكيف تتخذ إلها مع الله




{ وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى }

وهم قوم هود عليه السلام، حين كذبوا هودا، فأهلكهم الله بريح صرصر عاتية




{ وَثَمُودَ }

قوم صالح عليه السلام، أرسله الله إلى ثمود فكذبوه، فبعث الله إليهم
الناقة آية، فعقروها وكذبوه، فأهلكهم الله تعالى،


{ فَمَا أَبْقَى }

منهم أحدا، بل أهلكهم الله عن آخرهم




{ وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى
}

من هؤلاء الأمم، فأهلكهم الله وأغرقهم في اليم




{ وَالْمُؤْتَفِكَةَ }

وهم قوم لوط عليه السلام


{ أَهْوَى }

أي: أصابهم الله بعذاب ما عذب به أحدا من العالمين، قلب أسفل ديارهم
أعلاها، وأمطر عليهم حجارة من سجيل.




ولهذا قال:


{ فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى }

أي: غشيها من العذاب الأليم الوخيم ما غشى أي: شيء عظيم لا يمكن وصفه.




{ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى }

أي: فبأي: نعم الله وفضله تشك أيها الإنسان؟ فإن نعم الله ظاهرة لا تقبل
الشك بوجه من الوجوه، فما بالعباد من نعمة إلا منه تعالى، ولا يدفع النقم
إلا هو.




{ هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى }

أي: هذا الرسول القرشي الهاشمي محمد بن عبد الله، ليس ببدع من الرسل، بل
قد تقدمه من الرسل السابقين، ودعوا إلى ما دعا إليه، فلأي شيء تنكر
رسالته؟ وبأي حجة تبطل دعوته؟




أليست أخلاقه [أعلا] أخلاق الرسل الكرام، أليست دعوته إلى كل خير والنهي
عن كل شر؟ ألم يأت بالقرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا
من خلفه، تنزيل من حكيم حميد؟ ألم يهلك الله من كذب من قبله من الرسل
الكرام؟ فما الذي يمنع العذاب عن المكذبين لمحمد سيد المرسلين، وإمام
المتقين، وقائد الغر المحجلين؟




{ أَزِفَتِ الْآزِفَةُ }

أي: قربت القيامة، ودنا وقتها، وبانت علاماتها.


{ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ }

أي: إذا أتت القيامة وجاءهم العذاب الموعود به.




ثم توعد المنكرين لرسالة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، المكذبين لما
جاء به من القرآن الكريم، فقال:


{ أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ }

؟ أي: أفمن هذا الحديث الذي هو خير الكلام وأفضله وأشرفه تتعجبون منه،
وتجعلونه من الأمور المخالفة للعادة الخارقة للأمور [والحقائق] المعروفة؟
هذا من جهلهم وضلالهم وعنادهم، وإلا فهو الحديث الذي إذا حدث صدق، وإذا
قال قولا فهو القول الفصل الذي ليس بالهزل، وهو القرآن العظيم، الذي لو
أنزل على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله، الذي يزيد ذوي الأحلام
رأيا وعقلا، وتسديدا وثباتا، وإيمانا ويقينا والذي ينبغي العجب من عقل
من تعجب منه، وسفهه وضلاله.




{ وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ }

أي: تستعملون الضحك والاستهزاء به، مع أن الذي ينبغي أن تتأثر منه
النفوس، وتلين له القلوب، وتبكي له العيون،




سماعا لأمره ونهيه، وإصغاء لوعده ووعيده، والتفاتا لأخباره الحسنة
الصادقة




{ وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ }

أي: غافلون عنه، لاهون عن تدبره، وهذا من قلة عقولكم وأديانكم فلو عبدتم
الله وطلبتم رضاه في جميع الأحوال لما كنتم بهذه المثابة التي يأنف منها
أولو الألباب، ولهذا قال تعالى:


{ فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا }


الأمر بالسجود لله خصوصا، ليدل ذلك على فضله وأنه سر العبادة ولبها،
فإن لبها الخشوع لله والخضوع له، والسجود هو أعظم حالة يخضع بها العبد
فإنه يخضع قلبه وبدنه، ويجعل أشرف أعضائه على الأرض المهينة موضع وطء
الأقدام. ثم أمر بالعبادة عموما، الشاملة لجميع ما يحبه الله ويرضاه من
الأعمال والأقوال الظاهرة والباطنة.




تم تفسير سورة النجم، والحمد لله الذي لا نحصي ثناء عليه، بل هو كما أثنى
على نفسه، وفوق ما يثني عليه عباده، وصلى الله على محمد وسلم تسليما
كثيرا.

descriptionتفسيرالقران - صفحة 3 Emptyرد: تفسيرالقران

more_horiz
-
تفسير
سورة
ا
لطور
عدد آياتها 49

(



آية



1-28
)
وهي مكية






{ 1-16 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَالطُّورِ *
وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ * فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ * وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ *
وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ * وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ * إِنَّ عَذَابَ
رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ * يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ
مَوْرًا * وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا * فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ
لِلْمُكَذِّبِينَ * الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ * يَوْمَ
يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا * هَذِهِ النَّارُ الَّتِي
كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ * أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا
تُبْصِرُونَ * اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ
عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ }




يقسم تعالى بهذه الأمور العظيمة، المشتملة على الحكم الجليلة، على البعث
والجزاء للمتقين والمكذبين، فأقسم بالطور الذي هو الجبل الذي كلم الله
عليه نبيه موسى بن عمران عليه الصلاة والسلام، وأوحى إليه ما أوحى من
الأحكام، وفي ذلك من المنة عليه وعلى أمته، ما هو من آيات الله العظيمة،




ونعمه التي لا يقدر العباد لها على عد ولا ثمن.




{ وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ }

يحتمل أن المراد به اللوح المحفوظ، الذي كتب الله به كل شيء، ويحتمل أن
المراد به القرآن الكريم، الذي هو أفضل كتاب أنزله الله محتويا على نبأ
الأولين والآخرين، وعلوم السابقين واللاحقين.




وقوله:


{ فِي رَقٍّ }

أي: ورق


{ مَنْشُورٍ }

أي: مكتوب مسطر، ظاهر غير خفي، لا تخفى حاله على كل عاقل بصير.




{ وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ }

وهو البيت الذي فوق السماء السابعة، المعمور مدى الأوقات بالملائكة
الكرام، الذي يدخله كل يوم سبعون ألف ملك [يتعبدون فيه لربهم ثم] ، لا
يعودون إليه إلى يوم القيامة وقيل: إن البيت المعمور هو بيت الله الحرام،
والمعمور بالطائفين والمصلين والذاكرين كل وقت، وبالوفود إليه بالحج
والعمرة.




كما أقسم الله به في قوله:


{ وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ }

وحقيق ببيت أفضل بيوت الأرض، الذي قصده بالحج والعمرة، أحد أركان
الإسلام، ومبانيه العظام، التي لا يتم إلا بها، وهو الذي بناه إبراهيم
وإسماعيل، وجعله الله مثابة للناس وأمنا، أن يقسم الله به، ويبين من
عظمته ما هو اللائق به وبحرمته.




{ وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ }

أي: السماء، التي جعلها الله سقفا للمخلوقات، وبناء للأرض، تستمد منها
أنوارها، ويقتدى بعلاماتها ومنارها، وينزل الله منها المطر والرحمة
وأنواع الرزق.




{ وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ }

أي: المملوء ماء، قد سجره الله، ومنعه من أن يفيض على وجه الأرض، مع أن
مقتضى الطبيعة، أن يغمر وجه الأرض، ولكن حكمته اقتضت أن يمنعه عن الجريان
والفيضان، ليعيش من على وجه الأرض، من أنواع الحيوان وقيل: إن المراد
بالمسجور، الموقد الذي يوقد [نارا] يوم القيامة، فيصير نارا تلظى، ممتلئا
على عظمته وسعته من أصناف العذاب.




هذه الأشياء التي أقسم الله بها، مما يدل على أنها من آيات الله وأدلة
توحيده، وبراهين قدرته، وبعثه الأموات، ولهذا قال:


{ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ }

أي: لا بد أن يقع، ولا يخلف الله وعده وقيله.




{ مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ }

يدفعه، ولا مانع يمنعه، لأن قدرة الله تعالى لا يغالبها




مغالب، ولا يفوتها هارب، ثم ذكر وصف ذلك اليوم، الذي يقع فيه العذاب،
فقال:


{ يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا }

أي: تدور السماء وتضطرب، وتدوم حركتها بانزعاج وعدم سكون،




{ وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا }

أي: تزول عن أماكنها، وتسير كسير السحاب، وتتلون كالعهن المنفوش، وتبث
بعد ذلك [حتى تصير] مثل الهباء، وذلك كله لعظم هول يوم القيامة، وفظاعة
ما فيه من الأمور المزعجة، والزلازل المقلقة، التي أزعجت هذه الأجرام
العظيمة، فكيف بالآدمي الضعيف!؟




{ فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ }

والويل: كلمة جامعة لكل عقوبة وحزن وعذاب وخوف.




ثم ذكر وصف المكذبين الذين استحقوا به الويل، فقال:


{ الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ }

أي: خوض في الباطل ولعب به. فعلومهم وبحوثهم بالعلوم الضارة المتضمنة
للتكذيب بالحق، والتصديق بالباطل، وأعمالهم أعمال أهل الجهل والسفه
واللعب، بخلاف ما عليه أهل التصديق والإيمان من العلوم النافعة، والأعمال
الصالحة.




{ يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا }

أي: يوم يدفعون إليها دفعا، ويساقون إليها سوقا عنيفا، ويجرون على
وجوههم، ويقال لهم توبيخا ولوما:


{ هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ }

فاليوم ذوقوا عذاب الخلد الذي لا يبلغ قدره، ولا يوصف أمره.




{ أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ }

يحتمل أن الإشارة إلى النار والعذاب، كما يدل عليه سياق الآية أي: لما
رأوا النار والعذاب قيل لهم من باب التقريع:


{ أهذا سحر لا حقيقة له، فقد رأيتموه، أم أنتم في الدنيا لا تبصرون }

أي: لا بصيرة لكم ولا علم عندكم، بل كنتم جاهلين بهذا الأمر، لم تقم
عليكم الحجة؟ والجواب انتفاء الأمرين:




أما كونه سحرا، فقد ظهر لهم أنه أحق الحق، وأصدق الصدق، المخالف للسحر
من جميع الوجوه، وأما كونهم لا يبصرون، فإن الأمر بخلاف ذلك، بل حجة الله
قد قامت عليهم، ودعتهم الرسل إلى الإيمان بذلك، وأقامت من الأدلة
والبراهين على ذلك، ما يجعله من أعظم الأمور المبرهنة الواضحة الجلية.




ويحتمل أن الإشارة [بقوله:


{ أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ }

] إلى ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من الحق المبين، والصراط
المستقيم أي: هذا الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم سحر أم عدم بصيرة
بكم، حتى اشتبه عليكم الأمر، وحقيقة الأمر أنه أوضح من كل شيء وأحق الحق،
وأن حجة الله قامت عليهم




{ اصْلَوْهَا }

أي: ادخلوا النار على وجه تحيط بكم، وتستوعب جميع أبدانكم وتطلع على
أفئدتكم.




{ فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ }

أي: لا يفيدكم الصبر على النار شيئا، ولا يتأسى بعضكم ببعض، ولا يخفف
عنكم العذاب، وليست من الأمور التي إذا صبر العبد عليها هانت مشقتها
وزالت شدتها.




وإنما فعل بهم ذلك، بسبب أعمالهم الخبيثة وكسبهم، [ولهذا قال]


{ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ }








{ 17-20 } { إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ * فَاكِهِينَ
بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ *
كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * مُتَّكِئِينَ
عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ }




لما ذكر تعالى عقوبة المكذبين، ذكر نعيم المتقين، ليجمع بين الترغيب
والترهيب، فتكون القلوب بين الخوف والرجاء، فقال:


{ إِنَّ الْمُتَّقِينَ }

لربهم، الذين اتقوا سخطه وعذابه، بفعل أسبابه من امتثال الأوامر واجتناب
النواهي.




{ فِي جَنَّاتِ }

أي: بساتين، قد اكتست رياضها من الأشجار الملتفة، والأنهار المتدفقة،
والقصور المحدقة، والمنازل المزخرفة،


{ وَنَعِيمٍ }

[وهذا] شامل لنعيم القلب والروح والبدن،




{ فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ }

أي: معجبين به، متمتعين على وجه الفرح والسرور بما أعطاهم الله من النعيم
الذي لا يمكن وصفه، ولا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين، ووقاهم عذاب
الجحيم، فرزقهم المحبوب، ونجاهم من المرهوب، لما فعلوا ما أحبه الله،
وجانبوا ما يسخطه ويأباه.




{ كُلُوا وَاشْرَبُوا }

أي: مما تشتهيه أنفسكم، من [أصناف] المآكل والمشارب اللذيذة،


{ هَنِيئًا }

أي: متهنئين بتلك المآكل والمشارب على وجه الفرح والسرور والبهجة
والحبور.


{ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ }

أي: نلتم ما نلتم بسبب أعمالكم الحسنة، وأقوالكم المستحسنة.




{ مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ }

الاتكاء: هو الجلوس على وجه التمكن والراحة والاستقرار، والسرر: هي
الأرائك المزينة بأنواع الزينة من اللباس الفاخر والفرش الزاهية.




ووصف الله السرر بأنها مصفوفة، ليدل ذلك على كثرتها، وحسن تنظيمها،
واجتماع أهلها وسرورهم، بحسن معاشرتهم، ولطف كلام بعضهم لبعض فلما اجتمع
لهم من نعيم القلب والروح والبدن ما لا يخطر بالبال، ولا يدور في الخيال،
من المآكل والمشارب [اللذيذة]، والمجالس الحسنة الأنيقة، لم يبق إلا
التمتع بالنساء اللاتي لا يتم سرور بدونهن فذكر الله أن لهم من الأزواج
أكمل النساء أوصافا وخلقا وأخلاقا، ولهذا قال:


{ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ }

وهن النساء اللواتي قد جمعن من جمال الصورة الظاهرة وبهاءها، ومن الأخلاق
الفاضلة، ما يوجب أن يحيرن بحسنهن الناظرين، ويسلبن عقول العالمين، وتكاد
الأفئدة أن تطيش شوقا إليهن، ورغبة في وصالهن، والعين: حسان الأعين
مليحاتها، التي صفا بياضها وسوادها.




{ 21-28 } { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ
بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ
عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ *
وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ *
يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ *
وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ *
وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالُوا إِنَّا
كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ * فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا
وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ * إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ
إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ }




وهذا من تمام نعيم أهل الجنة، أن ألحق الله [بهم] ذريتهم الذين اتبعوهم
بإيمان أي: الذين لحقوهم بالإيمان الصادر من آبائهم، فصارت الذرية تبعا
لهم بالإيمان، ومن باب أولى إذا تبعتهم ذريتهم بإيمانهم الصادر منهم
أنفسهم، فهؤلاء المذكورون، يلحقهم الله بمنازل آبائهم في الجنة وإن لم
يبلغوها، جزاء لآبائهم، وزيادة في ثوابهم، ومع ذلك، لا ينقص الله الآباء
من أعمالهم شيئا، ولما كان ربما توهم متوهم أن أهل النار كذلك، يلحق الله
بهم أبناءهم وذريتهم، أخبر أنه ليس حكم الدارين حكما واحدا، فإن النار
دار العدل، ومن عدله تعالى أن لا يعذب أحدا إلا بذنب، ولهذا قال:


{ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ }

أي: مرتهن بعمله، فلا تزر وازرة وزر أخرى، ولا يحمل على أحد ذنب أحد. هذا
اعتراض من فوائده إزالة الوهم المذكور.




وقوله:


{ وَأَمْدَدْنَاهُمْ }

أي: أمددنا أهل الجنة من فضلنا الواسع ورزقنا العميم،


{ بِفَاكِهَةٍ }

من العنب والرمان والتفاح، وأصناف الفواكه اللذيذة الزائدة على ما به
يتقوتون،


{ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ }

من كل ما طلبوه واشتهته أنفسهم، من لحم الطير وغيرها.




{ يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا }

أي: تدور كاسات الرحيق والخمر عليهم، ويتعاطونها فيما بينهم، وتطوف عليهم
الولدان المخلدون بأكواب وأباريق وكأس


{ لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ }

أي: ليس في الجنة كلام لغو، وهو الذي لا فائدة فيه ولا تأثيم، وهو الذي
فيه إثم ومعصية، وإذا انتفى الأمران، ثبت الأمر الثالث، وهو أن كلامهم
فيها سلام طيب طاهر، مسر للنفوس، مفرح للقلوب، يتعاشرون أحسن عشرة،
ويتنادمون أطيب المنادمة، ولا يسمعون من ربهم، إلا ما يقر أعينهم، ويدل
على رضاه عنهم [ومحبته لهم].




{ وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ }

أي: خدم شباب


{ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ }

من حسنهم وبهائهم، يدورون عليهم بالخدمة وقضاء ما يحتاجون إليه وهذا يدل
على كثرة نعيمهم وسعته، وكمال راحتهم.




{ وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ }

عن أمور الدنيا وأحوالها.


{ قَالُوا }

في [ذكر] بيان الذي أوصلهم إلى ما هم فيه من الحبرة والسرور:


{ إِنَّا كُنَّا قَبْلُ }

أي: في دار الدنيا


{ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ }

أي: خائفين وجلين، فتركنا من خوفه الذنوب، وأصلحنا لذلك العيوب.




{ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا }

بالهداية والتوفيق،


{ وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ }

أي: العذاب الحار الشديد حره.




{ إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ }

أن يقينا عذاب السموم، ويوصلنا إلى النعيم، وهذا شامل لدعاء العبادة
ودعاء المسألة أي: لم نزل نتقرب إليه بأنواع القربات وندعوه في سائر
الأوقات،


{ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ }

فمن بره بنا ورحمته إيانا، أنالنا رضاه والجنة، ووقانا سخطه والنار.

descriptionتفسيرالقران - صفحة 3 Emptyرد: تفسيرالقران

more_horiz
-
تفسير
سورة
ا
لطور
عدد آياتها 49

(
آية
2
9-49
)

وهي مكية
تابع (2)






{ 29-43 } { فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا
مَجْنُونٍ * أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ
* قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ * أَمْ
تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ * أَمْ
يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ * فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ
مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ * أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ
أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل
لَا يُوقِنُونَ * أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ
الْمُسَيْطِرُونَ * أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ
مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ * أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ
الْبَنُونَ * أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ
مُثْقَلُونَ * أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ * أَمْ
يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ * أَمْ
لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ }





يأمر تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يذكر الناس، مسلمهم وكافرهم،
لتقوم حجة الله على الظالمين، ويهتدي بتذكيره الموفقون، وأنه لا يبالي
بقول المشركين المكذبين وأذيتهم وأقوالهم التي يصدون بها الناس عن
اتباعه، مع علمهم أنه أبعد الناس عنها، ولهذا نفى عنه كل نقص رموه به
فقال:


{ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ }

أي: منه ولطفه،


{ بِكَاهِنٍ }

أي: له رئي من الجن، يأتيه بأخبار بعض الغيوب، التي يضم إليها مائة كذبة،


{ وَلَا مَجْنُونٍ }

فاقد للعقل، بل أنت أكمل الناس عقلا، وأبعدهم عن الشياطين، وأعظمهم صدقا،
وأجلهم وأكملهم،




وتارة


{ يَقُولُونَ }

فيه: إنه


{ شَاعِرٌ }

يقول الشعر، والذي جاء به شعر،




والله يقول:


{ وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ }





{ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ }

أي: ننتظر به الموت فسيبطل أمره، [ونستريح منه].




{ قُلْ }

لهم جوابا لهذا الكلام السخيف:


{ تَرَبَّصُوا }

أي: انتظروا بي الموت،




{ فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ }

نتربص بكم، أن يصيبكم الله بعذاب من عنده، أو بأيدينا،




{ أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ }

أي: أهذا التكذيب لك، والأقوال التي قالوها؟ هل صدرت عن عقولهم وأحلامهم؟
فبئس العقول والأحلام، التي أثرت ما أثرت، وصدر منها ما صدر




فإن عقولا جعلت أكمل الخلق عقلا مجنونا، وأصدق الصدق وأحق الحق كذبا
وباطلا، لهي العقول التي ينزه المجانين عنها، أم الذي حملهم على ذلك
ظلمهم وطغيانهم؟ وهو الواقع، فالطغيان ليس له حد يقف عليه، فلا يستغرب
من الطاغي المتجاوز الحد كل قول وفعل صدر منه.




{ أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ }

أي: تقول محمد القرآن، وقاله من تلقاء نفسه؟


{ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ }

فلو آمنوا، لم يقولوا ما قالوا.




{ فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ }

أنه تقوله، فإنكم العرب الفصحاء، والفحول البلغاء، وقد تحداكم أن تأتوا
بمثله، فتصدق معارضتكم أو تقروا بصدقه، وأنكم لو اجتمعتم، أنتم والإنس
والجن، لم تقدروا على معارضته والإتيان بمثله، فحينئذ أنتم بين أمرين:
إما مؤمنون به، مهتدون بهديه، وإما معاندون متبعون لما علمتم من الباطل.




{ أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ }

وهذا استدلال عليهم، بأمر لا يمكنهم فيه إلا التسليم للحق، أو الخروج عن
موجب العقل والدين، وبيان ذلك: أنهم منكرون لتوحيد الله، مكذبون لرسوله،
وذلك مستلزم لإنكار أن الله خلقهم.




وقد تقرر في العقل مع الشرع، أن الأمر لا يخلو من أحد ثلاثة أمور:




إما أنهم خلقوا من غير شيء أي: لا خالق خلقهم، بل وجدوا من غير إيجاد ولا
موجد، وهذا عين المحال.




أم هم الخالقون لأنفسهم، وهذا أيضا محال، فإنه لا يتصور أن يوجدوا
أنفسهم




فإذا بطل [هذان] الأمران، وبان استحالتهما، تعين [القسم الثالث] أن الله
الذي خلقهم، وإذا تعين ذلك، علم أن الله تعالى هو المعبود وحده، الذي لا
تنبغي العبادة ولا تصلح إلا له تعالى.




وقوله:


{ أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ }

وهذا استفهام يدل على تقرير النفي أي: ما خلقوا السماوات والأرض، فيكونوا
شركاء لله، وهذا أمر واضح جدا. ولكن المكذبين


{ لَا يُوقِنُونَ }

أي: ليس عندهم علم تام، ويقين يوجب لهم الانتفاع بالأدلة الشرعية
والعقلية.




{ أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ }

أي: أعند هؤلاء المكذبين خزائن رحمة ربك، فيعطون من يشاءون ويمنعون من
يريدون؟ أي: فلذلك حجروا على الله أن يعطي النبوة عبده ورسوله محمدا صلى
الله عليه وسلم، وكأنهم الوكلاء المفوضون على خزائن رحمة الله، وهم أحقر
وأذل من ذلك، فليس في أيديهم لأنفسهم نفع ولا ضر، ولا موت ولا حياة ولا
نشور.




{ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ
مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا }





{ أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ }

أي: المتسلطون على خلق الله وملكه، بالقهر والغلبة؟




ليس الأمر كذلك، بل هم العاجزون الفقراء




{ أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ }

أي: ألهم اطلاع على الغيب، واستماع له بين الملأ الأعلى، فيخبرون عن أمور
لا يعلمها غيرهم؟




{ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ }

المدعي لذلك


{ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ }

وأنى له ذلك؟




والله تعالى عالم الغيب والشهادة، فلا يظهر على غيبه [أحدا] إلا من
ارتضى من رسول يخبره بما أراد من علمه.




وإذا كان محمد صلى الله عليه وسلم أفضل الرسل وأعلمهم وإمامهم، وهو
المخبر بما أخبر به، من توحيد الله، ووعده، ووعيده، وغير ذلك من أخباره
الصادقة، والمكذبون هم أهل الجهل والضلال والغي والعناد، فأي المخبرين
أحق بقبول خبره؟ خصوصا والرسول صلى الله عليه وسلم قد أقام من الأدلة
والبراهين على ما أخبر به، ما يوجب أن يكون خبره عين اليقين وأكمل
الصدق، وهم لم يقيموا على ما ادعوه شبهة، فضلا عن إقامة حجة.




وقوله:


{ أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ }

كما زعمتم


{ وَلَكُمُ الْبَنُونَ }

فتجمعون بين المحذورين؟ جعلكم له الولد، واختياركم له أنقص الصنفين؟ فهل
بعد هذا التنقص لرب العالمين غاية أو دونه نهاية؟




{ أَمْ تَسْأَلُهُمْ }

يا أيها الرسول


{ أَجْرًا }

على تبليغ الرسالة،


{ فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ }

ليس الأمر كذلك، بل أنت الحريص على تعليمهم، تبرعا من غير شيء، بل تبذل
لهم الأموال الجزيلة، على قبول رسالتك، والاستجابة [لأمرك




و] دعوتك، وتعطي المؤلفة قلوبهم [ليتمكن العلم والإيمان من قلوبهم].




{ أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ }

ما كانوا يعلمونه من الغيوب، فيكونون قد اطلعوا على ما لم يطلع عليه رسول
الله، فعارضوه وعاندوه بما عندهم من علم الغيب؟ وقد علم أنهم الأمة
الأمية، الجهال الضالون، ورسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي عنده من
العلم أعظم من غيره، وأنبأه الله من علم الغيب على ما لم يطلع عليه أحدا
من الخلق، وهذا كله إلزام لهم بالطرق العقلية والنقلية على فساد قولهم،
وتصوير بطلانه بأحسن الطرق وأوضحها وأسلمها من الاعتراض.




وقوله:


{ أَمْ يُرِيدُونَ }

بقدحهم فيك وفيما جئتهم به


{ كَيْدًا }

يبطلون به دينك، ويفسدون به أمرك؟




{ فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ }

أي: كيدهم في نحورهم، ومضرته عائدة إليهم، وقد فعل الله ذلك -ولله الحمد-
فلم يبق الكفار من مقدورهم من المكر شيئا إلا فعلوه، فنصر الله نبيه
ودينه عليهم وخذلهم وانتصر منهم.




{ أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ }

أي: ألهم إله يدعى ويرجى نفعه، ويخاف من ضره، غير الله تعالى؟


{ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ }

فليس له شريك في الملك، ولا شريك في الوحدانية والعبادة، وهذا هو المقصود
من الكلام الذي سيق لأجله، وهو بطلان عبادة ما سوى الله وبيان فسادها
بتلك الأدلة القاطعة، وأن ما عليه المشركون هو الباطل، وأن الذي ينبغي أن
يعبد ويصلى له ويسجد ويخلص له دعاء العبادة ودعاء المسألة، هو الله
المألوه المعبود، كامل الأسماء والصفات، كثير النعوت الحسنة، والأفعال
الجميلة، ذو الجلال والإكرام، والعز الذي لا يرام، الواحد الأحد، الفرد
الصمد، الكبير الحميد المجيد.







{ 44-46 } { وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا
سَحَابٌ مَرْكُومٌ * فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي
فِيهِ يُصْعَقُونَ * يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا
وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ }




يقول تعالى في [ذكر] بيان أن المشركين المكذبين بالحق الواضح، قد عتوا
[عن الحق] وعسوا على الباطل، وأنه لو قام على الحق كل دليل لما اتبعوه،
ولخالفوه وعاندوه،


{ وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا }

أي: لو سقط عليهم من السماء من الآيات الباهرة كسف أي: قطع كبار من
العذاب


{ يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ }

أي: هذا سحاب متراكم على العادة أي: فلا يبالون بما رأوا من الآيات ولا
يعتبرون بها، وهؤلاء لا دواء لهم إلا العذاب والنكال، ولهذا قال:


{ فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ }





وهو يوم القيامة الذي يصيبهم [فيه] من العذاب والنكال، ما لا يقادر قدره،
ولا يوصف أمره.




{ يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا }

أي: لا قليلا ولا كثيرا، وإن كان في الدنيا قد يوجد منهم كيد يعيشون به
زمنا قليلا، فيوم القيامة يضمحل كيدهم، وتبطل مساعيهم، ولا ينتصرون من
عذاب الله


{ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ }








{ 47-49 } { وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ
وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ * وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ
فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ *
وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ }




لما ذكر [الله] عذاب الظالمين في القيامة، أخبر أن لهم عذابا دون عذاب
يوم القيامة وذلك شامل لعذاب الدنيا، بالقتل والسبي والإخراج من الديار،
ولعذاب البرزخ والقبر،


{ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ }

أي: فلذلك أقاموا على ما يوجب العذاب، وشدة العقاب.




ولما بين تعالى الحجج والبراهين على بطلان أقوال المكذبين، أمر رسوله صلى
الله عليه وسلم أن لا يعبأ بهم شيئا، وأن يصبر لحكم ربه القدري والشرعي
بلزومه والاستقامة عليه، ووعده الله بالكفاية بقوله:


{ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا }

أي: بمرأى منا وحفظ، واعتناء بأمرك، وأمره أن يستعين على الصبر بالذكر
والعبادة، فقال:


{ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ }

أي: من الليل.




ففيه الأمر بقيام الليل، أو حين تقوم إلى الصلوات الخمس، بدليل قوله:


{ وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ}


أي: آخر الليل، ويدخل فيه صلاة الفجر، والله أعلم.




تم تفسير سورة والطور والحمد لله

descriptionتفسيرالقران - صفحة 3 Emptyرد: تفسيرالقران

more_horiz
-
تفسير
سورة
ا
لذاريات
عدد آياتها
60

(



آية



1-
37 )
وهي مكية




تابع (2)


{ 1-6 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَالذَّارِيَاتِ
ذَرْوًا * فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا * فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا *
فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا * إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ * وَإِنَّ
الدِّينَ لَوَاقِعٌ }




هذا قسم من الله الصادق في قيله، بهذه المخلوقات العظيمة التي جعل الله
فيها من المصالح والمنافع، ما جعل على أن وعده صدق، وأن الدين الذي هو
يوم الجزاء والمحاسبة على الأعمال، لواقع لا محالة، ما له من دافع، فإذا
أخبر به الصادق العظيم وأقسم عليه، وأقام الأدلة والبراهين عليه، فلم
يكذب به المكذبون، ويعرض عن العمل له العاملون.




والمراد بالذاريات: هي الرياح التي تذروا، في هبوبها


{ ذَرْوًا }

بلينها، ولطفها، ولطفها وقوتها، وإزعاجها.




{ فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا }

السحاب، تحمل الماء الكثير، الذي ينفع الله به البلاد والعباد.




{ فالْجَارِيَاتِ يُسْرًا }

النجوم، التي تجري على وجه اليسر والسهولة، فتتزين بها السماوات، ويهتدى
بها في ظلمات البر والبحر، وينتفع بالاعتبار بها.




{ فالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا }

الملائكة التي تقسم الأمر وتدبره بإذن الله، فكل منهم، قد جعله الله على
تدبير أمر من أمور الدنيا وأمور الآخرة، لا يتعدى ما قدر له وما حد ورسم،
ولا ينقص منه.




{ 7-9 } { وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ * إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ
مُخْتَلِفٍ * يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ }




أي: والسماء ذات الطرائق الحسنة، التي تشبه حبك الرمال، ومياه الغدران،
حين يحركها النسيم.




{ إِنَّكُمْ }

أيها المكذبون لمحمد صلى الله عليه وسلم،


{ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ }

منكم، من يقول ساحر، ومنكم من يقول كاهن، ومنكم من يقول: مجنون، إلى غير
ذلك من الأقوال المختلفة، الدالة على حيرتهم وشكهم، وأن ما هم عليه باطل.




{ يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ }

أي: يصرف عنه من صرف عن الإيمان، وانصرف قلبه عن أدلة الله اليقينية
وبراهينه، واختلاف قولهم، دليل على فساده وبطلانه، كما أن الحق الذي جاء
به محمد صلى الله عليه وسلم، متفق [يصدق بعضه بعضًا]، لا تناقض فيه، ولا
اختلاف، وذلك، دليل على صحته، وأنه من عند الله


{ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا
كَثِيرًا }








{ 10-14 } { قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ
سَاهُونَ * يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ * يَوْمَ هُمْ عَلَى
النَّارِ يُفْتَنُونَ * ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ
بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ }




يقول تعالى:


{ قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ }

أي: قاتل الله الذين كذبوا على الله، وجحدوا آياته، وخاضوا بالباطل،
ليدحضوا به الحق، الذين يقولون على الله ما لا يعلمون.




{ الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ }

أي: في لجة من الكفر، والجهل، والضلال،


{ سَاهُونَ }





{ يَسْأَلُونَ }

على وجه الشك والتكذيب أيان يبعثون أي: متى يبعثون، مستبعدين لذلك، فلا
تسأل عن حالهم وسوء مآلهم




{ يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ }

أي: يعذبون بسبب ما انطووا عليه من خبث الباطن والظاهر، ويقال [لهم ]:


{ ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ }

أي: العذاب والنار، الذي هو أثر ما افتتنوا به، من الابتلاء الذي صيرهم
إلى الكفر، والضلال،


{ هَذَا }

العذاب، الذي وصلتم إليه، [هو]


{ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ }

فالآن، تمتعوا بأنواع العقاب والنكال والسلاسل والأغلال، والسخط والوبال.







{ 15-19 } { إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آخِذِينَ مَا
آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ *
كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ
هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ
وَالْمَحْرُومِ }




يقول تعالى في ذكر ثواب المتقين وأعمالهم، التي أوصلتهم إلى ذلك الجزاء:


{ إِنَّ الْمُتَّقِينَ }

أي: الذين كانت التقوى شعارهم، وطاعة الله دثارهم،


{ فِي جَنَّاتِ }

مشتملات على جميع [أصناف] الأشجار، والفواكه، التي يوجد لها نظير في
الدنيا، والتي لا يوجد لها نظير، مما لم تنظر العيون إلى مثله، ولم تسمع
الآذان، ولم يخطر على قلوب العباد


{ وَعُيُونٍ }

سارحة، تشرب منها تلك البساتين، ويشرب بها عباد الله، يفجرونها تفجيرًا.




{ آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ }

يحتمل أن المعنى أن أهل الجنة قد أعطاهم مولاهم جميع مناهم، من جميع
أصناف النعيم، فأخذوا ذلك، راضين به، قد قرت به أعينهم، وفرحت به نفوسهم،
ولم يطلبوا منه بدلاً، ولا يبغون عنه حولاً، وكل قد ناله من النعيم، ما
لا يطلب عليه المزيد، ويحتمل أن هذا وصف المتقين في الدنيا، وأنهم آخذون
ما آتاهم الله، من الأوامر والنواهي، أي: قد تلقوها بالرحب، وانشراح
الصدر، منقادين لما أمر الله به، بالامتثال على أكمل الوجوه، ولما نهى
عنه، بالانزجار عنه لله، على أكمل وجه، فإن الذي أعطاهم الله من الأوامر
والنواهي، هو أفضل العطايا، التي حقها، أن تتلقى بالشكر [لله] عليها،
والانقياد.




والمعنى الأول، ألصق بسياق الكلام، لأنه ذكر وصفهم في الدنيا، وأعمالهم
بقوله:


{ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ }

الوقت الذي وصلوا به إلى النعيم


{ مُحْسِنِينَ }

وهذا شامل لإحسانهم بعبادة ربهم، بأن يعبدوه كأنهم يرونه، فإن لم يكونوا
يرونه، فإنه يراهم، وللإحسان إلى عباد الله ببذل النفع والإحسان، من مال،
أو علم، أو جاه أو نصيحة، أو أمر بمعروف، أو نهي عن منكر، أو غير ذلك من
وجوه الإحسان وطرق الخيرات.




حتى إنه يدخل في ذلك، الإحسان بالقول، والكلام اللين، والإحسان إلى
المماليك، والبهائم المملوكة، وغير المملوكة من أفضل أنواع الإحسان في
عبادة الخالق، صلاة الليل، الدالة على الإخلاص، وتواطؤ القلب واللسان،
ولهذا قال:


{ كَانُوا }

أي: المحسنون


{ قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ }

أي: كان هجوعهم أي: نومهم بالليل، قليلاً، وأما أكثر الليل، فإنهم قانتون
لربهم، ما بين صلاة، وقراءة، وذكر، ودعاء، وتضرع.




{ وَبِالْأَسْحَارِ }

التي هي قبيل الفجر


{ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ }

الله تعالى، فمدوا صلاتهم إلى السحر، ثم جلسوا في خاتمة قيامهم بالليل،
يستغفرون الله تعالى، استغفار المذنب لذنبه، وللاستغفار بالأسحار، فضيلة
وخصيصة، ليست لغيره، كما قال تعالى في وصف أهل الإيمان والطاعة:


{ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ }





{ وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ }

واجب ومستحب


{ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ }

أي: للمحتاجين الذين يطلبون من الناس، والذين لا يطلبون منهم








{ 20-23 } { وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنْفُسِكُمْ
أَفَلَا تُبْصِرُونَ * وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ *
فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ
تَنْطِقُونَ }




يقول تعالى -داعيًا عباده إلى التفكر والاعتبار-:


{ وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ }





وذلك شامل لنفس الأرض، وما فيها، من جبال وبحار، وأنهار، وأشجار، ونبات
تدل المتفكر فيها، المتأمل لمعانيها، على عظمة خالقها، وسعة سلطانه،
وعميم إحسانه، وإحاطة علمه، بالظواهر والبواطن. وكذلك في نفس العبد من
العبر والحكمة والرحمة ما يدل على أن الله وحده الأحد الفرد الصمد، وأنه
لم يخلق الخلق سدى.




وقوله:


{ وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ }

أي مادة رزقكم، من الأمطار، وصنوف الأقدار، الرزق الديني والدنيوي،


{ وَمَا تُوعَدُونَ }

من الجزاء في الدنيا والآخرة، فإنه ينزل من عند الله، كسائر الأقدار.




فلما بين الآيات ونبه عليها تنبيهًا، ينتبه به الذكي اللبيب، أقسم تعالى
على أن وعده وجزاءه حق، وشبه ذلك، بأظهر الأشياء [لنا] وهو النطق، فقال:


{ فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا
أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ }

فكما لا تشكون في نطقكم، فكذلك لا ينبغي الشك في البعث بعد الموت





{ 24-37 } { هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ *
إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ
مُنْكَرُونَ * فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ *
فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ * فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ
خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ *
فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ
عَجُوزٌ عَقِيمٌ * قَالُوا كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ
الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ *





[قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ * قَالُوا إِنَّا
أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ * لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً
مِنْ طِينٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ *
فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا
فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ * وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً
لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ] }





يقول تعالى:


{ هَلْ أَتَاكَ }

أي: أما جاءك


{ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ }

ونبأهم الغريب العجيب، وهم: الملائكة، الذين أرسلهم الله، لإهلاك قوم
لوط، وأمرهم بالمرور على إبراهيم، فجاؤوه في صورة أضياف.




{ إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ }

مجيبًا لهم


{ سَلَامٌ }

أي: عليكم


{ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ }

أي: أنتم قوم منكرون، فأحب أن تعرفوني بأنفسكم، ولم يعرفهم إلا بعد ذلك.




ولهذا راغ إلى أهله أي: ذهب سريعًا في خفية، ليحضر لهم قراهم،


{ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ }

وعرض عليهم الأكل، فـ


{ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً }

حين رأى أيديهم لا تصل إليه،


{ قَالُوا لَا تَخَفْ }

وأخبروه بما جاؤوا له


{ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ }

وهو: إسحاق عليه السلام.




فلما سمعت المرأة البشارة


{ أقبلت }

فرحة مستبشرة


{ فِي صَرَّةٍ }

أي: صيحة


{ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا }

وهذا من جنس ما يجري من لنساء عند السرور [ونحوه] من الأقوال والأفعال
المخالفة للطبيعة والعادة،


{ وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ }

أي: أنى لي الولد، وأنا عجوز، قد بلغت من السن، ما لا تلد معه النساء،
ومع ذلك، فأنا عقيم، غير صالح رحمي للولادة أصلاً، فثم مانعان، كل منهما
مانع من الولد، وقد ذكرت المانع الثالث في سورة هود بقولها:


{ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ }





{ قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ }

أي: الله الذي قدر ذلك وأمضاه، فلا عجب في قدرة الله تعالى


{ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ }

أي: الذي يضع الأشياء مواضعها، وقد وسع كل شيء علمًا فسلموا لحكمه،
واشكروه على نعمته.




قال لهم إبراهيم عليه السلام:


{ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ }

الآيات، أي: ما شأنكم وما تريدون؟ لأنه استشعر أنهم رسل، أرسلهم الله
لبعض الشئون المهمة.




{ قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ }

وهم قوم لوط، قد أجرموا ، أشركوا بالله، وكذبوا رسولهم، وأتوا الفاحشة
الشنعاء التي ما سبقهم إليها أحد من العالمين.








{ لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ مُسَوَّمَةً عِنْدَ
رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ }

أي: معلمة، على كل حجر منها سمة صاحبه لأنهم أسرفوا، وتجاوزوا الحد،
فجعل إبراهيم يجادلهم في قوم لوط، لعل الله يدفع عنهم العذاب، فقال الله:


{ يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ
رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ }





{ فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا
فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ }

وهم بيت لوط عليه السلام، إلا امرأته، فإنها من المهلكين.




{ وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ
}

يعتبرون بها ويعلمون، أن الله شديد العقاب، وأن رسله صادقون، مصدقون.




فصل في ذكر بعض ما تضمنته هذه القصة من الحكم والأحكام




منها: أن من الحكمة، قص الله على عباده نبأ الأخيار والفجار، ليعتبروا
بحالهم وأين وصلت بهم الأحوال.




ومنها: فضل إبراهيم الخليل، عليه الصلاة والسلام، حيث ابتدأ الله قصته،
بما يدل على الاهتمام بشأنها، والاعتناء بها.




ومنها: مشروعية الضيافة، وأنها من سنن إبراهيم الخليل، الذي أمر الله هذا
النبي وأمته، أن يتبعوا ملته، وساقها الله في هذا الموضع، على وجه المدح
له والثناء.




ومنها: أن الضيف يكرم بأنواع الإكرام، بالقول، والفعل، لأن الله وصف
أضياف إبراهيم، بأنهم مكرمون، أي: أكرمهم إبراهيم، ووصف الله ما صنع بهم
من الضيافة، قولاً وفعلاً، ومكرمون أيضًا عند الله تعالى.




ومنها: أن إبراهيم عليه السلام، قد كان بيته، مأوى للطارقين والأضياف،
لأنهم دخلوا عليه من غير استئذان، وإنما سلكوا طريق الأدب، في الابتداء
السلام فرد عليهم إبراهيم سلامًا، أكمل من سلامهم وأتم، لأنه أتى به
جملة اسمية، دالة على الثبوت والاستمرار.




ومنها: مشروعية تعرف من جاء إلى الإنسان، أو صار له فيه نوع اتصال، لأن
في ذلك، فوائد كثيرة.




ومنها: أدب إبراهيم ولطفه في الكلام، حيث قال:


{ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ }

ولم يقل:


{ أنكرتكم }

[وبين اللفظين من الفرق، ما لا يخفى].




ومنها: المبادرة إلى الضيافة والإسراع بها، لأن خير البر عاجله [ولهذا
بادر إبراهيم بإحضار قرى أضيافه].




ومنها: أن الذبيحة الحاضرة، التي قد أعدت لغير الضيف الحاضر إذا جعلت
له، ليس فيها أقل إهانة، بل ذلك من الإكرام، كما فعل إبراهيم عليه
السلام، وأخبر الله أن ضيفه مكرمون.




ومنها: ما من الله به على خليله إبراهيم، من الكرم الكثير، وكون ذلك
حاضرًا عنده وفي بيته معدًا، لا يحتاج إلى أن يأتي به من السوق، أو
الجيران، أو غير ذلك.




ومنها: أن إبراهيم، هو الذي خدم أضيافه، وهو خليل الرحمن، وكبير من ضيف
الضيفان.




ومنها: أنه قربه إليهم في المكان الذي هم فيه، ولم يجعله في موضع، ويقول
لهم:


{ تفضلوا، أو ائتوا إليه }

لأن هذا أيسر عليهم وأحسن.




ومنها: حسن ملاطفة الضيف في الكلام اللين، خصوصًا، عند تقديم الطعام
إليه، فإن إبراهيم عرض عليهم عرضًا لطيفًا، وقال:


{ أَلَا تَأْكُلُونَ }

ولم يقل:


{ كلوا }

ونحوه من الألفاظ، التي غيرها أولى منها، بل أتى بأداة العرض، فقال:


{ أَلَا تَأْكُلُونَ }

فينبغي للمقتدي به أن يستعمل من الألفاظ الحسنة، ما هو المناسب واللائق
بالحال، كقوله لأضيافه:


{ ألا تأكلون }

أو: "ألا تتفضلون علينا وتشرفوننا وتحسنون إلينا " ونحوه.




ومنها: أن من خاف من الإنسان لسبب من الأسباب، فإن عليه أن يزيل عنه
الخوف، ويذكر له ما يؤمن روعه، ويسكن جأشه، كما قالت الملائكة لإبراهيم
[لما خافهم]:


{ لَا تَخَفْ }

وأخبروه بتلك البشارة السارة، بعد الخوف منهم.




ومنها: شدة فرح سارة، امرأة إبراهيم، حتى جرى منها ما جرى، من صك وجهها،
وصرتها غير المعهودة.




ومنها: ما أكرم الله به إبراهيم وزوجته سارة، من البشارة، بغلام عليم.

descriptionتفسيرالقران - صفحة 3 Emptyرد: تفسيرالقران

more_horiz
-
تفسير
سورة
ا
لذاريات
عدد آياتها
60

(
آية

38-60
)

وهي مكية






{


38-40 } { وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ
مُبِينٍ * فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ *
فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ
}




أي:


{ وَفِي مُوسَى }

وما أرسله الله به إلى فرعون وملئه، بالآيات البينات، والمعجزات
الظاهرات، آية للذين يخافون العذاب الأليم، فلما أتى موسى بذلك السلطان
المبين، فتولى فرعون


{ بِرُكْنِهِ }

أي: أعرض بجانبه عن الحق، ولم يلتفت إليه، وقدح فيه أعظم القدح فقالوا:


{ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ }

أي: إن موسى، لا يخلو، إما أن يكون أتى به شعبذة ليس من الحق في شيء،
وإما أن يكون مجنونًا، لا يؤخذ بما صدر منه، لعدم عقله.




هذا، وقد علموا، خصوصًا فرعون، أن موسى صادق، كما قال تعالى:


{ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ [ظُلْمًا
وَعُلُوًّا] }

وقال موسى لفرعون:


{ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ [بَصَائِرَ }

الآية]،




{ فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ
مُلِيمٌ }

أي: مذنب طاغ، عات على الله، فأخذه عزيز مقتدر.







{ 41-42 } { وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ
الْعَقِيمَ * مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ
كَالرَّمِيمِ }




أي


{ وفي عَادٍ }

القبيلة المعروفة آية عظيمة


{ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ }

أي: التي لا خير فيها، حين كذبوا نبيهم هودا عليه السلام.




{ مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ
كَالرَّمِيمِ }

أي: كالرميم البالية، فالذي أهلكهم على قوتهم وبطشهم، دليل على [كمال]
قوته واقتداره، الذي لا يعجزه شيء، المنتقم ممن عصاه.







{ 43-45 } { وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ *
فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ
يَنْظُرُونَ * فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ وَمَا كَانُوا
مُنْتَصِرِينَ }




أي


{ وَفِي ثَمُودَ }

[آية عظيمة]، حين أرسل الله إليهم صالحًا عليه السلام، فكذبوه وعاندوه،
وبعث الله له الناقة، آية مبصرة، فلم يزدهم ذلك إلا عتوًا ونفورًا.




فقيل


{ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ }

أي: الصيحة العظيمة المهلكة


{ وَهُمْ يَنْظُرُونَ }

إلى عقوبتهم بأعينهم.




{ فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ }

ينجون به من العذاب،


{ وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ }

لأنفسهم.







{ 46 } { وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا
فَاسِقِينَ }




أي: وكذلك ما فعل الله بقوم نوح، حين كذبوا نوحًا عليه السلام وفسقوا عن
أمر الله، فأرسل الله عليهم السماء والأرض بالماء المنهمر، فأغرقهم الله
تعالى [عن آخرهم]، ولم يبق من الكافرين ديارًا، وهذه عادة الله وسنته،
فيمن عصاه.




{ 47-51 } { وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ *
وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ * وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ
خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * فَفِرُّوا إِلَى
اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ * وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ
اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ }





يقول تعالى مبينًا لقدرته العظيمة:


{ وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا }

أي: خلقناها وأتقناها، وجعلناها سقفًا للأرض وما عليها.




{ بِأَيْدٍ }

أي: بقوة وقدرة عظيمة


{ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ }

لأرجائها وأنحائها، وإنا لموسعون [أيضا] على عبادنا، بالرزق الذي ما ترك
الله دابة في مهامه القفار، ولجج البحار، وأقطار العالم العلوي والسفلي،
إلا وأوصل إليها من الرزق، ما يكفيها، وساق إليها من الإحسان ما يغنيها.




فسبحان من عم بجوده جميع المخلوقات، وتبارك الذي وسعت رحمته جميع
البريات.




{ وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا }

أي: جعلناها فراشًا للخلق، يتمكنون فيها من كل ما تتعلق به مصالحهم، من
مساكن، وغراس، وزرع، وحرث وجلوس، وسلوك للطرق الموصلة إلى مقاصدهم
ومآربهم، ولما كان الفراش، قد يكون صالحًا للانتفاع من كل وجه، وقد يكون
من وجه دون وجه، أخبر تعالى أنه مهدها أحسن مهاد، على أكمل الوجوه
وأحسنها، وأثنى على نفسه بذلك فقال:


{ فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ }

الذي مهد لعباده ما اقتضته [حكمته] ورحمته وإحسانه.




{ وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ }

[أي: صنفين]، ذكر وأنثى، من كل نوع من أنواع الحيوانات،


{ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ }

[لنعم الله التي أنعم بها عليكم] في تقدير ذلك، وحكمته حيث جعل ما هو
السبب لبقاء نوع الحيوانات كلها، لتقوموا بتنميتها وخدمتها وتربيتها،
فيحصل من ذلك ما يحصل من المنافع.




فلما دعا العباد النظر إلى لآياته الموجبة لخشيته والإنابة إليه، أمر بما
هو المقصود من ذلك، وهو الفرار إليه أي: الفرار مما يكرهه الله ظاهرًا
وباطنًا، إلى ما يحبه، ظاهرًا وباطنًا، فرار من الجهل إلى العلم، ومن
الكفر إلى الإيمان، ومن المعصية إلى الطاعة، و من الغفلة إلى ذكر الله
فمن استكمل هذه الأمور، فقد استكمل الدين كله وقد زال عنه المرهوب، وحصل
له، نهاية المراد والمطلوب.




وسمى الله الرجوع إليه، فرارَا، لأن في الرجوع لغيره، أنواع المخاوف
والمكاره، وفي الرجوع إليه، أنواع المحاب والأمن، [والسرور] والسعادة
والفوز، فيفر العبد من قضائه وقدره، إلى قضائه وقدره، وكل من خفت منه
فررت منه إلى الله تعالى، فإنه بحسب الخوف منه، يكون الفرار إليه،


{ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ }

أي: منذر لكم من عذاب الله، ومخوف بين النذارة.




{ وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ}

هذا من الفرار إلى الله، بل هذا أصل الفرار إليه أن يفر العبد من اتخاذ
آلهة غير الله، من الأوثان، والأنداد والقبور، وغيرها، مما عبد من دون
الله، ويخلص العبد لربه العبادة والخوف، والرجاء والدعاء، والإنابة.




{ 52-53 } { كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ
إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ * أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ
قَوْمٌ طَاغُونَ }




يقول الله مسليًا لرسوله صلى الله عليه وسلم عن تكذيب المشركين بالله،
المكذبين له، القائلين فيه من الأقوال الشنيعة، ما هو منزه عنه، وأن هذه
الأقوال، ما زالت دأبًا وعادة للمجرمين المكذبين للرسل فما أرسل الله من
رسول، إلا رماه قومه بالسحر أو الجنون.




يقول الله تعالى: هذه الأقوال التي صدرت منهم -الأولين والآخرين- هل هي
أقوال تواصوا بها، ولقن بعضهم بعضًا بها؟




فلا يستغرب -بسبب ذلك- اتفاقهم عليها:


{ أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ }

تشابهت قلوبهم وأعمالهم بالكفر والطغيان، فتشابهت أقوالهم الناشئة عن
طغيانهم؟ وهذا هو الواقع، كما قال تعالى:


{ وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ
تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ
قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ }

وكذلك المؤمنون، لما تشابهت قلوبهم بالإذعان للحق وطلبه، والسعي فيه،
بادروا إلى الإيمان برسلهم وتعظيمهم، وتوقيرهم، وخطابهم بالخطاب اللائق
بهم.







{ 54-55 } { فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ * وَذَكِّرْ
فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ }




يقول تعالى آمرًا رسوله بالإعراض عن المعرضين المكذبين:


{ فَتَوَلَّ عَنْهُمْ }

أي: لا تبال بهم ولا تؤاخذهم، وأقبل على شأنك.




فليس عليك لوم في ذنبهم، وإنما عليك البلاغ، وقد أديت ما حملت، وبلغت ما
أرسلت به.




{ وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ }

والتذكير نوعان: تذكير بما لم يعرف تفصيله، مما عرف مجمله بالفطر
والعقول فإن الله فطر العقول على محبة الخير وإيثاره، وكراهة الشر
والزهد فيه، وشرعه موافق لذلك، فكل أمر ونهي من الشرع، فإنه من التذكير،
وتمام التذكير، أن يذكر ما في المأمور به ، من الخير والحسن والمصالح،
وما في المنهي عنه، من المضار.




والنوع الثاني من التذكير: تذكير بما هو معلوم للمؤمنين، ولكن انسحبت
عليه الغفلة والذهول، فيذكرون بذلك، ويكرر عليهم ليرسخ في أذهانهم،
وينتبهوا ويعملوا بما تذكروه، من ذلك، وليحدث لهم نشاطًا وهمة، توجب لهم
الانتفاع والارتفاع.




وأخبر الله أن الذكرى تنفع المؤمنين، لأن ما معهم من الإيمان والخشية
والإنابة، واتباع رضوان الله، يوجب لهم أن تنفع فيهم الذكرى، وتقع
الموعظة منهم موقعها كما قال تعالى:


{ فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى
وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى }





وأما من ليس له معه إيمان ولا استعداد لقبول التذكير، فهذا لا ينفع
تذكيره، بمنزلة الأرض السبخة، التي لا يفيدها المطر شيئًا، وهؤلاء الصنف،
لو جاءتهم كل آية، لم يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم.







{ 56-58 } { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ *
مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ *
إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ }




هذه الغاية، التي خلق الله الجن والإنس لها، وبعث جميع الرسل يدعون
إليها، وهي عبادته، المتضمنة لمعرفته ومحبته، والإنابة إليه والإقبال
عليه، والإعراض عما سواه، وذلك يتضمن معرفة الله تعالى، فإن تمام
العبادة، متوقف على المعرفة بالله، بل كلما ازداد العبد معرفة لربه، كانت
عبادته أكمل، فهذا الذي خلق الله المكلفين لأجله، فما خلقهم لحاجة منه
إليهم.




فما يريد منهم من رزق وما يريد أن يطمعوه، تعالى الله الغني المغني عن
الحاجة إلى أحد بوجه من الوجوه، وإنما جميع الخلق، فقراء إليه، في جميع
حوائجهم ومطالبهم، الضرورية وغيرها، ولهذا قال:


{ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ }

أي: كثير الرزق، الذي ما من دابة في الأرض ولا في السماء إلا على الله
رزقها، ويعلم مستقرها ومستودعها،


{ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ }

أي: الذي له القوة والقدرة كلها، الذي أوجد بها الأجرام العظيمة، السفلية
والعلوية، وبها تصرف في الظواهر والبواطن، ونفذت مشيئته في جميع البريات،
فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، ولا يعجزه هارب، ولا يخرج عن
سلطانه أحد، ومن قوته، أنه أوصل رزقه إلى جميع العالم، ومن قدرته وقوته،
أنه يبعث الأموات بعد ما مزقهم البلى، وعصفت بترابهم الرياح، وابتلعتهم
الطيور والسباع، وتفرقوا وتمزقوا في مهامه القفار، ولجج البحار، فلا
يفوته منهم أحد، ويعلم ما تنقص الأرض منهم، فسبحان القوي المتين.







{ 59-60 } { فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ
أَصْحَابِهِمْ فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ * فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا
مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ }




أي: وإن للذين ظلموا وكذبوا محمدًا صلى الله عليه وسلم، من العذاب
والنكال


{ ذَنُوبًا }

أي: نصيبًا وقسطًا، مثل ما فعل بأصحابهم من أهل الظلم والتكذيب.




{ فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ }

بالعذاب، فإن سنة الله في الأمم واحدة، فكل مكذب يدوم على تكذيبه من غير
توبة وإنابة، فإنه لا بد أن يقع عليه العذاب، ولو تأخر عنه مدة، ولهذا
توعدهم الله بيوم القيامة، فقال:


{ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ }

وهو يوم القيامة، الذي قد وعدوا فيه بأنواع العذاب والنكال والسلاسل
والأغلال، فلا مغيث لهم، ولا منقذ من عذاب الله تعالى [نعوذ بالله منه].

descriptionتفسيرالقران - صفحة 3 Emptyرد: تفسيرالقران

more_horiz
-
تفسير
سورة
ا
لذاريات
عدد آياتها
60

(
آية

38-60
)

وهي مكية




تااابع (2)


{

38-40 } { وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ
مُبِينٍ * فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ *
فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ
}




أي:


{ وَفِي مُوسَى }

وما أرسله الله به إلى فرعون وملئه، بالآيات البينات، والمعجزات
الظاهرات، آية للذين يخافون العذاب الأليم، فلما أتى موسى بذلك السلطان
المبين، فتولى فرعون


{ بِرُكْنِهِ }

أي: أعرض بجانبه عن الحق، ولم يلتفت إليه، وقدح فيه أعظم القدح فقالوا:


{ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ }

أي: إن موسى، لا يخلو، إما أن يكون أتى به شعبذة ليس من الحق في شيء،
وإما أن يكون مجنونًا، لا يؤخذ بما صدر منه، لعدم عقله.




هذا، وقد علموا، خصوصًا فرعون، أن موسى صادق، كما قال تعالى:


{ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ [ظُلْمًا
وَعُلُوًّا] }

وقال موسى لفرعون:


{ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ [بَصَائِرَ }

الآية]،




{ فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ
مُلِيمٌ }

أي: مذنب طاغ، عات على الله، فأخذه عزيز مقتدر.







{ 41-42 } { وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ
الْعَقِيمَ * مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ
كَالرَّمِيمِ }




أي


{ وفي عَادٍ }

القبيلة المعروفة آية عظيمة


{ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ }

أي: التي لا خير فيها، حين كذبوا نبيهم هودا عليه السلام.




{ مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ
كَالرَّمِيمِ }

أي: كالرميم البالية، فالذي أهلكهم على قوتهم وبطشهم، دليل على [كمال]
قوته واقتداره، الذي لا يعجزه شيء، المنتقم ممن عصاه.







{ 43-45 } { وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ *
فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ
يَنْظُرُونَ * فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ وَمَا كَانُوا
مُنْتَصِرِينَ }




أي


{ وَفِي ثَمُودَ }

[آية عظيمة]، حين أرسل الله إليهم صالحًا عليه السلام، فكذبوه وعاندوه،
وبعث الله له الناقة، آية مبصرة، فلم يزدهم ذلك إلا عتوًا ونفورًا.




فقيل


{ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ }

أي: الصيحة العظيمة المهلكة


{ وَهُمْ يَنْظُرُونَ }

إلى عقوبتهم بأعينهم.




{ فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ }

ينجون به من العذاب،


{ وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ }

لأنفسهم.







{ 46 } { وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا
فَاسِقِينَ }




أي: وكذلك ما فعل الله بقوم نوح، حين كذبوا نوحًا عليه السلام وفسقوا عن
أمر الله، فأرسل الله عليهم السماء والأرض بالماء المنهمر، فأغرقهم الله
تعالى [عن آخرهم]، ولم يبق من الكافرين ديارًا، وهذه عادة الله وسنته،
فيمن عصاه.




{ 47-51 } { وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ *
وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ * وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ
خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * فَفِرُّوا إِلَى
اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ * وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ
اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ }





يقول تعالى مبينًا لقدرته العظيمة:


{ وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا }

أي: خلقناها وأتقناها، وجعلناها سقفًا للأرض وما عليها.




{ بِأَيْدٍ }

أي: بقوة وقدرة عظيمة


{ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ }

لأرجائها وأنحائها، وإنا لموسعون [أيضا] على عبادنا، بالرزق الذي ما ترك
الله دابة في مهامه القفار، ولجج البحار، وأقطار العالم العلوي والسفلي،
إلا وأوصل إليها من الرزق، ما يكفيها، وساق إليها من الإحسان ما يغنيها.




فسبحان من عم بجوده جميع المخلوقات، وتبارك الذي وسعت رحمته جميع
البريات.




{ وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا }

أي: جعلناها فراشًا للخلق، يتمكنون فيها من كل ما تتعلق به مصالحهم، من
مساكن، وغراس، وزرع، وحرث وجلوس، وسلوك للطرق الموصلة إلى مقاصدهم
ومآربهم، ولما كان الفراش، قد يكون صالحًا للانتفاع من كل وجه، وقد يكون
من وجه دون وجه، أخبر تعالى أنه مهدها أحسن مهاد، على أكمل الوجوه
وأحسنها، وأثنى على نفسه بذلك فقال:


{ فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ }

الذي مهد لعباده ما اقتضته [حكمته] ورحمته وإحسانه.




{ وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ }

[أي: صنفين]، ذكر وأنثى، من كل نوع من أنواع الحيوانات،


{ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ }

[لنعم الله التي أنعم بها عليكم] في تقدير ذلك، وحكمته حيث جعل ما هو
السبب لبقاء نوع الحيوانات كلها، لتقوموا بتنميتها وخدمتها وتربيتها،
فيحصل من ذلك ما يحصل من المنافع.




فلما دعا العباد النظر إلى لآياته الموجبة لخشيته والإنابة إليه، أمر بما
هو المقصود من ذلك، وهو الفرار إليه أي: الفرار مما يكرهه الله ظاهرًا
وباطنًا، إلى ما يحبه، ظاهرًا وباطنًا، فرار من الجهل إلى العلم، ومن
الكفر إلى الإيمان، ومن المعصية إلى الطاعة، و من الغفلة إلى ذكر الله
فمن استكمل هذه الأمور، فقد استكمل الدين كله وقد زال عنه المرهوب، وحصل
له، نهاية المراد والمطلوب.




وسمى الله الرجوع إليه، فرارَا، لأن في الرجوع لغيره، أنواع المخاوف
والمكاره، وفي الرجوع إليه، أنواع المحاب والأمن، [والسرور] والسعادة
والفوز، فيفر العبد من قضائه وقدره، إلى قضائه وقدره، وكل من خفت منه
فررت منه إلى الله تعالى، فإنه بحسب الخوف منه، يكون الفرار إليه،


{ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ }

أي: منذر لكم من عذاب الله، ومخوف بين النذارة.




{ وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ}

هذا من الفرار إلى الله، بل هذا أصل الفرار إليه أن يفر العبد من اتخاذ
آلهة غير الله، من الأوثان، والأنداد والقبور، وغيرها، مما عبد من دون
الله، ويخلص العبد لربه العبادة والخوف، والرجاء والدعاء، والإنابة.




{ 52-53 } { كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ
إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ * أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ
قَوْمٌ طَاغُونَ }




يقول الله مسليًا لرسوله صلى الله عليه وسلم عن تكذيب المشركين بالله،
المكذبين له، القائلين فيه من الأقوال الشنيعة، ما هو منزه عنه، وأن هذه
الأقوال، ما زالت دأبًا وعادة للمجرمين المكذبين للرسل فما أرسل الله من
رسول، إلا رماه قومه بالسحر أو الجنون.




يقول الله تعالى: هذه الأقوال التي صدرت منهم -الأولين والآخرين- هل هي
أقوال تواصوا بها، ولقن بعضهم بعضًا بها؟




فلا يستغرب -بسبب ذلك- اتفاقهم عليها:


{ أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ }

تشابهت قلوبهم وأعمالهم بالكفر والطغيان، فتشابهت أقوالهم الناشئة عن
طغيانهم؟ وهذا هو الواقع، كما قال تعالى:


{ وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ
تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ
قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ }

وكذلك المؤمنون، لما تشابهت قلوبهم بالإذعان للحق وطلبه، والسعي فيه،
بادروا إلى الإيمان برسلهم وتعظيمهم، وتوقيرهم، وخطابهم بالخطاب اللائق
بهم.







{ 54-55 } { فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ * وَذَكِّرْ
فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ }




يقول تعالى آمرًا رسوله بالإعراض عن المعرضين المكذبين:


{ فَتَوَلَّ عَنْهُمْ }

أي: لا تبال بهم ولا تؤاخذهم، وأقبل على شأنك.




فليس عليك لوم في ذنبهم، وإنما عليك البلاغ، وقد أديت ما حملت، وبلغت ما
أرسلت به.




{ وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ }

والتذكير نوعان: تذكير بما لم يعرف تفصيله، مما عرف مجمله بالفطر
والعقول فإن الله فطر العقول على محبة الخير وإيثاره، وكراهة الشر
والزهد فيه، وشرعه موافق لذلك، فكل أمر ونهي من الشرع، فإنه من التذكير،
وتمام التذكير، أن يذكر ما في المأمور به ، من الخير والحسن والمصالح،
وما في المنهي عنه، من المضار.




والنوع الثاني من التذكير: تذكير بما هو معلوم للمؤمنين، ولكن انسحبت
عليه الغفلة والذهول، فيذكرون بذلك، ويكرر عليهم ليرسخ في أذهانهم،
وينتبهوا ويعملوا بما تذكروه، من ذلك، وليحدث لهم نشاطًا وهمة، توجب لهم
الانتفاع والارتفاع.




وأخبر الله أن الذكرى تنفع المؤمنين، لأن ما معهم من الإيمان والخشية
والإنابة، واتباع رضوان الله، يوجب لهم أن تنفع فيهم الذكرى، وتقع
الموعظة منهم موقعها كما قال تعالى:


{ فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى
وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى }





وأما من ليس له معه إيمان ولا استعداد لقبول التذكير، فهذا لا ينفع
تذكيره، بمنزلة الأرض السبخة، التي لا يفيدها المطر شيئًا، وهؤلاء الصنف،
لو جاءتهم كل آية، لم يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم.







{ 56-58 } { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ *
مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ *
إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ }




هذه الغاية، التي خلق الله الجن والإنس لها، وبعث جميع الرسل يدعون
إليها، وهي عبادته، المتضمنة لمعرفته ومحبته، والإنابة إليه والإقبال
عليه، والإعراض عما سواه، وذلك يتضمن معرفة الله تعالى، فإن تمام
العبادة، متوقف على المعرفة بالله، بل كلما ازداد العبد معرفة لربه، كانت
عبادته أكمل، فهذا الذي خلق الله المكلفين لأجله، فما خلقهم لحاجة منه
إليهم.




فما يريد منهم من رزق وما يريد أن يطمعوه، تعالى الله الغني المغني عن
الحاجة إلى أحد بوجه من الوجوه، وإنما جميع الخلق، فقراء إليه، في جميع
حوائجهم ومطالبهم، الضرورية وغيرها، ولهذا قال:


{ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ }

أي: كثير الرزق، الذي ما من دابة في الأرض ولا في السماء إلا على الله
رزقها، ويعلم مستقرها ومستودعها،


{ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ }

أي: الذي له القوة والقدرة كلها، الذي أوجد بها الأجرام العظيمة، السفلية
والعلوية، وبها تصرف في الظواهر والبواطن، ونفذت مشيئته في جميع البريات،
فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، ولا يعجزه هارب، ولا يخرج عن
سلطانه أحد، ومن قوته، أنه أوصل رزقه إلى جميع العالم، ومن قدرته وقوته،
أنه يبعث الأموات بعد ما مزقهم البلى، وعصفت بترابهم الرياح، وابتلعتهم
الطيور والسباع، وتفرقوا وتمزقوا في مهامه القفار، ولجج البحار، فلا
يفوته منهم أحد، ويعلم ما تنقص الأرض منهم، فسبحان القوي المتين.







{ 59-60 } { فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ
أَصْحَابِهِمْ فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ * فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا
مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ }




أي: وإن للذين ظلموا وكذبوا محمدًا صلى الله عليه وسلم، من العذاب
والنكال


{ ذَنُوبًا }

أي: نصيبًا وقسطًا، مثل ما فعل بأصحابهم من أهل الظلم والتكذيب.




{ فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ }

بالعذاب، فإن سنة الله في الأمم واحدة، فكل مكذب يدوم على تكذيبه من غير
توبة وإنابة، فإنه لا بد أن يقع عليه العذاب، ولو تأخر عنه مدة، ولهذا
توعدهم الله بيوم القيامة، فقال:


{ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ }

وهو يوم القيامة، الذي قد وعدوا فيه بأنواع العذاب والنكال والسلاسل
والأغلال، فلا مغيث لهم، ولا منقذ من عذاب الله تعالى [نعوذ بالله منه].

descriptionتفسيرالقران - صفحة 3 Emptyرد: تفسيرالقران

more_horiz
-
تفسير
سورة
ا
لحجرات
عدد آياتها 18

(



آية


1-18
)

وهي مدنية






{

1-3


} {

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ
إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا
تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا
لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ
أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ * إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ
أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ
اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ


}




هذا متضمن للأدب، مع الله تعالى، ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم،
والتعظيم له ، واحترامه، وإكرامه، فأمر [الله] عباده المؤمنين، بما
يقتضيه الإيمان، بالله وبرسوله، من امتثال أوامر الله، واجتناب نواهيه،
وأن يكونوا ماشين، خلف أوامر الله، متبعين لسنة رسول الله صلى الله عليه
وسلم، في جميع أمورهم، و [أن] لا يتقدموا بين يدي الله ورسوله، ولا
يقولوا، حتى يقول، ولا يأمروا، حتى يأمر، فإن هذا، حقيقة الأدب الواجب،
مع الله ورسوله، وهو عنوان سعادة العبد وفلاحه، وبفواته، تفوته السعادة
الأبدية، والنعيم السرمدي، وفي هذا، النهي [الشديد] عن تقديم قول غير
الرسول صلى الله عليه وسلم، على قوله، فإنه متى استبانت سنة رسول الله
صلى الله عليه وسلم، وجب اتباعها، وتقديمها على غيرها، كائنا ما كان




ثم أمر الله بتقواه عمومًا، وهي كما قال طلق بن حبيب: أن تعمل بطاعة
الله، على نور من الله، ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله، على نور من
الله، تخشى عقاب الله.




وقوله: {

إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ


} أي: لجميع الأصوات في جميع الأوقات، في خفي المواضع والجهات، {

عَلِيمٌ


} بالظواهر والبواطن، والسوابق واللواحق، والواجبات والمستحيلات
والممكنات




وفي ذكر الاسمين الكريمين -بعد النهي عن التقدم بين يدي الله ورسوله،
والأمر بتقواه- حث على امتثال تلك الأوامر الحسنة، والآداب المستحسنة،
وترهيب عن عدم الامتثال




ثم قال تعالى: {

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ
صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ


} وهذا أدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، في خطابه، أي: لا يرفع
المخاطب له، صوته معه، فوق صوته، ولا يجهر له بالقول، بل يغض الصوت،
ويخاطبه بأدب ولين، وتعظيم وتكريم، وإجلال وإعظام، ولا يكون الرسول
كأحدهم، بل يميزوه في خطابهم، كما تميز عن غيره، في وجوب حقه على الأمة،
ووجوب الإيمان به، والحب الذي لا يتم الإيمان إلا به، فإن في عدم القيام
بذلك، محذورًا، وخشية أن يحبط عمل العبد وهو لا يشعر، كما أن الأدب معه،
من أسباب [حصول الثواب و] قبول الأعمال.




ثم مدح من غض صوته عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، بأن الله امتحن
قلوبهم للتقوى، أي: ابتلاها واختبرها، فظهرت نتيجة ذلك، بأن صلحت قلوبهم
للتقوى، ثم وعدهم المغفرة لذنوبهم، المتضمنة لزوال الشر والمكروه، والأجر
العظيم، الذي لا يعلم وصفه إلا الله تعالى، وفي الأجر العظيم وجود
المحبوب وفي هذا، دليل على أن الله يمتحن القلوب، بالأمر والنهي والمحن،
فمن لازم أمر الله، واتبع رضاه، وسارع إلى ذلك، وقدمه على هواه، تمحض
وتمحص للتقوى، وصار قلبه صالحًا لها ومن لم يكن كذلك، علم أنه لا يصلح
للتقوى.





{

4-5


} {

إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ
لَا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ
لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ }





نزلت هذه الآيات الكريمة، في أناس من الأعراب، الذين وصفهم الله تعالى
بالجفاء، وأنهم أجدر أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله، قدموا
وافدين على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجدوه في بيته وحجرات نسائه،
فلم يصبروا ويتأدبوا حتى يخرج، بل نادوه: يا محمد يا محمد، [أي: اخرج
إلينا]، فذمهم الله بعدم العقل، حيث لم يعقلوا عن الله الأدب مع رسوله
واحترامه، كما أن من العقل وعلامته استعمال الأدب.




فأدب العبد، عنوان عقله، وأن الله مريد به الخير، ولهذا قال:


{ وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا
لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ }

أي: غفور لما صدر عن عباده من الذنوب، والإخلال بالآداب، رحيم بهم، حيث
لم يعاجلهم بذنوبهم بالعقوبات والمثلات.







{ 6 } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ
فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى
مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ }




وهذا أيضًا، من الآداب التي على أولي الألباب، التأدب بها واستعمالها،
وهو أنه إذا أخبرهم فاسق بخبر أن يتثبتوا في خبره، ولا يأخذوه مجردًا،
فإن في ذلك خطرًا كبيرًا، ووقوعًا في الإثم، فإن خبره إذا جعل بمنزلة خبر
الصادق العدل، حكم بموجب ذلك ومقتضاه، فحصل من تلف النفوس والأموال، بغير
حق، بسبب ذلك الخبر ما يكون سببًا للندامة، بل الواجب عند خبر الفاسق،
التثبت والتبين، فإن دلت الدلائل والقرائن على صدقه، عمل به وصدق، وإن
دلت على كذبه، كذب، ولم يعمل به، ففيه دليل، على أن خبر الصادق مقبول،
وخبر الكاذب، مردود، وخبر الفاسق متوقف فيه كما ذكرنا، ولهذا كان السلف
يقبلون روايات كثير [من] الخوارج، المعروفين بالصدق، ولو كانوا فساقًا.







{ 7-8 } { وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ
فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ
إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ
إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ
الرَّاشِدُونَ * فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ
حَكِيمٌ }




أي: ليكن لديكم معلومًا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بين أظهركم،
وهو الرسول الكريم، البار، الراشد، الذي يريد بكم الخير وينصح لكم،
وتريدون لأنفسكم من الشر والمضرة، ما لا يوافقكم الرسول عليه، ولو يطيعكم
في كثير من الأمر لشق عليكم وأعنتكم، ولكن الرسول يرشدكم، والله تعالى
يحبب إليكم الإيمان، ويزينه في قلوبكم، بما أودع الله في قلوبكم من محبة
الحق وإيثاره، وبما ينصب على الحق من الشواهد، والأدلة الدالة على صحته،
وقبول القلوب والفطر له، وبما يفعله تعالى بكم، من توفيقه للإنابة إليه،
ويكره إليكم الكفر والفسوق، أي: الذنوب الكبار، والعصيان: هي ما دون ذلك
من الذنوب بما أودع في قلوبكم من كراهة الشر، وعدم إرادة فعله، وبما
نصبه من الأدلة والشواهد على فساده، وعدم قبول الفطر له، وبما يجعله الله
من الكراهة في القلوب له




{ أُولَئِكَ }

أي: الذين زين الله الإيمان في قلوبهم، وحببه إليهم، وكره إليهم الكفر
والفسوق والعصيان


{ هُمُ الرَّاشِدُونَ }

أي: الذين صلحت علومهم وأعمالهم، واستقاموا على الدين القويم، والصراط
المستقيم.




وضدهم الغاوون، الذين حبب إليهم الكفر والفسوق والعصيان، وكره إليهم
الإيمان، والذنب ذنبهم، فإنهم لما فسقوا طبع الله على قلوبهم، ولما


{ زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ }

ولما لم يؤمنوا بالحق لما جاءهم أول مرة، قلب الله أفئدتهم.




وقوله:


{ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً }

أي: ذلك الخير الذي حصل لهم، هو بفضل الله عليهم وإحسانه، لا بحولهم
وقوتهم.




{ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ }

أي: عليم بمن يشكر النعمة، فيوفقه لها، ممن لا يشكرها، ولا تليق به، فيضع
فضله، حيث تقتضيه حكمته.







{ 9-10 } { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا
فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى
فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ
فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ
اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ
فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ
تُرْحَمُونَ }




هذا متضمن لنهي المؤمنين، [عن] أن يبغي بعضهم على بعض، ويقاتل بعضهم
بعضًا، وأنه إذا اقتتلت طائفتان من المؤمنين، فإن على غيرهم من المؤمنين
أن يتلافوا هذا الشر الكبير، بالإصلاح بينهم، والتوسط بذلك على أكمل وجه
يقع به الصلح، ويسلكوا الطريق الموصلة إلى ذلك، فإن صلحتا، فبها ونعمت،
وإن


{ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي
حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ }

أي: ترجع إلى ما حد الله ورسوله، من فعل الخير وترك الشر، الذي من أعظمه،
الاقتتال، [وقوله]


{ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ }

هذا أمر بالصلح، وبالعدل في الصلح، فإن الصلح، قد يوجد، ولكن لا يكون
بالعدل، بل بالظلم والحيف على أحد الخصمين، فهذا ليس هو الصلح المأمور
به، فيجب أن لا يراعى أحدهما، لقرابة، أو وطن، أو غير ذلك من المقاصد
والأغراض، التي توجب العدول عن العدل،


{ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ }

أي: العادلين في حكمهم بين الناس وفي جميع الولايات، التي تولوها، حتى
إنه، قد يدخل في ذلك عدل الرجل في أهله، وعياله، في أدائه حقوقهم، وفي
الحديث الصحيح: "المقسطون عند الله، على منابر من نور الذين يعدلون في
حكمهم وأهليهم، وما ولوا"




{ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ }

هذا عقد، عقده الله بين المؤمنين، أنه إذا وجد من أي شخص كان، في مشرق
الأرض ومغربها، الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر،
فإنه أخ للمؤمنين، أخوة توجب أن يحب له المؤمنون، ما يحبون لأنفسهم،
ويكرهون له، ما يكرهون لأنفسهم، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم
آمرًا بحقوق الأخوة الإيمانية: "لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا،
ولا يبع أحدكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانًا المؤمن أخو المؤمن،
لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يحقره"




وقال صلى الله عليه وسلم "المؤمن للمؤمن، كالبنيان يشد بعضه بعضًا" وشبك
صلى الله عليه وسلم بين أصابعه.




ولقد أمر الله ورسوله، بالقيام بحقوق المؤمنين، بعضهم لبعض، وبما به يحصل
التآلف والتوادد، والتواصل بينهم، كل هذا، تأييد لحقوق بعضهم على بعض،
فمن ذلك، إذا وقع الاقتتال بينهم، الموجب لتفرق القلوب وتباغضها
[وتدابرها]، فليصلح المؤمنون بين إخوانهم، وليسعوا فيما به يزول شنآنهم.




ثم أمر بالتقوى عمومًا، ورتب على القيام بحقوق المؤمنين وبتقوى الله،
الرحمة [ فقال:


{ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ }

وإذا حصلت الرحمة، حصل خير الدنيا والآخرة، ودل ذلك، على أن عدم القيام
بحقوق المؤمنين، من أعظم حواجب الرحمة.




وفي هاتين الآيتين من الفوائد، غير ما تقدم: أن الاقتتال بين المؤمنين
مناف للأخوة الإيمانية، ولهذا، كان من أكبر الكبائر، وأن الإيمان،
والأخوة الإيمانية، لا تزول مع وجود القتال كغيره من الذنوب الكبار، التي
دون الشرك، وعلى ذلك مذهب أهل السنة والجماعة، وعلى وجوب الإصلاح، بين
المؤمنين بالعدل، وعلى وجوب قتال البغاة، حتى يرجعوا إلى أمر الله، وعلى
أنهم لو رجعوا، لغير أمر الله، بأن رجعوا على وجه لا يجوز الإقرار عليه
والتزامه، أنه لا يجوز ذلك، وأن أموالهم معصومة، لأن الله أباح دماءهم
وقت استمرارهم على بغيهم خاصة، دون أموالهم.







{ 11 } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ
عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى
أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا
تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ
الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ }





وهذا أيضًا، من حقوق المؤمنين، بعضهم على بعض، أن


{ لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ }

بكل كلام، وقول، وفعل دال على تحقير الأخ المسلم، فإن ذلك حرام، لا يجوز،
وهو دال على إعجاب الساخر بنفسه، وعسى أن يكون المسخور به خيرًا من
الساخر، كما هو الغالب والواقع، فإن السخرية، لا تقع إلا من قلب ممتلئ
من مساوئ الأخلاق، متحل بكل خلق ذميم، ولهذا قال النبي صلى الله عليه
وسلم "بحسب امرئ من الشر، أن يحقر أخاه المسلم"




ثم قال:


{ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ }

أي: لا يعب بعضكم على بعض، واللمز: بالقول، والهمز: بالفعل، وكلاهما منهي
عنه حرام، متوعد عليه بالنار.




كما قال تعالى:


{ وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ }

الآية، وسمي الأخ المؤمن نفسًا لأخيه، لأن المؤمنين ينبغي أن يكون هكذا
حالهم كالجسد الواحد، ولأنه إذا همز غيره، أوجب للغير أن يهمزه، فيكون هو
المتسبب لذلك.




{ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ }

أي: لا يعير أحدكم أخاه، ويلقبه بلقب ذم يكره أن يطلق عليه وهذا هو
التنابز، وأما الألقاب غير المذمومة، فلا تدخل في هذا.




{ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ }

أي: بئسما تبدلتم عن الإيمان والعمل بشرائعه، وما تقتضيه، بالإعراض عن
أوامره ونواهيه، باسم الفسوق والعصيان، الذي هو التنابز بالألقاب.




{ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ }

فهذا [هو] الواجب على العبد، أن يتوب إلى الله تعالى، ويخرج من حق أخيه
المسلم، باستحلاله، والاستغفار، والمدح له مقابلة [على] ذمه.




{ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ }

فالناس قسمان: ظالم لنفسه غير تائب، وتائب مفلح، ولا ثم قسم ثالث غيرهما.




{ 12 } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ
الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ
بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ
مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ
رَحِيمٌ }




نهى الله تعالى عن كثير من الظن السوء بالمؤمنين، فـ


{ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ }

وذلك، كالظن الخالي من الحقيقة والقرينة، وكظن السوء، الذي يقترن به كثير
من الأقوال، والأفعال المحرمة، فإن بقاء ظن السوء بالقلب، لا يقتصر صاحبه
على مجرد ذلك، بل لا يزال به، حتى يقول ما لا ينبغي، ويفعل ما لا ينبغي،
وفي ذلك أيضًا، إساءة الظن بالمسلم، وبغضه، وعداوته المأمور بخلاف ذلك
منه.




{ وَلَا تَجَسَّسُوا }

أي: لا تفتشوا عن عورات المسلمين، ولا تتبعوها، واتركوا المسلم على
حاله، واستعملوا التغافل عن أحواله التي إذا فتشت، ظهر منها ما لا
ينبغي.




{ وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا }

والغيبة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:


{ ذكرك أخاك بما يكره ولو كان فيه }





ثم ذكر مثلاً منفرًا عن الغيبة، فقال:


{ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا
فَكَرِهْتُمُوهُ }

شبه أكل لحمه ميتًا، المكروه للنفوس [غاية الكراهة]، باغتيابه، فكما أنكم
تكرهون أكل لحمه، وخصوصًا إذا كان ميتًا، فاقد الروح، فكذلك، [فلتكرهوا]
غيبته، وأكل لحمه حيًا.




{ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ }

والتواب، الذي يأذن بتوبة عبده، فيوفقه لها، ثم يتوب عليه، بقبول توبته،
رحيم بعباده، حيث دعاهم إلى ما ينفعهم، وقبل منهم التوبة، وفي هذه الآية،
دليل على التحذير الشديد من الغيبة، وأن الغيبة من الكبائر، لأن الله
شبهها بأكل لحم الميت، وذلك من الكبائر.







{ 13 } { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ
وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ
أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ
}




يخبر تعالى أنه خلق بني آدم، من أصل واحد، وجنس واحد، وكلهم من ذكر
وأنثى، ويرجعون جميعهم إلى آدم وحواء، ولكن الله [تعالى] بث منهما رجالاً
كثيرا ونساء، وفرقهم، وجعلهم شعوبًا وقبائل أي: قبائل صغارًا وكبارًا،
وذلك لأجل أن يتعارفوا، فإنهم لو استقل كل واحد منهم بنفسه، لم يحصل
بذلك، التعارف الذي يترتب عليه التناصر والتعاون، والتوارث، والقيام
بحقوق الأقارب، ولكن الله جعلهم شعوبًا وقبائل، لأجل أن تحصل هذه الأمور
وغيرها، مما يتوقف على التعارف، ولحوق الأنساب، ولكن الكرم بالتقوى،
فأكرمهم عند الله، أتقاهم، وهو أكثرهم طاعة وانكفافًا عن المعاصي، لا
أكثرهم قرابة وقومًا، ولا أشرفهم نسبًا، ولكن الله تعالى عليم خبير، يعلم
من يقوم منهم بتقوى الله، ظاهرًا وباطنًا، ممن يقوم بذلك، ظاهرًا لا
باطنًا، فيجازي كلا، بما يستحق.




وفي هذه الآية دليل على أن معرفة الأنساب، مطلوبة مشروعة، لأن الله جعلهم
شعوبًا وقبائل، لأجل ذلك.







{ 14-18 } { قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ
قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ
وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ
شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ
الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا
وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ
وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ
بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم * يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا
تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ
هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * إِنَّ اللَّهَ
يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا
تَعْمَلُونَ }




يخبر تعالى عن مقالة الأعراب، الذين دخلوا في الإسلام في عهد رسول الله
صلى الله عليه وسلم، دخولاً من غير بصيرة، ولا قيام بما يجب ويقتضيه
الإيمان، أنهم ادعوا مع هذا وقالوا: آمنا أي: إيمانًا كاملاً، مستوفيًا
لجميع أموره هذا موجب هذا الكلام، فأمر الله رسوله، أن يرد عليهم، فقال:


{ قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا }

أي: لا تدعوا لأنفسكم مقام الإيمان، ظاهرًا، وباطنًا، كاملاً.




{ وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا }

أي: دخلنا في الإسلام، واقتصروا على ذلك.




{ و }

السبب في ذلك، أنه


{ لَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ }

وإنما آمنتم خوفًا، أو رجاء، أو نحو ذلك، مما هو السبب في إيمانكم، فلذلك
لم تدخل بشاشة الإيمان في قلوبكم، وفي قوله:


{ وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ }

أي: وقت هذا الكلام، الذي صدر منكم فكان فيه إشارة إلى أحوالهم بعد ذلك،
فإن كثيرًا منهم، من الله عليهم بالإيمان الحقيقي، والجهاد في سبيل الله،


{ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ }

بفعل خير، أو ترك شر


{ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا }

أي: لا ينقصكم منها، مثقال ذرة، بل يوفيكم إياها، أكمل ما تكون لا تفقدون
منها، صغيرًا، ولا كبيرًا،


{ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ }

أي: غفور لمن تاب إليه وأناب، رحيم به، حيث قبل توبته.




{ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ }

أي: على الحقيقة


{ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرتَابُوا
وَجَاهَدُوا بِأمْوَالِهِمْ وَأنْفُسِهُم في سبيل الله }

أي: من جمعوا بين الإيمان والجهاد في سبيله، فإن من جاهد الكفار، دل ذلك،
على الإيمان التام في القلب، لأن من جاهد غيره على الإسلام، والقيام
بشرائعه، فجهاده لنفسه على ذلك، من باب أولى وأحرى؛ ولأن من لم يقو على
الجهاد، فإن ذلك، دليل على ضعف إيمانه، وشرط تعالى في الإيمان عدم الريب،
وهو الشك، لأن الإيمان النافع هو الجزم اليقيني، بما أمر الله بالإيمان
به، الذي لا يعتريه شك، بوجه من الوجوه.




وقوله:


{ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ }

أي: الذين صدقوا إيمانهم بأعمالهم الجميلة، فإن الصدق، دعوى كبيرة في كل
شيء يدعى يحتاج صاحبه إلى حجة وبرهان، وأعظم ذلك، دعوى الإيمان، الذي هو
مدار السعادة، والفوز الأبدي، والفلاح السرمدي، فمن ادعاه، وقام
بواجباته، ولوازمه، فهو الصادق المؤمن حقًا، ومن لم يكن كذلك، علم أنه
ليس بصادق في دعواه، وليس لدعواه فائدة، فإن الإيمان في القلب لا يطلع
عليه إلا الله تعالى.




فإثباته ونفيه، من باب تعليم الله بما في القلب، وهذا سوء أدب، وظن
بالله، ولهذا قال:


{ قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي
السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }

وهذا شامل للأشياء كلها، التي من جملتها، ما في القلوب من الإيمان
والكفران، والبر والفجور، فإنه تعالى، يعلم ذلك كله، ويجازي عليه، إن
خيرًا فخير، وإن شرًا فشر.




هذه حالة من أحوال من ادعى لنفسه الإيمان، وليس به، فإنه إما أن يكون ذلك
تعليمًا لله، وقد علم أنه عالم بكل شيء، وإما أن يكون قصدهم بهذا الكلام،
المنة على رسوله، وأنهم قد بذلوا له [وتبرعوا] بما ليس من مصالحهم، بل هو
من حظوظه الدنيوية، وهذا تجمل بما لا يجمل، وفخر بما لا ينبغي لهم أن
يفتخروا على رسوله به فإن المنة لله تعالى عليهم، فكما أنه تعالى يمن
عليهم، بالخلق والرزق، والنعم الظاهرة والباطنة، فمنته عليهم بهدايتهم
إلى الإسلام، ومنته عليهم بالإيمان، أعظم من كل شيء، ولهذا قال تعالى:


{ يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ
إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ
لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ }

.




{ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ }

أي: الأمور الخفية فيهما، التي تخفى على الخلق، كالذي في لجج البحار،
ومهامه القفار، وما جنه الليل أو واراه النهار، يعلم قطرات الأمطار،
وحبات الرمال، ومكنونات الصدور، وخبايا الأمور.




{ وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس
إلا في كتاب مبين }





{ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ }

يحصي عليكم أعمالكم، ويوفيكم إياها، ويجازيكم عليها بما تقتضيه رحمته
الواسعة، وحكمته البالغة.




تم تفسير سورة الحجرات بعون الله ومنه وجوده وكرمه، فلك اللهم من الحمد
أكمله وأتمه، ومن الجود أفضله وأعمه

descriptionتفسيرالقران - صفحة 3 Emptyرد: تفسيرالقران

more_horiz
-


تفسير
سورة
ا
لفتح
عدد آياتها 29

(



آية



1-29

)

وهي مدنية






{

1-3


} {

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا
مُبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا
تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا
مُسْتَقِيمًا * وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا


}




هذا الفتح المذكور هو صلح الحديبية، حين صد المشركون رسول الله صلى الله
عليه وسلم لما جاء معتمرا في قصة طويلة، صار آخر أمرها أن صالحهم رسول
الله صلى الله عليه وسلم على وضع الحرب بينه وبينهم عشر سنين، وعلى أن
يعتمر من العام المقبل، وعلى أن من أراد أن يدخل في عهد قريش وحلفهم دخل،
ومن أحب أن يدخل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعقده فعل.




وبسبب ذلك لما أمن الناس بعضهم بعضا، اتسعت دائرة الدعوة لدين الله عز
وجل، وصار كل مؤمن بأي محل كان من تلك الأقطار، يتمكن من ذلك، وأمكن
الحريص على الوقوف على حقيقة الإسلام، فدخل الناس في تلك المدة في دين
الله أفواجا، فلذلك سماه الله فتحا، ووصفه بأنه فتح مبين أي: ظاهر جلي،
وذلك لأن المقصود في فتح بلدان المشركين إعزاز دين الله، وانتصار
المسلمين، وهذا حصل بذلك الفتح، ورتب الله على هذا الفتح عدة أمور،
فقال: {

لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ


}




وذلك -والله أعلم- بسبب ما حصل بسببه من الطاعات الكثيرة، والدخول في
الدين بكثرة، وبما تحمل صلى الله عليه وسلم من تلك الشروط التي لا يصبر
عليها إلا أولو العزم من المرسلين، وهذا من أعظم مناقبه وكراماته صلى
الله عليه وسلم، أن غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.




{

وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ


} بإعزاز دينك، ونصرك على أعدائك، واتساع كلمتك، {

وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا


} تنال به السعادة الأبدية، والفلاح السرمدي.




{

وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا


} أي: قويا لا يتضعضع فيه الإسلام، بل يحصل الانتصار التام، وقمع
الكافرين، وذلهم ونقصهم، مع توفر قوى المسلمين ونموهم، ونمو أموالهم.




ثم ذكر آثار هذا الفتح على المؤمنين فقال:





{

4-6


} {

هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ
لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا *
لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ
سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا *
وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ
وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ
دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ
لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا


}




يخبر تعالى عن منته على المؤمنين بإنزال السكينة في قلوبهم، وهي السكون
والطمأنينة، والثبات عند نزول المحن المقلقة، والأمور الصعبة، التي تشوش
القلوب، وتزعج الألباب، وتضعف النفوس، فمن نعمة الله على عبده في هذه
الحال أن يثبته ويربط على قلبه، وينزل عليه السكينة، ليتلقى هذه المشقات
بقلب ثابت ونفس مطمئنة، فيستعد بذلك لإقامة أمر الله في هذه الحال،
فيزداد بذلك إيمانه، ويتم إيقانه، فالصحابة رضي الله عنهم لما جرى ما جرى
بين رسول الله صلى الله عليه وسلم والمشركين، من تلك الشروط التي ظاهرها
أنها غضاضة عليهم، وحط من أقدارهم، وتلك لا تكاد تصبر عليها النفوس، فلما
صبروا عليها ووطنوا أنفسهم لها، ازدادوا بذلك إيمانا مع إيمانهم. وقوله:
{

وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ


} أي: جميعها في ملكه، وتحت تدبيره وقهره، فلا يظن المشركون أن الله لا
ينصر دينه ونبيه، ولكنه تعالى عليم حكيم، فتقتضي حكمته المداولة بين
الناس في الأيام، وتأخير نصر المؤمنين إلى وقت آخر.




{

لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ
سَيِّئَاتِهِمْ


} فهذا أعظم ما يحصل للمؤمنين، أن يحصل لهم المرغوب المطلوب بدخول
الجنات، ويزيل عنهم المحذور بتكفير السيئات. {

وَكَانَ ذَلِكَ


} الجزاء المذكور للمؤمنين {

عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا


} فهذا ما يفعل بالمؤمنين في ذلك الفتح المبين.




وأما المنافقون والمنافقات، والمشركون والمشركات، فإن الله يعذبهم بذلك،
ويريهم ما يسوءهم؛ حيث كان مقصودهم خذلان المؤمنين، وظنوا بالله الظن
السوء، أنه لا ينصر دينه، ولا يعلي كلمته، وأن أهل الباطل، ستكون لهم
الدائرة على أهل الحق، فأدار الله عليهم ظنهم، وكانت دائرة السوء عليهم
في الدنيا، {

وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ


} بما اقترفوه من المحادة لله ولرسوله، {

وَلَعَنَهُمْ


} أي: أبعدهم وأقصاهم عن رحمته {

وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا


}





{

7


} {

وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا
حَكِيمًا


}




كرر الإخبار بأن له ملك السماوات والأرض وما فيهما من الجنود، ليعلم
العباد أنه تعالى هو المعز المذل، وأنه سينصر جنوده المنسوبة إليه، كما
قال تعالى: {

وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ


} {

وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا


} أي: قويا غالبا، قاهرا لكل شيء، ومع عزته وقوته فهو حكيم في خلقه
وتدبيره، يجري على ما تقتضيه حكمته وإتقانه.





{

8-9


} {

إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * لِتُؤْمِنُوا
بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ
بُكْرَةً وَأَصِيلًا


}




أي: {

إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ


} أيها الرسول الكريم {

شَاهِدًا


} لأمتك بما فعلوه من خير وشر، وشاهدا على المقالات والمسائل، حقها
وباطلها، وشاهدا لله تعالى بالوحدانية والانفراد بالكمال من كل وجه، {

وَمُبَشِّرًا


} من أطاعك وأطاع الله بالثواب الدنيوي والديني والأخروي، ومنذرا من عصى
الله بالعقاب العاجل والآجل، ومن تمام البشارة والنذارة، بيان الأعمال
والأخلاق التي يبشر بها وينذر، فهو المبين للخير والشر، والسعادة
والشقاوة، والحق من الباطل، ولهذا رتب على ذلك قوله: {

لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ


}




أي: بسبب دعوة الرسول لكم، وتعليمه لكم ما ينفعكم، أرسلناه لتقوموا
بالإيمان بالله ورسوله، المستلزم ذلك لطاعتهما في جميع الأمور.




{

وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ


} أي: تعزروا الرسول صلى الله عليه وسلم وتوقروه أي: تعظموه وتجلوه،
وتقوموا بحقوقه، كما كانت له المنة العظيمة برقابكم، {

وَتُسَبِّحُوهُ


} أي: تسبحوا لله {

بُكْرَةً وَأَصِيلًا


} أول النهار وآخره، فذكر الله في هذه الآية الحق المشترك بين الله وبين
رسوله، وهو الإيمان بهما، والمختص بالرسول، وهو التعزير والتوقير،
والمختص بالله، وهو التسبيح له والتقديس بصلاة أو غيرها.




{

10


} {

إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ
اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى
نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ
أَجْرًا عَظِيمًا


}




هذه المبايعة التي أشار الله إليها هي {

بيعة الرضوان


} التي بايع الصحابة رضي الله عنهم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم،
على أن لا يفروا عنه، فهي عقد خاص، من لوازمه أن لا يفروا، ولو لم يبق
منهم إلا القليل، ولو كانوا في حال يجوز الفرار فيها، فأخبر تعالى: أن
الذين بايعوك حقيقة الأمر أنهم {

يُبَايِعُونَ اللَّهَ


} ويعقدون العقد معه، حتى إنه من شدة تأكده أنه قال: {

يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ


} أي: كأنهم بايعوا الله وصافحوه بتلك المبايعة، وكل هذا لزيادة التأكيد
والتقوية، وحملهم على الوفاء بها، ولهذا قال: {

فَمَنْ نَكَثَ


} فلم يف بما عاهد الله عليه {

فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ


} أي: لأن وبال ذلك راجع إليه، وعقوبته واصلة له، {

وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ


} أي: أتى به كاملا موفرا، {

فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا


} لا يعلم عظمه وقدره إلا الذي آتاه إياه.





{

11-13


} {

سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا
أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ
بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ
لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ
بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا * بَلْ
ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى
أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ
ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا * وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ
بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا


}




يذم تعالى المتخلفين عن رسوله، في الجهاد في سبيله، من الأعراب الذين ضعف
إيمانهم، وكان في قلوبهم مرض، وسوء ظن بالله تعالى، وأنهم سيعتذرون بأن
أموالهم وأهليهم شغلتهم عن الخروج في الجهاد، وأنهم طلبوا من رسول الله
صلى الله عليه وسلم أن يستغفر لهم، قال الله تعالى: {

يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ


} فإن طلبهم الاستغفار من رسول الله صلى الله عليه وسلم يدل على ندمهم
وإقرارهم على أنفسهم بالذنب، وأنهم تخلفوا تخلفا يحتاج إلى توبة
واستغفار، فلو كان هذا الذي في قلوبهم، لكان استغفار الرسول نافعا لهم،
لأنهم قد تابوا وأنابوا، ولكن الذي في قلوبهم، أنهم إنما تخلفوا لأنهم
ظنوا بالله ظن السوء.




فظنوا {

أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ
أَبَدًا


} أي: إنهم سيقتلون ويستأصلون، ولم يزل هذا الظن يزين في قلوبهم،
ويطمئنون إليه، حتى استحكم، وسبب ذلك أمران:




أحدها: أنهم كانوا {

قَوْمًا بُورًا


} أي: هلكى، لا خير فيهم، فلو كان فيهم خير لم يكن هذا في قلوبهم.




الثاني: ضعف إيمانهم ويقينهم بوعد الله، ونصر دينه، وإعلاء كلمته، ولهذا
قال: {

وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ


} أي: فإنه كافر مستحق للعقاب، {

فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا


}





{

14


} {

وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ
وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا


}




أي: هو تعالى المنفرد بملك السماوات والأرض، يتصرف فيهما بما يشاء من
الأحكام القدرية، والأحكام الشرعية، والأحكام الجزائية، ولهذا ذكر حكم
الجزاء المرتب على الأحكام الشرعية، فقال: {

يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ


} وهو من قام بما أمره الله به {

وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ


} ممن تهاون بأمر الله، {

وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا


} أي: وصفه اللازم الذي لا ينفك عنه المغفرة والرحمة، فلا يزال في جميع
الأوقات يغفر للمذنبين، ويتجاوز عن الخطائين، ويتقبل توبة التائبين،
وينزل خيره المدرار، آناء الليل والنهار.





{

15


} {

سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ
لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا
كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ
قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ
إِلَّا قَلِيلًا


}




لما ذكر تعالى المخلفين وذمهم، ذكر أن من عقوبتهم الدنيوية، أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم وأصحابه إذا انطلقوا إلى غنائم لا قتال فيها
ليأخذوها، طلبوا منهم الصحبة والمشاركة، ويقولون: {

ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ


} بذلك {

أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ


} حيث حكم بعقوبتهم، واختصاص الصحابة المؤمنين بتلك الغنائم، شرعا وقدرا.
{

قُلْ


} لهم {

لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ


} إنكم محرومون منها بما جنيتم على أنفسكم، وبما تركتم القتال أول مرة.




{

فَسَيَقُولُونَ


} مجيبين لهذا الكلام، الذي منعوا به عن الخروج: {

بَلْ تَحْسُدُونَنَا


} على الغنائم، هذا منتهى علمهم في هذا الموضع، ولو فهموا رشدهم، لعلموا
أن حرمانهم بسبب عصيانهم، وأن المعاصي لها عقوبات دنيوية ودينية، ولهذا
قال: {

بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا


}




{

16-17


} {

قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ
أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ
تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا
تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا * لَيْسَ
عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى
الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ
جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ
يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا


}




لما ذكر تعالى أن المخلفين من الأعراب يتخلفون عن الجهاد في سبيله،
ويعتذرون بغير عذر، وأنهم يطلبون الخروج معهم إذا لم يكن شوكة ولا قتال،
بل لمجرد الغنيمة، قال تعالى ممتحنا لهم: {

قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ
أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ


} أي: سيدعوكم الرسول ومن ناب منابه من الخلفاء الراشدين والأئمة، وهؤلاء
القوم فارس والروم ومن نحا نحوهم وأشبههم. {

تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ


} أي: إما هذا وإما هذا، وهذا هو الأمر الواقع، فإنهم في حال قتالهم
ومقاتلتهم لأولئك الأقوام، إذ كانت شدتهم وبأسهم معهم، فإنهم في تلك
الحال لا يقبلون أن يبذلوا الجزية، بل إما أن يدخلوا في الإسلام، وإما أن
يقاتلوا على ما هم عليه، فلما أثخنهم المسلمون، وضعفوا وذلوا، ذهب بأسهم،
فصاروا إما أن يسلموا، وإما أن يبذلوا الجزية، {

فَإِنْ تُطِيعُوا


} الداعي لكم إلى قتال هؤلاء {

يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا


} وهو الأجر الذي رتبه الله ورسوله على الجهاد في سبيل الله، {

وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ


} عن قتال من دعاكم الرسول إلى قتاله، {

يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا


} ودلت هذه الآية على فضيلة الخلفاء الراشدين، الداعين لجهاد أهل البأس
من الناس، وأنه تجب طاعتهم في ذلك.




ثم ذكر الأعذار التي يعذر بها العبد عن الخروج إلى الجهاد، فقال: {

لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا
عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ


} أي: في التخلف عن الجهاد لعذرهم المانع.




{

وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ


} في امتثال أمرهما، واجتناب نهيهما {

يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ


} فيها ما تشتهيه الأنفس، وتلذ الأعين، {

وَمَنْ يَتَوَلَّ


} عن طاعة الله ورسوله {

يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا


} فالسعادة كلها في طاعة الله، والشقاوة في معصيته ومخالفته.





{

18-21


} {

لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ
الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ
عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا * وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً
يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا * وَعَدَكُمُ اللَّهُ
مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ
أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ
وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا * وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا
عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرًا


}




يخبر تعالى بفضله ورحمته، برضاه عن المؤمنين إذ يبايعون الرسول صلى الله
عليه وسلم تلك المبايعة التي بيضت وجوههم، واكتسبوا بها سعادة الدنيا
والآخرة، وكان سبب هذه البيعة -التي يقال لها "بيعة الرضوان" لرضا الله
عن المؤمنين فيها، ويقال لها "بيعة أهل الشجرة" - أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم لما دار الكلام بينه وبين المشركين يوم الحديبية في شأن مجيئه،
وأنه لم يجئ لقتال أحد، وإنما جاء زائرا هذا البيت، معظما له، فبعث رسول
الله صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفان لمكة في ذلك، فجاء خبر غير صادق،
أن عثمان قتله المشركون، فجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم من معه من
المؤمنين، وكانوا نحوا من ألف وخمسمائة، فبايعوه تحت شجرة على قتال
المشركين، وأن لا يفروا حتى يموتوا، فأخبر تعالى أنه رضي عن المؤمنين في
تلك الحال، التي هي من أكبر الطاعات وأجل القربات، {

فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ


} من الإيمان، {

فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ


} شكرا لهم على ما في قلوبهم، زادهم هدى، وعلم ما في قلوبهم من الجزع من
تلك الشروط التي شرطها المشركون على رسوله، فأنزل عليهم السكينة تثبتهم،
وتطمئن بها قلوبهم، {

وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا


} وهو: فتح خيبر، لم يحضره سوى أهل الحديبية، فاختصوا بخيبر وغنائمها،
جزاءا لهم، وشكرا على ما فعلوه من طاعة الله تعالى والقيام بمرضاته.




{

وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا


} أي: له العزة والقدرة، التي قهر بها الأشياء، فلو شاء لانتصر من الكفار
في كل وقعة تكون بينهم وبين المؤمنين، ولكنه حكيم، يبتلي بعضهم ببعض،
ويمتحن المؤمن بالكافر.




{

وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا


} وهذا يشمل كل غنيمة غنمها المسلمين إلى يوم القيامة، {

فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ


} أي: غنيمة خيبر أي: فلا تحسبوها وحدها، بل ثم شيء كثير من الغنائم
سيتبعها، {

و


} احمدوا الله إذ {

كف أَيْدِي النَّاسِ


} القادرين على قتالكم، الحريصين عليه {

عَنْكُمْ


} فهي نعمة، وتخفيف عنكم.




{

وَلِتَكُونَ


} هذه الغنيمة {

آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ


} يستدلون بها على خبر الله الصادق، ووعده الحق، وثوابه للمؤمنين، وأن
الذي قدرها سيقدر غيرها، {

وَيَهْدِيَكُمْ


} بما يقيض لكم من الأسباب {

صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا


} من العلم والإيمان والعمل.




{

وَأُخْرَى


} أي: وعدكم أيضا غنيمة أخرى {

لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا


} وقت هذا الخطاب، {

قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا


} أي: هو قادر عليها، وتحت تدبيره وملكه، وقد وعدكموها، فلا بد من وقوع
ما وعد به، لكمال اقتدار الله تعالى، ولهذا قال: {

وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا


}





{

22-23


} {

وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ
لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا * سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ
خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا


}




هذه بشارة من الله لعباده المؤمنين، بنصرهم على أعدائهم الكافرين، وأنهم
لو قابلوهم وقاتلوهم {

لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا


} يتولى أمرهم، {

وَلَا نَصِيرًا


} ينصرهم ويعينهم على قتالكم، بل هم مخذولون مغلوبون وهذه سنة الله في
الأمم السابقة، أن جند الله هم الغالبون، {

وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا


}




{

24-25


} {

وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ
بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ
اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا * هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا
وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ
يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ
لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ
بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ
تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا


}




يقول تعالى ممتنا على عباده بالعافية، من شر الكفار ومن قتالهم، فقال: {

وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ


} أي: أهل مكة {

عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ
أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ


} أي: من بعد ما قدرتم عليهم، وصاروا تحت ولايتكم بلا عقد ولا عهد، وهم
نحو ثمانين رجلا، انحدروا على المسلمين ليصيبوا منهم غرة، فوجدوا
المسلمين منتبهين فأمسكوهم، فتركوهم ولم يقتلوهم، رحمة من الله بالمؤمنين
إذ لم يقتلوهم، {

وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا


} فيجازي كل عامل بعمله، ويدبركم أيها المؤمنون بتدبيره الحسن.




ثم ذكر تعالى الأمور المهيجة على قتال المشركين، وهي كفرهم بالله ورسوله،
وصدهم رسول الله ومن معه من المؤمنين، أن يأتوا للبيت الحرام زائرين
معظمين له بالحج والعمرة، وهم الذين أيضا صدوا {

الهدي مَعْكُوفًا


} أي: محبوسا {

أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ


} وهو محل ذبحه وهو مكة، فمنعوه من الوصول إليه ظلما وعدوانا، وكل هذه
أمور موجبة وداعية إلى قتالهم، ولكن ثم مانع وهو: وجود رجال ونساء من أهل
الإيمان بين أظهر المشركين، وليسوا متميزين بمحلة أو مكان يمكن أن لا
ينالهم أذى، فلولا هؤلاء الرجال المؤمنون، والنساء المؤمنات، الذين لا
يعلمهم المسلمون أن تطأوهم، أي: خشية أن تطأوهم {

فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ


} والمعرة: ما يدخل تحت قتالهم، من نيلهم بالأذى والمكروه، وفائدة
أخروية، وهو: أنه ليدخل في رحمته من يشاء فيمن عليهم بالإيمان بعد الكفر،
وبالهدى بعد الضلال، فيمنعكم من قتالهم لهذا السبب.




{

لَوْ تَزَيَّلُوا


} أي: لو زالوا من بين أظهرهم {

لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا


} بأن نبيح لكم قتالهم، ونأذن فيه، وننصركم عليهم.





{

26


} {

إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ
الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى
الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ
بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا


}




يقول تعالى: {

إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ
الْجَاهِلِيَّةِ


} حيث أنفوا من كتابة {

بسم الله الرحمن الرحيم


} وأنفوا من دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين إليهم في تلك
السنة، لئلا يقول الناس: {

دخلوا مكة قاهرين لقريش


} وهذه الأمور ونحوها من أمور الجاهلية، لم تزل في قلوبهم حتى أوجبت لهم
ما أوجبت من كثير من المعاصي، {

فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ


} فلم يحملهم الغضب على مقابلة المشركين بما قابلوهم به، بل صبروا لحكم
الله، والتزموا الشروط التي فيها تعظيم حرمات الله ولو كانت ما كانت، ولم
يبالوا بقول القائلين، ولا لوم اللائمين.




{

وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى


} وهي {

لا إله إلا الله


} وحقوقها، ألزمهم القيام بها، فالتزموها وقاموا بها، {

وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا


} من غيرهم {

و


} كانوا {

أهلها


} الذين استأهلوها لما يعلم الله عندهم وفي قلوبهم من الخير، ولهذا قال:
{

وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا


}





{

27-28


} {

لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ
الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ
رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا
فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ
رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ
كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا


}




يقول تعالى: {

لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ


} وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى في المدينة رؤيا أخبر بها
أصحابه، أنهم سيدخلون مكة ويطوفون بالبيت، فلما جرى يوم الحديبية ما جرى،
ورجعوا من غير دخول لمكة، كثر في ذلك الكلام منهم، حتى إنهم قالوا ذلك
لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ألم تخبرنا أنا سنأتي البيت ونطوف به؟
فقال: " أخبرتكم أنه العام؟" قالوا: لا، قال: "فإنكم ستأتونه وتطوفون به"
قال الله هنا: {

لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ


} أي: لا بد من وقوعها وصدقها، ولا يقدح في ذلك تأخر تأويلها، {

لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ
مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ


} أي: في هذه الحال المقتضية لتعظيم هذا البيت الحرام، وأدائكم للنسك،
وتكميله بالحلق والتقصير، وعدم الخوف، {

فَعَلِمَ


} من المصلحة والمنافع {

مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ


} الدخول بتلك الصفة {

فَتْحًا قَرِيبًا


}




ولما كانت هذه الواقعة مما تشوشت بها قلوب بعض المؤمنين، وخفيت عليهم
حكمتها، فبين تعالى حكمتها ومنفعتها، وهكذا سائر أحكامه الشرعية، فإنها
كلها، هدى ورحمة.




أخبر بحكم عام، فقال: {

هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى


} الذي هو العلم النافع، الذي يهدي من الضلالة، ويبين طرق الخير والشر.




{

وَدِينِ الْحَقِّ


} أي: الدين الموصوف بالحق، وهو العدل والإحسان والرحمة.




وهو كل عمل صالح مزك للقلوب، مطهر للنفوس، مرب للأخلاق، معل للأقدار.




{

لِيُظْهِرَهُ


} بما بعثه الله به {

عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ


} بالحجة والبرهان، ويكون داعيا لإخضاعهم بالسيف والسنان.




{

29


} {

مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى
الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا
يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي
وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ
وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ
فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ
بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا


}




يخبر تعالى عن رسوله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من المهاجرين والأنصار،
أنهم بأكمل الصفات، وأجل الأحوال، وأنهم {

أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ


} أي: جادون ومجتهدون في عداوتهم، وساعون في ذلك بغاية جهدهم، فلم يروا
منهم إلا الغلظة والشدة، فلذلك ذل أعداؤهم لهم، وانكسروا، وقهرهم
المسلمون، {

رُحَم

descriptionتفسيرالقران - صفحة 3 Emptyرد: تفسيرالقران

more_horiz
-


تفسير
سورة

محمد

عدد آياتها
38

(



آية




1-38

)

وهي

مدنية






{

1-3


} {

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا
عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ * وَالَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ
وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ
وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا
الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ
رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ


}




هذه الآيات مشتملات على ذكر ثواب المؤمنين وعقاب العاصين، والسبب في ذلك،
ودعوة الخلق إلى الاعتبار بذلك، فقال: {

الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ


} وهؤلاء رؤساء الكفر، وأئمة الضلال، الذين جمعوا بين الكفر بالله
وآياته، والصد لأنفسهم وغيرهم عن سبيل الله، التي هي الإيمان بما دعت
إليه الرسل واتباعه.




فهؤلاء {

أَضَلَّ


} الله {

أَعْمَالَهُمْ


} أي: أبطلها وأشقاهم بسببها، وهذا يشمل أعمالهم التي عملوها ليكيدوا بها
الحق وأولياء الله، أن الله جعل كيدهم في نحورهم، فلم يدركوا مما قصدوا
شيئا، وأعمالهم التي يرجون أن يثابوا عليها، أن الله سيحبطها عليهم،
والسبب في ذلك أنهم اتبعوا الباطل، وهو كل غاية لا يراد بها وجه الله من
عبادة الأصنام والأوثان، والأعمال التي في نصر الباطل لما كانت باطلة،
كانت الأعمال لأجلها باطلة.




وأما {

وَالَّذِينَ آمَنُوا


} بما أنزل الله على رسله عموما، وعلى محمد صلى الله عليه وسلم خصوصا، {

وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ


} بأن قاموا بما عليهم من حقوق الله، وحقوق العباد الواجبة والمستحبة.




{

كَفَّرَ


} الله {

عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ


} صغارها وكبارها، وإذا كفرت سيئاتهم، نجوا من عذاب الدنيا والآخرة. {

وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ


} أي: أصلح دينهم ودنياهم، وقلوبهم وأعمالهم، وأصلح ثوابهم، بتنميته
وتزكيته، وأصلح جميع أحوالهم، والسبب في ذلك أنهم: {

اتبعوا الْحَقُّ


} الذي هو الصدق واليقين، وما اشتمل عليه هذا القرآن العظيم، الصادر {

مِنْ رَبِّهِمْ


} الذي رباهم بنعمته، ودبرهم بلطفه فرباهم تعالى بالحق فاتبعوه، فصلحت
أمورهم، فلما كانت الغاية المقصودة لهم، متعلقة بالحق المنسوب إلى الله
الباقي الحق المبين، كانت الوسيلة صالحة باقية، باقيا ثوابها.




{

كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ


} حيث بين لهم تعالى أهل الخير وأهل الشر، وذكر لكل منهم صفة يعرفون بها
ويتميزون {

ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة


}





{

4-6


} {

فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا
أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا
فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ
اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ
وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ
* سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ * وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ
عَرَّفَهَا لَهُمْ


}




يقول تعالى -مرشدا عباده إلى ما فيه صلاحهم، ونصرهم على أعدائهم-: {

فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا


} في الحرب والقتال، فاصدقوهم القتال، واضربوا منهم الأعناق، حَتَّى
تثخنوهم وتكسروا شوكتهم وتبطلوا شرتهم، فإذا فعلتم ذلك، ورأيتم الأسر
أولى وأصلح، {

فَشُدُّوا الْوَثَاقَ


} أي: الرباط، وهذا احتياط لأسرهم لئلا يهربوا، فإذا شد منهم الوثاق
اطمأن المسلمون من هربهم ومن شرهم، فإذا كانوا تحت أسركم، فأنتم بالخيار
بين المن عليهم، وإطلاقهم بلا مال ولا فداء، وإما أن تفدوهم بأن لا
تطلقوهم حتى يشتروا أنفسهم، أو يشتريهم أصحابهم بمال، أو بأسير مسلم
عندهم.




وهذا الأمر مستمر {

حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا


} أي: حتى لا يبقى حرب، وتبقون في المسألة والمهادنة، فإن لكل مقام
مقالا، ولكل حال حكما، فالحال المتقدمة، إنما هي إذا كان قتال وحرب.




فإذا كان في بعض الأوقات، لا حرب فيه لسبب من الأسباب، فلا قتل ولا أسر.




{

ذَلِكَ


} الحكم المذكور في ابتلاء المؤمنين بالكافرين، ومداولة الأيام بينهم،
وانتصار بعضهم على بعض {

وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ


} فإنه تعالى على كل شيء قدير، وقادر على أن لا ينتصر الكفار في موضع
واحد أبدا، حتى يبيد المسلمون خضراءهم.




{

وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ


} ليقوم سوق الجهاد، ويتبين بذلك أحوال العباد، الصادق من الكاذب، وليؤمن
من آمن إيمانا صحيحا عن بصيرة، لا إيمانا مبنيا على متابعة أهل الغلبة،
فإنه إيمان ضعيف جدا، لا يكاد يستمر لصاحبه عند المحن والبلايا.




{

وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ


} لهم ثواب جزيل، وأجر جميل، وهم الذين قاتلوا من أمروا بقتالهم، لتكون
كلمة الله هي العليا.




فهؤلاء لن يضل الله أعمالهم، أي: لن يحبطها ويبطلها، بل يتقبلها وينميها
لهم، ويظهر من أعمالهم نتائجها، في الدنيا والآخرة.




{

سَيَهْدِيهِمْ


} إلى سلوك الطريق الموصلة إلى الجنة، {

وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ


} أي: حالهم وأمورهم، وثوابهم يكون صالحا كاملا لا نكد فيه، ولا تنغيص
بوجه من الوجوه.




{

وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ


} أي: عرفها أولا، بأن شوقهم إليها، ونعتها لهم، وذكر لهم الأعمال
الموصلة إليها، التي من جملتها القتل في سبيله، ووفقهم للقيام بما أمرهم
به ورغبهم فيه، ثم إذا دخلوا الجنة، عرفهم منازلهم، وما احتوت عليه من
النعيم المقيم، والعيش السليم.





{

7-9


} {

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ
وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ
وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ
اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ


}




هذا أمر منه تعالى للمؤمنين، أن ينصروا الله بالقيام بدينه، والدعوة
إليه، وجهاد أعدائه، والقصد بذلك وجه الله، فإنهم إذا فعلوا ذلك، نصرهم
الله وثبت أقدامهم، أي: يربط على قلوبهم بالصبر والطمأنينة والثبات،
ويصبر أجسامهم على ذلك، ويعينهم على أعدائهم، فهذا وعد من كريم صادق
الوعد، أن الذي ينصره بالأقوال والأفعال سينصره مولاه، وييسر له أسباب
النصر، من الثبات وغيره.




وأما الذين كفروا بربهم، ونصروا الباطل، فإنهم في تعس، أي: انتكاس من
أمرهم وخذلان.




{

وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ


} أي: أبطل أعمالهم التي يكيدون بها الحق، فرجع كيدهم في نحورهم، وبطلت
أعمالهم التي يزعمون أنهم يريدون بها وجه الله.




ذلك الإضلال والتعس للذين كفروا، بسبب أنهم {

كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ


} من القرآن الذي أنزله الله، صلاحا للعباد، وفلاحا لهم، فلم يقبلوه، بل
أبغضوه وكرهوه، {

فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ


}





{

10-11


} {

أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ
أَمْثَالُهَا * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا
وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ


}




أي: أفلا يسير هؤلاء المكذبون بالرسول صلى الله عليه وسلم، {

فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ


} فإنهم لا يجدون عاقبتهم إلا شر العواقب، فإنهم لا يلتفتون يمنة ولا
يسرة إلا وجدوا ما حولهم، قد بادوا وهلكوا، واستأصلهم التكذيب والكفر،
فخمدوا، ودمر الله عليهم أموالهم وديارهم، بل دمر أعمالهم ومكرهم،
وللكافرين في كل زمان ومكان، أمثال هذه العواقب الوخيمة، والعقوبات
الذميمة.




وأما المؤمنون، فإن الله تعالى ينجيهم من العذاب، ويجزل لهم كثير الثواب.




{

ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا


} فتولاهم برحمته، فأخرجهم من الظلمات إلى النور، وتولى جزاءهم ونصرهم، {

وَأَنَّ الْكَافِرِينَ


} بالله تعالى، حيث قطعوا عنهم ولاية الله، وسدوا على أنفسهم رحمته {

لَا مَوْلَى لَهُمْ


} يهديهم إلى سبل السلام، ولا ينجيهم من عذاب الله وعقابه، بل أولياؤهم
الطاغوت، يخرجونهم من النور إلى الظلمات، أولئك أصحاب النار هم فيها
خالدون.




{

12


} {

إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا
يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ
مَثْوًى لَهُمْ


}




لما ذكر تعالى أنه ولي المؤمنين، ذكر ما يفعل بهم في الآخرة، من دخول
الجنات، التي تجري من تحتها الأنهار، التي تسقي تلك البساتين الزاهرة،
والأشجار الناظرة المثمرة، لكل زوج بهيج، وكل فاكهة لذيذة.




ولما ذكر أن الكافرين لا مولى لهم، ذكر أنهم وُكِلُوا إلى أنفسهم، فلم
يتصفوا بصفات المروءة، ولا الصفات الإنسانية، بل نزلوا عنها دركات،
وصاروا كالأنعام، التي لا عقل لها ولا فضل، بل جل همهم ومقصدهم التمتع
بلذات الدنيا وشهواتها، فترى حركاتهم الظاهرة والباطنة دائرة حولها، غير
متعدية لها إلى ما فيه الخير والسعادة، ولهذا كانت النار مثوى لهم، أي:
منزلا معدا، لا يخرجون منها، ولا يفتر عنهم من عذابها.





{

13


} {

وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي
أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ


}




أي: وكم من قرية من قرى المكذبين، هي أشد قوة من قريتك، في الأموال
والأولاد والأعوان، والأبنية والآلات.




{

أهلكناهم


} حين كذبوا رسلنا، ولم تفد فيهم المواعظ، فلا نجد لهم ناصرا، ولم تغن
عنهم قوتهم من عذاب الله شيئا.




فكيف حال هؤلاء الضعفاء، أهل قريتك، إذ أخرجوك عن وطنك وكذبوك، وعادوك،
وأنت أفضل المرسلين، وخير الأولين والآخرين؟!




أليسوا بأحق من غيرهم بالإهلاك والعقوبة، لولا أن الله تعالى بعث رسوله
بالرحمة والتأني بكل كافر وجاحد؟





{

14


} {

أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ
عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ


}




أي: لا يستوي من هو على بصيرة من أمر دينه، علما وعملا، قد علم الحق
واتبعه، ورجا ما وعده الله لأهل الحق، كمن هو أعمى القلب، قد رفض الحق
وأضله، واتبع هواه بغير هدى من الله، ومع ذلك، يرى أن ما هو عليه من
الحق، فما أبعد الفرق بين الفريقين! وما أعظم التفاوت بين الطائفتين، أهل
الحق وأهل الغي!





{

15


} {

مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ
مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ
وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ
مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ
رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا
فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ


}




أي: مثل الجنة التي أعدها الله لعباده، الذين اتقوا سخطه، واتبعوا
رضوانه، أي: نعتها وصفتها الجميلة.




{

فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ


} أي: غير متغير، لا بوخم ولا بريح منتنة، ولا بمرارة، ولا بكدورة، بل هو
أعذب المياه وأصفاها، وأطيبها ريحا، وألذها شربا.




{

وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ


} بحموضة ولا غيرها، {

وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ


} أي: يلتذ به شاربه لذة عظيمة، لا كخمر الدنيا الذي يكره مذاقه ويصدع
الرأس، ويغول العقل.




{

وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى


} من شمعه، وسائر أوساخه.




{

وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ


} من نخيل، وعنب، وتفاح، ورمان، وأترج، وتين، وغير ذلك مما لا نظير له في
الدنيا، فهذا المحبوب المطلوب قد حصل لهم.




ثم قال: {

وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ


} يزول بها عنهم المرهوب، فأي هؤلاء خير أم من هو خالد في النار التي
اشتد حرها، وتضاعف عذابها، {

وَسُقُوا


} فيها {

مَاءً حَمِيمًا


} أي: حارا جدا، {

فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ


}




فسبحان من فاوت بين الدارين والجزاءين، والعاملين والعملين.





{

16-17


} {

وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ
عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا
أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا
أَهْوَاءَهُمْ * وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ
تَقْوَاهُمْ


}




يقول تعالى: ومن المنافقين {

مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ


} ما تقول استماعا، لا عن قبول وانقياد، بل معرضة قلوبهم عنه، ولهذا قال:
{

حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا
الْعِلْمَ


} مستفهمين عما قلت، وما سمعوا، مما لم يكن لهم فيه رغبة {

مَاذَا قَالَ آنِفًا


} أي: قريبا، وهذا في غاية الذم لهم، فإنهم لو كانوا حريصين على الخير
لألقوا إليه أسماعهم، ووعته قلوبهم، وانقادت له جوارحهم، ولكنهم بعكس هذه
الحال، ولهذا قال: {

أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ


} أي: ختم عليها، وسد أبواب الخير التي تصل إليها بسبب اتباعهم أهواءهم،
التي لا يهوون فيها إلا الباطل.




ثم بين حال المهتدين، فقال: {

وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا


} بالإيمان والانقياد، واتباع ما يرضي الله {

زَادَهُمْ هُدًى


} شكرا منه تعالى لهم على ذلك، {

وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ


} أي: وفقهم للخير، وحفظهم من الشر، فذكر للمهتدين جزاءين: العلم النافع،
والعمل الصالح.





{

18


} {

فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ
جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ


}




أي: فهل ينظر هؤلاء المكذبون أو ينتظرون {

إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً


} أي: فجأة، وهم لا يشعرون {

فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا


} أي: علاماتها الدالة على قربها.




{

فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ


} أي: من أين لهم، إذا جاءتهم الساعة وانقطعت آجالهم أن يتذكروا
ويستعتبوا؟ قد فات ذلك، وذهب وقت التذكر، فقد عمروا ما يتذكر فيه من
تذكر، وجاءهم النذير.




ففي هذا الحث على الاستعداد قبل مفاجأة الموت، فإن موت الإنسان قيام
ساعته.





{

19


} {

فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ
وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ
وَمَثْوَاكُمْ


}




العلم لا بد فيه من إقرار القلب ومعرفته، بمعنى ما طلب منه علمه، وتمامه
أن يعمل بمقتضاه.




وهذا العلم الذي أمر الله به -وهو العلم بتوحيد الله- فرض عين على كل
إنسان، لا يسقط عن أحد، كائنا من كان، بل كل مضطر إلى ذلك. والطريق إلى
العلم بأنه لا إله إلا هو أمور: أحدها بل أعظمها: تدبر أسمائه وصفاته،
وأفعاله الدالة على كماله وعظمته وجلالته فإنها توجب بذل الجهد في التأله
له، والتعبد للرب الكامل الذي له كل حمد ومجد وجلال وجمال.




الثاني: العلم بأنه تعالى المنفرد بالخلق والتدبير، فيعلم بذلك أنه
المنفرد بالألوهية.




الثالث: العلم بأنه المنفرد بالنعم الظاهرة والباطنة، الدينية والدنيوية،
فإن ذلك يوجب تعلق القلب به ومحبته، والتأله له وحده لا شريك له.




الرابع: ما نراه ونسمعه من الثواب لأوليائه القائمين بتوحيده من النصر
والنعم العاجلة، ومن عقوبته لأعدائه المشركين به، فإن هذا داع إلى العلم،
بأنه تعالى وحده المستحق للعبادة كلها.




الخامس: معرفة أوصاف الأوثان والأنداد التي عبدت مع الله، واتخذت آلهة،
وأنها ناقصة من جميع الوجوه، فقيرة بالذات، لا تملك لنفسها ولا لعابديها
نفعا ولا ضرا، ولا موتا ولا حياة ولا نشورا، ولا ينصرون من عبدهم، ولا
ينفعونهم بمثقال ذرة، من جلب خير أو دفع شر، فإن العلم بذلك يوجب العلم
بأنه لا إله إلا هو وبطلان إلهية ما سواه.




السادس: اتفاق كتب الله على ذلك، وتواطؤها عليه.




السابع: أن خواص الخلق، الذين هم أكمل الخليقة أخلاقا وعقولا، ورأيا
وصوابا، وعلما -وهم الرسل والأنبياء والعلماء الربانيون- قد شهدوا لله
بذلك.




الثامن: ما أقامه الله من الأدلة الأفقية والنفسية، التي تدل على التوحيد
أعظم دلالة، وتنادي عليه بلسان حالها بما أودعها من لطائف صنعته، وبديع
حكمته، وغرائب خلقه.




فهذه الطرق التي أكثر الله من دعوة الخلق بها إلى أنه لا إله إلا الله،
وأبداها في كتابه وأعادها عند تأمل العبد في بعضها، لا بد أن يكون عنده
يقين وعلم بذلك، فكيف إذا اجتمعت وتواطأت واتفقت، وقامت أدلة التوحيد من
كل جانب، فهناك يرسخ الإيمان والعلم بذلك في قلب العبد، بحيث يكون
كالجبال الرواسي، لا تزلزله الشبه والخيالات، ولا يزداد -على تكرر الباطل
والشبه- إلا نموا وكمالا.




هذا، وإن نظرت إلى الدليل العظيم، والأمر الكبير -وهو تدبر هذا القرآن
العظيم، والتأمل في آياته- فإنه الباب الأعظم إلى العلم بالتوحيد ويحصل
به من تفاصيله وجمله ما لا يحصل في غيره.




وقوله: {

وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ


} أي: اطلب من الله المغفرة لذنبك، بأن تفعل أسباب المغفرة من التوبة
والدعاء بالمغفرة، والحسنات الماحية، وترك الذنوب والعفو عن الجرائم.




{

و


} استغفر أيضا {

للمؤمنين وَالْمُؤْمِنَات


} فإنهم -بسبب إيمانهم- كان لهم حق على كل مسلم ومسلمة.




ومن جملة حقوقهم أن يدعو لهم ويستغفر لذنوبهم، وإذا كان مأمورا
بالاستغفار لهم المتضمن لإزالة الذنوب وعقوباتها عنهم، فإن من لوازم ذلك
النصح لهم، وأن يحب لهم من الخير ما يحب لنفسه، ويكره لهم من الشر ما
يكره لنفسه، ويأمرهم بما فيه الخير لهم، وينهاهم عما فيه ضررهم، ويعفو عن
مساويهم ومعايبهم، ويحرص على اجتماعهم اجتماعا تتألف به قلوبهم، ويزول ما
بينهم من الأحقاد المفضية للمعاداة والشقاق، الذي به تكثر ذنوبهم
ومعاصيهم.




{

وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ


} أي: تصرفاتكم وحركاتكم، وذهابكم ومجيئكم، {

وَمَثْوَاكُمْ


} الذي به تستقرون، فهو يعلمكم في الحركات والسكنات، فيجازيكم على ذلك
أتم الجزاء وأوفاه.




{

20-23


} {

وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا
أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ
الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ
الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ * طَاعَةٌ
وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ
لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ * فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ
تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ
الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ


}




يقول تعالى: {

وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا


} استعجالا ومبادرة للأوامر الشاقة: {

لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ


} أي: فيها الأمر بالقتال.




{

فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ


} أي: ملزم العمل بها، {

وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ


} الذي هو أشق شيء على النفوس، لم يثبت ضعفاء الإيمان على امتثال هذه
الأوامر، ولهذا قال: {

رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ
الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ


} من كراهتهم لذلك، وشدته عليهم.




وهذا كقوله تعالى: {

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ
وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ
الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ
اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً


}




ثم ندبهم تعالى إلى ما هو الأليق بحالهم، فقال: {

فَأَوْلَى لَهُمْ طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ


} أي: فأولى لهم أن يمتثلوا الأمر الحاضر المحتم عليهم، ويجمعوا عليه
هممهم، ولا يطلبوا أن يشرع لهم ما هو شاق عليهم، وليفرحوا بعافية الله
تعالى وعفوه.




{

فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ


} أي: جاءهم الأمر جد، وأمر محتم، ففي هذه الحال لو صدقوا الله
بالاستعانة به، وبذل الجهد في امتثاله {

لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ


} من حالهم الأولى، وذلك من وجوه:




منها: أن العبد ناقص من كل وجه، لا قدرة له إلا إن أعانه الله، فلا يطلب
زيادة على ما هو قائم بصدده.




ومنها: أنه إذا تعلقت نفسه بالمستقبل، ضعف عن العمل، بوظيفة وقته،
وبوظيفة المستقبل، أما الحال، فلأن الهمة انتقلت عنه إلى غيره، والعمل
تبع للهمة، وأما المستقبل، فإنه لا يجيء حتى تفتر الهمة عن نشاطها فلا
يعان عليه.




ومنها: أن العبد المؤمل للآمال المستقبلة، مع كسله عن عمل الوقت الحاضر،
شبيه بالمتألي الذي يجزم بقدرته، على ما يستقبل من أموره، فأحرى به أن
يخذل ولا يقوم بما هم به ووطن نفسه عليه، فالذي ينبغي أن يجمع العبد همه
وفكرته ونشاطه على وقته الحاضر، ويؤدي وظيفته بحسب قدرته، ثم كلما جاء
وقت استقبله بنشاط وهمة عالية مجتمعة غير متفرقة، مستعينا بربه في ذلك،
فهذا حري بالتوفيق والتسديد في جميع أموره.




ثم ذكر تعالى حال المتولي عن طاعة ربه، وأنه لا يتولى إلى خير، بل إلى
شر، فقال: {

فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ
وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ


} أي: فهما أمران، إما التزام لطاعة الله، وامتثال لأوامره، فثم الخير
والرشد والفلاح، وإما إعراض عن ذلك، وتولٍ عن طاعة الله، فما ثم إلا
الفساد في الأرض بالعمل بالمعاصي وقطيعة الأرحام.




{

أُولَئِكَ الَّذِينَ


} أفسدوا في الأرض، وقطعوا أرحامهم {

لَعَنَهُمُ اللَّهُ


} بأن أبعدهم عن رحمته، وقربوا من سخط الله.




{

فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ


} أي: جعلهم لا يسمعون ما ينفعهم ولا يبصرونه، فلهم آذان، ولكن لا تسمع
سماع إذعان وقبول، وإنما تسمع سماعا تقوم به حجة الله عليها، ولهم أعين،
ولكن لا يبصرون بها العبر والآيات، ولا يلتفتون بها إلى البراهين
والبينات.





{

24


} {

أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا


}




أي: فهلا يتدبر هؤلاء المعرضون لكتاب الله، ويتأملونه حق التأمل، فإنهم
لو تدبروه، لدلهم على كل خير، ولحذرهم من كل شر، ولملأ قلوبهم من
الإيمان، وأفئدتهم من الإيقان، ولأوصلهم إلى المطالب العالية، والمواهب
الغالية، ولبين لهم الطريق الموصلة إلى الله، وإلى جنته ومكملاتها
ومفسداتها، والطريق الموصلة إلى العذاب، وبأي شيء تحذر، ولعرفهم بربهم،
وأسمائه وصفاته وإحسانه، ولشوقهم إلى الثواب الجزيل، ورهبهم من العقاب
الوبيل.




{

أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا


} أي: قد أغلق على ما فيها من الشر وأقفلت، فلا يدخلها خير أبدا؟ هذا هو
الواقع.





{

25-28


} {

إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا
تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ
* ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ
سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ *
فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ
وَأَدْبَارَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ
وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ


}




يخبر تعالى عن حالة المرتدين عن الهدى والإيمان على أعقابهم إلى الضلال
والكفران، ذلك لا عن دليل دلهم ولا برهان، وإنما هو تسويل من عدوهم
الشيطان وتزيين لهم، وإملاء منه لهم: {

يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا
غُرُورًا


}




وذلك أنهم قد تبين لهم الهدى، فزهدوا فيه ورفضوه، و {

قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ


} من المبارزين العداوة لله ولرسوله {

سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ


} أي: الذي يوافق أهواءهم، فلذلك عاقبهم الله بالضلال، والإقامة على ما
يوصلهم إلى الشقاء الأبدي، والعذاب السرمدي.




{

وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ


} فلذلك فضحهم، وبينها لعباده المؤمنين، لئلا يغتروا بها.




{

فَكَيْفَ


} ترى حالهم الشنيعة، ورؤيتهم الفظيعة {

إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَة


} الموكلون بقبض أرواحهم، {

يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ


} بالمقامع الشديدة؟!.




{

ذَلِكَ


} العذاب الذي استحقوه ونالوه {

بـ


} سبب {

أنهم اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ


} من كل كفر وفسوق وعصيان.




{

وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ


} فلم يكن لهم رغبة فيما يقربهم إليه، ولا يدنيهم منه، {

فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ


} أي: أبطلها وأذهبها، وهذا بخلاف من اتبع ما يرضي الله وكره سخطه، فإنه
سيكفر عنه سيئاته، ويضاعف أجره وثوابه.





{

29-31


} {

أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ
اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ * وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ
فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ
وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ * وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ
الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ

}




يقول تعالى: {

أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ


} من شبهة أو شهوة، بحيث تخرج القلب عن حال صحته واعتداله، أن الله لا
يخرج ما في قلوبهم من الأضغان والعداوة للإسلام وأهله؟ هذا ظن لا يليق
بحكمة الله، فإنه لا بد أن يميز الصادق من الكاذب، وذلك بالابتلاء
بالمحن، التي من ثبت عليها، ودام إيمانه فيها، فهو المؤمن حقيقة، ومن
ردته على عقبيه فلم يصبر عليها، وحين أتاه الامتحان، جزع وضعف إيمانه،
وخرج ما في قلبه من الضغن، وتبين نفاقه، هذا مقتضى الحكمة الإلهية، مع
أنه تعالى قال: {

وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ


}




أي: بعلاماتهم التي هي كالوسم في وجوههم. {

وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ


} أي: لا بد أن يظهر ما في قلوبهم، ويتبين بفلتات ألسنتهم، فإن الألسن
مغارف القلوب، يظهر منها ما في القلوب من الخير والشر {

وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ


} فيجازيكم عليها.




ثم ذكر أعظم امتحان يمتحن به عباده، وهو الجهاد في سبيل الله، فقال: {

وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ


} أي: نختبر إيمانكم وصبركم، {

حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ
أَخْبَارَكُمْ
[/color:23


privacy_tip صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى