هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

دخول

تفسيرالقران

descriptionتفسيرالقران - صفحة 6 Emptyتفسيرالقران

more_horiz
تذكير بمساهمة فاتح الموضوع :

السسلام عليكم ورحمه الله وبركاته
هاذا موضوع مخصص لتفسير القراان كامل

وباذن الله بضع التفسيرات كامله

وجزاكم الله خير




عدل سابقا من قبل PriNcE A7MeD في الأربعاء 3 أكتوبر 2012 - 12:26 عدل 1 مرات

descriptionتفسيرالقران - صفحة 6 Emptyرد: تفسيرالقران

more_horiz
تابع
- تفسيرسورة الشعراء
عدد آياتها 227

(
آية
26-50

)







<table dir="rtl" style="font-weight: normal; font-size: 10pt; color: #ffffff; font-family: Tahoma,Arial; border-collapse: collapse; border: 0px solid" cellpadding="0" cellspacing="0" width="100%">
<tr>
<td style="vertical-align: top; width: 100%; text-align: center; background-image: url('none'); background-repeat: repeat; background-attachment: scroll; background-position: 0% 0%" dir="rtl"> <table id="AutoNumber1" dir="rtl" style="BORDER-COLLAPSE: collapse" border="0" cellspacing="1" width="100%">
<tr>
<td dir="rtl" width="100%">



" قَالَ
رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ "(26)
قال موسى: الرب الذي أدعوكم إليه هو الذي خلقكم وخلق أباءكم
الأولين, فكيف تعبدون مَن هو مخلوق مثلكم, وله آباء قد فنوا
كآبائكم؟



" قَالَ
إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ
"(27)
قال فرعون لخاصته يستثير غضبهم ؛ لتكذيب موسى إياه: إن رسولكم
الذي أرسل إليكم لمجنون, يتكلم كلامًا لا يُعْقَل!



" قَالَ
رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ
كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ "(28)
قال موسى: رب المشرق والمغرب وما بينهما وما يكون فيهما من نور
وظلمة, وهذا يستوجب الإيمان به وحده إن كنتم من أهل العقل
والتدبر!



" قَالَ
لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ
الْمَسْجُونِينَ "(29)
قال فرعون لموسى مهددًا له: لئن اتخذت إلهًا غيري لأسجننك مع
مَن سجنت.



" قَالَ
أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ "(30)
قال موسى: أتجعلني من المسجونين, ولو جئتك ببرهان قاطع يتبين
منه صدقي؟



" قَالَ
فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ "(31)
قال فرعون: فأت به إن كنت من الصادقين في دعواك.



"
فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ "(32)


"
وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ "(33)
فألقى موسى عصاه فتحولت ثعبانًا حقيقيًا, ليس تمويهًا كما يفعل
السحرة, وأخرج يده مِن جيبه فإذا هي بيضاء كالثلج من غير برص ,
تَبْهَر الناظرين.



" قَالَ
لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ "(34)


"
يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ
فَمَاذَا تَأْمُرُونَ "(35)
قال فرعون لأشراف قومه خشية أن يؤمنوا: إن موسى لَساحر ماهر ,
يريد أن يخرجكم بسحره من أرضكم , فأي شيء تشيرون به في شأنه
أتبع رأيكم فيه؟



"
قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ
حَاشِرِينَ "(36)


"
يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ "(37)
قال له قومه: أخِّر أمر موسى وهارون, وأرسِلْ في المدائن جندًا
جامعين للسحرة, يأتوك بكلِّ مَن أجاد السحر , وتفوَّق في
معرفته.



"
فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ "(38)


"
وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ "(39)
فَجُمع السحرة , وحُدِّد لهم وقت معلوم , هو وقت الضحى من يوم
الزينة الذي يتفرغون فيه من أشغالهم , ويجتمعون ويتزيَّنون؛
وذلك للاجتماع بموسى. وحُثَّ الناس على الاجتماع; أملًا في أن
تكون الغلبة للسحرة.





"
لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ
الْغَالِبِينَ "(40)
إننا نطمع أن تكون الغلبة للسحرة , فنثبت على ديننا.



"
فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ
لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ "(41)
فلما جاء السحرة فرعون قالوا له: أإن لنا لأجرًا مِن مال أو
جاه , إنْ كنا نحن الغالبين لموسى؟



" قَالَ
نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ "(42)
قال فرعون: نعم لكم عندي ما طلبتم مِن أجر , وإنكم حينئذ لمن
المقربين لديَّ.



" قَالَ
لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ "(43)
قال موسى للسحرة مريدًا إبطال سحرهم وإظهار أن ما جاء به ليس
سحرًا: ألقوا ما تريدون إلقاءه من السحر.



"
فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ
فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ "(44)
فألقَوا حبالهم وعصيَّهم, وخُيِّل للناس أنها حيَّات تسعى,
وأقسموا بعزة فرعون قائلين: إننا لنحن الغالبون.



"
فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا
يَأْفِكُونَ "(45)
فألقى موسى عصاه, فإذا هي حية عظيمة, تبتلع ما صدر منهم من إفك
وتزوير.



"
فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ "(46)


"
قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ "(47)


" رَبِّ
مُوسَى وَهَارُونَ "(48)
فلما شاهدوا ذلك , وعلموا أنه ليس من تمويه السحرة, آمنوا
بالله وسجدوا له , وقالوا: آمنَّا برب العالمين رب موسى
وهارون.



" قَالَ
آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ
لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ
تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ
خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ "(49)
قال فرعون للسحرة مستنكرًا: آمنتم لموسى بغير إذن مني , وقال
موهمًا أنَّ فِعْل موسى سحر: إنه لكبيركم الذي علَّمكم السحر ,
فلسوف تعلمون ما ينزل بكم من عقاب: لأقطعنَّ أيديكم وأرجلكم من
خلاف: بقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى أو عكس ذلك ,
ولأصلبنَّكم أجمعين.



"
قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ "(50)

</td>
</tr>
</table>
</td>
</tr>
</table>

descriptionتفسيرالقران - صفحة 6 Emptyرد: تفسيرالقران

more_horiz
تابع
- تفسيرسورة الشعراء
عدد آياتها 227

(


آية
51-75

)








" وَأَوْحَيْنَا
إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ "(52)
وأوحى الله إلى موسى عليه السلام: أَنْ سِرْ ليلًا بمن آمن من بني
إسرائيل؛ لأن فرعون وجنوده متبعوكم حتى لا يدركوكم قبل وصولكم إلى البحر.



" فَأَرْسَلَ
فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ "(53)
فأرسل فرعون جنده- حين بلغه مسير بني إسرائيل- يجمعون جيشه من مدائن
مملكته.



" إِنَّ هَؤُلَاءِ
لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ "(54)


" وَإِنَّهُمْ
لَنَا لَغَائِظُونَ "(55)


" وَإِنَّا
لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ "(56)
قال فرعون: إن بني اسرائيل الذين فرُّوا مع موسى لَطائفة حقيرة قليلة
العدد , وإنهم لمالئون صدورنا غيظًا؛ حيث خالفوا ديننا, وخرجوا بغير
إذننا, وإنا لجميع متيقظون مستعدون لهم.



"
فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ "(57)


" وَكُنُوزٍ
وَمَقَامٍ كَرِيمٍ "(58)


" كَذَلِكَ
وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ "(59)
فأخرج الله فرعون وقومه من أرض "مصر" ذات البساتين وعيون الماء وخزائن
المال والمنازل الحسان. وكما أخرجناهم , جعلنا هذه الديار من بعدهم لبني
إسرائيل.



" فَأَتْبَعُوهُمْ
مُشْرِقِينَ "(60)
فلحق فرعون وجنده موسى ومَن معه وقت شروق الشمس.



" فَلَمَّا
تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ
"(61)
فلما رأى كل واحد من الفريقين الآخر قال أصحاب موسى: إنَّ جَمْعَ فرعون
مُدْرِكنا ومهلكنا.



" قَالَ كَلَّا
إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ "(62)
قال موسى لهم: كلَّا ليس الأمر كما ذكرتم فلن تُدْرَكوا; إن معي ربي
بالنصر , سيهديني لما فيه نجاتي ونجاتكم.



" فَأَوْحَيْنَا
إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ
كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ "(63)
فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر , فضرب , فانفلق البحر إلى اثني
عشر طريقًا بعدد قبائل بني إسرائيل , فكانت كل قطعة انفصلت من البحر
كالجبل العظيم.



" وَأَزْلَفْنَا
ثَمَّ الْآخَرِينَ "(64)


" وَأَنْجَيْنَا
مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ "(65)


" ثُمَّ
أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ "(66)
وقرَّبْنا هناك فرعون وقومه حتى دخلوا البحر, وأنجينا موسى ومَن معه
أجمعين. فاستمر البحر على انفلاقه حتى عبروا إلى البر , ثم أغرقنا فرعون
ومن معه بإطباق البحر عليهم بعد أن دخلوا فيه متبعين موسى وقومه.



" إِنَّ فِي
ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ "(67)
إن في ذلك الذي حدث لَعبرة عجيبة دالة على قدرة الله , وما صار أكثر
أتباع فرعون مؤمنين مع هذه العلامة الباهرة.



" وَإِنَّ رَبَّكَ
لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ "(68)
وإن ربك لهو العزيز الرحيم, بعزته أهلك الكافرين المكذبين , وبرحمته
نجَّى موسى ومَن معه أجمعين.



" وَاتْلُ
عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ "(69)


" إِذْ قَالَ
لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ "(70)
واقصص على الكافرين - أيها الرسول - خبر إبراهيم حين قال لأبيه وقومه: أي
شيء تعبدونه؟



" قَالُوا
نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ "(71)
قالوا: نعبد أصنامًا , فنَعْكُف على عبادتها.



" قَالَ هَلْ
يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ "(72)


" أَوْ
يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ "(73)
قال إبراهيم منبهًا على فساد مذهبهم: هل يسمعون دعاءكم إذ تدعونهم, أو
يقدِّمون لكم نفعًا إذا عبدتموهم , أو يصيبونكم بضر إذا تركتم عبادتهم؟



" قَالُوا بَلْ
وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ "(74)
قالوا: لا يكون منهم شيء من ذلك , ولكننا وجدنا آباءنا يعبدونهم,
فقلَّدناهم فيما كانوا يفعلون.



" قَالَ
أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ "(75)

descriptionتفسيرالقران - صفحة 6 Emptyرد: تفسيرالقران

more_horiz
تابع
- تفسيرسورة الشعراء
عدد آياتها 227


(


آية


76-100
)







" أَنْتُمْ
وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ "(76)


" فَإِنَّهُمْ
عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ "(77)


" الَّذِي
خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ "(78)


" وَالَّذِي هُوَ
يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ "(79)


" وَإِذَا
مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ "(80)


" وَالَّذِي
يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ "(81)


" وَالَّذِي
أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ "(82)
قال إبراهيم: أفأبصرتم بتدبر ما كنتم تعبدون من الأصنام التي لا تسمع ولا
تنفع ولا تضر , أنتم وآباؤكم الأقدمون من قبلكم؟ فإن ما تعبدونهم من دون
الله أعداء لي , لكن رب العالمين ومالك أمرهم هو وحده الذي أعبده. هو
الذي خلقني في أحسن صورة فهو يرشدني إلى مصالح الدنيا والآخرة وهو الذي
ينعم عليَّ بالطعام والشراب , وإذا أصابني مرض فهو الذي يَشْفيني
ويعافيني منه , وهو الذي يميتني في الدينا بقبض روحي, ثم يحييني يوم
القيامة, لا يقدر على ذلك أحد سواه, والذي أطمع أن يتجاوز عن ذنبي يوم
الجزاء.



" رَبِّ هَبْ لِي
حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ "(83)
قال إبراهيم داعيًا ربه: ربِّ امنحني العلم والفهم , وألحقني بالصالحين ,
واجمع بيني وبينهم في الجنة.




" وَاجْعَلْ لِي
لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ "(84)
واجعل لي ثناء حسنًا وذكرًا جميلًا في الذين يأتون بعدي إلى يوم القيامة.



" وَاجْعَلْنِي
مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ "(85)
واجعلني من عبادك الذين تورثهم نعيم الجنة.



" وَاغْفِرْ
لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ "(86)
واصفح لأبي عن شركه بك , ولا تعاقبه عليه, إنه كان ممن ضل عن سبيل الهدى
فكفر بك. وهذا قبل أن يتبين لإبراهيم أن أباه عدو لله, فلما تبيَّن له
أنه عدو لله تبرأ منه.



" وَلَا تُخْزِنِي
يَوْمَ يُبْعَثُونَ "(87)


" يَوْمَ لَا
يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ "(88)


" إِلَّا مَنْ
أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ "(89)
ولا تُلْحق بي الذل , يوم يخرج الناس من القبور للحساب والجزاء , يوم لا
ينفع المال والبنون أحدًا من العباد , إلا مَن أتى الله بقلب سليم من
الكفر والنفاق والرذيلة.



" وَأُزْلِفَتِ
الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ "(90)
وقُرِّبت الجنة للذين اجتنبوا الكفر والمعاصي , وأقبلوا على الله
بالطاعة.



" وَبُرِّزَتِ
الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ "(91)
وأُظهرت النار للكافرين الذين ضَلُّوا عن الهدى , وتجرَّؤوا, على محارم
الله وكذَّبوا رسله.



" وَقِيلَ لَهُمْ
أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ "(92)


" مِنْ دُونِ
اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ "(93)
وقيل لهم توبيخًا: أين آلهتكم التي كنتم تعبدونها مِن دون الله , وتزعمون
أنها تشفع لكم اليوم؟ هل ينصرونكم, فيدفعون العذاب عنكم, أو ينتصرون بدفع
العذاب عن أنفسهم؟ لا شيء من ذلك.



" فَكُبْكِبُوا
فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ "(94)


" وَجُنُودُ
إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ "(95)
فجُمِعوا وألقُوا في جهنم , هم والذين أضلوهم وأعوان إبليس الذين زيَّنوا
لهم الشر, لم يُفْلِت منهم أحد.



" قَالُوا وَهُمْ
فِيهَا يَخْتَصِمُونَ "(96)


" تَاللَّهِ إِنْ
كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ "(97)


" إِذْ
نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ "(98)


" وَمَا
أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ "(99)
قالوا معترفين بخطئهم , وهم يتنازعون في جهنم مع مَن أضلوهم , تالله إننا
كنا في الدنيا في ضلال واضح لا خفاء فيه; إذ نسويكم برب العالمين المستحق
للعبادة وحده. وما أوقعنا في هذا المصير السيِّئ إلا المجرمون الذين
دعونا إلى عبادة غير الله فاتبعناهم.



" فَمَا لَنَا
مِنْ شَافِعِينَ "(100)

descriptionتفسيرالقران - صفحة 6 Emptyرد: تفسيرالقران

more_horiz
تابع
- تفسيرسورة الشعراء
عدد آياتها 227

(



آية 101-125

)








" وَلَا صَدِيقٍ
حَمِيمٍ "(101)
فلا أحدَ يشفع لنا , ويخلِّصنا من العذاب , ولا مَن يَصْدُق في مودتنا
ويشفق علينا.



" فَلَوْ أَنَّ
لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ "(102)
فليت لا رجعة إلى الدنيا, فنصير من جملة المؤمنين الناجين.



" إِنَّ فِي
ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ "(103)


" وَإِنَّ رَبَّكَ
لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ "(104)
إن في نبأ إبراهيم السابق لَعبرة لِمن يعتبر, وما صار أكثر الذين سمعوا
هذا النبأ مؤمنين. وإن ربك لهو العزيز القادر على الانتقام من المكذبين,
الرحيم بعباده المؤمنين.



" كَذَّبَتْ
قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ "(105)


" إِذْ قَالَ
لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ "(106)


" إِنِّي لَكُمْ
رَسُولٌ أَمِينٌ "(107)


" فَاتَّقُوا
اللَّهَ وَأَطِيعُونِ "(108)


" وَمَا
أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ
الْعَالَمِينَ "(109)


" فَاتَّقُوا
اللَّهَ وَأَطِيعُونِ "(110)
كَذَّبت قوم نوح رسالة نبيهم , فكانوا بهذا مكذبين لجميع الرسل; لأن كل
رسول يأمر بتصديق جميع الرسل. إذ قال لهم أخوهم نوح: ألا تتقون الله بترك
عبادة غيره؟ إني لكم رسول أمين فيما أبلغكم , فاجعلوا الإيمان وقاية لكم
من عذاب الله وأطيعوني فيما آمركم به من عبادته وحده. وما أطلب منكم
أجرًا على تبليغ الرسالة , ما أجري إلا على رب العالمين , المتصرف في
خلقه , فاحذروا عقابه, وأطيعوني بامتثال أوامره , واجتناب نواهيه.



" قَالُوا
أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ "(111)
قال له قومه: كيف نصدِّقك ونتبعك, والذين اتبعوك أراذل الناس وأسافلهم؟




" قَالَ وَمَا
عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ "(112)
فأجابهم نوح عليه السلام بقوله: لست مكلفًا بمعرفة أعمالهم, إنما كُلفت
أن أدعوهم إلى الإيمان. والاعتبار بالإيمان لا بالحسب والنسب والحِرف
والصنائع.



" إِنْ
حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ "(113)
ما حسابهم للجزاء على أعمالهم وبواطنهم إلا على ربي المطَّلِع على
السرائر. لو كنتم تشعرون بذلك لما قلتم هذا الكلام.



" وَمَا أَنَا
بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ "(114)


" إِنْ أَنَا
إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ "(115)
وما أنا بطارد الذين يؤمنون بدعوتي, مهما تكن حالهم؛ تلبية لرغبتكم كي
تؤمنوا بي ما أنا إلا نذير بيِّن الإنذار.



" قَالُوا لَئِنْ
لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ "(116)
عدل قوم نوح عن المحاورة إلى التهديد, فقالوا له: لئن لم ترجع- يا نوح-
عن دعوتك لتكوننَّ مِنَ المقتولين رميًا بالحجارة.



" قَالَ رَبِّ
إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ "(117)


" فَافْتَحْ
بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ "(118)
فلما سمع نوح قولهم هذا دعا ربه بقوله: رب إن قومي أصروا على تكذيبي ,
فاحكم بيني وبينهم حكمًا تُهلك به مَن جحد توحيدك وكذَّب رسولك , ونجني
ومَن معي من المؤمنين مما تعذب به الكافرين.



" فَأَنْجَيْنَاهُ
وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ "(119)
فأنجيناه ومَن معه في السفينة المملوءة بصنوف المخلوقات التي حملها معه.



" ثُمَّ
أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ "(120)
ثم أغرقنا بعد إنجاء نوح ومن معه الباقين , الذين لم يؤمنوا مِن قومه
وردُّوا عليه النصيحة.



" إِنَّ فِي
ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ "(121)
إن في نبأ نوح وما كان من إنجاء المؤمنين وإهلاك المكذبين لَعلامة وعبرةً
عظيمة لمن بعدهم, وما كان أكثر الذين سمعوا هذه القصة مؤمنين بالله
وبرسوله وشرعه.



" وَإِنَّ رَبَّكَ
لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ "(122)
وإن ربك لهو العزيز في انتقامه ممن كفر به وخالف أمره, الرحيم بالتائب
منهم أن يعاتبه بعد توبته.



" كَذَّبَتْ عَادٌ
الْمُرْسَلِينَ "(123)
كذَّبت قبيلة عاد رسولهم هودًا- عليه السلام- فكانوا بهذا مكذِّبين لجميع
الرسل؛ لاتحاد دعوتهم في أصولها وغايتها.



" إِذْ قَالَ
لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ "(124)


" إِنِّي لَكُمْ
رَسُولٌ أَمِينٌ "(125)

descriptionتفسيرالقران - صفحة 6 Emptyرد: تفسيرالقران

more_horiz
تابع
- تفسيرسورة الشعراء
عدد آياتها 227


(




آية 126-150

)








" فَاتَّقُوا
اللَّهَ وَأَطِيعُونِ "(126)


" وَمَا
أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ
الْعَالَمِينَ "(127)
إذ قال لهم أخوهم هود: ألا تخشون الله فتخلصوا له العبادة؟ إني مرسَل
إليكم لهدايتكم وإرشادكم , حفيظ على رسالة الله , أبلِّغها لكم كما أمرني
ربي , فخافوا عقاب الله وأطيعوني فيما جئتكم به من عند الله وما أطلب
منكم على إرشادكم إلى التوحيد أيَّ نوع من أنواع الأجر , ما أجري إلا على
رب العالمين.



" أَتَبْنُونَ
بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ "(128)


" وَتَتَّخِذُونَ
مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ "(129)


" وَإِذَا
بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ "(130)
أتبنون بكل مكان مرتفع بناء عاليًا تشرفون منه فتسخرون مِنَ المارة؟ وذلك
عبث وإسراف لا يعود عليكم بفائدة في الدين أو الدنيا, وتتخذون قصورًا
منيعة وحصونًا مشيَّدة , كأنكم تخلدون في الدنيا ولا تموتون , وإذا بطشتم
بأحد من الخلق قتلًا أو ضربًا , فعلتم ذلك قاهرين ظالمين.



" فَاتَّقُوا
اللَّهَ وَأَطِيعُونِ "(131)


" وَاتَّقُوا
الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ "(132)


" أَمَدَّكُمْ
بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ "(133)


" وَجَنَّاتٍ
وَعُيُونٍ "(134)
فخافوا الله , وامتثلوا ما أدعوكم إليه فإنه أنفع لكم , واخشوا الله الذي
أعطاكم من أنواع النعم ما لا خفاء فيه عليكم , أعطاكم الأنعام: من الإبل
والبقر والغنم , وأعطاكم الأولاد، وأعطاكم البساتين المثمرة, وفجَّر لكم
الماء من العيون الجارية.



" إِنِّي أَخَافُ
عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ "(135)
قال هود- عليه السَّلام- محذرًا لهم: إني أخاف إن أصررتم على ما أنتم
عليه من التكذيب والظلم وكُفْر النِّعم , أن ينزل الله بكم عذابًا في يوم
تعظم شدته من هول عذابه.



" قَالُوا سَوَاءٌ
عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ "(136)
قالوا له: يستوي عندنا تخويفك وتركه, فلن نؤمن لك.




" إِنْ هَذَا
إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ "(137)


" وَمَا نَحْنُ
بِمُعَذَّبِينَ "(138)
وقالوا: ما هذا الذي نحن عليه إلا دين الأولين وعاداتهم , وما نحن
بمعذبين على ما نفعل مما حَذَّرْتنا منه من العذاب.



" فَكَذَّبُوهُ
فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ
مُؤْمِنِينَ "(139)


" وَإِنَّ رَبَّكَ
لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ "(140)
فاستمَرُّوا على تكذيبه , فأهلكهم الله بريح باردة شديدة. إن في ذلك
الإهلاك لَعبرة لمن بعدهم, وما كان أكثر الذين سمعوا قصتهم مؤمنين بك.
وإن ربك لهو العزيز الغالب على ما يريده من إهلاك المكذبين, الرحيم
بالمؤمنين.



" كَذَّبَتْ
ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ "(141)
كذَّبت قبيلة ثمود أخاهم صالحًا في رسالته ودعوته إلى توحيد الله ,
فكانوا بهذا مكذِّبين لجميع الرسل; لأنهم جميعًا يدعون إلى توحيد الله.



" إِذْ قَالَ
لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ "(142)


" إِنِّي لَكُمْ
رَسُولٌ أَمِينٌ "(143)


" فَاتَّقُوا
اللَّهَ وَأَطِيعُونِ "(144)


" وَمَا
أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ
الْعَالَمِينَ "(145)
إذ قال لهم أخوهم صالح: ألا تخشون عقاب الله , فتُفرِدونه بالعبادة؟ إني
مرسَل من الله إليكم, حفيظ على هذه الرسالة كما تلقيتها عن الله ,
فاحذروا عقابه تعالى, وامتثلوا ما دعوتكم إليه. وما أطلب منكم على نصحي
وإرشادي لكم أي جزاء , ما جزائي إلا على رب العالمين.



" أَتُتْرَكُونَ
فِي مَا هَا هُنَا "(146)


" فِي جَنَّاتٍ
وَعُيُونٍ "(147)


" وَزُرُوعٍ
وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ "(148)


" وَتَنْحِتُونَ
مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ "(149)
أيترككم ربكم فيما أنتم فيه من النعيم مستقرين في هذه الدنيا آمنين من
العذاب والزوال والموت؟ في حدائق مثمرة وعيون جارية وزروع كثيرة ونخل
ثمرها يانع لين نضيج , وتنحتون من الجبال بيوتًا ماهرين بنحتها, أَشِرين
بَطِرين.



" فَاتَّقُوا
اللَّهَ وَأَطِيعُونِ "(150)

descriptionتفسيرالقران - صفحة 6 Emptyرد: تفسيرالقران

more_horiz
تابع
- تفسيرسورة الشعراء
عدد آياتها 227

(


آية
151-175
)








" وَلَا تُطِيعُوا
أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ "(151)


" الَّذِينَ
يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ "(152)
فخافوا عقوبة الله, واقبلوا نصحي , ولا تنقادوا لأمر المسرفين على أنفسهم
المتمادين في معصية الله الذين دأبوا على الإفساد في الأرض إفسادًا لا
إصلاح فيه.



" قَالُوا
إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ "(153)


" مَا أَنْتَ
إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ
"(154)
قالت ثمود لنبيها صالح: ما أنت إلا من الذين سُحروا سِحْرًا كثيرًا , حتى
غلب السحر على عقلك. ما أنت إلا فرد مماثل لنا في البشرية من بني آدم ,
فكيف تتميز علينا بالرسالة؟ فأت بحجة واضحة تدل على ثبوت رسالتك, إن كنت
صادقًا في دعواك أن الله أرسلك إلينا.



" قَالَ هَذِهِ
نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ "(155)


" وَلَا
تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ "(156)
قال لهم صالح- وقد أتاهم بناقة أخرجها الله له من الصخرة-: هذه ناقة الله
لها نصيب من الماء في يوم معلوم , ولكم نصيب منه في يوم آخر. ليس لكم أن
تشربوا في اليوم الذي هو نصيبها , ولا هي تشرب في اليوم الذي هو نصيبكم ,
ولا تنالوها بشيء مما يسوءها كضَرْبٍ أو قتل أو نحو ذلك , فيهلككم الله
بعذابِ يومٍ تعظم شدته, بسبب ما يقع فيه من الهول والشدة.



" فَعَقَرُوهَا
فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ "(157)
فنحروا الناقة, فأصبحوا متحسرين على ما فعلوا لَمَّا أيقنوا بالعذاب ,
فلم ينفعهم ندمهم.



" فَأَخَذَهُمُ
الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ
مُؤْمِنِينَ "(158)
فنزل بهم عذاب الله الذي توعدهم به صالح عليه السلام , فأهلكهم. إن في
إهلاك ثمود لَعبرة لمن اعتبر بهذا المصير, وما كان أكثرهم مؤمنين.



" وَإِنَّ رَبَّكَ
لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ "(159)
وإن ربك لهو العزيز القاهر المنتقم من أعدائه المكذبين , الرحيم بمن آمن
من خلقه.




" كَذَّبَتْ
قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ "(160)
كَذَّبت قوم لوط برسالته, فكانوا بهذا مكذبين لسائر رسل الله؛ لأن ما
جاؤوا به من التوحيد وأصول الشرائع واحد.



" إِذْ قَالَ
لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ "(161)


" إِنِّي لَكُمْ
رَسُولٌ أَمِينٌ "(162)


" فَاتَّقُوا
اللَّهَ وَأَطِيعُونِ "(163)


" وَمَا
أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ
الْعَالَمِينَ "(164)
إذ قال لهم أخوهم لوط: ألا تخافون عذاب الله؟ إني رسول من ربكم , أمين
على تبليغ رسالته إليكم , فاحذروا عقاب الله على تكذيبكم رسوله ,
واتبعوني فيما دعوتكم إليه , وما أسألكم على دعوتي لهدايتكم أيَّ أجر ,
ما أجري إلا على رب العالمين.



" أَتَأْتُونَ
الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ "(165)


" وَتَذَرُونَ مَا
خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ
عَادُونَ "(166)
أتنكحون الذكور مِن بني آدم , وتتركون ما خلق الله لاستمتاعكم وتناسلكم
مِن أزواجكم؟ بل أنتم قوم - بهذه المعصية- متجاوزون ما أباحه الله لكم من
الحلال إلى الحرام.



" قَالُوا لَئِنْ
لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ "(167)
قال قوم لوط: لئن لم تترك يا لوط نَهْيَنا عن إتيان الذكور وتقبيح فعله ,
لتكونن من المطرودين من بلادنا.



" قَالَ إِنِّي
لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ "(168)
قال لوط لهم: إني لِعملكم الذي تعملونه من إتيان الذكور , لَمن المبغضين
له بغضًا شديدًا.



" رَبِّ نَجِّنِي
وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ "(169)
ثم دعا لوط ربه حينما يئس من استجابتهم له قائلًا: ربِّ أنقذني وأنقذ
أهلي مما يعمله قومي مِن هذه المعصية القبيحة, ومِن عقوبتك التي ستصيبهم.



" فَنَجَّيْنَاهُ
وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ "(170)


" إِلَّا عَجُوزًا
فِي الْغَابِرِينَ "(171)
فنجيناه وأهل بيته والمستجيبين لدعوته أجمعين إلا عجوزًا من أهله , وهي
امرأته , لم تشاركهم في الإيمان , فكانت من الباقين في العذاب والهلاك.



" ثُمَّ
دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ "(172)


" وَأَمْطَرْنَا
عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ "(173)
ثم أهلكنا مَن عداهم من الكفرة أشدَّ إهلاك , وأنزلنا عليهم حجارة من
السماء كالمطر أهلكتهم, فقَبُحَ مطرُ من أنذرهم رسلهم ولم يستجيبوا لهم؛
فقد أُنزل بهم أشدُّ أنواع الهلاك والتدمير.



" إِنَّ فِي
ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ "(174)
إن في ذلك العقاب الذي نزل بقوم لوط لَعبرة وموعظة, يتعظ بها المكذبون.
وما كان أكثرهم مؤمنين.



" وَإِنَّ رَبَّكَ
لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ "(175)

وإن ربك لهو العزيز الغالب
الذي يقهر المكذبين, الرحيم بعباده المؤمنين.

descriptionتفسيرالقران - صفحة 6 Emptyرد: تفسيرالقران

more_horiz
تابع
- تفسيرسورة الشعراء
عدد آياتها 227

(


آية
176-200 )








" كَذَّبَ
أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ "(176)


" إِذْ قَالَ
لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ "(177)


" إِنِّي لَكُمْ
رَسُولٌ أَمِينٌ "(178)


" فَاتَّقُوا
اللَّهَ وَأَطِيعُونِ "(179)


" وَمَا
أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ
الْعَالَمِينَ "(180)
كذَّب أصحاب الأرض ذات الشجر الملتف رسولهم شعيبًا في رسالته , فكانوا
بهذا مكذِّبين لجميع الرسالات. إذ قال لهم شعيب: ألا تخافون عقاب الله
على معاصيكم؟ إني مرسَل إليكم مِنَ الله لهدايتكم , حفيظ على ما أوحى
الله به إليَّ من الرسالة, فخافوا عقاب الله, اتبعوا ما دعوتكم إليه مِن
هداية الله؛ لترشدوا, وما أطلب منكم على دعائي لكم إلى الإيمان بالله
أيَّ جزاء , ما جزائي إلا على رب العالمين.



" أَوْفُوا
الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ "(181)


" وَزِنُوا
بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ "(182)


" وَلَا
تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ
مُفْسِدِينَ "(183)
قال لهم شعيب- وقد كانوا يُنْقِصون الكيل والميزان-: أتمُّوا الكيل للناس
وافيًا لهم , ولا تكونوا ممن يُنْقِصون الناس حقوقهم, وَزِنوا بالميزان
العدل المستقيم , ولا تنقصوا الناس شيئًا مِن حقوقهم في كيل أو وزن أو
غير ذلك , ولا تكثروا في الأرض الفساد , بالشرك والقتل والنهب وتخويف
الناس, وارتكاب المعاصي.




" وَاتَّقُوا
الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ "(184)
واحذروا عقوبة الله الذي خلقكم وخلق الأمم المتقدمة عليكم.



" قَالُوا
إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ "(185)


" وَمَا أَنْتَ
إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ "(186)


" فَأَسْقِطْ
عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ
"(187)
قالوا: إنما أنت- يا شعيب- مِنَ الذين أصابهم السحر إصابة شديدة , فذهب
بعقولهم , وما أنت إلا واحد مثلنا في البشرية , فكيف تختص دوننا
بالرسالة؟ وإن أكبر ظننا أنك من الكاذبين فيما تدَّعيه من الرسالة. فإن
كنت صادقًا في دعوى النبوة , فادع الله أن يسقط علينا قطع عذاب من السماء
تستأصلنا.



" قَالَ رَبِّي
أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ "(188)
قال لهم شعب: ربي أعلم بما تعملونه مِنَ الشرك والمعاصي , وبما تستوجبونه
من العقاب.



" فَكَذَّبُوهُ
فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ
عَظِيمٍ "(189)
فاستمَرُّوا على تكذيبه , فأصابهم الحر الشديد , وصاروا يبحثون عن ملاذ
يستظلون به , فأظلتهم سحابة , وجدوا لها بردًا ونسيمًا , فلما اجتمعوا
تحتها , التهبت عليهم نارًا فأحرقتهم , فكان هلاكهم جميعًا في يوم شديد
الهول.



" إِنَّ فِي
ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ "(190)
إن في ذلك العقاب الذي نزل بهم , لَدلالة واضحة على قدرة الله في مؤاخذة
المكذبين , وعبرة لمن يعتبر , وما كان أكثرهم مؤمنين متعظين بذلك.



" وَإِنَّ رَبَّكَ
لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ "(191)
وإن ربك - أيها الرسول - لهو العزيز في نقمته ممن انتقم منه من أعدائه ,
الكريم بعباده الموحدين.



" وَإِنَّهُ
لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ "(192)


" نَزَلَ بِهِ
الرُّوحُ الْأَمِينُ "(193)


" عَلَى قَلْبِكَ
لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ "(194)


" بِلِسَانٍ
عَرَبِيٍّ مُبِينٍ "(195)
وإن هذا القرآن الذي ذُكِرَتْ فيه هنا القصص الصادقة , لَمنزَّل مِن خالق
الخلق, ومالك الأمر كله , نزل به جبريل الأمين, فتلاه عليك - أيها الرسول
- حتى وعيته بقلبك حفظًا وفهمًا؛ لتكون مِن رسل الله الذين يخوِّفون
قومهم عقاب الله , فتنذر بهذا التنزيل الإنس والجن أجمعين. نزل به جبريل
عليك بلغة عربية واضحة المعنى , ظاهرة الدلالة , فيما يحتاجون إليه في
إصلاح شؤون دينهم ودنياهم.



" وَإِنَّهُ لَفِي
زُبُرِ الْأَوَّلِينَ "(196)
وإنَّ ذِكْرَ هذا القرآن لَمثبتٌ في كتب الأنبياء السابقين, قد بَشَّرَتْ
به وصَدَّقَتْه.



" أَوَلَمْ يَكُنْ
لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ "(197)
أو لم يَكْفِ هؤلاء- في الدلالة على أنك رسول الله, وأن القرآن حق-
عِلْمُ علماء بني إسرائيل صحة تلك , ومَن آمن منهم كعبد الله بن سلام؟



" وَلَوْ
نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ "(198)


" فَقَرَأَهُ
عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ "(199)


" كَذَلِكَ
سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ "(200)

descriptionتفسيرالقران - صفحة 6 Emptyرد: تفسيرالقران

more_horiz
تابع
- تفسيرسورة الشعراء
عدد آياتها 227

(


آية
201-227 )








" لَا يُؤْمِنُونَ
بِهِ حَتَّى يَرَوْا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ "(201)
ولو نَزَّلنا القرآن على بعض الذين لا يتكلمون بالعربية, فقرأه على كفار
قريش قراءة عربية صحيحة, لكفروا به أيضًا , وانتحلوا لجحودهم عذرًا. كذلك
أدخلنا في قلوب المجرمين جحود القرآن , وصار متمكنًا فيها؛ وذلك بسبب
ظلمهم وإجرامهم , فلا سبيل إلى أن يتغيروا عمَّا هم عليه من إنكار القرآن
, حتى يعاينوا العذاب الشديد الذي وُعِدوا به.



" فَيَأْتِيَهُمْ
بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ "(202)


" فَيَقُولُوا
هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ "(203)
فينزل بهم العذاب فجأة , وهم لا يعلمون قبل ذلك بمجيئه, فيقولون عند
مفاجأتهم به تحسُّرًا على ما فاتهم من الإيمان: هل نحن مُمْهَلون
مُؤخَّرون؛ لنتوب إلى الله مِن شركنا , ونستدرك ما فاتنا؟



"
أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ "(204)
أَغَرَّ هؤلاء إمهالي , فيستعجلون نزول العذاب عليهم من السماء؟



" أَفَرَأَيْتَ
إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ "(205)


" ثُمَّ جَاءَهُمْ
مَا كَانُوا يُوعَدُونَ "(206)
أفعلمت - أيها الرسول - إن مَتَّعناهم بالحياة سنين طويلة بتأخير آجالهم
, ثم نزل بهم العذاب الموعود؟




" مَا أَغْنَى
عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ "(207)
ما أغنى عنهم تمتعهم بطول العمر , وطيب العيش , إذا لم يتوبوا من شركهم؟
فعذاب الله واقع بهم عاجلًا أم آجلًا.



" وَمَا
أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ "(208)


" ذِكْرَى وَمَا
كُنَّا ظَالِمِينَ "(209)
وما أهلكنا مِن قرية من القرى في الأم جميعًا, إلا بعد أن نرسل إليهم
رسلًا ينذرونهم, تذكرة لهم وتنبيهًا على ما فيه نجاتهم, وما كنا ظالمين
فنعذب أمة قبل أن نرسل إليها رسولًا.



" وَمَا
تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ "(210)


" وَمَا يَنْبَغِي
لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ "(211)


" إِنَّهُمْ عَنِ
السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ "(212)
وما تَنَزَّلَتْ بالقرآن على محمد الشياطين- كما يزعم الكفرة- ولا يصح
منهم ذلك , وما يستطيعونه؛ لأنهم عن استماع القرآن من السماء محجوبون
مرجومون بالشهب.



" فَلَا تَدْعُ
مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ "(213)
فلا تعبد مع الله معبودًا غيره, فينزل بك من العذاب ما نزل بهؤلاء الذين
عبدوا مع الله غيره.



" وَأَنْذِرْ
عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ "(214)
وحذِّر - أيها الرسول - الأقرب فالأقرب مِن قومك , مِن عذابنا , أن ينزل
بهم.



" وَاخْفِضْ
جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ "(215)
وأَلِنْ جانبك وكلامك تواضعًا ورحمة لمن ظهر لك منه إجابة دعوتك.



" فَإِنْ عَصَوْكَ
فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ "(216)
فإن خالفوا أمرك ولم يتبعوك , فتبرَّأ من أعمالهم , وما هم عليه من الشرك
والضلال.



" وَتَوَكَّلْ
عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ "(217)


" الَّذِي يَرَاكَ
حِينَ تَقُومُ "(218)


" وَتَقَلُّبَكَ
فِي السَّاجِدِينَ "(219)


" إِنَّهُ هُوَ
السَّمِيعُ الْعَلِيمُ "(220)
وفَوِّضْ أمرك إلى الله العزيز الذي لا يغالَب, الرحيم الذي لا يخذل
أولياءه , وهو الذي يراك حين تقوم للصلاة, وحدك في جوف الليل , ويرى
تقلُّبك مع الساجدين في صلاتهم معك قائمًا وراكعًا وساجدًا وجالسًا, إنه-
سبحانه- هو السميع لتلاوتك وذكرك, العليم بنيتك وعملك.



" هَلْ
أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ "(221)


" تَنَزَّلُ عَلَى
كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ "(222)


" يُلْقُونَ
السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ "(223)
هل أخبركم- أيها الناس- على مَن تنزَّل الشياطين؟ تنزل على كل كذَّاب
كثير الآثام من الكهنة, يَسْتَرِقُ الشياطين السمع, يتخطفونه من الملأ
الأعلى, فيلقونه إلى الكهان, ومَن جرى مجراهم مِنَ الفسقة, وأكثر هؤلاء
كاذبون, يَصْدُقَ أحدهم في كلمة, فيزيد فيها أكثر مِن مائة كذبة.



" وَالشُّعَرَاءُ
يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ "(224)


" أَلَمْ تَرَ
أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ "(225)


" وَأَنَّهُمْ
يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ "(226)
والشعراء يقوم شعرهم على الباطل والكذب, ويجاريهم الضالون الزائغون مِن
أمثالهم. ألم تر - أيها النبي - أنهم يذهبون كالهائم على وجهه, يخوضون في
كل فن مِن فنون الكذب والزور وتمزيق الأعراض والطعن في الأنساب وتجريح
النساء العفائف , وأنهم يقولون ما لا يفعلون, يبالغون في مدح أهل الباطل,
وينتقصون أهل الحق؟



" إِلَّا
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا
وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا
أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ "(227)
استثنى الله من الشعراءِ الشعراءَ الذين اهتدَوْا بالإيمان وعملوا
الصالحات, وأكثروا مِن ذِكْر الله فقالوا الشعر في توحيد الله - سبحانه-
والثناء , عليه جلَّ ذكره, والدفاع عن رسوله محمد صلى الله عليه وسلم,
وتكلموا بالحكمة والموعظة, الآداب الحسنة , وانتصروا للإسلام , يهجون مَن
يهجوه أو يهجو رسوله, ردًّا على الشعراء الكافرين. وسيعلم الذين ظلموا
أنفسهم بالشرك والمعاصي , وظلموا غيرهم بغمط حقوقهم, أو الاعتداء عليهم,
أو بالتُّهم الباطلة, أي مرجع من مراجع الشر والهلاك يرجعون إليه؟ إنَّه
منقلب سوء, نسأل الله السلامة والعافية.

descriptionتفسيرالقران - صفحة 6 Emptyرد: تفسيرالقران

more_horiz
-


تفسير سورة الفرقان

عدد آياتها 77

(



آية


1-24

)

وهي مكية عند الجمهور






{ 1 - 2 ْ} { تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ
لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي
الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا ْ}



هذا بيان لعظمته الكاملة وتفرده [بالوحدانية] من كل وجه وكثرة خيراته
وإحسانه فقال: { تَبَارَكَ ْ} أي: تعاظم
وكملت أوصافه وكثرت خيراته الذي من أعظم خيراته ونعمه أن نزل هذا القرآن
الفارق بين الحلال والحرام والهدى والضلال وأهل السعادة من أهل الشقاوة،
{ عَلَى عَبْدِهِ ْ} محمد صلى الله عليه
وسلم الذي كمل مراتب العبودية وفاق جميع المرسلين،
{ لِيَكُونَ ْ} ذلك الإنزال للفرقان على
عبده { لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا ْ}
ينذرهم بأس الله ونقمه ويبين لهم مواقع رضا الله من سخطه، حتى إن من قبل
نذارته وعمل بها كان من الناجين في الدنيا والآخرة الذين حصلت لهم
السعادة الأبدية والملك السرمدي، فهل فوق هذه النعمة وهذا الفضل والإحسان
شيء؟ فتبارك الذي هذا من بعض إحسانه وبركاته.




{ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ْ}

أى: له التصرف فيهما وحده، وجميع من فيهما مماليك وعبيد له مذعنون لعظمته
خاضعون لربوبيته، فقراء إلى رحمته الذي { لَمْ
يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ ْ}

وكيف يكون له ولد أو شريك وهو المالك وغيره مملوك، وهو القاهر وغيره
مقهور وهو الغني بذاته من جميع الوجوه، والمخلوقون مفتقرون إليه فقرا
ذاتيا من جميع الوجوه؟"




وكيف يكون له شريك في الملك ونواصي العباد كلهم بيديه، فلا يتحركون أو
يسكنون ولا يتصرفون إلا بإذنه فتعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، فلم يقدره
حق قدره من قال فيه ذلك ولهذا قال: { وَخَلَقَ
كُلَّ شَيْءٍ ْ}
شمل العالم العلوي والعالم السفلي من حيواناته
ونباتاته وجماداته، { فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا
ْ}
أي: أعطى كل مخلوق منها ما يليق به ويناسبه من الخلق وما
تقتضيه حكمته من ذلك، بحيث صار كل مخلوق لا يتصور العقل الصحيح أن يكون
بخلاف شكله وصورته المشاهدة، بل كل جزء وعضو من المخلوق الواحد لا يناسبه
غير محله الذي هو فيه. قال تعالى: { سَبِّحِ
اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ
فَهَدَى ْ}
وقال تعالى: { رَبُّنَا
الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ْ}
ولما بين
كماله وعظمته وكثرة إحسانه كان ذلك مقتضيا لأن يكون وحده المحبوب المألوه
المعظم المفرد بالإخلاص وحده لا شريك له ناسب أن يذكر بطلان عبادة ما
سواه فقال:








{ 3 ْ} { وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا
وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا
نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا ْ}




أي: من أعجب العجائب وأدل الدليل على سفههم ونقص عقولهم، بل أدل على
ظلمهم وجراءتهم على ربهم أن اتخذوا آلهة بهذه الصفة، في كمال العجز أنها
لا تقدر على خلق شيء بل هم مخلوقون، بل بعضهم مما عملته أيديهم.
{ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا
وَلَا نَفْعًا ْ}
أي: لا قليلا ولا كثيرا، لأنه نكرة في سياق
النفي.




{ وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا ْ}

أي: بعثا بعد الموت، فأعظم أحكام العقل بطلان إلهيتها وفسادها وفساد عقل
من اتخذها آلهة وشركاء للخالق لسائر المخلوقات من غير مشاركة له في ذلك،
الذي بيده النفع والضر والعطاء والمنع الذي يحيي ويميت ويبعث من في
القبور ويجمعهم ليوم النشور، وقد جعل لهم دارين دار الشقاء والخزي
والنكال لمن اتخذ معه آلهة أخرى، ودار الفوز والسعادة والنعيم المقيم لمن
اتخذه وحده معبودا.




ولما قرر بالدليل القاطع الواضح صحة التوحيد وبطلان ضده قرر صحة الرسالة
وبطلان قول من عارضها واعترضها فقال:





{ 4 - 6 ْ} { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ
هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ
فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا * وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ
اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا * قُلْ
أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا ْ}




أي: وقال الكافرون بالله الذي أوجب لهم كفرهم أن قالوا في القرآن
والرسول: إن هذا القرآن كذب كذبه محمد وإفك افتراه على الله وأعانه على
ذلك قوم آخرون.




فرد الله عليهم ذلك بأن هذا مكابرة منهم وإقدام على الظلم والزور، الذي
لا يمكن أن يدخل عقل أحد وهم أشد الناس معرفة بحالة الرسول صلى الله عليه
وسلم وكمال صدقه وأمانته وبره التام وأنه لا يمكنه، لا هو ولا سائر الخلق
أن يأتوا بهذا القرآن الذي هو أجل الكلام وأعلاه وأنه لم يجتمع بأحد
يعينه على ذلك فقد جاءوا بهذا القول ظلما وزورا.




ومن جملة أقاويلهم فيه أن قالوا: هذا الذي جاء به محمد
{ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا ْ}
أي: هذا قصص الأولين وأساطيرهم التي تتلقاها الأفواه وينقلها كل أحد
استنسخها محمد { فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ
بُكْرَةً وَأَصِيلًا ْ}
وهذا القول منهم فيه عدة عظائم:




منها: رميهم الرسول الذي هو أبر الناس وأصدقهم بالكذب والجرأة العظيمة.




ومنها: إخبارهم عن هذا القرآن الذي هو أصدق الكلام وأعظمه وأجله - بأنه
كذب وافتراء.




ومنها: أن في ضمن ذلك أنهم قادرون أن يأتوا بمثله وأن يضاهي المخلوق
الناقص من كل وجه للخالق الكامل من كل وجه بصفة من صفاته، وهي الكلام.




ومنها: أن الرسول قد علمت حالته وهم أشد الناس علما بها، أنه لا يكتب ولا
يجتمع بمن يكتب له وقد زعموا ذلك.




فلذلك رد عليهم ذلك بقوله: { قُلْ أَنْزَلَهُ
الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ْ}
أي:
أنزله من أحاط علمه بما في السماوات وما في الأرض، من الغيب والشهادة
والجهر والسر كقوله: { وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ
رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ
لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ ْ}




ووجه إقامة الحجة عليهم أن الذي أنزله، هو المحيط علمه بكل شيء، فيستحيل
ويمتنع أن يقول مخلوق ويتقول عليه هذا القرآن، ويقول: هو من عند الله وما
هو من عنده ويستحل دماء من خالفه وأموالهم، ويزعم أن الله قال له ذلك،
والله يعلم كل شيء ومع ذلك فهو يؤيده وينصره على أعدائه، ويمكنه من
رقابهم وبلادهم فلا يمكن أحدا أن ينكر هذا القرآن، إلا بعد إنكار علم
الله، وهذا لا تقول به طائفة من بني آدم سوى الفلاسفة الدهرية.




وأيضا فإن ذكر علمه تعالى العام ينبههم: ويحضهم على تدبر القرآن، وأنهم
لو تدبروا لرأوا فيه من علمه وأحكامه ما يدل دلالة قاطعة على أنه لا يكون
إلا من عالم الغيب والشهادة، ومع إنكارهم للتوحيد والرسالة من لطف الله
بهم، أنه لم يدعهم وظلمهم بل دعاهم إلى التوبة والإنابة إليه ووعدهم
بالمغفرة والرحمة، إن هم تابوا ورجعوا فقال: {
إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا ْ}
أي: وصفه المغفرة لأهل الجرائم
والذنوب، إذا فعلوا أسباب المغفرة وهي الرجوع عن معاصيه والتوبة منها.
{ رَحِيمًا ْ} بهم حيث لم يعاجلهم
بالعقوبة وقد فعلوا مقتضاها، وحيث قبل توبتهم بعد المعاصي وحيث محا ما
سلف من سيئاتهم وحيث قبل حسناتهم وحيث أعاد الراجع إليه بعد شروده
والمقبل عليه بعد إعراضه إلى حالة المطيعين المنيبين إليه.





{ 7 - 14 ْ} { وَقَالُوا مَالِ هَذَا
الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا
أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا * أَوْ يُلْقَى
إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ
الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا * انْظُرْ
كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ
سَبِيلًا * تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ
ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ
قُصُورًا * بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ
بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا * إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا
لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا * وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا
ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا * لَا تَدْعُوا
الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا ْ}





هذا من مقالة المكذبين للرسول الذين قدحوا بها في رسالته، وهو أنهم
اعترضوا بأنه هلا كان ملكا أو مليكا، أو يساعده ملك فقالوا:
{ مَالِ هَذَا الرَّسُولِ } أي: ما لهذا
الذي ادعى الرسالة؟ تهكما منهم واستهزاء.




{ يَأْكُلُ الطَّعَامَ }

وهذا من خصائص البشر فهلا كان ملكا لا يأكل الطعام، ولا يحتاج إلى ما
يحتاج إليه البشر، { وَيَمْشِي فِي
الْأَسْوَاقِ }
للبيع والشراء وهذا -بزعمهم- لا يليق بمن يكون
رسولا، مع أن الله قال: { وَمَا أَرْسَلْنَا
قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ
وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ }




{ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ }

أي: هلا أنزل معه ملك يساعده ويعاونه، {
فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا }
وبزعمهم أنه غير كاف للرسالة ولا
بطوقه وقدرته القيام بها.




{ أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ }

أي: مال مجموع من غير تعب، { أَوْ تَكُونُ لَهُ
جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا }
فيستغني بذلك عن مشيه في الأسواق لطلب
الرزق.




{ وَقَالَ الظَّالِمُونَ }

حملهم على القول ظلمهم لا اشتباه منهم، { إِنْ
تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا }
هذا وقد علموا كمال
عقله وحسن حديثه، وسلامته من جميع المطاعن. ولما كانت هذه الأقوال منهم
عجيبة جدا قال تعالى: { انْظُرْ كَيْفَ
ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ }
وهي: أنه هلا كان ملكا وزالت عنه
خصائص البشر؟ أو معه ملك لأنه غير قادر على ما قال، أو أنزل عليه كنز، أو
جعلت له جنة تغنيه عن المشي في الأسواق أو أنه كان مسحورا.




{ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا }

قالوا أقوالا متناقضة كلها جهل وضلال وسفه، ليس في شيء منها هداية بل ولا
في شيء منها أدنى شبهة تقدح في الرسالة، فبمجرد النظر إليها وتصورها يجزم
العاقل ببطلانها ويكفيه عن ردها، ولهذا أمر تعالى بالنظر إليها وتدبرها
والنظر: هل توجب التوقف عن الجزم للرسول بالرسالة والصدق؟ ولهذا أخبر أنه
قادر على أن يعطيك خيرا كثيرا في الدنيا فقال:
{ تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ }

أي: خيرا مما قالوا، ثم فسره بقوله: { جَنَّاتٍ
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا }

مرتفعة مزخرفة، فقدرته ومشيئته لا تقصر عن ذلك ولكنه تعالى -لما كانت
الدنيا عنده في غاية البعد والحقارة- أعطى منها أولياءه ورسله ما اقتضته
حكمته منها، واقتراح أعدائهم بأنهم هلا رزقوا منها رزقا كثيرا جدا ظلم
وجراءة.




ولما كانت تلك الأقوال التي قالوها معلومة الفساد أخبر تعالى أنها لم
تصدر منهم لطلب الحق، ولا لاتباع البرهان وإنما صدرت منهم تعنتا وظلما
وتكذيبا بالحق، فقالوا ما بقلوبهم من ذلك ولهذا قال:
{ بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ }
والمكذب المتعنت الذي ليس له قصد في اتباع الحق، لا سبيل إلى هدايته ولا
حيلة في مجادلته وإنما له حيلة واحدة وهي نزول العذاب به، فلهذا قال:
{ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ
سَعِيرًا }
أي: نارا عظيمة قد اشتد سعيرها، وتغيظت على أهلها
واشتد زفيرها.




{ إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ }

أي: قبل وصولهم ووصولها إليهم، { سَمِعُوا
لَهَا تَغَيُّظًا }
عليهم { وَزَفِيرًا
}
تقلق منهم الأفئدة وتتصدع القلوب، ويكاد الواحد منهم يموت خوفا
منها وذعرا قد غضبت عليهم لغضب خالقها وقد زاد لهبها لزيادة كفرهم وشرهم.




{ وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ }

أي: وقت عذابهم وهم في وسطها، جمع في مكان بين ضيق المكان وتزاحم السكان
وتقرينهم بالسلاسل والأغلال، فإذا وصلوا لذلك المكان النحس وحبسوا في أشر
حبس { دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا }
دعوا على أنفسهم بالثبور والخزي والفضيحة وعلموا أنهم ظالمون معتدون، قد
عدل فيهم الخالق حيث أنزلهم بأعمالهم هذا المنزل، وليس ذلك الدعاء
والاستغاثة بنافعة لهم ولا مغنية من عذاب الله، بل يقال لهم:
{ لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا
وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا }
أي: لو زاد ما قلتم أضعاف أضعافه
ما أفادكم إلا الهم والغم والحزن.




لما بين جزاء الظالمين ناسب أن يذكر جزاء المتقين فقال:





{ 15 - 16 ْ} { قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ
جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً
وَمَصِيرًا * لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى
رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا ْ}








أي: قل لهم -مبينا لسفاهة رأيهم واختيارهم الضار على النافع-:
{ أَذَلِكَ } الذي وصفت لكم من العذاب
{ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي
وُعِدَ الْمُتَّقُونَ }
التي زادها تقوى الله فمن قام بالتقوى
فالله قد وعده إياها، { كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً
}
على تقواهم { وَمَصِيرًا }
موئلا يرجعون إليها، ويستقرون فيها ويخلدون دائما أبدا.




{ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ }

أي: يطلبون وتتعلق بهم أمانيهم ومشيئتهم، من المطاعم والمشارب اللذيذة
والملابس الفاخرة والنساء الجميلات والقصور العاليات والجنات والحدائق
المرجحنة والفواكه التي تسر ناظريها وآكليها، من حسنها وتنوعها وكثرة
أصنافها والأنهار التي تجري في رياض الجنة وبساتينها، حيث شاءوا يصرفونها
ويفجرونها أنهارا من ماء غير آسن وأنهارا من لبن لم يتغير طعمه وأنهارا
من خمر لذة للشاربين وأنهارا من عسل مصفى وروائح طيبة، ومساكن مزخرفة،
وأصوات شجية تأخذ من حسنها بالقلوب ومزاورة الإخوان، والتمتع بلقاء
الأحباب، وأعلى من ذلك كله التمتع بالنظر إلى وجه الرب الرحيم وسماع
كلامه، والحظوة بقربه والسعادة برضاه والأمن من سخطه واستمرار هذا النعيم
ودوامه وزيادته على ممر الأوقات وتعاقب الآنات
{ كَانَ }
دخولها والوصول إليها { عَلَى
رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا }
يسأله إياها، عباده المتقون بلسان
حالهم ولسان مقالهم، فأي الدارين المذكورتين خير وأولى بالإيثار؟ وأي:
العاملين عمال دار الشقاء أو عمال دار السعادة أولى بالفضل والعقل والفخر
يا أولي الألباب؟




لقد وضح الحق واستنار السبيل فلم يبق للمفرط عذر في تركه الدليل، فنرجوك
يا من قضيت على أقوام بالشقاء وأقوام بالسعادة أن تجعلنا ممن كتبت لهم
الحسنى وزيادة، ونستغيث بك اللهم من حالة الأشقياء ونسألك المعافاة منها.





{ 17 - 20 ْ} { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا
يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ
عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ
مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ
وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا
قَوْمًا بُورًا * فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا
تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ
عَذَابًا كَبِيرًا * وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ
إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ
وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ
بَصِيرًا ْ}








يخبر تعالى عن حالة المشركين وشركائهم يوم القيامة وتبريهم منهم، وبطلان
سعيهم فقال: { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ }
أي: المكذبين المشركين { وَمَا يَعْبُدُونَ
مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ }
الله مخاطبا للمعبودين على وجه
التقريع لمن عبدهم: { أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ
عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ }
هل أمرتموهم
بعبادتكم وزينتم لهم ذلك أم ذلك من تلقاء أنفسهم؟




{ قَالُوا سُبْحَانَكَ }

نزهوا الله عن شرك المشركين به وبرؤوا أنفسهم من ذلك،
{ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا } أي: لا
يليق بنا ولا يحسن منا أن نتخذ من دونك من أولياء نتولاهم ونعبدهم
وندعوهم، فإذا كنا محتاجين ومفتقرين إلى عبادتك متبرئين من عبادة غيرك،
فكيف نأمر أحدا بعبادتنا؟ هذا لا يكون أو، سبحانك عن
{ أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ
أَوْلِيَاءَ }
وهذا كقول المسيح عيسى بن مريم عليه السلام:
{ وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ
مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ
مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا
لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا
فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ
الْغُيُوبِ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ
اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ }
الآية.




وقال تعالى: { وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا
ثُمَّ نَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا
يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ
كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ }

{ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ
أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ }
فلما نزهوا
أنفسهم أن يدعوا لعبادة غير الله أو يكونوا أضلوهم ذكروا السبب الموجب
لإضلال المشركين فقالوا: { وَلَكِنْ
مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ }
في لذات الدنيا وشهواتها ومطالبها
النفسية، { حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ }
اشتغالا في لذات الدنيا وإكبابا على شهواتها، فحافظوا على دنياهم وضيعوا
دينهم { وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا } أي:
بائرين لا خير فيهم ولا يصلحون لصالح لا يصلحون إلا للهلاك والبوار،
فذكروا المانع من اتباعهم الهدى وهو التمتع في الدنيا الذي صرفهم عن
الهدى، وعدم المقتضي للهدى وهو أنهم لا خير فيهم، فإذا عدم المقتضي ووجد
المانع فلا تشاء من شر وهلاك، إلا وجدته فيهم، فلما تبرؤوا منهم قال الله
توبيخا وتقريعا للعابدين { فَقَدْ
كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ }
إنهم أمروكم بعبادتهم ورضوا
فعلكم، وأنهم شفعاء لكم عند ربكم، كذبوكم في ذلك الزعم وصاروا من أكبر
أعدائكم فحق عليكم العذاب، { فَمَا
تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا }
للعذاب عنكم بفعلكم أو بفداء أو غير
ذلك، { وَلَا نَصْرًا } لعجزكم وعدم
ناصركم. هذا حكم الضالين المقلدين الجاهلين كما رأيت أسوأ حكم، وأشر
مصير.




وأما المعاند منهم الذي عرف الحق وصدف عنه فقال في حقه:
{ وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ } بترك الحق
ظلما وعنادا { نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا }
لا يقادر قدره ولا يبلغ أمره.




ثم قال تعالى جوابا لقول المكذبين: { مَالِ
هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ }

{ وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ
الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ
في الْأَسْوَاقِ }
فما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام وما جعلناهم
ملائكة، فلك فيهم أسوة، وأما الغنى والفقر فهو فتنة وحكمة من الله تعالى
كما قال: { وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ
فِتْنَةً }
الرسول فتنة للمرسل إليهم واختبار للمطيعين من
العاصين والرسل فتناهم بدعوة الخلق، والغنى فتنة للفقير والفقير فتنة
للغني، وهكذا سائر أصناف الخلق في هذه الدار دار الفتن والابتلاء
والاختبار.




والقصد من تلك الفتنة { أَتَصْبِرُونَ }
فتقومون بما هو وظيفتكم اللازمة الراتبة فيثيبكم مولاكم أم لا تصبرون
فتستحقون المعاقبة؟




{ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا }

يعلم أحوالكم، ويصطفي من يعلمه يصلح لرسالته ويختصه بتفضيله ويعلم
أعمالكم فيجازيكم عليها إن خيرا فخير، وإن شرا فشر.




الجزء التاسع عشر



{ 21 - 23 } {
وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا
الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي
أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا * يَوْمَ يَرَوْنَ
الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ
حِجْرًا مَحْجُورًا * وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ
فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا
}




أي: قال المكذبون للرسول المكذبون بوعد الله ووعيده الذين ليس في قلوبهم
خوف الوعيد ولا رجاء لقاء الخالق.




{ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ
أَوْ نَرَى رَبَّنَا
} أي: هلا نزلت الملائكة تشهد لك بالرسالة
وتؤيدك عليها أو تنزل رسلا مستقلين، أو نرى ربنا فيكلمنا ويقول: هذا
رسولي فاتبعوه؟ وهذا معارضة للرسول بما ليس بمعارض بل بالتكبر والعلو
والعتو.




{ لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ
} حيث اقترحوا هذا الاقتراح وتجرأوا هذه الجرأة، فمن أنتم يا
فقراء ويا مساكين حتى تطلبوا رؤية الله وتزعموا أن الرسالة متوقف ثبوتها
على ذلك؟ وأي كبر أعظم من هذا؟.




{ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا } أي:
قسوا وصلبوا عن الحق قساوة عظيمة، فقلوبهم أشد من الأحجار وأصلب من
الحديد لا تلين للحق، ولا تصغى للناصحين فلذلك لم ينجع فيهم وعظ ولا
تذكير ولا اتبعوا الحق حين جاءهم النذير، بل قابلوا أصدق الخلق وأنصحهم
وآيات الله البينات بالإعراض والتكذيب والمعارضة، فأي عتو أكبر من هذا
العتو؟" ولذلك بطلت أعمالهم واضمحلت، وخسروا أشد الخسران، وحرموا غاية
الحرمان.




{ يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ }
التي اقترحوا نزولها { لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ
لِلْمُجْرِمِينَ
} وذلك أنهم لا يرونها مع استمرارهم على جرمهم
وعنادهم إلا لعقوبتهم وحلول البأس بهم، فأول ذلك عند الموت إذا تنزلت
عليهم الملائكة قال الله تعالى: { وَلَوْ تَرَى
إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو
أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ
الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ
وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ
} ثم في القبر حيث
يأتيهم منكر ونكير فيسألهم عن ربهم ونبيهم ودينهم فلا يجيبون جوابا
ينجيهم فيحلون بهم النقمة، وتزول عنهم بهم الرحمة، ثم يوم القيامة حين
تسوقهم الملائكة إلى النار ثم يسلمونهم لخزنة جهنم الذين يتولون عذابهم
ويباشرون عقابهم، فهذا الذي اقترحوه وهذا الذي طلبوه إن استمروا على
إجرامهم لا بد أن يروه ويلقوه، وحينئذ يتعوذون من الملائكة ويفرون ولكن
لا مفر لهم.




{ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا } {
يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا
مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ
إِلَّا بِسُلْطَانٍ
}




{ وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ
} أي: أعمالهم التي رجوا أن تكون خيرا لهم وتعبوا فيها، {
فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا
} أي باطلا مضمحلا قد خسروه
وحرموا أجره وعوقبوا عليه وذلك لفقده الإيمان وصدوره عن مكذب لله ورسله،
فالعمل الذي يقبله الله، ما صدر عن المؤمن المخلص المصدق للرسل المتبع
لهم فيه.




{ 24 } {
أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ
مَقِيلًا
}




أي: في ذلك اليوم الهائل كثير البلابل {
أَصْحَابُ الْجَنَّةِ
} الذين آمنوا بالله وعملوا صالحا واتقوا
ربهم { خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا } من أهل
النار { وَأَحْسَنُ مَقِيلًا } أي:
مستقرهم في الجنة وراحتهم التي هي القيلولة، هو المستقر النافع والراحة
التامة لاشتمال ذلك على تمام النعيم الذي لا يشوبه كدر، بخلاف أصحاب
النار فإن جهنم ساءت مستقرا ومقيلا وهذا من باب استعمال أفعل التفضيل،
فيما ليس في الطرف الآخر منه شيء لأنه لا خير في مقيل أهل النار ومستقرهم
كقوله: { آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ
}

descriptionتفسيرالقران - صفحة 6 Emptyرد: تفسيرالقران

more_horiz
تابع
-


تفسير سورة الفرقان

عدد آياتها 77

(
آية
25-50

)

وهي مكية عند الجمهور






{ 25 - 29 } {
وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ
تَنْزِيلًا * الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ
يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا * وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ
عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ
سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا *
لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ
الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا
}




يخبر تعالى عن عظمة يوم القيامة وما فيه من الشدة والكروب، ومزعجات
القلوب فقال: { وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ
بِالْغَمَامِ
} وذلك الغمام الذي ينزل الله فيه، ينزل من فوق
السماوات فتنفطر له السماوات وتشقق وتنزل ملائكة كل سماء فيقفون صفا صفا،
إما صفا واحدا محيطا بالخلائق، وإما كل سماء يكونون صفا ثم السماء التي
تليها صفا وهكذا.




القصد أن الملائكة -على كثرتهم وقوتهم- ينزلون محيطين بالخلق مذعنين لأمر
ربهم لا يتكلم منهم أحد إلا بإذن من الله، فما ظنك بالآدمي الضعيف خصوصا
الذي بارز مالكه بالعظائم، وأقدم على مساخطه ثم قدم عليه بذنوب وخطايا لم
يتب منها، فيحكم فيه الملك الحق بالحكم الذي لا يجور ولا يظلم مثقال ذرة
ولهذا قال: { وَكَانَ يَوْمًا عَلَى
الْكَافِرِينَ عَسِيرًا
} لصعوبته الشديدة وتعسر أموره عليه،
بخلاف المؤمن فإنه يسير عليه خفيف الحمل.




{ يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى
الرَّحْمَنِ وَفْدًا وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا
}




وقوله: { الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ } أي:
يوم القيامة { الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ }
لا يبقى لأحد من المخلوقين ملك ولا صورة ملك، كما كانوا في الدنيا، بل قد
تساوت الملوك ورعاياهم والأحرار والعبيد والأشراف وغيرهم، ومما يرتاح له
القلب، وتطمئن به النفس وينشرح له الصدر أن أضاف الملك في يوم القيامة
لاسمه " الرحمن " الذي وسعت رحمته كل شيء وعمت كل حي وملأت الكائنات
وعمرت بها الدنيا والآخرة، وتم بها كل ناقص وزال بها كل نقص، وغلبت
الأسماء الدالة عليه الأسماء الدالة على الغضب وسبقت رحمته غضبه وغلبته،
فلها السبق والغلبة، وخلق هذا الآدمي الضعيف وشرفه وكرمه ليتم عليه
نعمته، وليتغمده برحمته، وقد حضروا في موقف الذل والخضوع والاستكانة بين
يديه ينتظرون ما يحكم فيهم وما يجري عليهم وهو أرحم بهم من أنفسهم
ووالديهم فما ظنك بما يعاملهم به، ولا يهلك على الله إلا هالك ولا يخرج
من رحمته إلا من غلبت عليه الشقاوة وحقت عليه كلمة العذاب.




{ وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ } بشركه
وكفره وتكذيبه للرسل { عَلَى يَدَيْهِ }
تأسفا وتحسرا وحزنا وأسفا. { يَقُولُ يَا
لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا
} أي طريقا
بالإيمان به وتصديقه واتباعه.




{ يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ
فُلَانًا
} وهو الشيطان الإنسي أو الجني، {
خَلِيلًا
} أي: حبيبا مصافيا عاديت أنصح الناس لي، وأبرهم بي
وأرفقهم بي، وواليت أعدى عدو لي الذي لم تفدني ولايته إلا الشقاء والخسار
والخزي والبوار.




{ لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ
إِذْ جَاءَنِي
} حيث زين له ما هو عليه من الضلال بخدعه وتسويله.
{ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا
} يزين له الباطل ويقبح له الحق، ويعده الأماني ثم يتخلى عنه
ويتبرأ منه كما قال لجميع أتباعه حين قضي الأمر، وفرغ الله من حساب الخلق
{ وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ
الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ
فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ
دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا
أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ
إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ
} الآية.
فلينظر العبد لنفسه وقت الإمكان وليتدارك الممكن قبل أن لا يمكن، وليوال
من ولايته فيها سعادته وليعاد من تنفعه عداوته وتضره صداقته. والله
الموفق.




{ 30 - 31 } {
وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ
مَهْجُورًا * وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ
الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا
}





{ وَقَالَ الرَّسُولُ } مناديا لربه
وشاكيا له إعراض قومه عما جاء به، ومتأسفا على ذلك منهم: {
يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي
} الذي أرسلتني لهدايتهم وتبليغهم، {
اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا
} أي: قد أعرضوا عنه
وهجروه وتركوه مع أن الواجب عليهم الانقياد لحكمه والإقبال على أحكامه،
والمشي خلفه، قال الله مسليا لرسوله ومخبرا أن هؤلاء الخلق لهم سلف صنعوا
كصنيعهم فقال: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ
نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ
} أي: من الذين لا يصلحون
للخير ولا يزكون عليه يعارضونهم ويردون عليهم ويجادلونهم بالباطل.




من بعض فوائد ذلك أن يعلو الحق على الباطل وأن يتبين الحق ويتضح اتضاحا
عظيما لأن معارضة الباطل للحق مما تزيده وضوحا وبيانا وكمال استدلال وأن
يتبين ما يفعل الله بأهل الحق من الكرامة وبأهل الباطل من العقوبة، فلا
تحزن عليهم ولا تذهب نفسك عليهم حسرات {
وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا
} يهديك فيحصل لك المطلوب ومصالح دينك
ودنياك. { وَنَصِيرًا } ينصرك على
أعدائك ويدفع عنك كل مكروه في أمر الدين والدنيا فاكتف به وتوكل عليه.




{ 32 - 33 } {
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ
جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ
تَرْتِيلًا *




وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ
تَفْسِيرًا


}




هذا من جملة مقترحات الكفار الذي توحيه إليهم أنفسهم فقالوا: {
لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً
} أي:
كما أنزلت الكتب قبله، وأي محذور من نزوله على هذا الوجه؟ بل نزوله على
هذا الوجه أكمل وأحسن، ولهذا قال: { كَذَلِكَ
} أنزلناه متفرقا { لِنُثَبِّتَ بِهِ
فُؤَادَكَ
} لأنه كلما نزل عليه شيء من القرآن ازداد طمأنينة
وثباتا وخصوصا عند ورود أسباب القلق فإن نزول القرآن عند حدوث السبب يكون
له موقع عظيم وتثبيت كثير أبلغ مما لو كان نازلا قبل ذلك ثم تذكره عند
حلول سببه.




{ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا } أي:
مهلناه ودرجناك فيه تدريجا. وهذا كله يدل على اعتناء الله بكتابه القرآن
وبرسوله محمد صلى الله عليه وسلم حيث جعل إنزال كتابه جاريا على أحوال
الرسول ومصالحه الدينية.




ولهذا قال: { وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ
} يعارضون به الحق ويدفعون به رسالتك، {
إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا
} أي: أنزلنا
عليك قرآنا جامعا للحق في معانيه والوضوح والبيان التام في ألفاظه،
فمعانيه كلها حق وصدق لا يشوبها باطل ولا شبهة بوجه من الوجوه، وألفاظه
وحدوده للأشياء أوضح ألفاظا وأحسن تفسيرا مبين للمعاني بيانا كاملا.




وفي هذه الآية دليل على أنه ينبغي للمتكلم في العلم من محدث ومعلم، وواعظ
أن يقتدي بربه في تدبيره حال رسوله، كذلك العالم يدبر أمر الخلق فكلما
حدث موجب أو حصل موسم، أتى بما يناسب ذلك من الآيات القرآنية والأحاديث
النبوية والمواعظ الموافقة لذلك.




وفيه رد على المتكلفين من الجهمية ونحوهم ممن يرى أن كثيرا من نصوص
القرآن محمولة على غير ظاهرها ولها معان غير ما يفهم منها، فإذا -على
قولهم- لا يكون القرآن أحسن تفسيرا من غيره، وإنما التفسير الأحسن -على
زعمهم- تفسيرهم الذي حرفوا له المعاني تحريفا.




{ 34 } {
الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ
شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا
}








يخبر تعالى عن حال المشركين الذين كذبوا رسوله وسوء مآلهم، وأنهم {
يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ
} أشنع مرأى، وأفظع منظر تسحبهم
ملائكة العذاب ويجرونهم { إِلَى جَهَنَّمَ
} الجامعة لكل عذاب وعقوبة. { أُولَئِكَ
} الذين بهذه الحالة { شَرٌّ مَكَانًا
} ممن آمن بالله وصدق رسله، { وَأَضَلُّ
سَبِيلًا
} وهذا من باب استعمال أفضل التفضيل فيما ليس في الطرف
الآخر منه شيء فإن المؤمنين حسن مكانهم ومستقرهم، واهتدوا في الدنيا إلى
الصراط المستقيم وفي الآخرة إلى الوصول إلى جنات النعيم.




{ 35 - 40 } {
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ
هَارُونَ وَزِيرًا * فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ
كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا * وَقَوْمَ نُوحٍ
لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ
آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا * وَعَادًا
وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا *
وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا *
وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ
أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا
}








أشار تعالى إلى هذه القصص وقد بسطها في آيات أخر ليحذر المخاطبين من
استمرارهم على تكذيب رسولهم فيصيبهم ما أصاب هؤلاء الأمم الذين قريبا
منهم ويعرفون قصصهم بما استفاض واشتهر عنهم.




ومنهم من يرون آثارهم عيانا كقوم صالح في الحجر وكالقرية التي أمطرت مطر
السوء بحجارة من سجيل يمرون عليهم مصبحين وبالليل في أسفارهم، فإن أولئك
الأمم ليسوا شرا منهم ورسلهم ليسوا خيرا من رسول هؤلاء {
أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي
الزُّبُرِ
} ولكن الذي منع هؤلاء من الإيمان -مع ما شاهدوا من
الآيات- أنهم كانوا لا يرجون بعثا ولا نشورا، فلا يرجون لقاء ربهم ولا
يخشون نكاله فلذلك استمروا على عنادهم، وإلا فقد جاءهم من الآيات ما لا
يبقي معه شك ولا شبهة ولا إشكال ولا ارتياب.




{ 41 - 44 } {
وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي
بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا * إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا
لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ
الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا * أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ
هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا *

أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ
أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ
سَبِيلًا


}




أي: وإذا رآك يا محمد هؤلاء المكذبون لك المعاندون لآيات [الله]
المستكبرون في الأرض استهزءوا بك واحتقروك وقالوا -على وجه الاحتقار
والاستصغار- { أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ
رَسُولًا
} أي: غير مناسب ولا لائق أن يبعث الله هذا الرجل، وهذا
من شدة ظلمهم وعنادهم وقلبهم الحقائق فإن كلامهم هذا يفهم أن الرسول
-حاشاه- في غاية الخسة والحقارة وأنه لو كانت الرسالة لغيره لكان أنسب.




{ وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ
عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ
} فهذا الكلام لا يصدر
إلا من أجهل الناس وأضلهم، أو من أعظمهم عنادا وهو متجاهل، قصده ترويج ما
معه من الباطل بالقدح بالحق وبمن جاء به، وإلا فمن تدبر أحوال محمد بن
عبد الله صلى الله عليه وسلم وجده رجل العالم وهمامهم ومقدمهم في العقل
والعلم واللب والرزانة، ومكارم الأخلاق ومحاسن الشيم والعفة والشجاعة
والكرم وكل خلق فاضل، وأن المحتقر له والشانئ له قد جمع من السفه والجهل
والضلال والتناقض والظلم والعدوان ما لا يجمعه غيره، وحسبه جهلا وضلالا
أن يقدح بهذا الرسول العظيم والهمام الكريم.




والقصد من قدحهم فيه واستهزائهم به تصلبهم على باطلهم وغرورا لضعفاء
العقول ولهذا قالوا: { إِنْ كَادَ } هذا
الرجل { لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا }
بأن يجعل الآلهة إلها واحدا { لَوْلَا أَنْ
صَبَرْنَا عَلَيْهَا
} لأضلنا زعموا -قبحهم الله- أن الضلال هو
التوحيد وأن الهدى ما هم عليه من الشرك فلهذا تواصوا بالصبر عليه. {
وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى
آلِهَتِكُمْ
}




وهنا قالوا: { لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا
عَلَيْهَا
} والصبر يحمد في المواضع كلها، إلا في هذا الموضع فإنه
صبر على أسباب الغضب وعلى الاستكثار من حطب جهنم. وأما المؤمنون فهم كما
قال الله عنهم: { وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ
وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ
} ولما كان هذا حكما منهم بأنهم
المهتدون والرسول ضال وقد تقرر أنهم لا حيلة فيهم توعدهم بالعذاب وأخبر
أنهم في ذلك الوقت { حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ
} يعلمون علما حقيقيا { مَنْ }
هو { أَضَلُّ سَبِيلًا } {
وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي
اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا
} الآيات.




وهل فوق ضلال من جعل إلهه معبوده [هواه] فما هويه فعله فلهذا قال: {
أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ
} ألا تعجب من حاله
وتنظر ما هو فيه من الضلال؟ وهو يحكم لنفسه بالمنازل الرفيعة؟




{ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا
} أي: لست عليه بمسيطر مسلط بل إنما أنت منذر، وقد قمت بوظيفتك وحسابه
على الله.




ثم سجل تعالى على ضلالهم البليغ بأن سلبهم العقول والأسماع وشبههم في
ضلالهم بالأنعام السائمة التي لا تسمع إلا دعاء ونداء، صم بكم عمي فهم لا
يعقلون بل هم أضل من الأنعام لأن الأنعام يهديها راعيها فتهتدي وتعرف
طريق هلاكها فتجتنبه وهي أيضا أسلم عاقبة من هؤلاء، فتبين بهذا أن الرامي
للرسول بالضلال أحق بهذا الوصف وأن كل حيوان بهيم فهو أهدى منه.




{ 45 - 46 } {
أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ
لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا *
ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا
}








أي: ألم تشاهد ببصرك وبصيرتك كمال قدرة ربك وسعة رحمته، أنه مد على
العباد الظل وذلك قبل طلوع الشمس { ثُمَّ
جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ
} أي: على الظل {
دَلِيلًا
} فلولا وجود الشمس لما عرف الظل فإن الضد يعرف بضده.




{ ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا
يَسِيرًا
} فكلما ارتفعت الشمس تقلص الظل شيئا فشيئا، حتى يذهب
بالكلية فتوالي الظل والشمس على الخلق الذي يشاهدونه عيانا وما يترتب على
ذلك من اختلاف الليل والنهار وتعاقبهما وتعاقب الفصول، وحصول المصالح
الكثيرة بسبب ذلك- من أدل دليل على قدرة الله وعظمته وكمال رحمته وعنايته
بعباده وأنه وحده المعبود المحمود المحبوب المعظم، ذو الجلال والإكرام.




{ 47 } {
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا
وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا
}








أي: من رحمته بكم ولطفه أن جعل الليل لكم بمنزلة اللباس الذي يغشاكم، حتى
تستقروا فيه وتهدؤوا بالنوم وتسبت حركاتكم أي: تنقطع عند النوم، فلولا
الليل لما سكن العباد ولا استمروا في تصرفهم فضرهم ذلك غاية الضرر، ولو
استمر أيضا الظلام لتعطلت عليهم معايشهم ومصالحهم، ولكنه جعل النهار
نشورا ينتشرون فيه لتجاراتهم وأسفارهم وأعمالهم فيقوم بذلك ما يقوم من
المصالح.




{ 48 - 50 } {
وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ
وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا * لِنُحْيِيَ بِهِ
بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ
كَثِيرًا * وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى
أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا
}








أي: هو وحده الذي رحم عباده وأدر عليهم رزقه بأن أرسل الرياح مبشرات بين
يدي رحمته وهو المطر فثار بها السحاب وتألف وصار كسفا وألقحته وأدرته
بإذن آمرها والمتصرف فيها ليقع استبشار العباد بالمطر قبل نزوله
وليستعدوا له قبل أن يفاجئهم دفعة واحدة.




{ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً
طَهُورًا
} يطهر من الحدث والخبث ويطهر من الغش والأدناس، وفيه
بركة من بركته أنه أنزله ليحيي به بلدة ميتا فتختلف أصناف النوابت
والأشجار فيها مما يأ كل الناس والأنعام. {
وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا

} أي: نسقيكموه أنتم وأنعامكم، أليس الذي أرسل الرياح المبشرات وجعلها في
عملها متنوعات، وأنزل من السماء ماء طهورا مباركا فيه رزق العباد ورزق
بهائمهم، هو الذي يستحق أن يعبد وحده ولا يشرك معه غيره؟




ولما ذكر تعالى هذه الآيات العيانية المشاهدة وصرفها للعباد ليعرفوه
ويشكروه ويذكروه مع ذلك أبي أكثر الخلق إلا كفورا، لفساد أخلاقهم
وطبائعهم.

descriptionتفسيرالقران - صفحة 6 Emptyرد: تفسيرالقران

more_horiz
تابع
-


تفسير سورة الفرقان

عدد آياتها 77

(


آية
51-77
)

وهي مكية عند الجمهور






{ 51 - 52 } {
وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا * فَلَا تُطِعِ
الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا
}





يخبر تعالى عن نفوذ مشيئته وأنه لو شاء لبعث في كل قرية نذيرا، أي: رسولا
ينذرهم ويحذرهم فمشيئته غير قاصرة عن ذلك، ولكن اقتضت حكمته ورحمته بك
وبالعباد -يا محمد- أن أرسلك إلى جميعهم أحمرهم وأسودهم عربيهم وعجميهم
إنسهم وجنهم.




{ فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ } في ترك
شيء مما أرسلت به بل ابذل جهدك في تبليغ ما أرسلت به. {
وَجَاهِدْهُمْ
} بالقرآن { جِهَادًا
كَبِيرًا
} أي: لا تبق من مجهودك في نصر الحق وقمع الباطل إلا
بذلته ولو رأيت منهم من التكذيب والجراءة ما رأيت فابذل جهدك واستفرغ
وسعك، ولا تيأس من هدايتهم ولا تترك إبلاغهم لأهوائهم.




{ 53 } {
وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا
مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا
}








أي: وهو وحده الذي مرج البحرين يلتقيان البحر العذب وهي الأنهار السارحة
على وجه الأرض والبحر الملح وجعل منفعة كل واحد منهما مصلحة للعباد، {
وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا
} أي: حاجزا يحجز من اختلاط
أحدهما بالآخر فتذهب المنفعة المقصودة منها {
وَحِجْرًا مَحْجُورًا
} أي: حاجزا حصينا.




{ 54 } {
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا
وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا
}








أي: وهو الله وحده لا شريك له الذي خلق الآدمي من ماء مهين، ثم نشر منه
ذرية كثيرة وجعلهم أنسابا وأصهارا متفرقين ومجتمعين، والمادة كلها من ذلك
الماء المهين، فهذا يدل على كمال اقتداره لقوله: {
وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا
} ويدل على أن عبادته هي الحق وعبادة
غيره باطلة لقوله:




{ 55 } {
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا
يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا
}









أي: يعبدون أصناما وأمواتا لا تضر ولا تنفع ويجعلونها أندادا لمالك النفع
والضرر والعطاء والمنع مع أن الواجب عليهم أن يكونوا مقتدين بإرشادات
ربهم ذابين عن دينه، ولكنهم عكسوا القضية.




{ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا
} فالباطل الذي هو الأوثان والأندادأعداء لله، فالكافر عاونها
وظاهرها على ربها وصار عدوا لربه مبارزا له في العداوة والحرب، هذا وهو
الذي خلقه ورزقه وأنعم عليه بالنعم الظاهرة والباطنة، وليس يخرج عن ملكه
وسلطانه وقبضته والله لم يقطع عنه إحسانه وبره وهو -بجهله- مستمر على هذه
المعاداة والمبارزة.




{ 56 - 60 } {
وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * قُلْ مَا
أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ
إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا * وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا
يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا
* الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي
سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ
بِهِ خَبِيرًا * وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا
وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا
}




يخبر تعالى: أنه ما أرسل رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم مسيطرا على
الخلق ولا جعله ملكا ولا عنده خزائن الأشياء، وإنما أرسله {
مُبَشِّرًا
} يبشر من أطاع الله بالثواب العاجل والآجل، {
وَنَذِيرًا
} ينذر من عصى الله بالعقاب العاجل والآجل وذلك مستلزم
لتبيين ما به البشارة وما تحصل به النذارة من الأوامر والنواهي، وإنك -يا
محمد- لا تسألهم على إبلاغهم القرآن والهدى أجرا حتى يمنعهم ذلك من
اتباعك ويتكلفون من الغرامة، { إِلَّا مَنْ
شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا
} أي: إلا من شاء أن
ينفق نفقة في مرضاة ربه وسبيله فهذا وإن رغبتكم فيه فلست أجبركم عليه
وليس أيضا أجرا لي عليكم وإنما هو راجع لمصلحتكم وسلوككم للسبيل الموصلة
إلى ربكم، ثم أمره أن يتوكل عليه ويستعين به فقال: {
وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ
} الذي له الحياة الكاملة المطلقة {
الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ
} أي: اعبده وتوكل عليه
في الأمور المتعلقة بك والمتعلقة بالخلق. {
وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا
} يعلمها ويجازي
عليها.




فأنت ليس عليك من هداهم شيء وليس عليك حفظ أعمالهم، وإنما ذلك كله بيد
الله { الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى
} بعد ذلك { عَلَى الْعَرْشِ }
الذي هو سقف المخلوقات وأعلاها وأوسعها وأجملها {
الرَّحْمَنِ
} استوى على عرشه الذي وسع السماوات والأرض باسمه
الرحمن الذي وسعت رحمته كل شيء فاستوى على أوسع المخلوقات، بأوسع الصفات.
فأثبت بهذه الآية خلقه للمخلوقات واطلاعه على ظاهرهم وباطنهم وعلوه فوق
العرش ومباينته إياهم.




{ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا } يعني بذلك
نفسه الكريمة فهو الذي يعلم أوصافه وعظمته وجلاله، وقد أخبركم بذلك وأبان
لكم من عظمته ما تستعدون به من معرفته فعرفه العارفون وخضعوا لجلاله،
واستكبر عن عبادته الكافرون واستنكفوا عن ذلك ولهذا قال: {
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ
} أي: وحده الذي
أنعم عليكم بسائر النعم ودفع عنكم جميع النقم. {
قَالُوا
} جحدا وكفرا { وَمَا
الرَّحْمَنُ
} بزعمهم الفاسد أنهم لا يعرفون الرحمن، وجعلوا من
جملة قوادحهم في الرسول أن قالوا: ينهانا عن اتخاذ آلهة مع الله وهو يدعو
معه إلها آخر يقول: " يا رحمن " ونحو ذلك كما قال تعالى: {
قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا
فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى
} فأسماؤه تعالى كثيرة لكثرة
أوصافه وتعدد كماله، فكل واحد منها دل على صفة كمال.




{ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا } أي:
لمجرد أمرك إيانا. وهذا مبني منهم على التكذيب بالرسول واستكبارهم عن
طاعته، { وَزَادَهُمْ } دعوتهم إلى
السجود للرحمن { نُفُورًا } هربا من
الحق إلى الباطل وزيادة كفر وشقاء.





{ 61 - 62 } {
تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا
سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا * وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ
وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ
شُكُورًا
}








كرر تعالى في هذه السورة الكريمة قوله: {
تَبَارَكَ
} ثلاث مرات لأن معناها كما تقدم أنها تدل على عظمة
الباري وكثرة أوصافه، وكثرة خيراته وإحسانه. وهذه السورة فيها من
الاستدلال على عظمته وسعة سلطانه ونفوذ مشيئته وعموم علمه وقدرته وإحاطة
ملكه في الأحكام الأمرية والأحكام الجزائية وكمال حكمته. وفيها ما يدل
على سعة رحمته وواسع جوده وكثرة خيراته الدينية والدنيوية ما هو مقتض
لتكرار هذا الوصف الحسن فقال: { تَبَارَكَ
الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا
} وهي النجوم عمومها أو
منازل الشمس والقمر التي تنزل منزلة منزلة وهي بمنزلة البروج والقلاع
للمدن في حفظها، كذلك النجوم بمنزلة البروج المجعولة للحراسة فإنها رجوم
للشياطين.




{ وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا } فيه النور
والحرارة وهو الشمس. { وَقَمَرًا مُنِيرًا
} فيه النور لا الحرارة وهذا من أدلة عظمته، وكثرة إحسانه، فإن ما
فيها من الخلق الباهر والتدبير المنتظم والجمال العظيم دال على عظمة
خالقها في أوصافه كلها، وما فيها من المصالح للخلق والمنافع دليل على
كثرة خيراته.




{ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ
وَالنَّهَارَ خِلْفَةً
} أي: يذهب أحدهما فيخلفه الآخر، هكذا أبدا
لا يجتمعان ولا يرتفعان، { لِمَنْ أَرَادَ أَنْ
يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا
} أي: لمن أراد أن يتذكر بهما
ويعتبر ويستدل بهما على كثير من المطالب الإلهية ويشكر الله على ذلك،
ولمن أراد أن يذكر الله ويشكره وله ورد من الليل أو النهار، فمن فاته
ورده من أحدهما أدركه في الآخر، وأيضا فإن القلوب تتقلب وتنتقل في ساعات
الليل والنهار فيحدث لها النشاط والكسل والذكر والغفلة والقبض والبسط
والإقبال والإعراض، فجعل الله الليل والنهار يتوالى على العباد ويتكرران
ليحدث لهم الذكر والنشاط والشكر لله في وقت آخر، ولأن أوراد العبادات
تتكرر بتكرر الليل والنهار، فكما تكررت الأوقات أحدث للعبد همة غير همته
التي كسلت في الوقت المتقدم فزاد في تذكرها وشكرها، فوظائف الطاعات
بمنزلة سقي الإيمان الذي يمده فلولا ذلك لذوى غرس الإيمان ويبس. فلله أتم
حمد وأكمله على ذلك.




ثم ذكر من جملة كثرة خيره منته على عباده الصالحين وتوفيقهم للأعمال
الصالحات التي أكسبتهم المنازل العاليات في غرف الجنات فقال:





{ 63 - 77 } {
وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا
وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا * وَالَّذِينَ
يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا * وَالَّذِينَ يَقُولُونَ
رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ
غَرَامًا * إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا
}


إلى آخر السورة الكريمة.




العبودية لله نوعان: عبودية لربوبيته فهذه يشترك فيها سائر الخلق مسلمهم
وكافرهم، برهم وفاجرهم، فكلهم عبيد لله مربوبون مدبرون {
إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ
عَبْدًا
} وعبودية لألوهيته وعبادته ورحمته وهي عبودية أنبيائه
وأوليائه وهي المراد هنا ولهذا أضافها إلى اسمه " الرحمن " إشارة إلى
أنهم إنما وصلوا إلى هذه الحال بسبب رحمته، فذكر أن صفاتهم أكمل الصفات
ونعوتهم أفضل النعوت، فوصفهم بأنهم { يَمْشُونَ
عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا
} أي: ساكنين متواضعين لله والخلق فهذا
وصف لهم بالوقار والسكينة والتواضع لله ولعباده. {
وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ
} أي: خطاب جهل بدليل إضافة
الفعل وإسناده لهذا الوصف، { قَالُوا سَلَامًا
} أي: خاطبوهم خطابا يسلمون فيه من الإثم ويسلمون من مقابلة
الجاهل بجهله. وهذا مدح لهم، بالحلم الكثير ومقابلة المسيء بالإحسان
والعفو عن الجاهل ورزانة العقل الذي أوصلهم إلى هذه الحال.





{ وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا
وَقِيَامًا
} أي: يكثرون من صلاة الليل مخلصين فيها لربهم متذللين
له كما قال تعالى: { تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ
عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا
رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ
مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ
}




{ وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ
عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ
} أي: ادفعه عنا بالعصمة من أسبابه
ومغفرة ما وقع منا مما هو مقتض للعذاب. { إِنَّ
عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا
} أي: ملازما لأهلها بمنزلة ملازمة
الغريم لغريمه.




{ إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا
} وهذا منهم على وجه التضرع لربهم، وبيان شدة حاجتهم إليه وأنهم
ليس في طاقتهم احتمال هذا العذاب، وليتذكروا منة الله عليهم، فإن صرف
الشدة بحسب شدتها وفظاعتها يعظم وقعها ويشتد الفرح بصرفها.




{ وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا }
النفقات الواجبة والمستحبة { لَمْ يُسْرِفُوا
} بأن يزيدوا على الحد فيدخلوا في قسم التبذير وإهمال الحقوق
الواجبة، { وَلَمْ يَقْتُرُوا } فيدخلوا
في باب البخل والشح { وَكَانَ } إنفاقهم
{ بَيْنَ ذَلِكَ } بين الإسراف والتقتير
{ قَوَامًا } يبذلون في الواجبات من
الزكوات والكفارات والنفقات الواجبة، وفيما ينبغي على الوجه الذي ينبغي
من غير ضرر ولا ضرار وهذا من عدلهم واقتصادهم.




{ وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ
إِلَهًا آخَرَ
} بل يعبدونه وحده مخلصين له الدين حنفاء مقبلين
عليه معرضين عما سواه.




{ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ
اللَّهُ
} وهي نفس المسلم والكافر المعاهد، {
إِلَّا بِالْحَقِّ
} كقتل النفس بالنفس وقتل الزاني المحصن
والكافر الذي يحل قتله.




{ وَلَا يَزْنُونَ } بل يحفظون فروجهم {
إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ
} {
وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ
} أي: الشرك بالله أو قتل النفس التي حرم
الله بغير حق أو الزنا فسوف { يَلْقَ أَثَامًا
} ثم فسره بقوله: { يُضَاعَفْ لَهُ
الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ
} أي: في العذاب
{ مُهَانًا } فالوعيد بالخلود لمن فعلها
كلها ثابت لا شك فيه وكذا لمن أشرك بالله، وكذلك الوعيد بالعذاب الشديد
على كل واحد من هذه الثلاثة لكونها إما شرك وإما من أكبر الكبائر.




وأما خلود القاتل والزاني في العذاب فإنه لا يتناوله الخلود لأنه قد دلت
النصوص القرآنية والسنة النبوية أن جميع المؤمنين سيخرجون من النار ولا
يخلد فيها مؤمن ولو فعل من المعاصي ما فعل، ونص تعالى على هذه الثلاثة
لأنها من أكبر الكبائر: فالشرك فيه فساد الأديان، والقتل فيه فساد
الأبدان والزنا فيه فساد الأعراض.




{ إِلَّا مَنْ تَابَ } عن هذه المعاصي
وغيرها بأن أقلع عنها في الحال وندم على ما مضى له من فعلها وعزم عزما
جازما أن لا يعود، { وَآمَنَ } بالله
إيمانا صحيحا يقتضي ترك المعاصي وفعل الطاعات {
وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا
} مما أمر به الشارع إذا قصد به وجه
الله.




{ فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ
سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ
} أي: تتبدل أفعالهم وأقوالهم التي كانت
مستعدة لعمل السيئات تتبدل حسنات، فيتبدل شركهم إيمانا ومعصيتهم طاعة
وتتبدل نفس السيئات التي عملوها ثم أحدثوا عن كل ذنب منها توبة وإنابة
وطاعة تبدل حسنات كما هو ظاهر الآية.




وورد في ذلك حديث الرجل الذي حاسبه الله ببعض ذنوبه فعددها عليه ثم أبدل
مكان كل سيئة حسنة فقال: : يا رب إن لي سيئات لا أراها هاهنا " والله
أعلم.




{ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا } لمن تاب
يغفر الذنوب العظيمة { رَحِيمًا }
بعباده حيث دعاهم إلى التوبة بعد مبارزته بالعظائم ثم وفقهم لها ثم قبلها
منهم.




{ وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ
يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا
} أي: فليعلم أن توبته في غاية
الكمال لأنها رجوع إلى الطريق الموصل إلى الله الذي هو عين سعادة العبد
وفلاحه فليخلص فيها وليخلصها من شوائب الأغراض الفاسدة، فالمقصود من هذا
الحث على تكميل التوبة وإيقاعها على أفضل الوجوه وأجلها ليقدم على من تاب
إليه فيوفيه أجره بحسب كمالها.




{ وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ
} أي: لا يحضرون الزور أي: القول والفعل المحرم، فيجتنبون جميع المجالس
المشتملة على الأقوال المحرمة أو الأفعال المحرمة، كالخوض في آيات الله
والجدال الباطل والغيبة والنميمة والسب والقذف والاستهزاء والغناء المحرم
وشرب الخمر وفرش الحرير، والصور ونحو ذلك، وإذا كانوا لا يشهدون الزور
فمن باب أولى وأحرى أن لا يقولوه ويفعلوه.




وشهادة الزور داخلة في قول الزور تدخل في هذه الآية بالأولوية، {
وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ
} وهو الكلام الذي لا خير فيه ولا
فيه فائدة دينية ولا دنيوية ككلام السفهاء ونحوهم {
مَرُّوا كِرَامًا
} أي: نزهوا أنفسهم وأكرموها عن الخوض فيه ورأوا
أن الخوض فيه وإن كان لا إثم فيه فإنه سفه ونقص للإنسانية والمروءة
فربأوا بأنفسهم عنه.




وفي قوله: { وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ
} إشارة إلى أنهم لا يقصدون حضوره ولا سماعه، ولكن عند المصادفة
التي من غير قصد يكرمون أنفسهم عنه.




{ وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ
رَبِّهِمْ
} التي أمرهم باستماعها والاهتداء بها، {
لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا
} أي لم يقابلوها
بالإعراض عنها والصمم عن سماعها وصرف النظر والقلوب عنها كما يفعله من لم
يؤمن بها ولم يصدق، وإنما حالهم فيها وعند سماعها كما قال تعالى: {
إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا
سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ
} يقابلونها بالقبول والافتقار إليها والانقياد والتسليم لها،
وتجد عندهم آذانا سامعة وقلوبا واعية فيزداد بها إيمانهم ويتم بها
إيقانهم وتحدث لهم نشاطا ويفرحون بها سرورا واغتباطا.




{ وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا
مِنْ أَزْوَاجِنَا
} أي: قرنائنا من أصحاب وأقران وزوجات، {
وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ
} أي: تقر بهم أعيننا.




وإذا استقرأنا حالهم وصفاتهم عرفنا من هممهم وعلو مرتبتهم أنهم لا تقر
أعينهم حتى يروهم مطيعين لربهم عالمين عاملين وهذا كما أنه دعاء لأزواجهم
وذرياتهم في صلاحهم فإنه دعاء لأنفسهم لأن نفعه يعود عليهم ولهذا جعلوا
ذلك هبة لهم فقالوا: { هَبْ لَنَا } بل
دعاؤهم يعود إلى نفع عموم المسلمين لأن بصلاح من ذكر يكون سببا لصلاح
كثير ممن يتعلق بهم وينتفع بهم.




{ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا
} أي: أوصلنا يا ربنا إلى هذه الدرجة العالية، درجة الصديقين والكمل من
عباد الله الصالحين وهي درجة الإمامة في الدين وأن يكونوا قدوة للمتقين
في أقوالهم وأفعالهم يقتدى بأفعالهم، ويطمئن لأقوالهم ويسير أهل الخير
خلفهم فيهدون ويهتدون.




ومن المعلوم أن الدعاء ببلوغ شيء دعاء بما لا يتم إلا به، وهذه الدرجة
-درجة الإمامة في الدين- لا تتم إلا بالصبر واليقين كما قال تعالى: {
وَجَعَلْنَاهم أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا
وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ
} فهذا الدعاء يستلزم من
الأعمال والصبر على طاعة الله وعن معصيته وأقداره المؤلمة ومن العلم
التام الذي يوصل صاحبه إلى درجة اليقين، خيرا كثيرا وعطاء جزيلا وأن
يكونوا في أعلى ما يمكن من درجات الخلق بعد الرسل.




ولهذا، لما كانت هممهم ومطالبهم عالية كان الجزاء من جنس العمل فجازاهم
بالمنازل العاليات فقال: { أُولَئِكَ
يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا
} أي: المنازل الرفيعة
والمساكن الأنيقة الجامعة لكل ما يشتهى وتلذه الأعين وذلك بسبب صبرهم
نالوا ما نالوا كما قال تعالى: {
وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلَامٌ
عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ
} ولهذا
قال هنا { وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً
وَسَلَامًا
} من ربهم ومن ملائكته الكرام ومن بعض على بعض ويسلمون
من جميع المنغصات والمكدرات.




والحاصل: أن الله وصفهم بالوقار والسكينة والتواضع له ولعباده وحسن الأدب
والحلم وسعة الخلق والعفو عن الجاهلين والإعراض عنهم ومقابلة إساءتهم
بالإحسان وقيام الليل والإخلاص فيه، والخوف من النار والتضرع لربهم أن
ينجيهم منها وإخراج الواجب والمستحب في النفقات والاقتصاد في ذلك - وإذا
كانوا مقتصدين في الإنفاق الذي جرت العادة بالتفريط فيه أو الإفراط،
فاقتصادهم وتوسطهم في غيره من باب أولى- والسلامة من كبائر الذنوب
والاتصاف بالإخلاص لله في عبادته والعفة عن الدماء والأعراض والتوبة عند
صدور شيء من ذلك، وأنهم لا يحضرون مجالس المنكر والفسوق القولية والفعلية
ولا يفعلونها بأنفسهم وأنهم يتنزهون من اللغو والأفعال الردية التي لا
خير فيها، وذلك يستلزم مروءتهم وإنسانيتهم وكمالهم ورفعة أنفسهم عن كل
خسيس قولي وفعلي، وأنهم يقابلون آيات الله بالقبول لها والتفهم لمعانيها
والعمل بها، والاجتهاد في تنفيذ أحكامها، وأنهم يدعون الله تعالى بأكمل
الدعاء، في الدعاء الذي ينتفعون به، وينتفع به من يتعلق بهم وينتفع به
المسلمون من صلاح أزواجهم وذريتهم، ومن لوازم ذلك سعيهم في تعليمهم
ووعظهم ونصحهم لأن من حرص على شيء ودعا الله فيه لا بد أن يكون متسببا
فيه، وأنهم دعوا الله ببلوغ أعلى الدرجات الممكنة لهم وهي درجة الإمامة
والصديقية.




فلله ما أعلى هذه الصفات وأرفع هذه الهمم وأجل هذه المطالب، وأزكى تلك
النفوس وأطهر تلك القلوب وأصفى هؤلاء الصفوة وأتقى هؤلاء السادة"




ولله، فضل الله عليهم ونعمته ورحمته التي جللتهم، ولطفه الذي أوصلهم إلى
هذه المنازل.




ولله، منة الله على عباده أن بين لهم أوصافهم، ونعت لهم هيئاتهم وبين لهم
هممهم، وأوضح لهم أجورهم، ليشتاقوا إلى الاتصاف بأوصافهم، ويبذلوا جهدهم
في ذلك، ويسألوا الذي من عليهم وأكرمهم الذي فضله في كل زمان ومكان، وفي
كل وقت وأوان، أن يهديهم كما هداهم ويتولاهم بتربيته الخاصة كما تولاهم.




فاللهم لك الحمد وإليك المشتكى وأنت المستعان وبك المستغاث، ولا حول ولا
قوة إلا بك، لا نملك لأنفسنا نفعا ولا ضرا ولا نقدر على مثقال ذرة من
الخير إن لم تيسر ذلك لنا، فإنا ضعفاء عاجزون من كل وجه.




نشهد أنك إن وكلتنا إلى أنفسنا طرفة عين وكلتنا إلى ضعف وعجز وخطيئة، فلا
نثق يا ربنا إلا برحمتك التي بها خلقتنا ورزقتنا وأنعمت علينا بما أنعمت
من النعم الظاهرة والباطنة وصرفت عنا من النقم، فارحمنا رحمة تغنينا بها
عن رحمة من سواك فلا خاب من سألك ورجاك.




ولما كان الله تعالى قد أضاف هؤلاء العباد إلى رحمته واختصهم بعبوديته
لشرفهم وفضلهم ربما توهم متوهم أنه وأيضا غيرهم فلم لا يدخل في العبودية؟




فأخبر تعالى أنه لا يبالي ولا يعبأ بغير هؤلاء وأنه لولا دعاؤكم إياه
دعاء العبادة ودعاء المسألة ما عبأ بكم ولا أحبكم فقال: { قُلْ مَا
يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ
يَكُونُ لِزَامًا} أي: عذابا يلزمكم لزوم الغريم لغريمه وسوف يحكم الله
بينكم وبين عباده المؤمنين.




تم تفسير سورة الفرقان،
فلله الحمد والثناء والشكر أبدا.

descriptionتفسيرالقران - صفحة 6 Emptyرد: تفسيرالقران

more_horiz
- تفسير سورة النور عدد آياتها 64

(



آية


1-33

)

وهي مدنية






{ 1 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا
وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ
تَذَكَّرُونَ }




أي: هذه { سُورَةٌ ْ} عظيمة القدر
{ أَنْزَلْنَاهَا ْ} رحمة منا بالعباد،
وحفظناها من كل شيطان { وَفَرَضْنَاهَا ْ}
أي: قدرنا فيها ما قدرنا، من الحدود والشهادات وغيرها،
{ وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ ْ}
أي: أحكاما جليلة، وأوامر وزواجر، وحكما عظيمة
{ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ْ}
حين نبين لكم، ونعلمكم ما لم
تكونوا تعلمون. ثم شرع في بيان تلك الأحكام المشار إليها، فقال:





{ 2 - 3 } { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي
فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا
تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ
تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا
طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً
أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ
مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ }








هذا الحكم في الزاني وام احمد عماد البكرين، أنهما يجلد كل منهما مائة جلدة،
وأما الثيب، فقد دلت السنة الصحيحة المشهورة، أن حده الرجم، ونهانا تعالى
أن تأخذنا رأفة [بهما] في دين الله، تمنعنا من إقامة الحد عليهم، سواء
رأفة طبيعية، أو لأجل قرابة أو صداقة أو غير ذلك، وأن الإيمان موجب
لانتفاء هذه الرأفة المانعة من إقامة أمر الله، فرحمته حقيقة، بإقامة حد
الله عليه، فنحن وإن رحمناه لجريان القدر عليه، فلا نرحمه من هذا الجانب،
وأمر تعالى أن يحضر عذاب الزانيين طائفة، أي: جماعة من المؤمنين، ليشتهر
ويحصل بذلك الخزي والارتداع، وليشاهدوا الحد فعلا، فإن مشاهدة أحكام
الشرع بالفعل، مما يقوى بها العلم، ويستقر به الفهم، ويكون أقرب لإصابة
الصواب، فلا يزاد فيه ولا ينقص، والله أعلم.








هذا بيان لرذيلة الزنا، وأنه يدنس عرض صاحبه، وعرض من قارنه ومازجه، ما
لا يفعله بقية الذنوب، فأخبر أن الزاني لا يقدم على نكاحه من النساء، إلا
أنثى زانية، تناسب حاله حالها، أو مشركة بالله، لا تؤمن ببعث ولا جزاء،
ولا تلتزم أمر الله، وام احمد عماد كذلك، لا ينكحها إلا زان أو مشرك
{ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ْ}
أي: حرم عليهم أن ينكحوا زانيا، أو ينكحوا زانية.




ومعنى الآية: أن من اتصف بالزنا، من رجل أو امرأة، ولم يتب من ذلك، أن
المقدم على نكاحه، مع تحريم الله لذلك، لا يخلو إما أن لا يكون ملتزما
لحكم الله ورسوله، فذاك لا يكون إلا مشركا، وإما أن يكون ملتزما لحكم
الله ورسوله، فأقدم على نكاحه مع علمه بزناه، فإن هذا النكاح زنا،
والناكح زان مسافح، فلو كان مؤمنا بالله حقا، لم يقدم على ذلك، وهذا دليل
صريح على تحريم نكاح ام احمد عماد حتى تتوب، وكذلك إنكاح الزاني حتى يتوب، فإن
مقارنة الزوج لزوجته، والزوجة لزوجها، أشد الاقترانات والازدواجات، وقد
قال تعالى: { احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا
وَأَزْوَاجَهُمْ ْ}
أي: قرناءهم، فحرم الله ذلك، لما فيه من الشر
العظيم، وفيه من قلة الغيرة، وإلحاق الأولاد، الذين ليسوا من الزوج، وكون
الزاني لا يعفها بسبب اشتغاله بغيرها، مما بعضه كاف للتحريم وفي هذا
دليل أن الزاني ليس مؤمنا، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا يزني
الزاني حين يزني وهو مؤمن " فهو وإن لم يكن مشركا، فلا يطلق عليه اسم
المدح، الذي هو الإيمان المطلق.





{ 4 - 5 } { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ
الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ
فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً
أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ
بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ }









لما عظم تعالى أمر الزاني بوجوب جلده، وكذا رجمه إن كان محصنا، وأنه لا
تجوز مقارنته، ولا مخالطته على وجه لا يسلم فيه العبد من الشر، بين تعالى
تعظيم الإقدام على الأعراض بالرمي بالزنا فقال:
{ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ْ}
أي: النساء الأحرار
العفائف، وكذاك الرجال، لا فرق بين الأمرين، والمراد بالرمي الرمي
بالزنا، بدليل السياق، { ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا
ْ}
على ما رموا به { بِأَرْبَعَةِ
شُهَدَاءَ ْ}
أي: رجال عدول، يشهدون بذلك صريحا،
{ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً ْ}
بسوط متوسط، يؤلم فيه، ولا يبالغ بذلك حتى يتلفه، لأن القصد التأديب لا
الإتلاف، وفي هذا تقدير حد القذف، ولكن بشرط أن يكون المقذوف كما قال
تعالى محصنا مؤمنا، وأما قذف غير المحصن، فإنه يوجب التعزير.




{ وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا ْ}

أي: لهم عقوبة أخرى، وهو أن شهادة القاذف غير مقبولة، ولو حد على القذف،
حتى يتوب كما يأتي، { وَأُولَئِكَ هُمُ
الْفَاسِقُونَ ْ}
أي: الخارجون عن طاعة الله، الذين قد كثر شرهم،
وذلك لانتهاك ما حرم الله، وانتهاك عرض أخيه، وتسليط الناس على الكلام
بما تكلم به، وإزالة الأخوة التي عقدها الله بين أهل الإيمان، ومحبة أن
تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، وهذا دليل على أن القذف من كبائر الذنوب.




وقوله: { إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ
ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ْ}
فالتوبة
في هذا الموضع، أن يكذب القاذف نفسه، ويقر أنه كاذب فيما قال، وهو واجب
عليه، أن يكذب نفسه ولو تيقن وقوعه، حيث لم يأت بأربعة شهداء، فإذا تاب
القاذف وأصلح عمله وبدل إساءته إحسانا، زال عنه الفسق، وكذلك تقبل شهادته
على الصحيح، فإن الله غفور رحيم يغفر الذنوب جميعا، لمن تاب وأناب، وإنما
يجلد القاذف، إذا لم يأت بأربعة شهداء إذا لم يكن زوجا، فإن كان زوجا،
فقد ذكر بقوله:





{ 6 - 10 } { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ
أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ
فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ
الصَّادِقِينَ * وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ
كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ
أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ *
وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ
الصَّادِقِينَ * وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ
وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ }








وإنما كانت شهادات الزوج على زوجته، دارئة عنه الحد، لأن الغالب، أن
الزوج لا يقدم على رمي زوجته، التي يدنسه ما يدنسها إلا إذا كان صادقا،
ولأن له في ذلك حقا، وخوفا من إلحاق أولاد ليسوا منه به، ولغير ذلك من
الحكم المفقودة في غيره فقال: { وَالَّذِينَ
يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ ْ}
أي: الحرائر لا المملوكات.




{ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ ْ}

على رميهم بذلك { شُهَدَاءُ إِلَّا
أَنْفُسُهُمْ ْ}
بأن لم يقيموا شهداء، على ما رموهم به
{ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ
بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ْ}
سماها شهادة، لأنها
نائبة مناب الشهود، بأن يقول: " أشهد بالله إني لمن الصادقين فيما رميتها
به ".




{ وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ
الْكَاذِبِينَ ْ}

أي: يزيد في الخامسة مع الشهادة المذكورة، مؤكدا تلك الشهادات، بأن يدعو
على نفسه، باللعنة إن كان كاذبا، فإذا تم لعانه، سقط عنه حد القذف، ظاهر
الآيات، ولو سمى الرجل الذي رماها به، فإنه يسقط حقه تبعا لها. وهل يقام
عليها الحد، بمجرد لعان الرجل ونكولها أم تحبس؟ فيه قولان للعلماء، الذي
يدل عليه الدليل، أنه يقام عليها الحد، بدليل قوله:
{ وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ
ْ}
إلى آخره، فلولا أن العذاب وهو الحد قد وجب بلعانه، لم يكن
لعانها دارئا له.




ويدرأ عنها، أي: يدفع عنها العذاب، إذ قابلت شهادات الزوج، بشهادات من
جنسها.




{ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ
الْكَاذِبِينَ ْ}

وتزيد في الخامسة، مؤكدة لذلك، أن تدعو على نفسها بالغضب، فإذا تم اللعان
بينهما، فرق بينهما إلى الأبد، وانتفى الولد الملاعن عليه، وظاهر الآيات
يدل على اشتراط هذه الألفاظ عند اللعان، منه ومنها، واشتراط الترتيب
فيها، وأن لا ينقص منها شيء، ولا يبدل شيء بشيء، وأن اللعان مختص بالزوج
إذا رمى امرأته، لا بالعكس، وأن الشبه في الولد مع اللعان لا عبرة به،
كما لا يعتبر مع الفراش، وإنما يعتبر الشبه حيث لا مرجح إلا هو.




{ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ
تَوَّابٌ حَكِيمٌ ْ}

وجواب الشرط محذوف، يدل عليه سياق الكلام أي: لأحل بأحد المتلاعنين
الكاذب منهما، ما دعا به على نفسه، ومن رحمته وفضله، ثبوت هذا الحكم
الخاص بالزوجين، لشدة الحاجة إليه، وأن بين لكم شدة الزنا وفظاعته،
وفظاعة القذف به، وأن شرع التوبة من هذه الكبائر وغيرها.




{ 11 - 26 } {
إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ
شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُم
} إلى آخر الآيات





وهو قوله: { لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ
كَرِيمٌ
} لما ذكر فيما تقدم، تعظيم الرمي بالزنا عموما، صار ذلك
كأنه مقدمة لهذه القصة، التي وقعت على أشرف النساء، أم المؤمنين رضي الله
عنها، وهذه الآيات، نزلت في قصة الإفك المشهورة، الثابتة في الصحاح
والسنن والمسانيد.




وحاصلها أن النبي صلى الله عليه وسلم، في بعض غزواته، ومعه زوجته عائشة
الصديقة بنت الصديق، فانقطع عقدها فانحبست في طلبه ورحلوا جملها وهودجها،
فلم يفقدوها، ثم استقل الجيش راحلا، وجاءت مكانهم، وعلمت أنهم إذا
فقدوها، رجعوا إليها فاستمروا في مسيرهم، وكان صفوان بن المعطل السلمي،
من أفاضل الصحابة رضي الله عنه، قد عرس في أخريات القوم ونام، فرأى عائشة
رضي الله عنها فعرفها، فأناخ راحلته، فركبتها من دون أن يكلمها أو تكلمه،
ثم جاء يقود بها بعد ما نزل الجيش في الظهيرة، فلما رأى بعض المنافقين
الذين في صحبة النبي صلى الله عليه وسلم، في ذلك السفر مجيء صفوان بها في
هذه الحال، أشاع ما أشاع، ووشى الحديث، وتلقفته الألسن، حتى اغتر بذلك
بعض المؤمنين، وصاروا يتناقلون هذا الكلام، وانحبس الوحي مدة طويلة عن
الرسول صلى الله عليه وسلم. وبلغ الخبر عائشة بعد ذلك بمدة، فحزنت حزنا
شديدا، فأنزل الله تعالى براءتها في هذه الآيات، ووعظ الله المؤمنين،
وأعظم ذلك، ووصاهم بالوصايا النافعة. فقوله تعالى: {
إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ
} أي: الكذب الشنيع، وهو رمي
أم المؤمنين { عُصْبَةٌ مِنْكُمْ } أي:
جماعة منتسبون إليكم يا معشر المؤمنين، منهم المؤمن الصادق [في إيمانه
ولكنه اغتر بترويج المنافقين] ومنهم المنافق.




{ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ
خَيْرٌ لَكُمْ
} لما تضمن ذلك تبرئة أم المؤمنين ونزاهتها،
والتنويه بذكرها، حتى تناول عموم المدح سائر زوجات النبي صلى الله عليه
وسلم، ولما تضمن من بيان الآيات المضطر إليها العباد، التي ما زال العمل
بها إلى يوم القيامة، فكل هذا خير عظيم، لولا مقالة أهل الإفك لم يحصل
ذلك، وإذا أراد الله أمرا جعل له سببا، ولذلك جعل الخطاب عاما مع
المؤمنين كلهم، وأخبر أن قدح بعضهم ببعض كقدح في أنفسهم، ففيه أن
المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم، واجتماعهم على مصالحهم، كالجسد
الواحد، والمؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا، فكما أنه يكره أن يقدح
أحد في عرضه، فليكره من كل أحد، أن يقدح في أخيه المؤمن، الذي بمنزلة
نفسه، وما لم يصل العبد إلى هذه الحالة، فإنه من نقص إيمانه وعدم نصحه.




{ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ
الْإِثْمِ
} وهذا وعيد للذين جاءوا بالإفك، وأنهم سيعاقبون على ما
قالوا من ذلك، وقد حد النبي صلى الله عليه وسلم منهم جماعة، {
وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ
} أي: معظم الإفك، وهو المنافق
الخبيث، عبد الله بن أبي بن سلول -لعنه الله- {
لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ
} ألا وهو الخلود في الدرك الأسفل من النار.




ثم أرشد الله عباده عند سماع مثل هذا الكلام فقال: {
لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ
بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا
} أي: ظن المؤمنون بعضهم ببعض خيرا، وهو
السلامة مما رموا به، وأن ما معهم من الإيمان المعلوم، يدفع ما قيل فيهم
من الإفك الباطل، { وَقَالُوا } بسبب
ذلك الظن { سُبْحَانَكَ } أي: تنزيها لك
من كل سوء، وعن أن تبتلي أصفياءك بالأمور الشنيعة، {
هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ
} أي: كذب وبهت، من أعظم الأشياء، وأبينها.
فهذا من الظن الواجب، حين سماع المؤمن عن أخيه المؤمن، مثل هذا الكلام،
أن يبرئه بلسانه، ويكذب القائل لذلك.




{ لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ
شُهَدَاءَ
} أي: هلا جاء الرامون على ما رموا به، بأربعة شهداء
أي: عدول مرضيين. { فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا
بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ
}
وإن كانوا في أنفسهم قد تيقنوا ذلك، فإنهم كاذبون في حكم الله، لأن الله
حرم عليهم التكلم بذلك، من دون أربعة شهود، ولهذا قال: {
فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ
} ولم يقل "
فأولئك هم الكاذبون " وهذا كله، من تعظيم حرمة عرض المسلم، بحيث لا يجوز
الإقدام على رميه، من دون نصاب الشهادة بالصدق.




{ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ
وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ
} بحيث شملكم إحسانه
فيهما، في أمر دينكم ودنياكم، { لَمَسَّكُمْ
فِيمَا أَفَضْتُمْ
} أي: خضتم { فِيهِ
} من شأن الإفك { عَذَابٌ عَظِيمٌ
} لاستحقاقكم ذلك بما قلتم، ولكن من فضل الله عليكم ورحمته، أن
شرع لكم التوبة، وجعل العقوبة مطهرة للذنوب.




{ إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ
} أي: تلقفونه، ويلقيه بعضكم إلى بعض، وتستوشون حديثه، وهو قول باطل. {
وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ
}
والأمران محظوران، التكلم بالباطل، والقول بلا علم، {
وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا
} فلذلك أقدم عليه من أقدم من المؤمنين
الذين تابوا منه، وتطهروا بعد ذلك، { وَهُوَ
عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ
} وهذا فيه الزجر البليغ، عن تعاطي بعض
الذنوب على وجه التهاون بها، فإن العبد لا يفيده حسبانه شيئا، ولا يخفف
من عقوبة الذنب، بل يضاعف الذنب، ويسهل عليه مواقعته مرة أخرى.




{ ولَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ } أي:
وهلا إذ سمعتم -أيها المؤمنون- كلام أهل الإفك {
قُلْتُمْ
} منكرين لذلك، معظمين لأمره: {
مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا
} أي: ما ينبغي لنا،
وما يليق بنا الكلام، بهذا الإفك المبين، لأن المؤمن يمنعه إيمانه من
ارتكاب القبائح { هَذَا بُهْتَانٌ } أي:
كذب عظيم. { يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا
لِمِثْلِهِ
} أي: لنظيره، من رمي المؤمنين بالفجور، فالله يعظكم
وينصحكم عن ذلك، ونعم المواعظ والنصائح من ربنا فيجب علينا مقابلتها
بالقبول والإذعان، والتسليم والشكر له، على ما بين لنا {
إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ
} {
إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ
} دل ذلك على أن الإيمان الصادق، يمنع
صاحبه من الإقدام على المحرمات. { وَيُبَيِّنُ
اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ
} المشتملة على بيان الأحكام، والوعظ،
والزجر، والترغيب، والترهيب، يوضحها لكم توضيحا جليا. {
وَاللَّهُ عَلِيمٌ
} أي: كامل العلم عام الحكمة، فمن علمه وحكمته،
أن علمكم من علمه، وإن كان ذلك راجعا لمصالحكم في كل وقت.




{ إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ
الْفَاحِشَةُ
} أي: الأمور الشنيعة المستقبحة المستعظمة، فيحبون
أن تشتهر الفاحشة { فِي الَّذِينَ آمَنُوا
لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
} أي: موجع للقلب والبدن، وذلك لغشه
لإخوانه المسلمين، ومحبة الشر لهم، وجراءته على أعراضهم، فإذا كان هذا
الوعيد، لمجرد محبة أن تشيع الفاحشة، واستحلاء ذلك بالقلب، فكيف بما هو
أعظم من ذلك، من إظهاره، ونقله؟" وسواء كانت الفاحشة، صادرة أو غير
صادرة.




وكل هذا من رحمة الله بعباده المؤمنين، وصيانة أعراضهم، كما صان دماءهم
وأموالهم، وأمرهم بما يقتضي المصافاة، وأن يحب أحدهم لأخيه ما يحب لنفسه،
ويكره له ما يكره لنفسه. { وَاللَّهُ يَعْلَمُ
وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ
} فلذلك علمكم، وبين لكم ما تجهلونه.




{ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ
} قد أحاط بكم من كل جانب { وَرَحْمَتُهُ
} عليكم { وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ
رَحِيمٌ
} لما بين لكم هذه الأحكام والمواعظ، والحكم الجليلة،
ولما أمهل من خالف أمره، ولكن فضله ورحمته، وأن ذلك وصفه اللازم آثر لكم
من الخير الدنيوي والأخروي، ما لن تحصوه، أو تعدوه.




ولما نهى عن هذا الذنب بخصوصه، نهى عن الذنوب عموما فقال: {
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ
} أي: طرقه ووساوسه.




وخطوات الشيطان، يدخل فيها سائر المعاصي المتعلقة بالقلب، واللسان
والبدن. ومن حكمته تعالى، أن بين الحكم، وهو: النهي عن اتباع خطوات
الشيطان. والحكمة وهو بيان ما في المنهي عنه، من الشر المقتضي، والداعي
لتركه فقال: { وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ
الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ
} أي: الشيطان {
يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ
} أي: ما تستفحشه العقول والشرائع، من
الذنوب العظيمة، مع ميل بعض النفوس إليه. {
وَالْمُنْكَرِ
} وهو ما تنكره العقول ولا تعرفه. فالمعاصي التي هي
خطوات الشيطان، لا تخرج عن ذلك، فنهي الله عنها للعباد، نعمة منه عليهم
أن يشكروه ويذكروه، لأن ذلك صيانة لهم عن التدنس بالرذائل والقبائح، فمن
إحسانه عليهم، أن نهاهم عنها، كما نهاهم عن أكل السموم القاتلة ونحوها، {
وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ
مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا
} أي: ما تطهر من اتباع خطوات الشيطان، لأن
الشيطان يسعى، هو وجنده، في الدعوة إليها وتحسينها، والنفس ميالة إلى
السوء أمارة به، والنقص مستول على العبد من جميع جهاته، والإيمان غير
قوي، فلو خلي وهذه الدواعي، ما زكى أحد بالتطهر من الذنوب والسيئات
والنماء بفعل الحسنات، فإن الزكاء يتضمن الطهارة والنماء، ولكن فضله
ورحمته أوجبا أن يتزكى منكم من تزكى.




وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: " اللهم آت نفسي تقواها، وزكها
أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها " ولهذا قال: {
وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ
} من يعلم منه أن يزكى
بالتزكية، ولهذا قال: { وَاللَّهُ سَمِيعٌ
عَلِيمٌ
}




{ وَلَا يَأْتَلِ } أي: لا يحلف {
أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى
وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا
وَلْيَصْفَحُوا
} كان من جملة الخائضين في الإفك " مسطح بن أثاثة
" وهو قريب لأبي بكر الصديق رضي الله عنه، وكان مسطح فقيرا من المهاجرين
في سبيل الله، فحلف أبو بكر أن لا ينفق عليه، لقوله الذي قال.




فنزلت هذه الآية، ينهاهم عن هذا الحلف المتضمن لقطع النفقة عنه، ويحثه
على العفو والصفح، ويعده بمغفرة الله إن غفر له، فقال: {
أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ
رَحِيمٌ
} إذا عاملتم عبيده، بالعفو والصفح، عاملكم بذلك، فقال
أبو بكر - لما سمع هذه الآية-: بلى، والله إني لأحب أن يغفر الله لي،
فرجع النفقة إلى مسطح، وفي هذه الآية دليل على النفقة على القريب، وأنه
لا تترك النفقة والإحسان بمعصية الإنسان، والحث على العفو والصفح، ولو
جرى عليه ما جرى من أهل الجرائم.




ثم ذكر الوعيد الشديد على رمي المحصنات فقال: {
إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ
} أي: العفائف عن
الفجور { الْغَافِلَاتِ } التي لم يخطر
ذلك بقلوبهن { الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي
الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ
} واللعنة لا تكون إلا على ذنب كبير.




وأكد اللعنة بأنها متواصلة عليهم في الدارين {
وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ
} وهذا زيادة على اللعنة، أبعدهم عن
رحمته، وأحل بهم شدة نقمته.




وذلك العذاب يوم القيامة { يَوْمَ تَشْهَدُ
عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا
يَعْمَلُونَ
} فكل جارحة تشهد عليهم بما عملته، ينطقها الذي أنطق
كل شيء، فلا يمكنه الإنكار، ولقد عدل في العباد، من جعل شهودهم من
أنفسهم، { يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ
دِينَهُمُ الْحَقَّ
} أي: جزاءهم على أعمالهم، الجزاء الحق، الذي
بالعدل والقسط، يجدون جزاءها موفرا، لم يفقدوا منها شيئا، {
وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ
صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا
حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا
} ويعلمون في ذلك الموقف
العظيم، أن الله هو الحق المبين، فيعلمون انحصار الحق المبين في الله
تعالى.




فأوصافه العظيمة حق، وأفعاله هي الحق، وعبادته هي الحق، ولقاؤه حق، ووعده
ووعيده، وحكمه الديني والجزائي حق، ورسله حق، فلا ثم حق، إلا في الله وما
من الله.




{ الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ
وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ
} أي: كل خبيث من الرجال والنساء،
والكلمات والأفعال، مناسب للخبيث، وموافق له، ومقترن به، ومشاكل له، وكل
طيب من الرجال والنساء، والكلمات والأفعال، مناسب للطيب، وموافق له،
ومقترن به، ومشاكل له، فهذه كلمة عامة وحصر، لا يخرج منه شيء، من أعظم
مفرداته، أن الأنبياء -خصوصا أولي العزم منهم، خصوصا سيدهم محمد صلى الله
عليه وسلم، الذي هو أفضل الطيبين من الخلق على الإطلاق لا يناسبهم إلا كل
طيب من النساء، فالقدح في عائشة رضي الله عنها بهذا الأمر قدح في النبي
صلى الله عليه وسلم، وهو المقصود بهذا الإفك، من قصد المنافقين، فمجرد
كونها زوجة للرسول صلى الله عليه وسلم، يعلم أنها لا تكون إلا طيبة طاهرة
من هذا الأمر القبيح.




فكيف وهي هي؟" صديقة النساء وأفضلهن وأعلمهن وأطيبهن، حبيبة رسول رب
العالمين، التي لم ينزل الوحي عليه وهو في لحاف زوجة من زوجاته غيرها، ثم
صرح بذلك، بحيث لا يبقى لمبطل مقالا، ولا لشك وشبهة مجالا، فقال: {
أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ
} والإشارة إلى عائشة
رضي الله عنها أصلا، وللمؤمنات المحصنات الغافلات تبعا {
لَهُمْ مَغْفِرَةٌ
} تستغرق الذنوب {
وَرِزْقٌ كَرِيمٌ
} في الجنة صادر من الرب الكريم.




{ 27 - 29 } {
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ
بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا
ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ *

فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا
تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا
فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ *
لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ
فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا
تَكْتُمُونَ
}




يرشد الباري عباده المؤمنين، أن لا يدخلوا بيوتا غير بيوتهم بغير
استئذان، فإن في ذلك عدة مفاسد: منها ما ذكره الرسول صلى الله عليه وسلم،
حيث قال " إنما جعل الاستئذان من أجل البصر " فبسبب الإخلال به، يقع
البصر على العورات التي داخل البيوت، فإن البيت للإنسان في ستر عورة ما
وراءه، بمنزلة الثوب في ستر عورة جسده.




ومنها: أن ذلك يوجب الريبة من الداخل، ويتهم بالشر سرقة أو غيرها، لأن
الدخول خفية، يدل على الشر، ومنع الله المؤمنين من دخول غير بيوتهم
حَتَّى يَسْتَأْنِسُوا أي: يستأذنوا. سمي الاستئذان استئناسا، لأن به
يحصل الاستئناس، وبعدمه تحصل الوحشة، {
وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا
} وصفة ذلك، ما جاء في الحديث: "
السلام عليكم، أأدخل "؟




{ ذَلِكُمْ } أي: الاستئذان المذكور {
خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ
} لاشتماله على عدة
مصالح، وهو من مكارم الأخلاق الواجبة، فإن أذن، دخل المستأذن.




{ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا
تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا
فَارْجِعُوا
} أي: فلا تمتنعوا من الرجوع، ولا تغضبوا منه، فإن
صاحب المنزل، لم يمنعكم حقا واجبا لكم، وإنما هو متبرع، فإن شاء أذن أو
منع، فأنتم لا يأخذ أحدكم الكبر والاشمئزاز من هذه الحال، {
هُوَ أَزْكَى لَكُمْ
} أي: أشد لتطهيركم من السيئات، وتنميتكم
بالحسنات. { وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ
عَلِيمٌ
} فيجازي كل عامل بعمله، من كثرة وقلة، وحسن وعدمه، هذا
الحكم في البيوت المسكونة، سواء كان فيها متاع للإنسان أم لا، وفي البيوت
غير المسكونة، التي لا متاع فيها للإنسان، وأما البيوت التي ليس فيها
أهلها، وفيها متاع الإنسان المحتاج للدخول إليه، وليس فيها أحد يتمكن من
استئذانه، وذلك كبيوت الكراء وغيرها، فقد ذكرها بقوله:




{ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ } أي: حرج
وإثم، دل على أن الدخول من غير استئذان في البيوت السابقة، أنه محرم،
وفيه حرج { أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ
مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ
} وهذا من احترازات القرآن
العجيبة، فإن قوله: { لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا
غَيْرَ بُيُوتِكُمْ
} لفظ عام في كل بيت ليس ملكا للإنسان، أخرج
منه تعالى البيوت التي ليست ملكه، وفيها متاعه، وليس فيها ساكن، فأسقط
الحرج في الدخول إليها، { وَاللَّهُ يَعْلَمُ
مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ
} أحوالكم الظاهرة والخفية، وعلم
مصالحكم، فلذلك شرع لكم ما تحتاجون إليه وتضطرون، من الأحكام الشرعية.




{ 30 } { قُلْ
لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ
ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ
}




أي: أرشد المؤمنين، وقل لهم: الذين معهم إيمان، يمنعهم من وقوع ما يخل
بالإيمان: { يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ
} عن النظر إلى العورات وإلى النساء الأجنبيات، وإلى المردان،
الذين يخاف بالنظر إليهم الفتنة، وإلى زينة الدنيا التي تفتن، وتوقع في
المحذور.




{ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ } عن الوطء
الحرام، في قبل أو دبر، أو ما دون ذلك، وعن التمكين من مسها، والنظر
إليها. { ذَلِكَ } الحفظ للأبصار
والفروج { أَزْكَى لَهُمْ } أطهر وأطيب،
وأنمى لأعمالهم، فإن من حفظ فرجه وبصره، طهر من الخبث الذي يتدنس به أهل
الفواحش، وزكت أعماله، بسبب ترك المحرم، الذي تطمع إليه النفس وتدعو
إليه، فمن ترك شيئا لله، عوضه الله خيرا منه، ومن غض بصره عن المحرم،
أنار الله بصيرته، ولأن العبد إذا حفظ فرجه وبصره عن الحرام ومقدماته، مع
داعي الشهوة، كان حفظه لغيره أبلغ، ولهذا سماه الله حفظا، فالشيء المحفوظ
إن لم يجتهد حافظه في مراقبته وحفظه، وعمل الأسباب الموجبة لحفظه، لم
ينحفظ، كذلك البصر والفرج، إن لم يجتهد العبد في حفظهما، أوقعاه في بلايا
ومحن، وتأمل كيف أمر بحفظ الفرج مطلقا، لأنه لا يباح في حالة من الأحوال،
وأما البصر فقال: { يَغُضُّوا مِنْ
أَبْصَارِهِمْ
} أتى بأداة " من " الدالة على التبعيض، فإنه يجوز
النظر في بعض الأحوال لحاجة، كنظر الشاهد والعامل والخاطب، ونحو ذلك. ثم
ذكرهم بعلمه بأعمالهم، ليجتهدوا في حفظ أنفسهم من المحرمات.




{ 31 } {
وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ
فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا
وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ
زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ
بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ
إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ
أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ
غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ
لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ
بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا
إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ
}








لما أمر المؤمنين بغض الأبصار وحفظ الفروج، أمر المؤمنات بذلك، فقال: {
وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ
} عن
النظر إلى العورات والرجال، بشهوة ونحو ذلك من النظر الممنوع، {
وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ
} من التمكين من جماعها، أو مسها، أو
النظر المحرم إليها. { وَلَا يُبْدِينَ
زِينَتَهُنَّ
} كالثياب الجميلة والحلي، وجميع البدن كله من
الزينة، ولما كانت الثياب الظاهرة، لا بد لها منها، قال: {
إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا
} أي: الثياب الظاهرة، التي جرت العادة
بلبسها إذا لم يكن في ذلك ما يدعو إلى الفتنة بها، {
وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ
} وهذا لكمال
الاستتار، ويدل ذلك على أن الزينة التي يحرم إبداؤها، يدخل فيها جميع
البدن، كما ذكرنا. ثم كرر النهي عن إبداء زينتهن، ليستثني منه قوله: {
إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ
} أي: أزواجهن {
أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ
} يشمل الأب بنفسه،
والجد وإن علا، { أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن
} ويدخل فيه الأبناء وأبناء البعولة مهما نزلوا {
أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ
} أشقاء، أو لأب،
أو لأم. { أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ
نِسَائِهِنَّ
} أي: يجوز للنساء أن ينظر بعضهن إلى بعض مطلقا،
ويحتمل أن الإضافة تقتضي الجنسية، أي: النساء المسلمات، اللاتي من جنسكم،
ففيه دليل لمن قال: إن المسلمة لا يجوز أن تنظر إليها الذمية.




{ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ }
فيجوز للمملوك إذا كان كله للأنثى، أن ينظر لسيدته، ما دامت مالكة له
كله، فإن زال الملك أو بعضه، لم يجز النظر. {
أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ
}
أي: أو الذين يتبعونكم، ويتعلقون بكم، من الرجال الذين لا إربة لهم في
هذه الشهوة، كالمعتوه الذي لا يدري ما هنالك، وكالعنين الذي لم يبق له
شهوة، لا في فرجه، ولا في قلبه، فإن هذا لا محذور من نظره.




{ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا
عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ
} أي: الأطفال الذين دون التمييز،
فإنه يجوز نظرهم للنساء الأجانب، وعلل تعالى ذلك، بأنهم لم يظهروا على
عورات النساء، أي: ليس لهم علم بذلك، ولا وجدت فيهم الشهوة بعد ودل هذا،
أن المميز تستتر منه المرأة، لأنه يظهر على عورات النساء.




{ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ
مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ
} أي: لا يضربن الأرض بأرجلهن،
ليصوت ما عليهن من حلي، كخلاخل وغيرها، فتعلم زينتها بسببه، فيكون وسيلة
إلى الفتنة.




ويؤخذ من هذا ونحوه، قاعدة سد الوسائل، وأن الأمر إذا كان مباحا، ولكنه
يفضي إلى محرم، أو يخاف من وقوعه، فإنه يمنع منه، فالضرب بالرجل في
الأرض، الأصل أنه مباح، ولكن لما كان وسيلة لعلم الزينة، منع منه.




ولما أمر تعالى بهذه الأوامر الحسنة، ووصى بالوصايا المستحسنة، وكان لا
بد من وقوع تقصير من المؤمن بذلك، أمر الله تعالى بالتوبة، فقال: {
وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ
} لأن
المؤمن يدعوه إيمانه إلى التوبة ثم علق على ذلك الفلاح، فقال: {
لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ
} فلا سبيل إلى الفلاح إلا بالتوبة، وهي
الرجوع مما يكرهه الله، ظاهرا وباطنا، إلى: ما يحبه ظاهرا وباطنا، ودل
هذا، أن كل مؤمن محتاج إلى التوبة، لأن الله خاطب المؤمنين جميعا، وفيه
الحث على الإخلاص بالتوبة في قوله: { وَتُوبُوا
إِلَى اللَّهِ
} أي: لا لمقصد غير وجهه، من سلامة من آفات الدنيا،
أو رياء وسمعة، أو نحو ذلك من المقاصد الفاسدة.




{ 32 - 33 } {
وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ
وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ
فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا
يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ
وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ
فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ
اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى
الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِههُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ
إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ
}




يأمر تعالى الأولياء والأسياد، بإنكاح من تحت ولايتهم من الأيامى وهم: من
لا أزواج لهم، من رجال، ونساء ثيب، وأبكار، فيجب على القريب وولي اليتيم،
أن يزوج من يحتاج للزواج، ممن تجب نفقته عليه، وإذا كانوا مأمورين بإنكاح
من تحت أيديهم، كان أمرهم بالنكاح بأنفسهم من باب أولى.




{ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ
وَإِمَائِكُمْ
} يحتمل أن المراد بالصالحين، صلاح الدين، وأن
الصالح من العبيد والإماء -وهو الذي لا يكون فاجرا زانيا- مأمور سيده
بإنكاحه، جزاء له على صلاحه، وترغيبا له فيه، ولأن الفاسد بالزنا، منهي
عن تزوجه، فيكون مؤيدا للمذكور في أول السورة، أن نكاح الزاني وام احمد عماد
محرم حتى يتوب، ويكون التخصيص بالصلاح في العبيد والإماء دون الأحرار،
لكثرة وجود ذلك في العبيد عادة، ويحتمل أن المراد بالصالحين الصالحون
للتزوج المحتاجون إليه من العبيد والإماء، يؤيد هذا المعنى، أن السيد
غير مأمور بتزويج مملوكه، قبل حاجته إلى الزواج. ولا يبعد إرادة المعنيين
كليهما، والله أعلم.




وقوله: { إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ }
أي: الأزواج والمتزوجين { يُغْنِهِمُ اللَّهُ
مِنْ فَضْلِهِ
} فلا يمنعكم ما تتوهمون، من أنه إذا تزوج، افتقر
بسبب كثرة العائلة ونحوه، وفيه حث على التزوج، ووعد للمتزوج بالغنى بعد
الفقر. { وَاللَّهُ وَاسِعٌ } كثير
الخير عظيم الفضل { عَلِيمٌ } بمن يستحق
فضله الديني والدنيوي أو أحدهما، ممن لا يستحق، فيعطي كلا ما علمه
واقتضاه حكمه.




{ وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ
نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ
} هذا حكم
العاجز عن النكاح، أمره الله أن يستعفف، أن يكف عن المحرم، ويفعل الأسباب
التي تكفه عنه، من صرف دواعي قلبه بالأفكار التي تخطر بإيقاعه فيه، ويفعل
أيضا، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: " يا معشر الشباب من استطاع
منكم الباءة فليتزوج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء " وقوله: {
الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا
} أي: لا يقدرون نكاحا، إما
لفقرهم أو فقر أوليائهم وأسيادهم، أو امتناعهم من ت

descriptionتفسيرالقران - صفحة 6 Emptyرد: تفسيرالقران

more_horiz
تابع
تفسير سورة النور عدد آياتها 64

(
آية
34-64

)

وهي مدنية






{ 34 } {
وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ
الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ
}




هذا تعظيم وتفخيم لهذه الآيات، التي تلاها على عباده، ليعرفوا قدرها،
ويقوموا بحقها فقال: { وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا
إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ
} أي: واضحات الدلالة، على كل أمر
تحتاجون إليه، من الأصول والفروع، بحيث لا يبقى فيها إشكال ولا شبهة، {
و
} أنزلنا إليكم أيضا { مثلا مِنَ
الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ
} من أخبار الأولين، الصالح
منهم والطالح، وصفة أعمالهم، وما جرى لهم وجرى عليهم تعتبرونه مثالا
ومعتبرا، لمن فعل مثل أفعالهم أن يجازى مثل ما جوزوا.




{ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ } أي:
وأنزلنا إليكم موعظة للمتقين، من الوعد والوعيد، والترغيب والترهيب، يتعظ
بها المتقون، فينكفون عما يكره الله إلى ما يحبه الله.




{ 35 } {
اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ
فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا
كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا
شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ
تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ
يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ
شَيْءٍ عَلِيمٌ
}




{ اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
} الحسي والمعنوي، وذلك أنه تعالى بذاته نور، وحجابه -الذي لولا
لطفه، لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه- نور، وبه استنار
العرش، والكرسي، والشمس، والقمر، والنور، وبه استنارت الجنة. وكذلك النور
المعنوي يرجع إلى الله، فكتابه نور، وشرعه نور، والإيمان والمعرفة في
قلوب رسله وعباده المؤمنين نور. فلولا نوره تعالى، لتراكمت الظلمات،
ولهذا: كل محل، يفقد نوره فثم الظلمة والحصر، {
مَثَلُ نُورِهِ
} الذي يهدي إليه، وهو نور الإيمان والقرآن في
قلوب المؤمنين، { كَمِشْكَاةٍ } أي: كوة
{ فِيهَا مِصْبَاحٌ } لأن الكوة تجمع
نور المصباح بحيث لا يتفرق ذلك { الْمِصْبَاحُ
فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ
} من صفائها وبهائها {
كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ
} أي: مضيء إضاءة الدر. {
يُوقَدُ
} ذلك المصباح، الذي في تلك الزجاجة الدرية {
مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ
} أي: يوقد من زيت الزيتون
الذي ناره من أنور ما يكون، { لَا شَرْقِيَّةٍ
} فقط، فلا تصيبها الشمس آخر النهار، {
وَلَا غَرْبِيَّةٍ
} فقط، فلا تصيبها الشمس [أول] النهار، وإذا
انتفى عنها الأمران، كانت متوسطة من الأرض، كزيتون الشام، تصيبها الشمس
أول النهار وآخره، فتحسن وتطيب، ويكون أصفى لزيتها، ولهذا قال: {
يَكَادُ زَيْتُهَا
} من صفائه { يُضِيءُ
وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ
} فإذا مسته النار، أضاء إضاءة
بليغة { نُورٌ عَلَى نُورٍ } أي: نور
النار، ونور الزيت.




ووجه هذا المثل الذي ضربه الله، وتطبيقه على حالة المؤمن، ونور الله في
قلبه، أن فطرته التي فطر عليها، بمنزلة الزيت الصافي، ففطرته صافية،
مستعدة للتعاليم الإلهية، والعمل المشروع، فإذا وصل إليه العلم والإيمان،
اشتعل ذلك النور في قلبه، بمنزلة اشتعال النار في فتيلة ذلك المصباح، وهو
صافي القلب من سوء القصد، وسوء الفهم عن الله، إذا وصل إليه الإيمان،
أضاء إضاءة عظيمة، لصفائه من الكدورات، وذلك بمنزلة صفاء الزجاجة الدرية،
فيجتمع له نور الفطرة، ونور الإيمان، ونور العلم، وصفاء المعرفة، نور على
نوره.




ولما كان هذا من نور الله تعالى، وليس كل أحد يصلح له ذلك، قال: {
يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ
} ممن يعلم زكاءه
وطهارته، وأنه يزكي معه وينمو. { وَيَضْرِبُ
اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ
} ليعقلوا عنه ويفهموا، لطفا منه
بهم، وإحسانا إليهم، وليتضح الحق من الباطل، فإن الأمثال تقرب المعاني
المعقولة من المحسوسة، فيعلمها العباد علما واضحا، {
وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ
} فعلمه محيط بجميع الأشياء،
فلتعلموا أن ضربه الأمثال، ضرب من يعلم حقائق الأشياء وتفاصيلها، وأنها
مصلحة للعباد، فليكن اشتغالكم بتدبرها وتعقلها، لا بالاعتراض عليها، ولا
بمعارضتها، فإنه يعلم وأنتم لا تعلمون.




ولما كان نور الإيمان والقرآن أكثر وقوع أسبابه في المساجد، ذكرها منوها
بها فقال:
{ 36 - 38 } {
فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ
يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ *رِجَالٌ لَا
تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ
الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ
الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا
عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ
بِغَيْرِ حِسَابٍ
}




أي: يتعبد لله { فِي بُيُوتٍ } عظيمة
فاضلة، هي أحب البقاع إليه، وهي المساجد. {
أَذِنَ اللَّهُ
} أي: أمر ووصى { أَنْ
تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ
} هذان مجموع أحكام المساجد،
فيدخل في رفعها، بناؤها، وكنسها، وتنظيفها من النجاسة والأذى، وصونها من
المجانين والصبيان الذين لا يتحرزون عن النجاسة، وعن الكافر، وأن تصان عن
اللغو فيها، ورفع الأصوات بغير ذكر الله.




{ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ } يدخل في
ذلك الصلاة كلها، فرضها، ونفلها، وقراءة القرآن، والتسبيح، والتهليل،
وغيره من أنواع الذكر، وتعلم العلم وتعليمه، والمذاكرة فيها، والاعتكاف،
وغير ذلك من العبادات التي تفعل في المساجد، ولهذا كانت عمارة المساجد
على قسمين: عمارة بنيان، وصيانة لها، وعمارة بذكر اسم الله، من الصلاة
وغيرها، وهذا أشرف القسمين، ولهذا شرعت الصلوات الخمس والجمعة في
المساجد، وجوبا عند أكثر العلماء، أو استحبابا عند آخرين. ثم مدح تعالى
عمارها بالعبادة فقال: { يُسَبِّحُ لَهُ
} إخلاصا { بِالْغُدُوِّ } أول النهار {
وَالْآصَالِ
} آخره { رِجَالٌ }
خص هذين الوقتين لشرفهما ولتيسر السير فيهما إلى الله وسهولته. ويدخل في
ذلك، التسبيح في الصلاة وغيرها، ولهذا شرعت أذكار الصباح والمساء
وأورادهما عند الصباح والمساء. أي: يسبح فيها الله، رجال، وأي: رجال،
ليسوا ممن يؤثر على ربه دنيا، ذات لذات، ولا تجارة ومكاسب، مشغلة عنه، {
لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ
} وهذا يشمل كل تكسب يقصد به العوض،
فيكون قوله: { وَلَا بَيْعٌ } من باب
عطف الخاص على العام، لكثرة الاشتغال بالبيع على غيره، فهؤلاء الرجال،
وإن اتجروا، وباعوا، واشتروا، فإن ذلك، لا محذور فيه. لكنه لا تلهيهم
تلك، بأن يقدموها ويؤثروها على { ذِكْرِ
اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ
} بل جعلوا
طاعة الله وعبادته غاية مرادهم، ونهاية مقصدهم، فما حال بينهم وبينها
رفضوه.




ولما كان ترك الدنيا شديدا على أكثر النفوس، وحب المكاسب بأنواع التجارات
محبوبا لها، ويشق عليها تركه في الغالب، وتتكلف من تقديم حق الله على
ذلك، ذكر ما يدعوها إلى ذلك -ترغيبا وترهيبا- فقال: {
يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ

} من شدة هوله وإزعاجه للقلوب والأبدان، فلذلك خافوا ذلك اليوم، فسهل
عليهم العمل، وترك ما يشغل عنه، {
لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا
} والمراد بأحسن ما
عملوا: أعمالهم الحسنة الصالحة، لأنها أحسن ما عملوا، لأنهم يعملون
المباحات وغيرها، فالثواب لا يكون إلا على العمل الحسن، كقوله تعالى: {
لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ
أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كَانُوا يَعْمَلُونَ
} {
وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ
} زيادة كثيرة عن الجزاء المقابل
لأعمالهم، { وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ
بِغَيْرِ حِسَابٍ
} بل يعطيه من الأجر ما لا يبلغه عمله، بل ولا
تبلغه أمنيته، ويعطيه من الأجر بلا عد ولا كيل، وهذا كناية عن كثرته جدا.




{ 39 - 40 } {
وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ
الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ
اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ *
أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ
مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا
أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ
نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ
}




هذان مثلان، ضربهما الله لأعمال الكفار في بطلانها وذهابها سدى وتحسر
عامليها منها فقال: { وَالَّذِينَ كَفَرُوا
} بربهم وكذبوا رسله { أَعْمَالُهُمْ
كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ
} أي: بقاع، لا شجر فيه ولا نبت.




{ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً } شديد
العطش، الذي يتوهم ما لا يتوهم غيره، بسبب ما معه من العطش، وهذا حسبان
باطل، فيقصده ليزيل ظمأه، { حَتَّى إِذَا
جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا
} فندم ندما شديدا، وازداد ما به
من الظمأ، بسبب انقطاع رجائه، كذلك أعمال الكفار، بمنزلة السراب، ترى
ويظنها الجاهل الذي لا يدري الأمور، أعمالا نافعة، فيغره صورتها، ويخلبه
خيالها، ويحسبها هو أيضا أعمالا نافعة لهواه، وهو أيضا محتاج إليها بل
مضطر إليها، كاحتياج الظمآن للماء، حتى إذ قدم على أعماله يوم الجزاء،
وجدها ضائعة، ولم يجدها شيئا، والحال إنه لم يذهب، لا له ولا عليه، بل {
وجد اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ
} لم يخف عليه من عمله
نقير ولا قطمير، ولن يعدم منه قليلا ولا كثيرا، {
وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ
} فلا يستبطئ الجاهلون ذلك الوعد،
فإنه لا بد من إتيانه، ومثلها الله بالسراب الذي بقيعة، أي: لا شجر فيه
ولا نبات، وهذا مثال لقلوبهم، لا خير فيها ولا بر، فتزكو فيها الأعمال
وذلك للسبب المانع، وهو الكفر.




والمثل الثاني، لبطلان أعمال الكفار {
كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ
} بعيد قعره، طويل مداه {
يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ
بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ
} ظلمة البحر اللجي، ثم فوقه ظلمة
الأمواج المتراكمة، ثم فوق ذلك، ظلمة السحب المدلهمة، ثم فوق ذلك ظلمة
الليل البهيم، فاشتدت الظلمة جدا، بحيث أن الكائن في تلك الحال {
إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا
} مع قربها إليه،
فكيف بغيرها، كذلك الكفار، تراكمت على قلوبهم الظلمات، ظلمة الطبيعة،
التي لا خير فيها، وفوقها ظلمة الكفر، وفوق ذلك، ظلمة الجهل، وفوق ذلك،
ظلمة الأعمال الصادرة عما ذكر، فبقوا في الظلمة متحيرين، وفي غمرتهم
يعمهون، وعن الصراط المستقيم مدبرين، وفي طرق الغي والضلال يترددون، وهذا
لأن الله تعالى خذلهم، فلم يعطهم من نوره، {
وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ

} لأن نفسه ظالمة جاهلة، فليس فيها من الخير والنور، إلا ما أعطاها
مولاها، ومنحها ربها. يحتمل أن هذين المثالين، لأعمال جميع الكفار، كل
منهما، منطبق عليها، وعددهما لتعدد الأوصاف، ويحتمل أن كل مثال، لطائفة
وفرقة. فالأول، للمتبوعين، والثاني، للتابعين، والله أعلم.




{ 41 - 42 } {
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ
وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ * وَلِلَّهِ مُلْكُ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ
}





نبه تعالى عباده على عظمته، وكمال سلطانه، وافتقار جميع المخلوقات له في
ربوبيتها، وعبادتها فقال: { أَلَمْ تَرَ أَنَّ
اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
} من
حيوان وجماد { وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ }
أي: صافات أجنحتها، في جو السماء، تسبح ربها. {
كُلٌّ
} من هذه المخلوقات { قَدْ عَلِمَ
صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ
} أي: كل له صلاة وعبادة بحسب حاله
اللائقة به، وقد ألهمه الله تلك الصلاة والتسبيح، إما بواسطة الرسل،
كالجن والإنس والملائكة، وإما بإلهام منه تعالى، كسائر المخلوقات غير
ذلك، وهذا الاحتمال أرجح، بدليل قوله: {
وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ
} أي: علم جميع أفعالها، فلم
يخف عليه منها شيء، وسيجازيهم بذلك، فيكون على هذا، قد جمع بين علمه
بأعمالها، وذلك بتعليمه، وبين علمه بأعمالهم المتضمن للجزاء.




ويحتمل أن الضمير في قوله: { قَدْ عَلِمَ
صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ
} يعود إلى الله، وأن الله تعالى قد علم
عباداتهم، وإن لم تعلموا -أيها العباد- منها، إلا ما أطلعكم الله عليه.
وهذه الآية كقوله تعالى: { تُسَبِّحُ لَهُ
السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ
إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ
إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا
} فلما بين عبوديتهم وافتقارهم
إليه -من جهة العبادة والتوحيد- بين افتقارهم، من جهة الملك والتربية
والتدبير فقال: { وَلِلَّهِ مُلْكُ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
} خالقهما ورازقهما، والمتصرف فيهما،
في حكمه الشرعي [والقدري] في هذه الدار، وفي حكمه الجزائي، بدار القرار،
بدليل قوله: { وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ
} أي: مرجع الخلق ومآلهم، ليجازيهم بأعمالهم.




{ 43 - 44 } {
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ
ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ
وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ
بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا
بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ *يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ
وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ }





أي: ألم تشاهد ببصرك، عظيم قدرة الله، وكيف {
يُزْجِي }
أي: يسوق { سَحَابًا }
قطعا متفرقة { ثُمَّ يُؤَلِّفُ } بين
تلك القطع، فيجعله سحابا متراكما، مثل الجبال.




{ فَتَرَى الْوَدْقَ }

أي: الوابل والمطر، يخرج من خلال السحاب، نقطا متفرقة، ليحصل بها
الانتفاع من دون ضرر، فتمتلئ بذلك الغدران، وتتدفق الخلجان، وتسيل
الأودية، وتنبت الأرض من كل زوج كريم، وتارة ينزل الله من ذلك السحاب
بردا يتلف ما يصيبه.




{ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ }

بحسب ما اقتضاه حكمه القدري، وحكمته التي يحمد عليها،
{ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ } أي: يكاد
ضوء برق ذلك السحاب، من شدته { يَذْهَبُ
بِالْأَبْصَارِ }
أليس الذي أنشأها وساقها لعباده المفتقرين،
وأنزلها على وجه يحصل به النفع وينتفي به الضرر، كامل القدرة، نافذ
المشيئة، واسع الرحمة؟.




{ يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ }

من حر إلى برد، ومن برد إلى حر، من ليل إلى نهار، ومن نهار إلى ليل،
ويديل الأيام بين عباده، { إِنَّ فِي ذَلِكَ
لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ }
أي: لذوي البصائر، والعقول
النافذة للأمور المطلوبة منها، كما تنفذ الأبصار إلى الأمور المشاهدة
الحسية. فالبصير ينظر إلى هذه المخلوقات نظر اعتبار وتفكر وتدبر لما أريد
بها ومنها، والمعرض الجاهل نظره إليها نظر غفلة، بمنزلة نظر البهائم.





{ 45 } { وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ
مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي
عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ
اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }









ينبه عباده على ما يشاهدونه، أنه خلق جميع الدواب التي على وجه الأرض،
{ مِنْ مَاءٍ } أي: مادتها كلها الماء،
كما قال تعالى: { وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ
كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ }




فالحيوانات التي تتوالد، مادتها ماء النطفة، حين يلقح الذكر الأنثى.
والحيوانات التي تتولد من الأرض، لا تتولد إلا من الرطوبات المائية،
كالحشرات لا يوجد منها شيء، يتولد من غير ماء أبدا، فالمادة واحدة، ولكن
الخلقة مختلفة من وجوه كثيرة، { فَمِنْهُمْ
مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ }
كالحية ونحوها،
{ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ }
كالآدميين، وكثير من الطيور، { وَمِنْهُمْ مَنْ
يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ }
كبهيمة الأنعام ونحوها. فاختلافها -مع
أن الأصل واحد- يدل على نفوذ مشيئة الله، وعموم قدرته، ولهذا قال:
{ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ } أي:
من المخلوقات، على ما يشاؤه من الصفات، { إِنَّ
اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }
كما أنزل المطر على الأرض،
وهو لقاح واحد، والأم واحدة، وهي الأرض، والأولاد مختلفو الأصناف
والأوصاف { وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ
مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ
وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى
بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ }






{ 46 } { لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ
مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ
}








أي: لقد رحمنا عبادنا، وأنزلنا إليهم آيات بينات، أي: واضحات الدلالة،
على جميع المقاصد الشرعية، والآداب المحمودة، والمعارف الرشيدة، فاتضحت
بذلك السبل، وتبين الرشد من الغي، والهدى من الضلال، فلم يبق أدنى شبهة
لمبطل يتعلق بها، ولا أدنى إشكال لمريد الصواب، لأنها تنزيل من كمل علمه،
وكملت رحمته، وكمل بيانه، فليس بعد بيانه بيان
{ لِيَهْلِكَ }
بعد ذلك { مَنْ هَلَكَ
عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ }

{ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ } ممن
سبقت لهم سابقة الحسنى، وقدم الصدق، { إِلَى
صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ }
أي: طريق واضح مختصر، موصل إليه، وإلى دار
كرامته، متضمن العلم بالحق وإيثاره والعمل به. عمم البيان التام لجميع
الخلق، وخصص بالهداية من يشاء، فهذا فضله وإحسانه، وما فضل الكريم بممنون
وذاك عدله، وقطع الحجة للمحتج، والله أعلم حيث يجعل مواقع إحسانه.





{ 47 - 50 } { وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ
وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ
بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ * وَإِذَا دُعُوا إِلَى
اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ
مُعْرِضُونَ * وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ
مُذْعِنِينَ * أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ
أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ
الظَّالِمُونَ }








يخبر تعالى عن حالة الظالمين، ممن في قلبه مرض وضعف إيمان، أو نفاق وريب
وضعف علم، أنهم يقولون بألسنتهم، ويلتزمون الإيمان بالله والطاعة، ثم لا
يقومون بما قالوا، ويتولى فريق منهم عن الطاعة توليا عظيما، بدليل قوله:
{ وَهُمْ مُعْرِضُونَ } فإن المتولي، قد
يكون له نية عود ورجوع إلى ما تولى عنه، وهذا المتولي معرض، لا التفات
له، ولا نظر لما تولى عنه، وتجد هذه الحالة مطابقة لحال كثير ممن يدعي
الإيمان والطاعة لله وهو ضعيف الإيمان، وتجده لا يقوم بكثير من العبادات،
خصوصا: العبادات التي تشق على كثير من النفوس، كالزكوات، والنفقات
الواجبة والمستحبة، والجهاد في سبيل الله، ونحو ذلك.




{ وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ }

أي: إذا صار بينهم وبين أحد حكومة، ودعوا إلى حكم الله ورسوله
{ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ }
يريدون أحكام الجاهلية، ويفضلون أحكام القوانين غير الشرعية على الأحكام
الشرعية، لعلمهم أن الحق عليهم، وأن الشرع لا يحكم إلا بما يطابق الواقع،
{ وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا
إِلَيْهِ }
أي: إلى حكم الشرع {
مُذْعِنِينَ }
وليس ذلك لأجل أنه حكم شرعي، وإنما ذلك لأجل موافقة
أهوائهم، فليسوا ممدوحين في هذه الحال، ولو أتوا إليه مذعنين، لأن العبد
حقيقة، من يتبع الحق فيما يحب ويكره، وفيما يسره ويحزنه، وأما الذي يتبع
الشرع عند موافقة هواه، وينبذه عند مخالفته، ويقدم الهوى على الشرع، فليس
بعبد على الحقيقة، قال الله في لومهم على الإعراض عن الحكم الشرعي:
{ أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ } أي: علة،
أخرجت القلب عن صحته وأزالت حاسته، فصار بمنزلة المريض، الذي يعرض عما
ينفعه، ويقبل على ما يضره،




{ أَمِ ارْتَابُوا }

أي: شكوا، وقلقت قلوبهم من حكم الله ورسوله، واتهموه أنه لا يحكم بالحق،
{ أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ
عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ }
أي: يحكم عليهم حكما ظالما جائرا، وإنما
هذا وصفهم { بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ
}




وأما حكم الله ورسوله، ففي غاية العدالة والقسط، وموافقة الحكمة.
{ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا
لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ }
وفي هذه الآيات، دليل على أن الإيمان، ليس
هو مجرد القول حتى يقترن به العمل، ولهذا نفى الإيمان عمن تولى عن
الطاعة، ووجوب الانقياد لحكم الله ورسوله في كل حال، وأن من ينقد له دل
على مرض في قلبه، وريب في إيمانه، وأنه يحرم إساءة الظن بأحكام الشريعة،
وأن يظن بها خلاف العدل والحكمة.




ولما ذكر حالة المعرضين عن الحكم الشرعي، ذكر حالة المؤمنين الممدوحين،
فقال:





{ 51 - 52 } { إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ
الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ
بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ
الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ
وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ }








أي: { إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ }
حقيقة، الذين صدقوا إيمانهم بأعمالهم حين يدعون إلى الله ورسوله ليحكم
بينهم، سواء وافق أهواءهم أو خالفها، { أَنْ
يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا }
أي: سمعنا حكم الله ورسوله،
وأجبنا من دعانا إليه، وأطعنا طاعة تامة، سالمة من الحرج.




{ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }

حصر الفلاح فيهم، لأن الفلاح: الفوز بالمطلوب، والنجاة من المكروه، ولا
يفلح إلا من حكم الله ورسوله، وأطاع الله ورسوله. ولما ذكر فضل الطاعة في
الحكم خصوصا، ذكر فضلها عموما، في جميع الأحوال، فقال:
{ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ }
فيصدق خبرهما ويمتثل أمرهما، { وَيَخْشَ
اللَّهَ }
أي: يخافه خوفا مقرونا بمعرفة، فيترك ما نهى عنه، ويكف
نفسه عما تهوى، ولهذا قال: { وَيَتَّقْهِ }
بترك المحظور، لأن التقوى -عند الإطلاق- يدخل فيها، فعل المأمور، وترك
المنهي عنه، وعند اقترانها بالبر أو الطاعة - كما في هذا الموضع - تفسر
بتوقي عذاب الله، بترك معاصيه، { فَأُولَئِكَ }
الذين جمعوا بين طاعة الله وطاعة رسوله، وخشية الله وتقواه،
{ هُمُ الْفَائِزُونَ } بنجاتهم من
العذاب، لتركهم أسبابه، ووصولهم إلى الثواب، لفعلهم أسبابه، فالفوز محصور
فيهم، وأما من لم يتصف بوصفهم، فإنه يفوته من الفوز بحسب ما قصر عنه من
هذه الأوصاف الحميدة، واشتملت هذه الآية، على الحق المشترك بين الله وبين
رسوله، وهو: الطاعة المستلزمة للإيمان، والحق المختص بالله، وهو: الخشية
والتقوى، وبقي الحق الثالث المختص بالرسول، وهو التعزير والتوقير، كما
جمع بين الحقوق الثلاثة في سورة الفتح في قوله:
{ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ
وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا }





{ 53 - 54 } { وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ
أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا
طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * قُلْ
أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا
عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ
تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ }





يخبر تعالى عن حالة المتخلفين عن الرسول صلى الله عليه وسلم في الجهاد من
المنافقين، ومن في قلوبهم مرض وضعف إيمان أنهم يقسمون بالله،
{ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ ْ} فيما يستقبل،
أو لئن نصصت عليهم حين خرجت { لَيَخْرُجُنَّ ْ}
والمعنى الأول أولى. قال الله -رادا عليهم-: {
قُلْ لَا تُقْسِمُوا ْ}
أي: لا نحتاج إلى إقسامكم ولا إلى
أعذاركم، فإن الله قد نبأنا من أخباركم، وطاعتكم معروفة، لا تخفى علينا،
قد كنا نعرف منكم التثاقل والكسل من غير عذر، فلا وجه لعذركم وقسمكم،
إنما يحتاج إلى ذلك، من كان أمره محتملا، وحاله مشتبهة، فهذا ربما يفيده
العذر براءة، وأما أنتم فكلا ولما، وإنما ينتظر بكم ويخاف عليكم حلول بأس
الله ونقمته، ولهذا توعدهم بقوله: { إِنَّ
اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ْ}
فيجازيكم عليها أتم الجزاء،
هذه حالهم في نفس الأمر، وأما الرسول عليه الصلاة والسلام، فوظيفته أن
يأمركم وينهاكم، ولهذا قال: { قُلْ أَطِيعُوا
اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ ْ}
امتثلوا، كان حظكم
وسعادتكم وإن { تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا
عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ ْ}
من الرسالة، وقد أداها.




{ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ ْ}

من الطاعة، وقد بانت حالكم وظهرت، فبان ضلالكم وغيكم واستحقاقكم العذاب.
{ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا ْ} إلى
الصراط المستقيم، قولا وعملا، فلا سبيل لكم إلى الهداية إلا بطاعته،
وبدون ذلك، لا يمكن، بل هو محال.




{ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ْ}

أي: تبليغكم البين الذي لا يبقي لأحد شكا ولا شبهة، وقد فعل صلى الله
عليه وسلم، بلغ البلاغ المبين، وإنما الذي يحاسبكم ويجازيكم هو الله
تعالى، فالرسول ليس له من الأمر شيء، وقد قام بوظيفته.





{ 55 } { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا
مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ
كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ
دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ
خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ
كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ }









هذا من أوعاده الصادقة، التي شوهد تأويلها ومخبرها، فإنه وعد من قام
بالإيمان والعمل الصالح من هذه الأمة، أن يستخلفهم في الأرض، يكونون هم
الخلفاء فيها، المتصرفين في تدبيرها، وأنه يمكن لهم دينهم الذي ارتضى
لهم، وهو دين الإسلام، الذي فاق الأديان كلها، ارتضاه لهذه الأمة، لفضلها
وشرفها ونعمته عليها، بأن يتمكنوا من إقامته، وإقامة شرائعه الظاهرة
والباطنة، في أنفسهم وفي غيرهم، لكون غيرهم من أهل الأديان وسائر الكفار
مغلوبين ذليلين، وأنه يبدلهم من بعد خوفهم الذي كان الواحد منهم لا يتمكن
من إظهار دينه، وما هو عليه إلا بأذى كثير من الكفار، وكون جماعة
المسلمين قليلين جدا بالنسبة إلى غيرهم، وقد رماهم أهل الأرض عن قوس
واحدة، وبغوا لهم الغوائل.




فوعدهم الله هذه الأمور وقت نزول الآية، وهي لم تشاهد الاستخلاف في الأرض
والتمكين فيها، والتمكين من إقامة الدين الإسلامي، والأمن التام، بحيث
يعبدون الله ولا يشركون به شيئا، ولا يخافون أحدا إلا الله، فقام صدر هذه
الأمة، من الإيمان والعمل الصالح بما يفوقون على غيرهم، فمكنهم من البلاد
والعباد، وفتحت مشارق الأرض ومغاربها، وحصل الأمن التام والتمكين التام،
فهذا من آيات الله العجيبة الباهرة، ولا يزال الأمر إلى قيام الساعة،
مهما قاموا بالإيمان والعمل الصالح، فلا بد أن يوجد ما وعدهم الله، وإنما
يسلط عليهم الكفار والمنافقين، ويديلهم في بعض الأحيان، بسبب إخلال
المسلمين بالإيمان والعمل الصالح.




{ وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ ْ}

التمكين والسلطنة التامة لكم، يا معشر المسلمين،
{ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ْ}
الذين خرجوا عن طاعة الله، وفسدوا، فلم يصلحوا لصالح، ولم يكن فيهم أهلية
للخير، لأن الذي يترك الإيمان في حال عزه وقهره، وعدم وجود الأسباب
المانعة منه، يدل على فساد نيته، وخبث طويته، لأنه لا داعي له لترك الدين
إلا ذلك. ودلت هذه الآية، أن الله قد مكن من قبلنا، واستخلفهم في الأرض،
كما قال موسى لقومه: { وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي
الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ْ}
وقال تعالى:
{ وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ
اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ
الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ }





{ 56 - 57 } { وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا
الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ * لَا
تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ
النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ }




يأمر تعالى بإقامة الصلاة، بأركانها وشروطها وآدابها، ظاهرا وباطنا،
وبإيتاء الزكاة من الأموال التي استخلف الله عليها العباد، وأعطاهم
إياها، بأن يؤتوها الفقراء وغيرهم، ممن ذكرهم الله لمصرف الزكاة، فهذان
أكبر الطاعات وأجلهما، جامعتان لحقه وحق خلقه، للإخلاص للمعبود، وللإحسان
إلى العبيد، ثم عطف عليهما الأمر العام، فقال:
{ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ْ}
وذلك بامتثال أوامره واجتناب نواهيه
{ مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ
اللَّهَ } { لَعَلَّكُمْ }
حين تقومون بذلك
{ تُرْحَمُونَ } فمن أراد الرحمة، فهذا
طريقها، ومن رجاها من دون إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وإطاعة الرسول،
فهو متمن كاذب، وقد منته نفسه الأماني الكاذبة.




{ لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ }


فلا يغررك ما متعوا به في الحياة الدنيا، فإن الله، وإن أمهلهم فإنه لا
يهملهم { نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ
نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ }




ولهذا قال هنا: { وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ
وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ }
أي: بئس المآل، مآل الكافرين، مآل الشر
والحسرة والعقوبة الأبدية.





{ 58 } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ
مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ
ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ
ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ
عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ
بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ
يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ }





أمر المؤمنين أن يستأذنهم مماليكهم، والذين لم يبلغوا الحلم منهم. قد ذكر
الله حكمته وأنه ثلاث عورات للمستأذن عليهم، وقت نومهم بالليل بعد
العشاء، وعند انتباههم قبل صلاة الفجر، فهذا -في الغالب- أن النائم
يستعمل للنوم في الليل ثوبا غير ثوبه المعتاد، وأما نوم النهار، فلما كان
في الغالب قليلا، قد ينام فيه العبد بثيابه المعتادة، قيده بقوله:
{ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ
الظَّهِيرَةِ }
أي: للقائلة، وسط النهار.




ففي ثلاثة هذه الأحوال، يكون المماليك والأولاد الصغار كغيرهم، لا يمكنون
من الدخول إلا بإذن، وأما ما عدا هذه الأحوال الثلاثة فقال:
{ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ }
أي:
ليسوا كغيرهم، فإنهم يحتاج إليهم دائما، فيشق الاستئذان منهم في كل وقت،
ولهذا قال: { طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ
بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ }
أي: يترددون عليكم في قضاء أشغالكم
وحوائجكم.




{ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ }

بيانا مقرونا بحكمته، ليتأكد ويتقوى ويعرف به رحمة شارعه وحكمته، ولهذا
قال: { وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ْ} له
العلم المحيط بالواجبات والمستحيلات والممكنات، والحكمة التي وضعت كل شيء
موضعه، فأعطى كل مخلوق خلقه اللائق به، وأعطى كل حكم شرعي حكمه اللائق
به، ومنه هذه الأحكام التي بينها وبين مآخذها وحسنها.




{ 59 ْ} { وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ ْ}





وهو إنزال المني يقظة أو مناما، {
فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ْ}

أي: في سائر الأوقات، والذين من قبلهم، هم الذين ذكرهم الله بقوله:
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا
تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا ْ}

الآية.




{ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ الآيَاتِ ْ}

ويوضحها، ويفصل أحكامها { وَاللَّهُ عَلِيمٌ
حَكِيمٌ ْ}




وفي هاتين الآيتين فوائد، منها: أن السيد وولي الصغير، مخاطبان بتعليم
عبيدهم ومن تحت ولايتهم من الأولاد، العلم والآداب الشرعية، لأن الله وجه
الخطاب إليهم بقوله: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ
وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ ْ}
الآية، ولا يمكن ذلك،
إلا بالتعليم والتأديب، ولقوله: { لَيْسَ
عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ ْ}




ومنها: الأمر بحفظ العورات، والاحتياط لذلك من كل وجه، وأن المحل
والمكان، الذي هو مظنة لرؤية عورة الإنسان فيه، أنه منهي عن الاغتسال فيه
والاستنجاء، ونحو ذلك.




ومنها: جواز كشف العورة لحاجة، كالحاجة عند النوم، وعند البول والغائط،
ونحو ذلك.




ومنها: أن المسلمين كانوا معتادين للقيلولة وسط النهار، كما اعتادوا نوم
الليل، لأن الله خاطبهم ببيان حالهم الموجودة.




ومنها: أن الصغير الذي دون البلوغ، لا يجوز أن يمكن من رؤية العورة، ولا
يجوز أن ترى عورته، لأن الله لم يأمر باستئذانهم، إلا عن أمر ما يجوز.




ومنها: أن المملوك أيضا، لا يجوز أن يرى عورة سيده، كما أن سيده لا يجوز
أن يرى عورته، كما ذكرنا في الصغير.




ومنها: أنه ينبغي للواعظ والمعلم ونحوهم، ممن يتكلم في مسائل العلم
الشرعي، أن يقرن بالحكم، بيان مأخذه ووجهه، ولا يلقيه مجردا عن الدليل
والتعليل، لأن الله - لما بين الحكم المذكور- علله بقوله:
{ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ ْ}





ومنها: أن الصغير والعبد، مخاطبان، كما أن وليهما مخاطب لقوله:
{ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ
بَعْدَهُنَّ ْ}


descriptionتفسيرالقران - صفحة 6 Emptyرد: تفسيرالقران

more_horiz


الجزء
الثامن عشر




تفسير سورة

المؤمنون

عدد آياتها 118

(



آية


1-30

)

وهي مكية








{ 1 - 11 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَدْ أَفْلَحَ
الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ *
وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ
لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ *
إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ
غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ
الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ
* وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولَئِكَ هُمُ
الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا
خَالِدُونَ }



هذا تنويه من الله، بذكر عباده المؤمنين، وذكر فلاحهم وسعادتهم، وبأي:
شيء وصلوا إلى ذلك، وفي ضمن ذلك، الحث على الاتصاف بصفاتهم، والترغيب
فيها. فليزن العبد نفسه وغيره على هذه الآيات، يعرف بذلك ما معه وما مع
غيره من الإيمان، زيادة ونقصا، كثرة وقلة، فقوله
{ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ } أي:
قد فازوا وسعدوا ونجحوا، وأدركوا كل ما يرام المؤمنون الذين آمنوا بالله
وصدقوا المرسلين الذين من صفاتهم الكاملة أنهم
{ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ }




والخشوع في الصلاة: هو حضور القلب بين يدي الله تعالى، مستحضرا لقربه،
فيسكن لذلك قلبه، وتطمئن نفسه، وتسكن حركاته، ويقل التفاته، متأدبا بين
يدي ربه، مستحضرا جميع ما يقوله ويفعله في صلاته، من أول صلاته إلى
آخرها، فتنتفي بذلك الوساوس والأفكار الردية، وهذا روح الصلاة، والمقصود
منها، وهو الذي يكتب للعبد، فالصلاة التي لا خشوع فيها ولا حضور قلب، وإن
كانت مجزئة مثابا عليها، فإن الثواب على حسب ما يعقل القلب منها.




{ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ }

وهو الكلام الذي لا خير فيه ولا فائدة، {
مُعْرِضُونَ }
رغبة عنه، وتنزيها لأنفسهم، وترفعا عنه، وإذا مروا
باللغو مروا كراما، وإذا كانوا معرضين عن اللغو، فإعراضهم عن المحرم من
باب أولى وأحرى، وإذا ملك العبد لسانه وخزنه -إلا في الخير- كان مالكا
لأمره، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل حين وصاه بوصايا
قال: " ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ " قلت: بلى يا رسول الله، فأخذ بلسان
نفسه وقال: " كف عليك هذا " فالمؤمنون من صفاتهم الحميدة، كف ألسنتهم عن
اللغو والمحرمات.




{ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ }

أي مؤدون لزكاة أموالهم، على اختلاف أجناس الأموال، مزكين لأنفسهم من
أدناس الأخلاق ومساوئ الأعمال التي تزكو النفس بتركها وتجنبها، فأحسنوا
في عبادة الخالق، في الخشوع في الصلاة، وأحسنوا إلى خلقه بأداء الزكاة.




{ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ }

عن الزنا، ومن تمام حفظها تجنب ما يدعو إلى ذلك، كالنظر واللمس ونحوهما.
فحفظوا فروجهم من كل أحد { إِلَّا عَلَى
أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ }
من الإماء
المملوكات { فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ }
بقربهما، لأن الله تعالى أحلهما.




{ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ }

غير الزوجة والسرية { فَأُولَئِكَ هُمُ
الْعَادُونَ }
الذين تعدوا ما أحل الله إلى ما حرمه، المتجرئون
على محارم الله. وعموم هذه الآية، يدل على تحريم نكاح المتعة، فإنها ليست
زوجة حقيقة مقصودا بقاؤها، ولا مملوكة، وتحريم نكاح المحلل لذلك.




ويدل قوله { أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ }
أنه يشترط في حل المملوكة أن تكون كلها في ملكه، فلو كان له بعضها لم
تحل، لأنها ليست مما ملكت يمينه، بل هي ملك له ولغيره، فكما أنه لا يجوز
أن يشترك في المرأة الحرة زوجان، فلا يجوز أن يشترك في الأمة المملوكة
سيدان.




{ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ }

أي: مراعون لها، ضابطون، حافظون، حريصون على القيام بها وتنفيذها، وهذا
عام في جميع الأمانات التي هي حق لله، والتي هي حق للعباد، قال تعالى:
{ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا
وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ }
فجميع ما أوجبه
الله على عبده أمانة، على العبد حفظها بالقيام التام بها، وكذلك يدخل في
ذلك أمانات الآدميين، كأمانات الأموال والأسرار ونحوهما، فعلى العبد
مراعاة الأمرين، وأداء الأمانتين { إِنَّ
اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا }





وكذلك العهد، يشمل العهد الذي بينهم وبين ربهم والذي بينهم وبين العباد،
وهي الالتزامات والعقود، التي يعقدها العبد، فعليه مراعاتها والوفاء بها،
ويحرم عليه التفريط فيها وإهمالها ، {
وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ }
أي: يداومون
عليها في أوقاتها وحدودها وأشراطها وأركانها، فمدحهم بالخشوع بالصلاة،
وبالمحافظة عليها، لأنه لا يتم أمرهم إلا بالأمرين، فمن يداوم على الصلاة
من غير خشوع، أو على الخشوع من دون محافظة عليها، فإنه مذموم ناقص.




{ أُولَئِكَ }

الموصوفون بتلك الصفات { هم الْوَارِثُونَ*
الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ }
الذي هو أعلى الجنة ووسطها
وأفضلها، لأنهم حلوا من صفات الخير أعلاها وذروتها، أو المراد بذلك جميع
الجنة، ليدخل بذلك عموم المؤمنين، على درجاتهم و مراتبهم كل بحسب حاله،
{ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } لا يظعنون
عنها، ولا يبغون عنها حولا لاشتمالها على أكمل النعيم وأفضله وأتمه، من
غير مكدر ولا منغص.





{ 12 - 16 } { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ
مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ
مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ
مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ
لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ
الْخَالِقِينَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ
إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ }




ذكر الله في هذه الآيات أطوار الآدمي وتنقلاته، من ابتداء خلقه إلى آخر
ما يصير إليه، فذكر ابتداء خلق أبي النوع البشري آدم عليه السلام، وأنه
{ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ } أي: قد
سلت، وأخذت من جميع الأرض، ولذلك جاء بنوه على قدر الأرض، منهم الطيب
والخبيث، وبين ذلك، والسهل والحزن، وبين ذلك.




{ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ }

أي: جنس الآدميين { نُطْفَةً } تخرج من
بين الصلب والترائب، فتستقر { فِي قَرَارٍ
مَكِينٍ }
وهو الرحم، محفوظة من الفساد والريح وغير ذلك.




{ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ }

التي قد استقرت قبل { عَلَقَةً } أي:
دما أحمر، بعد مضي أربعين يوما من النطفة، {
فخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ }
بعد أربعين يوما
{ مُضْغَةً } أي: قطعة لحم صغيرة، بقدر
ما يمضغ من صغرها.




{ فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ }

اللينة { عِظَامًا } صلبة، قد تخللت
اللحم، بحسب حاجة البدن إليها، { فَكَسَوْنَا
الْعِظَامَ لَحْمًا }
أي: جعلنا اللحم، كسوة للعظام، كما جعلنا
العظام، عمادا للحم، وذلك في الأربعين الثالثة،
{ ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ }
نفخ فيه الروح، فانتقل من
كونه جمادا، إلى أن صار حيوانا، { فَتَبَارَكَ
اللَّهُ }
أي: تعالى وتعاظم وكثر خيره {
أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ }
{ الذي أحسن
كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين
ثم سواه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما
تشكرون }
فخلقه كله حسن، والإنسان من أحسن مخلوقاته، بل هو أحسنها
على الإطلاق، كما قال تعالى: { لَقَدْ
خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ }
ولهذا كان خواصه
أفضل المخلوقات وأكملها.




{ ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ }

الخلق، ونفخ الروح { لَمَيِّتُونَ } في
أحد أطواركم وتنقلاتكم { ثُمَّ إِنَّكُمْ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ }
فتجازون بأعمالكم، حسنها
وسيئها. قال تعالى: { أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ
أَنْ يُتْرَكَ سُدًى* أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى* ثُمَّ
كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى* فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ
الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى* أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ
الْمَوْتَى }





{ 17 - 20 } { وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ
سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ *
وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي
الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ * فَأَنْشَأْنَا
لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ
كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ
سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ }





لما ذكر تعالى خلق الآدمي، ذكر سكنه، وتوفر النعم عليه من كل وجه فقال:
{ وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ } سقفا
للبلاد، ومصلحة للعباد { سَبْعَ طَرَائِقَ }
أي: سبع سماوات طباقا، كل طبقة فوق الأخرى، قد زينت بالنجوم والشمس
والقمر، وأودع فيها من مصالح الخلق ما أودع، {
وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ }
فكما أن خلقنا عام لكل
مخلوق، فعلمنا أيضا محيط بما خلقنا، فلا نغفل مخلوقا ولا ننساه، ولا نخلق
خلقا فنضيعه, ولا نغفل عن السماء فتقع على الأرض، ولا ننسى ذرة في لجج
البحار وجوانب الفلوات، ولا دابة إلا سقنا إليها رزقها
{ وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا
عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا }

وكثيرا ما يقرن تعالى بين خلقه وعلمه كقوله: {
أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ }

{ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ }
لأن خلق المخلوقات، من أقوى الأدلة العقلية، على علم خالقها وحكمته.




{ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً }

يكون رزقا لكم ولأنعامكم بقدر ما يكفيكم، فلا ينقصه، بحيث لا يكفي الأرض
والأشجار، فلا يحصل منه المقصود، ولا يزيده زيادة لا تحتمل، بحيث يتلف
المساكن، ولا تعيش معه النباتات والأشجار، بل أنزله وقت الحاجة لنزوله ثم
صرفه عند التضرر من دوامه، { فَأَسْكَنَّاهُ
فِي الْأَرْضِ }
أي: أنزلناه عليها، فسكن واستقر، وأخرج بقدرة
منزله، جميع الأزواج النباتية، وأسكنه أيضا معدا في خزائن الأرض، بحيث لم
يذهب نازلا، حتى لا يوصل إليه، ولا يبلغ قعره،
{ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ }
إما بأن لا ننزله،
أو ننزله، فيذهب نازلا لا يوصل إليه، أو لا يوجد منه المقصود منه، وهذا
تنبيه منه لعباده أن يشكروه على نعمته، ويقدروا عدمها، ماذا يحصل به من
الضرر، كقوله تعالى: { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ
أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ }





{ فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ }

أي: بذلك الماء { جَنَّاتٍ } أي: بساتين
{ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ } خص تعالى
هذين النوعين، مع أنه ينشئ منه غيرهما من الأشجار، لفضلهما ومنافعهما،
التي فاقت بها الأشجار، ولهذا ذكر العام في قوله:
{ لَكُمُ فيها } أي: في تلك الجنات
{ فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ }
من تين، وأترج، ورمان، وتفاح وغيرها ، {
وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ }
وهي شجرة الزيتون،
أي: جنسها، خصت بالذكر، لأن مكانها خاص في أرض الشام، ولمنافعها، التي
ذكر بعضها في قوله: { تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ
وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ }
أي: فيها الزيت، الذي هو دهن، يستعمل
استعماله من الاستصباح به، واصطباغ الآكلين، أي: يجعل إداما للآكلين،
وغير ذلك من المنافع.





{ 21 - 22 } { وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ
لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ
كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ
تُحْمَلُونَ }




أي: ومن نعمه عليكم، أن سخر لكم الأنعام، الإبل والبقر، والغنم، فيها
عبرة للمعتبرين، ومنافع للمنتفعين {
نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا }
من لبن، يخرج من بين فرث
ودم، خالص سائغ للشاربين، { وَلَكُمْ فِيهَا
مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ }
من أصوافها، وأوبارها، وأشعارها، وجعل لكم
من جلود الأنعام بيوتا تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم
{ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ } أفضل المآكل
من لحم وشحم.




{ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ }

أي: جعلها سفنا لكم في البر، تحملون عليها أثقالكم إلى بلد لم تكونوا
بالغيه إلا بشق الأنفس، كما جعل لكم السفن في البحر تحملكم، وتحمل
متاعكم، قليلا [كان] أو كثيرا، فالذي أنعم بهذه النعم، وصنف أنواع
الإحسان، وأدر علينا من خيره المدرار، هو الذي يستحق كمال الشكر، وكمال
الثناء، والاجتهاد في عبوديته، وأن لا يستعان بنعمه على معاصيه.





{ 23 - 30 } { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا
إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ
إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ }
إلى آخرالقصة




وهي قوله { إن في ذلك لآيات وإن كنا لمبتلين }
يذكر تعالى رسالة عبده ورسوله نوح عليه السلام، أول رسول أرسله لأهل
الأرض، فأرسله إلى قومه، وهم يعبدون الأصنام، فأمرهم بعبادة الله وحده،
فقال: { يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ }
أي: أخلصوا له العبادة، لأن العبادة لا تصح إلا بإخلاصها.
{ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ }
فيه إبطال ألوهية غير الله، وإثبات الإلهية لله تعالى، لأنه الخالق
الرازق، الذي له الكمال كله، وغيره بخلاف ذلك.
{ أَفَلَا تَتَّقُونَ }
ما أنتم عليه من عبادة الأوثان والأصنام،
التي صورت على صور قوم صالحين، فعبدوها مع الله، فاستمر على ذلك، يدعوهم
سرا وجهارا، وليلا ونهارا، ألف سنة إلا خمسين عاما، وهم لا يزدادون إلا
عتوا ونفورا.




{ فَقَالَ الْمَلَأُ }

من قومه الأشراف والسادة المتبوعون -على وجه المعارضة لنبيهم نوح،
والتحذير من اتباعه -: { مَا هَذَا إِلَّا
بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ }
أي: ما
هذا إلا بشر مثلكم، قصده حين ادعى النبوة أن يزيد عليكم فضيلة، ليكون
متبوعا، وإلا فما الذي يفضله عليكم، وهو من جنسكم؟ وهذه المعارضة لا زالت
موجودة في مكذبي الرسل، وقد أجاب الله عنها بجواب شاف، على ألسنة رسله
كما في قوله: { قالوا } أي: لرسلهم
{ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا
تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا
بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ* قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا
بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ
عِبَادِهِ }
فأخبروا أن هذا فضل الله ومنته، فليس لكم أن تحجروا
على الله، وتمنعوه من إيصال فضله علينا.




وقالوا هنا: { ولو شاء الله لأنزل ملائكة }
وهذه أيضا معارضة بالمشيئة باطلة، فإنه وإن كان لو شاء لأنزل ملائكة،
فإنه حكيم رحيم، حكمته ورحمته تقتضي أن يكون الرسول من جنس الآدميين، لأن
الملك لا قدرة لهم على مخاطبته، ولا يمكن أن يكون إلا بصورة رجل، ثم يعود
اللبس عليهم كما كان.




وقولهم: { مَا سَمِعْنَا بِهَذَا } أي
بإرسال الرسول { فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ }
وأي حجة في عدم سماعهم إرسال رسول في آبائهم الأولين؟ لأنهم لم يحيطوا
علما بما تقدم، فلا يجعلوا جهلهم حجة لهم، وعلى تقدير أنه لم يرسل فيهم
رسولا، فإما أن يكونوا على الهدى، فلا حاجة لإرسال الرسول إذ ذاك، وإما
أن يكونوا على غيره، فليحمدوا ربهم ويشكروه أن خصهم بنعمة لم تأت آباءهم،
ولا شعروا بها، ولا يجعلوا عدم الإحسان على غيرهم سببا لكفرهم للإحسان
إليهم.




{ إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ }

أي: مجنون { فَتَرَبَّصُوا بِهِ } أي:
انتظروا به { حَتَّى حِينٍ } إلى أن
يأتيه الموت.




وهذه الشبه التي أوردوها معارضة لنبوة نبيهم، دالة على شدة كفرهم
وعنادهم، وعلى أنهم في غاية الجهل والضلال، فإنها لا تصلح للمعارضة بوجه
من الوجوه، كما ذكرنا، بل هي في نفسها متناقضة متعارضة. فقوله:
{ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ
أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ }
أثبتوا أن له عقلا يكيدهم به،
ليعلوهم ويسودهم، ويحتاج -مع هذا- أن يحذر منه لئلا يغتر به، فكيف يلتئم
مع قولهم: { إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ
جِنَّةٌ }
وهل هذا إلا من مشبه ضال، منقلب عليه الأمر، قصده الدفع
بأي: طريق اتفق له، غير عالم بما يقول؟".




ويأبى الله إلا أن يظهر خزي من عاداه وعادى رسله.




فلما رأى نوح أنه لا يفيدهم دعاؤه إلا فرارا {
قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ }
فاستنصر ربه عليهم،
غضبا لله، حيث ضيعوا أمره، وكذبوا رسوله وقال:
{ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا*
إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا
فَاجِرًا كَفَّارًا }
قال تعالى: {
وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ }




{ فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ }

عند استجابتنا له، سببا ووسيلة للنجاة، قبل وقوع أسبابه،
{ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ } أي: السفينة
{ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا } أي:
بأمرنا لك ومعونتنا، وأنت في حفظنا وكلاءتنا بحيث نراك ونسمعك.




{ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا }

بإرسال الطوفان الذي عذبوا به { وَفَارَ
التَّنُّورُ }
أي: فارت الأرض، وتفجرت عيونا، حتى محل النار، الذي
لم تجر العادة إلا ببعده عن الماء، { فَاسْلُكْ
فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ }
أي: أدخل في الفلك من
كل جنس من الحيوانات، ذكرا وأنثى، تبقى مادة النسل لسائر الحيوانات، التي
اقتضت الحكمة الربانية إيجادها في الأرض، {
وَأَهْلَكَ }
أي: أدخلهم { إِلَّا مَنْ
سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ }
كابنه، {
وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا }
أي: لا تدعني أن
أنجيهم، فإن القضاء والقدر، قد حتم أنهم مغرقون.




{ فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ }

أي: علوتم عليها، واستقلت بكم في تيار الأمواج، ولجج اليم، فاحمدوا الله
على النجاة والسلامة. فقل الحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين، وهذا
تعليم منه له ولمن معه، أن يقولوا هذا شكرا له وحمدا على نجاتهم من القوم
الظالمين في عملهم وعذابهم.




{ وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ
الْمُنْزِلِينَ }

أي: وبقيت عليكم نعمة أخرى، فادعوا الله فيها، وهي أن ييسر الله لكم
منزلا مباركا، فاستجاب الله دعاءه، قال الله: {
وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا
لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ }
إلى أن قال:
{ قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ
وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ }
الآية.




{ إِنَّ فِي ذَلِكَ }

أي: في هذه القصة { لَآيَاتٍ } تدل على
أن الله وحده المعبود، وعلى أن رسوله نوحا صادق، وأن قومه كاذبون، وعلى
رحمة الله بعباده، حيث حملهم في صلب أبيهم نوح، في الفلك لما غرق أهل
الأرض.




والفلك أيضا من آيات الله، قال تعالى: {
وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ }
ولهذا جمعها
هنا لأنها تدل على عدة آيات ومطالب. { وَإِنْ
كُنَّا لَمُبْتَلِينَ }
.

descriptionتفسيرالقران - صفحة 6 Emptyرد: تفسيرالقران

more_horiz
تابع
-


تفسير سورة


المؤمنون

عدد آياتها 118

(
آية
31-50

)

وهي
مكية






{ 31 - 41 } { ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ *
فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا
لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ * وَقَالَ الْمَلَأُ
مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ
وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ
مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا
تَشْرَبُونَ * وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا
لَخَاسِرُونَ * أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ
تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ * هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا
تُوعَدُونَ * إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا
وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ * إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى
اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ * قَالَ رَبِّ
انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ * قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ
نَادِمِينَ * فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ
غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ }




لما ذكر نوحا وقومه، وكيف أهلكهم قال: { ثُمَّ
أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ }
الظاهر أنهم "
ثمود " قوم صالح عليه السلام، لأن هذه القصة تشبه قصتهم.




{ فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ }

من جنسهم، يعرفون نسبه وحسبه وصدقه، ليكون ذلك أسرع لانقيادهم، إذا كان
منهم، وأبعد عن اشمئزازهم، فدعا إلى ما دعت إليه الرسل أممهم
{ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ
إِلَهٍ غَيْرُهُ }
فكلهم اتفقوا على هذه الدعوة، وهي أول دعوة
يدعون بها أممهم، الأمر بعبادة الله، والإخبار أنه المستحق لذلك، والنهي
عن عبادة ما سواه، والإخبار ببطلان ذلك وفساده، ولهذا قال:
{ أَفَلَا تَتَّقُونَ } ربكم، فتجتنبوا
هذه الأوثان والأصنام.




{ وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا
بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا }

أي: قال الرؤساء الذين جمعوا بين الكفر والمعاندة، وأطغاهم ترفهم في
الحياة الدنيا، معارضة لنبيهم، وتكذيبا وتحذيرا منه:
{ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ }
أي: من جنسكم { يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ
مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ }
فما الذي يفضله عليكم؟
فهلا كان ملكا لا يأكل الطعام، ولا يشرب الشراب ،
{ وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ
إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ }
أي: إن تبعتموه وجعلتموه لكم
رئيسا، وهو مثلكم إنكم لمسلوبو العقل، نادمون على ما فعلتم. وهذا من
العجب، فإن الخسارة والندامة حقيقة لمن لم يتابعه ولم ينقد له. والجهل
والسفه العظيم لمن تكبر عن الانقياد لبشر، خصه الله بوحيه، وفضله
برسالته، وابتلي بعبادة الشجر والحجر.




وهذا نظير قولهم: { قَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا
وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ أَؤُلْقِيَ
الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ }

فلما أنكروا رسالته وردوها، أنكروا ما جاء به من البعث بعد الموت،
والمجازاة على الأعمال فقالوا: { أَيَعِدُكُمْ
أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ
مُخْرَجُونَ* هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ }
أي: بعيد
بعيد ما يعدكم به، من البعث، بعد أن تمزقتم وكنتم ترابا وعظاما، فنظروا
نظرا قاصرا، ورأوا هذا بالنسبة إلى قدرهم غير ممكن، فقاسوا قدرة الخالق
بقدرهم، تعالى الله. فأنكروا قدرته على إحياء الموتى، وعجزوه غاية
التعجيز، ونسوا خلقهم أول مرة، وأن الذي أنشأهم من العدم، فإعادته لهم
بعد البلى أهون عليه، وكلاهما هين لديه، فلم لا ينكرون أول خلقهم،
ويكابرون المحسوسات، ويقولون: إننا لم نزل موجودين، حتى يسلم لهم إنكارهم
للبعث، وينتقلوا معهم إلى الاحتجاج على إثبات وجود الخالق العظيم؟.




وهنا دليل آخر، وهو: أن الذي أحيا الأرض بعد موتها، إن ذلك لمحيي الموتى،
إنه على كل شيء قدير، وثم دليل آخر، وهو ما أجاب به المنكرين للبعث في
قوله: { بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ
مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ أَئِذَا مِتْنَا
وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ }
فقال في جوابهم:
{ قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ
مِنْهُمْ }
أي في البلى، { وَعِنْدَنَا
كِتَابٌ حَفِيظٌ }







{ إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا }

أي: يموت أناس، ويحيا أناس { وَمَا نَحْنُ
بِمَبْعُوثِينَ }




{ إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ }

فلهذا أتى بما أتى به، من توحيد الله، وإثبات المعاد
{ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ }
أي: ارفعوا عنه العقوبة بالقتل وغيره، احتراما له، ولأنه مجنون غير مؤاخذ
بما يتكلم به، أي: فلم يبق بزعمهم الباطل مجادلة معه، لصحة ما جاء به،
فإنهم قد عرفوا بطلانه، وإنما بقي الكلام، هل يوقعون به أم لا؟، فبزعمهم
أن عقولهم الرزينة، اقتضت الإبقاء عليه، وترك الإيقاع به، مع قيام
الموجب، فهل فوق هذا العناد والكفر غاية؟" ولهذا لما اشتد كفرهم، ولم
ينفع فيهم الإنذار، دعا عليهم نبيهم فقال: {
رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ }
أي: بإهلاكهم، وخزيهم
الدنيوي، قبل الآخرة. { قَالَ } الله
مجيبا لدعوته: { عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ
نَادِمِينَ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ }
لا بالظلم
والجور، بل بالعدل وظلمهم، أخذتهم الصيحة، فأهلكتهم عن آخرهم.




{ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً }

أي: هشيما يبسا بمنزلة غثاء السيل الملقى في جنبات الوادي، وقال في الآية
الأخرى { إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ
صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ }





{ فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ }

أي: أتبعوا مع عذابهم، البعد واللعنة والذم من العالمين
{ فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ
وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ }





{ 42 - 44 } { ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ
بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ * مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا
وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ * ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا
جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا
وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ }





أي: ثم أنشأنا من بعد هؤلاء المكذبين المعاندين قرونا آخرين، كل أمة في
وقت مسمى، وأجل محدود، لا تتقدم عنه ولا تتأخر، وأرسلنا إليهم رسلا
متتابعة، لعلهم يؤمنون وينيبون، فلم يزل الكفر والتكذيب دأب الأمم
العصاة، والكفرة البغاة، كلما جاء أمة رسولها كذبوه، مع أن كل رسول يأتي
من الآيات ما يؤمن على مثله البشر، بل مجرد دعوة الرسل وشرعهم، يدل على
حقيه ما جاءوا به، { فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ
بَعْضًا }
بالهلاك، فلم يبق منهم باقية، وتعطلت مساكنهم من بعدهم
{ وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ } يتحدث
بهم من بعدهم، ويكونون عبرة للمتقين، ونكالا للمكذبين، وخزيا عليهم
مقرونا بعذابهم. { فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا
يُؤْمِنُونَ }
ما أشقاهم" وتعسا لهم، ما أخسر صفقتهم".





{ 45 - 49 } { ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى
وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ
وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ * فَقَالُوا
أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ *
فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ * وَلَقَدْ آتَيْنَا
مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ }




مر عليَّ منذ زمان طويل كلام لبعض العلماء لا يحضرني الآن اسمه، وهو أنه
بعد بعث موسى ونزول التوراة، رفع الله العذاب عن الأمم، أي: عذاب
الاستئصال، وشرع للمكذبين المعاندين الجهاد، ولم أدر من أين أخذه، فلما
تدبرت هذه الآيات، مع الآيات التي في سورة القصص، تبين لي وجهه، أما هذه
الآيات، فلأن الله ذكر الأمم المهلكة المتتابعة على الهلاك، ثم أخبر أنه
أرسل موسى بعدهم، وأنزل عليه التوراة فيها الهداية للناس، ولا يرد على
هذا، إهلاك فرعون، فإنه قبل نزول التوراة، وأما الآيات التي في سورة
القصص، فهي صريحة جدا، فإنه لما ذكر هلاك فرعون قال:
{ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ
بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ
وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ }
فهذا صريح أنه
آتاه الكتاب بعد هلاك الأمم الباغية، وأخبر أنه أنزله بصائر للناس وهدى
ورحمة، ولعل من هذا، ما ذكر الله في سورة " يونس " من قولة:
{ ثم بعثنا من بعده } أي: من بعد نوح
{ رسلا إلى قومهم فجاءوهم بالبينات فما كانوا
ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل كذلك نطبع على قلوب المعتدين* ثم بعثنا من
بعدهم موسى وهارون }
الآيات والله أعلم.




فقوله: { ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى } بن
عمران، كليم الرحمن { وَأَخَاهُ هَارُونَ }
حين سأل ربه أن يشركه في أمره فأجاب سؤله.




{ بِآيَاتِنَا }

الدالة على صدقهما وصحة ما جاءا به {
وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ }
أي: حجة بينة، من قوتها، أن تقهر القلوب،
وتتسلط عليها لقوتها فتنقاد لها قلوب المؤمنين، وتقوم الحجة البينة على
المعاندين، وهذا كقوله { وَلَقَدْ آتَيْنَا
مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ }
ولهذا رئيس المعاندين عرف الحق
وعاند { فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ
جَاءَهُمْ }
أي: بتلك الآيات البينات {
فَقَالَ له فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا }

فـ { قال } موسى
{ قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ
هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي
لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا }
وقال تعالى:
{ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا
أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا }
وقال هنا:
{ ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ
بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ* إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ }

كـ " هامان " وغيره من رؤسائهم، {
فَاسْتَكْبَرُوا }
أي: تكبروا عن الإيمان بالله، واستكبروا على
أنبيائه، { وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ }
أي: وصفهم العلو، والقهر، والفساد في الأرض، فلهذا صدر منهم الاستكبار،
ذلك غير مستكثر منهم.




{ فَقَالُوا }

كبرا وتيها، وتحذيرا لضعفاء العقول، وتمويها: {
أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا }
كما قاله من قبلهم سواء
بسواء، تشابهت قلوبهم في الكفر، فتشابهت أقوالهم وأفعالهم، وجحدوا منة
الله عليهما بالرسالة.




{ وَقَوْمُهُمَا }

أي: بنو إسرائيل { لَنَا عَابِدُونَ }
أي: معبدون بالأعمال والأشغال الشاقة، كما قال تعالى:
{ وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ
يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ
وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ
عَظِيمٌ }




فكيف نكون تابعين بعد أن كنا متبوعين؟" وكيف يكون هؤلاء رؤساء علينا؟"
ونظير قولهم، قول قوم نوح: { أَنُؤْمِنُ لَكَ
وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ }
{ وَمَا
نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ
الرَّأْيِ }
من المعلوم أن هذا لا يصلح لدفع الحق، وأنه تكذيب
ومعاندة.




ولهذا قال: { فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ
الْمُهْلَكِينَ }
في الغرق في البحر، وبنو إسرائيل ينظرون.




{ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى }

بعدما أهلك الله فرعون، وخلص الشعب الإسرائيلي مع موسى، وتمكن حينئذ من
إقامة أمر الله فيهم، وإظهار شعائره، وعده الله أن ينزل عليه التوراة
أربعين ليلة، فذهب لميقات ربه، قال الله تعالى
{ وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً
وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ }
ولهذا قال هنا:
{ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ } أي: بمعرفة
تفاصيل الأمر والنهي، والثواب والعقاب، ويعرفون ربهم بأسمائه وصفاته.





{ 50 } { وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ
آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ }





أي: وامتننا على عيسى ابن مريم، وجعلناه وأمه من آيات الله العجيبة، حيث
حملته وولدته من غير أب، وتكلم في المهد صبيا، وأجرى الله على يديه من
الآيات ما أجرى، { وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى
رَبْوَةٍ }
أي: مكان مرتفع، وهذا -والله أعلم- وقت وضعها،
{ ذَاتِ قَرَارٍ } أي: مستقر وراحة
{ وَمَعِينٍ } أي: ماء جار، بدليل قوله:
{ قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ } أي:
تحت المكان الذي أنت فيه، لارتفاعه، { سَرِيًّا
}
أي: نهرا وهو المعين { وَهُزِّي
إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا*
فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا }

descriptionتفسيرالقران - صفحة 6 Emptyرد: تفسيرالقران

more_horiz
تابع



تفسير سورة


المؤمنون

عدد آياتها 118

(


آيه
51-
77

)

وهي مكية






{ 51 - 56 } { يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ
وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ * وَإِنَّ هَذِهِ
أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ *
فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا
لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ * فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ *
أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ *
نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَا يَشْعُرُونَ }




هذا أمر منه تعالى لرسله بأكل الطيبات، التي هي الرزق الطيب الحلال، وشكر
الله، بالعمل الصالح، الذي به يصلح القلب والبدن، والدنيا والآخرة.
ويخبرهم أنه بما يعملون عليم، فكل عمل عملوه، وكل سعي اكتسبوه، فإن الله
يعلمه، وسيجازيهم عليه أتم الجزاء وأفضله، فدل هذا على أن الرسل كلهم،
متفقون على إباحة الطيبات من المآكل، وتحريم الخبائث منها، وأنهم متفقون
على كل عمل صالح وإن تنوعت بعض أجناس المأمورات، واختلفت بها الشرائع،
فإنها كلها عمل صالح، ولكن تتفاوت بتفاوت الأزمنة.




ولهذا، الأعمال الصالحة، التي هي صلاح في جميع الأزمنة، قد اتفقت عليها
الأنبياء والشرائع، كالأمر بتوحيد الله، وإخلاص الدين له، ومحبته، وخوفه،
ورجائه، والبر، والصدق، والوفاء بالعهد، وصلة الأرحام، وبر الوالدين،
والإحسان إلى الضعفاء والمساكين واليتامى، والحنو والإحسان إلى الخلق،
ونحو ذلك من الأعمال الصالحة، ولهذا كان أهل العلم، والكتب السابقة،
والعقل، حين بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم، يستدلون على نبوته
بأجناس ما يأمر به، وينهى عنه، كما جرى لهرقل وغيره، فإنه إذا أمر بما
أمر به الأنبياء، الذين من قبله، ونهى عما نهوا عنه، دل على أنه من
جنسهم، بخلاف الكذاب، فلا بد أن يأمر بالشر، وينهى عن الخير.




ولهذا قال تعالى للرسل: { وَإِنَّ هَذِهِ
أُمَّتُكُمْ أمَّةً }
أي: جماعتكم -يا معشر الرسل- جماعة
{ وَاحِدَةً } متفقة على دين واحد،
وربكم واحد.




{ فَاتَّقُونِ }

بامتثال أوامري، واجتناب زواجري. وقد أمر الله المؤمنين بما أمر به
المرسلين، لأنهم بهم يقتدون، وخلفهم يسلكون، فقال:
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ
طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ
إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ }
فالواجب من كل المنتسبين إلى الأنبياء
وغيرهم، أن يمتثلوا هذا، ويعملوا به، ولكن أبى الظالمون المفترقون إلا
عصيانا، ولهذا قال: { فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ
بَيْنَهُمْ زُبُرًا }
أي: تقطع المنتسبون إلى اتباع الأنبياء
{ أَمْرُهُمْ } أي: دينهم
{ بَيْنَهُمْ زُبُرًا } أي: قطعا
{ كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ } أي:
بما عندهم من العلم والدين { فَرِحُونَ }
يزعمون أنهم المحقون، وغيرهم على غير الحق، مع أن المحق منهم، من كان على
طريق الرسل، من أكل الطيبات، والعمل الصالح، وما عداهم فإنهم مبطلون.




{ فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ }

أي: في وسط جهلهم بالحق، ودعواهم أنهم هم المحقون.
{ حَتَّى حِينٍ } أي: إلى أن ينزل
العذاب بهم، فإنهم لا ينفع فيهم وعظ، ولا يفيدهم زجر، وكيف يفيد من يزعم
أنه على الحق، ويطمع في دعوة غيره إلى ما هو عليه؟.




{ أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ
نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ }

أي: أيظنون أن زيادتنا إياهم بالأموال والأولاد، دليل على أنهم من أهل
الخير والسعادة، وأن لهم خير الدنيا والآخرة؟ وهذا مقدم لهم، ليس الأمر
كذلك.




{ بَل لَا يَشْعُرُونَ }

أنما نملي لهم ونمهلهم ونمدهم بالنعم، ليزدادوا إثما، وليتوفر عقابهم في
الآخرة، وليغتبطوا بما أوتوا { حَتَّى إِذَا
فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً }




{ 57 - 62 } { إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ
* وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ
بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا
وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ *
أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ *
وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ
بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ }





لما ذكر تعالى الذين جمعوا بين الإساءة والأمن، الذين يزعمون أن عطاء
الله إياهم في الدنيا دليل على خيرهم وفضلهم، ذكر الذين جمعوا بين
الإحسان والخوف، فقال: { إِنَّ الَّذِينَ هُمْ
مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ }
أي: وجلون، مشفقة قلوبهم
كل ذلك من خشية ربهم، خوفا أن يضع عليهم عدله، فلا يبقى لهم حسنة، وسوء
ظن بأنفسهم، أن لا يكونوا قد قاموا بحق الله تعالى، وخوفا على إيمانهم من
الزوال، ومعرفة منهم بربهم، وما يستحقه من الإجلال والإكرام، وخوفهم
وإشفاقهم يوجب لهم الكف عما يوجب الأمر المخوف من الذنوب، والتقصير في
الواجبات.




{ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ }

أي: إذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا، ويتفكرون أيضا في الآيات
القرآنية ويتدبرونها، فيبين لهم من معاني القرآن وجلالته واتفاقه، وعدم
اختلافه وتناقضه، وما يدعو إليه من معرفة الله وخوفه ورجائه، وأحوال
الجزاء، فيحدث لهم بذلك من تفاصيل الإيمان، ما لا يعبر عنه اللسان.




ويتفكرون أيضا في الآيات الأفقية، كما في قوله:
{ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ
وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ }
إلى آخر الآيات.




{ وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ }

أي: لا شركا جليا، كاتخاذ غير الله معبودا، يدعوه ويرجوه ولا شركا خفيا،
كالرياء ونحوه، بل هم مخلصون لله، في أقوالهم وأعمالهم وسائر أحوالهم.




{ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا }

أي: يعطون من أنفسهم مما أمروا به، ما آتوا من كل ما يقدرون عليه، من
صلاة، وزكاة، وحج، وصدقة، وغير ذلك، { و }
مع هذا { قُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ } أي:
خائفة { أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ
}
أي: خائفة عند عرض أعمالها عليه، والوقوف بين يديه، أن تكون
أعمالهم غير منجية من عذاب الله، لعلمهم بربهم، وما يستحقه من أصناف
العبادات.




{ أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ }

أي: في ميدان التسارع في أفعال الخير، همهم ما يقربهم إلى الله، وإرادتهم
مصروفة فيما ينجي من عذابه، فكل خير سمعوا به، أو سنحت لهم الفرصة إليه،
انتهزوه وبادروه، قد نظروا إلى أولياء الله وأصفيائه، أمامهم، ويمنة،
ويسرة، يسارعون في كل خير، وينافسون في الزلفى عند ربهم، فنافسوهم. ولما
كان السابق لغيره المسارع قد يسبق لجده وتشميره، وقد لا يسبق لتقصيره،
أخبر تعالى أن هؤلاء من القسم السابقين فقال:




{ وَهُمْ لَهَا }

أي: للخيرات { سَابِقُونَ } قد بلغوا
ذروتها، وتباروا هم والرعيل الأول، ومع هذا، قد سبقت لهم من الله سابقة
السعادة، أنهم سابقون.




ولما ذكر مسارعتهم إلى الخيرات وسبقهم إليها، ربما وهم واهم أن المطلوب
منهم ومن غيرهم أمر غير مقدور أو متعسر، أخبر تعالى أنه لا يكلف
{ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا } أي: بقدر
ما تسعه، ويفضل من قوتها عنه، ليس مما يستوعب قوتها، رحمة منه وحكمة،
لتيسير طريق الوصول إليه، ولتعمر جادة السالكين في كل وقت إليه.
{ وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ }
وهو الكتاب الأول، الذي فيه كل شيء، وهو يطابق كل واقع يكون، فلذلك كان
حقا، { وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ } أي لا
ينقص من إحسانهم، ولا يزداد في عقوبتهم وعصيانهم.





{ 63 - 67 } { بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ
مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ
* حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ
يَجْأَرُونَ * لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا
تُنْصَرُونَ * قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى
أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ * مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ
}




يخبر تعالى أن قلوب المكذبين في غمرة من هذا، أي: وسط غمرة من الجهل
والظلم، والغفلة والإعراض، تمنعهم من الوصول إلى هذا القرآن، فلا يهتدون
به، ولا يصل إلى قلوبهم منه شيء. { وَإِذَا
قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا
يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا* وَجَعَلْنَا عَلَى
قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا }

فلما كانت قلوبهم في غمرة منه، عملوا بحسب هذا الحال، من الأعمال
الكفرية، والمعاندة للشرع، ما هو موجب لعقابهم،
{ و }
لكن { لَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ
دُونِ }
هذه الأعمال { هُمْ لَهَا
عَامِلُونَ }
أي: فلا يستغربوا عدم وقوع العذاب فيهم، فإن الله
يمهلهم ليعملوا هذه الأعمال، التي بقيت عليهم مما كتب عليهم، فإذا عملوها
واستوفوها، انتقلوا بشر حالة إلى غضب الله وعقابه.




{ حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ }

أي: متنعميهم، الذين ما اعتادوا إلا الترف والرفاهية والنعيم، ولم تحصل
لهم المكاره، فإذا أخذناهم { بِالْعَذَابِ }
ووجدوا مسه { إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ }
يصرخون ويتوجعون، لأنه أصابهم أمر خالف ما هم عليه، ويستغيثون, فيقال
لهم: { لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ
مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ }
وإذا لم تأتهم النصرة من الله، وانقطع
عنهم الغوث من جانبه، لم يستطيعوا نصر أنفسهم، ولم ينصرهم أحد.




فكأنه قيل: ما السبب الذي أوصلهم إلى هذا الحال؟ قال:
{ قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ }
لتؤمنوا بها وتقبلوا عليها، فلم تفعلوا ذلك، بل
{ كُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ }
أي: راجعين القهقري
إلى الخلف، وذلك لأن باتباعهم القرآن يتقدمون، وبالإعراض عنه يستأخرون
وينزلون إلى أسفل سافلين. { مُسْتَكْبِرِينَ
بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ }
قال المفسرون معناه: مستكبرين به،
الضمير يعود إلى البيت، المعهود عند المخاطبين، أو الحرم، أي: متكبرين
على الناس بسببه، تقولون: نحن أهل الحرم، فنحن أفضل من غيرنا وأعلى،
{ سَامِرًا } أي: جماعة يتحدثون بالليل
حول البيت { تَهْجُرُونَ } [أي: تقولون
الكلام الهجر الذي هو القبيح في] هذا القرآن.




فالمكذبون كانت طريقتهم في القرآن، الإعراض عنه، ويوصي بعضهم بعضا بذلك
{ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا
لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ }

وقال الله عنهم: { أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ
تَعْجَبُونَ* وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ* وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ }

{ أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ }





فلما كانوا جامعين لهذه الرذائل، لا جرم حقت عليهم العقوبة، ولما وقعوا
فيها، لم يكن لهم ناصر ينصرهم، ولا مغيث ينقذهم، ويوبخون عند ذلك بهذه
الأعمال الساقطة
{ أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ }
أي: أفلا يتفكرن في القرآن ويتأملونه ويتدبرونه، أي: فإنهم لو تدبروه،
لأوجب لهم الإيمان، ولمنعهم من الكفر، ولكن المصيبة التي أصابتهم بسبب
إعراضهم عنه، ودل هذا على أن تدبر القرآن، يدعو إلى كل خير، ويعصم من كل
شر، والذي منعهم من تدبره أن على قلوبهم أقفالها.




{ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ }

أي: أو منعهم من الإيمان، أنه جاءهم رسول وكتاب، ما جاء آبائهم الأولين،
فرضوا بسلوك طريق آبائهم الضالين، وعارضوا كل ما خالف ذلك، ولهذا قالوا،
هم ومن أشبههم من الكفار، ما أخبر الله عنهم: {
وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ
إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ
وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ }
فأجابهم بقوله:
{ قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا
وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ }
فهل تتبعون إن كان قصدكم الحق،
فأجابوا بحقيقة أمرهم { قَالُوا إِنَّا بِمَا
أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ }








وقوله: { أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ
فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ }
أي: أو منعهم من اتباع الحق، أن رسولهم
محمدا صلى الله عليه وسلم، غير معروف عندهم، فهم منكرون له؟ يقولون: لا
نعرفه، ولا نعرف صدقه، دعونا حتى ننظر حاله ونسأل عنه من له به خبرة، أي:
لم يكن الأمر كذلك، فإنهم يعرفون الرسول صلى الله عليه وسلم معرفة تامة،
صغيرهم وكبيرهم يعرفون منه كل خلق جميل، ويعرفون صدقه وأمانته، حتى كانوا
يسمونه قبل البعثة " الأمين " فلم لا يصدقونه، حين جاءهم بالحق العظيم،
والصدق المبين؟.








{ أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ }

أي: جنون، فلهذا قال ما قال، والمجنون غير مسموع منه، ولا عبرة بكلامه،
لأنه يهذي بالباطل والكلام السخيف.




قال الله في الرد عليهم في هذه المقالة: { بَلْ
جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ }
أي: بالأمر الثابت، الذي هو صدق وعدل، لا
اختلاف فيه ولا تناقض، فكيف يكون من جاء به، به جنة؟! وهلا يكون إلا في
أعلى درج الكمال، من العلم والعقل ومكارم الأخلاق، وأيضا فإن في هذا
الانتقال مما تقدم، أي: بل الحقيقة التي منعتهم من الإيمان أنه جاءهم
بالحق { وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ }
وأعظم الحق الذي جاءهم به إخلاص العبادة لله وحده، وترك ما يعبد من دون
الله، وقد علم كراهتهم لهذا الأمر وتعجبهم منه، فكون الرسول أتى بالحق،
وكونهم كارهين للحق بالأصل، هو الذي أوجب لهم التكذيب بالحق لا شكا ولا
تكذيبا للرسول، كما قال تعالى: { فَإِنَّهُمْ
لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ
يَجْحَدُونَ }
فإن قيل: لم لم يكن الحق موافقا لأهوائهم لأجل أن
يؤمنوا و يسرعوا الانقياد؟ أجاب تعالى بقوله: {
وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ
وَالْأَرْضُ }

ووجه ذلك أن أهواءهم متعلقة بالظلم والكفر والفساد من الأخلاق والأعمال،
فلو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض، لفساد التصرف والتدبير
المبني على الظلم وعدم العدل، فالسماوات والأرض ما استقامتا إلا بالحق
والعدل { بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بذكرهم }
أي: بهذا القرآن المذكر لهم بكل خير، الذي به فخرهم وشرفهم, حين يقومون
به، ويكونون به سادة الناس.




{ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ }

شقاوة منهم، وعدم توفيق { نسوا الله فنسيهم }
(نسوا الله فأنساهم أنفسهم) فالقرآن ومن جاء به، أعظم نعمة ساقها الله
إليهم, فلم يقابلوها إلا بالرد والإعراض، فهل بعد هذا الحرمان حرمان؟ وهل
يكون وراءه إلا نهاية الخسران؟.





{ 72 } { أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ
رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ }




أي: أو منعهم من اتباعك يا محمد، أنك تسألهم على الإجابة أجرا
{ فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ }
يتكلفون من اتباعك، بسبب ما تأخذ منهم من الأجر والخراج، ليس الأمر كذلك{
فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ}
وهذا
كما قال الأنبياء لأممهم: { يا قوم لا أسألكم عليه أجرا إن أجري إلا على
الله }أي: ليسوا يدعون الخلق طمعا فيما يصيبهم منهم من الأموال، وإنما
يدعون نصحا لهم، وتحصيلا لمصالحهم، بل كان الرسل أنصح للخلق من أنفسهم،
فجزاهم الله عن أممهم خير الجزاء، ورزقنا الاقتداء بهم في جميع الأحوال.





{ 73 - 74 } { وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ *
وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ
لَنَاكِبُونَ }




ذكر الله تعالى في هذه الآيات الكريمات، كل سبب موجب للإيمان، وذكر
الموانع، وبين فسادها، واحدا بعد واحد، فذكر من الموانع أن قلوبهم في
غمرة، وأنهم لم يدبروا القول، وأنهم اقتدوا بآبائهم، وأنهم قالوا:
برسولهم جنة، كما تقدم الكلام عليها، وذكر من الأمور الموجبة لإيمانهم،
تدبر القرآن، وتلقي نعمة الله بالقبول، ومعرفة حال الرسول محمد صلى الله
عليه وسلم، وكمال صدقه وأمانته، وأنه لا يسألهم عليه أجرا، وإنما سعيه
لنفعهم ومصلحتهم، وأن الذي يدعوهم إليه صراط مستقيم، سهل على العاملين
لاستقامته، موصل إلى المقصود، من قرب حنيفية سمحة، حنيفية في التوحيد،
سمحة في العمل، فدعوتك إياهم إلى الصراط المستقيم، موجب لمن يريد الحق أن
يتبعك، لأنه مما تشهد العقول والفطر بحسنه، وموافقته للمصالح، فأين
يذهبون إن لم يتابعوك؟ فإنهم ليس عندهم ما يغنيهم ويكفيهم عن متابعتك،
لأنهم { عَنِ
الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ
}
متجنبون منحرفون، عن الطريق الموصل إلى الله، وإلى دار كرامته، ليس في
أيديهم إلا ضلالات وجهالات.




وهكذا كل من خالف الحق، لا بد أن يكون منحرفا في جميع أموره، قال تعالى:
{ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ
أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى
مِنَ اللَّهِ }








{ 75 - 77 } { وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ
لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ * وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ
بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ *
حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا
هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ }




هذا بيان لشدة تمردهم وعنادهم، وأنهم إذا أصابهم الضر، دعوا الله أن يكشف
عنهم ليؤمنوا، أو ابتلاهم بذلك ليرجعوا إليه. إن الله إذا كشف الضر عنهم
لجوا، أي: استمروا في طغيانهم يعمهون، أي: يجولون في كفرهم، حائرين
مترددين.




كما ذكر الله حالهم عند ركوب الفلك، وأنهم يدعون مخلصين له الدين، وينسون
ما يشركون به، فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بالشرك وغيره.




{ وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ }

قال المفسرون: المراد بذلك: الجوع الذي أصابهم سبع سنين، وأن الله
ابتلاهم بذلك، ليرجعوا إليه بالذل والاستسلام، فلم ينجع فيهم، ولا نجح
منهم أحد، { فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ }
أي: خضعوا وذلوا { وَمَا يَتَضَرَّعُونَ }
إليه ويفتقرون، بل مر عليهم ذلك ثم زال، كأنه لم يصبهم، لم يزالوا في
غيهم وكفرهم، ولكن وراءهم العذاب الذي لا يرد، وهو قوله:
{ حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا
ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ }
كالقتل يوم بدر وغيره،
{ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ } آيسون
من كل خير، قد حضرهم الشر وأسبابه، فليحذروا قبل نزول عذاب الله الشديد،
الذي لا يرد، بخلاف مجرد العذاب، فإنه ربما أقلع عنهم، كالعقوبات
الدنيوية، التي يؤدب الله بها عباده. قال تعالى فيها:
{ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ
بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا
لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ }

descriptionتفسيرالقران - صفحة 6 Emptyرد: تفسيرالقران

more_horiz
تابع
-


تفسير سورة


المؤمنون

عدد آياتها 118


(


آية


78-118
)

وهي مكية






{ 78 - 80 } { وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ
وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ * وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ
فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي
وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ
}




يخبر تعالى بمننه على عباده الداعية لهم إلى شكره، والقيام بحقه فقال:
{ وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ }
لتدركوا به المسموعات، فتنتفعوا في دينكم ودنياكم،
{ وَالْأَبْصَارَ } لتدركوا بها
المبصرات، فتنتفعوا بها في مصالحكم.




{ وَالْأَفْئِدَةَ }

أي: العقول التي تدركون بها الأشياء، وتتميزون بها عن البهائم، فلو عدمتم
السمع، والأبصار، والعقول، بأن كنتم صما عميا بكما ماذا تكون حالكم؟
وماذا تفقدون من ضرورياتكم وكمالكم؟ أفلا تشكرون الذي من عليكم بهذه
النعم، فتقومون بتوحيده وطاعته؟. ولكنكم، قليل شكركم، مع توالي النعم
عليكم.




{ وَهُوَ }

تعالى { الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ }
أي: بثكم في أقطارها، وجهاتها، وسلطكم على استخراج مصالحها ومنافعها،
وجعلها كافية لمعايشكم ومساكنكم، { وَإِلَيْهِ
تُحْشَرُونَ }
بعد موتكم، فيجازيكم بما عملتم في الأرض، من خير
وشر، وتحدث الأرض التي كنتم فيها بأخبارها {
وَهُوَ }
تعالى وحده { الَّذِي يُحْيِي
وَيُمِيتُ }
أي: المتصرف في الحياة والموت، هو الله وحده،
{ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ }
أي: تعاقبهما وتناوبهما، فلو شاء أن يجعل النهار سرمدا، من إله غير الله
يأتيكم بليل تسكنون فيه؟ ولو شاء أن يجعل الليل سرمدا، من إله غير الله
يأتيكم بضياء أفلا تبصرون؟. (ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا
فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون).




ولهذا قال هنا: { أَفَلَا تَعْقِلُونَ }
فتعرفون أن الذي وهب لكم من النعم، السمع، والأبصار، والأفئدة، والذي
نشركم في الأرض وحده، والذي يحيي ويميت وحده، والذي يتصرف بالليل والنهار
وحده, أن ذلك موجب لكم، أن تخلصوا له العبادة وحده لا شريك له، وتتركوا
عبادة من لا ينفع ولا يضر، ولا يتصرف بشيء، بل هو عاجز من كل وجه، فلو
كان لكم عقل لم تفعلوا ذلك.





{ 81 - 83 } { بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ
الْأَوَّلُونَ * قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا
أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا
مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ }





أي: بل سلك هؤلاء المكذبون مسلك الأولين من المكذبين بالبعث، واستبعدوه
غاية الاستبعاد وقالوا: { أَئِذَا مِتْنَا
وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ }
أي: هذا
لا يتصور، ولا يدخل العقل، بزعمهم.




{ لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ }

أي: ما زلنا نوعد بأن البعث كائن، نحن وآباؤنا، ولم نره، ولم يأت بعد،
{ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ
}
أي: قصصهم وأسمارهم، التي يتحدث بها وتلهى، وإلا فليس لها
حقيقة، وكذبوا -قبحهم الله- فإن الله أراهم، من آياته أكبر من البعث،
ومثله، { لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ }




{ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي
الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ }

الآيات { وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا
أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ }
الآيات.





{ 84 - 89 } { قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ
فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا
تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ
الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ *
قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ
عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ
فَأَنَّى تُسْحَرُونَ }




أي: قل لهؤلاء المكذبين بالبعث، العادلين بالله غيره، محتجا عليهم بما
أثبتوه، وأقروا به، من توحيد الربوبية، وانفراد الله بها، على ما أنكروه
من توحيد الإلهية والعبادة، وبما أثبتوه من خلق المخلوقات العظيمة، على
ما أنكروه من إعادة الموتى، الذي هو أسهل من ذلك.




{ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا }

أي: من هو الخالق للأرض ومن عليها، من حيوان، ونبات وجماد وبحار وأنهار
وجبال، المالك لذلك، المدبر له؟ فإنك إذا سألتهم عن ذلك، لا بد أن
يقولوا: الله وحده. فقل لهم إذا أقروا بذلك: {
أَفَلَا تَذَكَّرُونَ }
أي: أفلا ترجعون إلى ما ذكركم الله به،
مما هو معلوم عندكم، مستقر في فطركم، قد يغيبه الإعراض في بعض الأوقات.
والحقيقة أنكم إن رجعتم إلى ذاكرتكم, بمجرد التأمل، علمتم أن مالك ذلك،
هو المعبود وحده، وأن إلهية من هو مملوك أبطل الباطل ثم انتقل إلى ما هو
أعظم من ذلك، فقال: { قُلْ مَنْ رَبُّ
السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ }
وما فيها من النيرات، والكواكب
السيارات، والثوابت { وَرَبُّ الْعَرْشِ
الْعَظِيمِ }
الذي هو أعلى المخلوقات وأوسعها وأعظمها، فمن الذي
خلق ذلك ودبره، وصرفه بأنواع التدبير؟ {
سَيَقُولُونَ لِلَّهِ }
أي: سيقرون بأن الله رب ذلك كله. قل لهم
حين يقرون بذلك: { أَفَلَا تَتَّقُونَ }
عبادة المخلوقات العاجزة، وتتقون الرب العظيم، كامل القدرة، عظيم
السلطان؟ وفي هذا من لطف الخطاب، من قوله: {
أَفَلَا تذكرون }
{ أفلا تَتَّقُونَ }
والوعظ بأداة العرض الجاذبة للقلوب، ما لا يخفى ثم انتقل إلى إقرارهم بما
هو أعم من ذلك كله فقال: { قُلْ مَنْ بِيَدِهِ
مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ }
أي: ملك كل شيء، من العالم العلوي،
والعالم السفلي، ما نبصره، وما لا نبصره؟. و " الملكوت "ب صيغة مبالغة
بمعنى الملك. { وَهُوَ يُجِيرُ } عباده
من الشر، ويدفع عنهم المكاره، ويحفظهم مما يضرهم،
{ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ } أي: لا يقدر
أحد أن يجير على الله. ولا يدفع الشر الذي قدره الله. بل ولا يشفع أحد
عنده إلا بإذنه ، { سَيَقُولُونَ لِلَّهِ }
أي: سيقرون أن الله المالك لكل شيء، المجير، الذي لا يجار عليه.




{ قُلْ }

لهم حين يقرون بذلك، ملزما لهم، { فَأَنَّى
تُسْحَرُونَ }
أي: فأين تذهب عقولكم، حيث عبدتم من علمتم أنهم لا
ملك لهم، ولا قسط من الملك، وأنهم عاجزون من جميع الوجوه، وتركتم الإخلاص
للمالك العظيم القادر المدبر لجميع الأمور، فالعقول التي دلتكم على هذا،
لا تكون إلا مسحورة، وهي - بلا شك- قد سحرها الشيطان، بما زين لهم، وحسن
لهم، وقلب الحقائق لهم، فسحر عقولهم، كما سحرت السحرة أعين الناس.




{ 90 - 92 } { بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ *
مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا
لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ
سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ * عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ
فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ }




يقول تعالى: بل أتينا هؤلاء المكذبين بالحق، المتضمن للصدق في الأخبار،
العدل في الأمر والنهي، فما بالهم لا يعترفون به، وهو أحق أن يتبع؟ وليس
عندهم ما يعوضهم عنه، إلا الكذب والظلم، ولهذا قال:
{ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ }





{ مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ }

كذب يعرف بخبر الله، وخبر رسله، ويعرف بالعقل الصحيح، ولهذا نبه تعالى
على الدليل العقلي، على امتناع إلهين فقال: {
إِذًا }
أي: لو كان معه آلهة كما يقولون
{ لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ }
أي: لانفرد كل واحد من
الإلهين بمخلوقاته, واستقل بها، ولحرص على ممانعة الآخر ومغالبته،
{ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ }
فالغالب يكون هو الإله، وإلا فمع التمانع لا يمكن وجود العالم، ولا يتصور
أن ينتظم هذا الانتظام المدهش للعقول، واعتبر ذلك بالشمس والقمر،
والكواكب الثابتة، والسيارة، فإنها منذ خلقت، وهي تجري على نظام واحد،
وترتيب واحد، كلها مسخرة بالقدرة، مدبرة بالحكمة لمصالح الخلق كلهم، ليست
مقصورة على مصلحة أحد دون أحد، ولن ترى فيها خللا ولا تناقضا، ولا معارضة
في أدنى تصرف، فهل يتصور أن يكون ذلك، تقدير إلهين ربين؟"




{ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ }

قد نطقت بلسان حالها، وأفهمت ببديع أشكالها، أن المدبر لها إله واحد كامل
الأسماء والصفات، قد افتقرت إليه جميع المخلوقات، في ربوبيته لها، وفي
إلهيته لها، فكما لا وجود لها ولا دوام إلا بربوبيته، كذلك، لا صلاح لها
ولا قوام إلا بعبادته وإفراده بالطاعة، ولهذا نبه على عظمة صفاته بأنموذج
من ذلك، وهو علمه المحيط، فقال: { عَالِمُ
الْغَيْبِ }
أي: الذي غاب عن أبصارنا وعلمنا، من الواجبات
والمستحيلات والممكنات، { وَالشَّهَادَةِ }
وهو ما نشاهد من ذلك { فَتَعَالَى } أي:
ارتفع وعظم، { عَمَّا يُشْرِكُونَ } به،
من لا علم عنده، إلا ما علمه الله





{ 93 - 95 } { قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي
مَا يُوعَدُونَ * رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ *
وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ }





لما أقام تعالى على المكذبين أدلته العظيمة، فلم يلتفتوا لها، ولم يذعنوا
لها، حق عليهم العذاب، ووعدوا بنزوله، وأرشد الله رسوله أن يقول:
{ قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ
}
أي: أي وقت أريتني عذابهم، وأحضرتني ذلك
{ رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ
الظَّالِمِينَ }
أي: اعصمني وارحمني، مما ابتليتهم به من الذنوب
الموجبة للنقم، واحمني أيضا من العذاب الذي ينزل بهم، لأن العقوبة العامة
تعم -عند نزولها- العاصي وغيره ، قال الله في تقريب عذابهم:
{ وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ
لَقَادِرُونَ }
ولكن إن أخرناه فلحكمة، وإلا، فقدرتنا صالحة
لإيقاعه فيهم.





{ 96 - 98 } { ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ
السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ * وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ
بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ * وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ
يَحْضُرُونِ }




هذا من مكارم الأخلاق، التي أمر الله رسوله بها فقال:
{ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ
السَّيِّئَةَ }
أي: إذا أساء إليك أعداؤك، بالقول والفعل، فلا
تقابلهم بالإساءة، مع أنه يجوز معاقبة المسيء بمثل إساءته، ولكن ادفع
إساءتهم إليك بالإحسان منك إليهم، فإن ذلك فضل منك على المسيء، ومن مصالح
ذلك، أنه تخف الإساءة عنك، في الحال، وفي المستقبل، وأنه أدعى لجلب
المسيء إلى الحق، وأقرب إلى ندمه وأسفه، ورجوعه بالتوبة عما فعل، وليتصف
العافي بصفة الإحسان، ويقهر بذلك عدوه الشيطان، وليستوجب الثواب من الرب،
قال تعالى: { فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ
فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ }
وقال تعالى:
{ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ
عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ* وَمَا يُلَقَّاهَا }
أي: ما
يوفق لهذا الخلق الجميل { إِلَّا الَّذِينَ
صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ }





وقوله: { نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ }
أي: بما يقولون من الأقوال المتضمنة للكفر والتكذيب بالحق، قد أحاط علمنا
بذلك، وقد حلمنا عنهم، وأمهلناهم، وصبرنا عليهم، والحق لنا، وتكذيبهم
لنا، فأنت -يا محمد- ينبغي لك أن تصبر على ما يقولون، وتقابلهم بالإحسان،
هذه وظيفة العبد في مقابلة المسيء من البشر، وأما المسيء من الشياطين،
فإنه لا يفيد فيه الإحسان، ولا يدعو حزبه إلا ليكونوا من أصحاب السعير،
فالوظيفة في مقابلته، أن يسترشد بما أرشد الله إليه رسوله فقال:
{ وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ } أي اعتصم
بحولك وقوتك متبرئا من حولي وقوتي { مِنْ
هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ* وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ }

أي: أعوذ بك من الشر الذي يصيبني بسبب مباشرتهم وهمزهم ومسهم، ومن الشر
الذي بسبب حضورهم ووسوستهم، وهذه استعاذة من مادة الشر كله وأصله، ويدخل
فيها، الاستعاذة من جميع نزغات الشيطان، ومن مسه ووسوسته، فإذا أعاذ الله
عبده من هذا الشر، وأجاب دعاءه، سلم من كل شر، ووفق لكل خير.





{ 99 - 100 } { حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ
الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا
تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ
بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ }




يخبر تعالى عن حال من حضره الموت، من المفرطين الظالمين، أنه يندم في تلك
الحال، إذا رأى مآله، وشاهد قبح أعماله فيطلب الرجعة إلى الدنيا، لا
للتمتع بلذاتها واقتطاف شهواتها وإنما ذلك يقول:
{ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ
}
من العمل، وفرطت في جنب الله. {
كَلَّا }
أي: لا رجعة له ولا إمهال، قد قضى الله أنهم إليها لا
يرجعون، { إِنَّهَا } أي: مقالته التي
تمنى فيها الرجوع إلى الدنيا { كَلِمَةٌ هُوَ
قَائِلُهَا }
أي: مجرد قول باللسان، لا يفيد صاحبه إلا الحسرة
والندم، وهو أيضا غير صادق في ذلك، فإنه لو رد لعاد لما نهي عنه.




{ وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ }

أي: من أمامهم وبين أيديهم برزخ، وهو الحاجز بين الشيئين، فهو هنا:
الحاجز بين الدنيا والآخرة، وفي هذا البرزخ، يتنعم المطيعون، ويعذب
العاصون، من موتهم إلى يوم يبعثون، أي: فليعدوا له عدته، وليأخذوا له
أهبته.





{ 101 - 114 } { فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ
فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ * فَمَنْ
ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ
مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ
خَالِدُونَ * تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ
*أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا
تُكَذِّبُونَ * قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا
وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ * رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ
عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ * قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا
تُكَلِّمُونِ * إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا
آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ *
فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ
مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ * إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا
أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ * قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ
عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ
فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ * قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ
أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ }




يخبر تعالى عن هول يوم القيامة، وما في ذلك اليوم، من المزعجات
والمقلقات، وأنه إذا نفخ في الصور نفخة البعث، فحشر الناس أجمعون، لميقات
يوم معلوم، أنه يصيبهم من الهول ما ينسيهم أنسابهم، التي هي أقوى
الأسباب، فغير الأنساب من باب أولى، وأنه لا يسأل أحد أحدا عن حاله،
لاشتغاله بنفسه، فلا يدري هل ينجو نجاة لا شقاوة بعدها؟ أو يشقى شقاوة لا
سعادة بعدها؟ قال تعالى: { يَوْمَ يَفِرُّ
الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ* وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ* وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ*
لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ }





وفي القيامة مواضع، يشتد كربها، ويعظم وقعها، كالميزان الذي يميز به
أعمال العبد، وينظر فيه بالعدل ما له وما عليه، وتبين فيه مثاقيل الذر،
من الخير والشر، { فَمَنْ ثَقُلَتْ
مَوَازِينُهُ }
بأن رجحت حسناته على سيئاته
{ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }
لنجاتهم من النار، واستحقاقهم الجنة، وفوزهم بالثناء الجميل ،
{ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ } بأن
رجحت سيئاته على حسناته، وأحاطت بها خطيئاته {
فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ }
كل خسارة، غير هذه
الخسارة، فإنها -بالنسبة إليها- سهلة، ولكن هذه خسارة صعبة، لا يجبر
مصابها، ولا يستدرك فائتها، خسارة أبدية، وشقاوة سرمدية، قد خسر نفسه
الشريفة، التي يتمكن بها من السعادة الأبدية ففوتها هذا النعيم المقيم،
في جوار الرب الكريم.




{ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ }

لا يخرجون منها أبد الآبدين، وهذا الوعيد، إنما هو كما ذكرنا، لمن أحاطت
خطيئاته بحسناته، ولا يكون ذلك إلا كافرا، فعلى هذا، لا يحاسب محاسبة من
توزن حسناته وسيئاته، فإنهم لا حسنات لهم، ولكن تعد أعمالهم وتحصى،
فيوقفون عليها، ويقررون بها، ويخزون بها، وأما من معه أصل الإيمان، ولكن
عظمت سيئاته، فرجحت على حسناته، فإنه وإن دخل النار، لا يخلد فيها، كما
دلت على ذلك نصوص الكتاب والسنة.




ثم ذكر تعالى، سوء مصير الكافرين فقال: {
تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ }
أي: تغشاهم من جميع جوانبهم، حتى
تصيب أعضاءهم الشريفة، ويتقطع لهبها عن وجوههم،
{ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ }
قد عبست وجوههم، وقلصت شفاههم، من
شدة ما هم فيه، وعظيم ما يلقونه ، فيقال لهم - توبيخا ولوما -:
{ أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ }
تدعون بها، لتؤمنوا، وتعرض عليكم لتنظروا، {
فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ }
ظلما منكم وعنادا، وهي آيات
بينات، دالات على الحق والباطل، مبينات للمحق والمبطل ، فحينئذ أقروا
بظلمهم، حيث لا ينفع الإقرار { قَالُوا
رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا }
أي: غلبت علينا
الشقاوة الناشئة عن الظلم والإعراض عن الحق، والإقبال على ما يضر، وترك
ما ينفع، { وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ }
في عملهم، وإن كانوا يدرون أنهم ظالمون، أي: فعلنا في الدنيا فعل التائه،
الضال السفيه، كما قالوا في الآية الأخرى: {
وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ
السَّعِيرِ }
{ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا
مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ }
وهم كاذبون في
وعدهم هذا، فإنهم كما قال تعالى: { وَلَوْ
رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ }
ولم يبق الله لهم حجة،
بل قطع أعذارهم، وعمرهم في الدنيا، ما يتذكر فيه [من] المتذكر، ويرتدع
فيه المجرم، فقال الله جوابا لسؤالهم: {
اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ }
وهذا القول - نسأله تعالى
العافية- أعظم قول على الإطلاق يسمعه المجرمون في التخييب، والتوبيخ،
والذل، والخسار، والتأييس من كل خير، والبشرى بكل شر، وهذا الكلام والغضب
من الرب الرحيم، أشد عليهم وأبلغ في نكايتهم من عذاب الجحيم ، ثم ذكر
الحال التي أوصلتهم إلى العذاب، وقطعت عنهم الرحمة فقال:
{ إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي
يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ
خَيْرُ الرَّاحِمِينَ }
فجمعوا بين الإيمان المقتضي لأعماله
الصالحة، والدعاء لربهم بالمغفرة والرحمة، والتوسل إليه بربوبيته، ومنته
عليهم بالإيمان، والإخبار بسعة رحمته، وعموم إحسانه، وفي ضمنه، ما يدل
على خضوعهم وخشوعهم، وانكسارهم لربهم، وخوفهم ورجائهم.




فهؤلاء سادات الناس وفضلائهم، {
فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ }
أيها الكفرة الأنذال ناقصو العقول والأحلام
{ سِخْرِيًّا } تهزءون بهم وتحتقرونهم،
حتى اشتغلتم بذلك السفه. { حَتَّى أَنْسَوْكُمْ
ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ }
وهذا الذي أوجب لهم
نسيان الذكر، اشتغالهم بالاستهزاء بهم، كما أن نسيانهم للذكر، يحثهم على
الاستهزاء، فكل من الأمرين يمد الآخر، فهل فوق هذه الجراءة جراءة؟!




{ إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا }

على طاعتي، وعلى أذاكم، حتى وصلوا إلي. {
أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ }
بالنعيم المقيم، والنجاة من
الجحيم، كما قال في الآية الأخرى: {
فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ }

الآيات.




{ قَالَ }

لهم على وجه اللوم، وأنهم سفهاء الأحلام، حيث اكتسبوا في هذه المدة
اليسيرة كل شر أوصلهم إلى غضبه وعقوبته، ولم يكتسبوا ما اكتسبه المؤمنون
[من] الخير، الذي يوصلهم إلى السعادة الدائمة ورضوان ربهم.




{ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ* قَالُوا لَبِثْنَا
يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ }

كلامهم هذا، مبني على استقصارهم جدا، لمدة مكثهم في الدنيا وأفاد ذلك،
لكنه لا يفيد مقداره، ولا يعينه، فلهذا قالوا:
{ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ }
أي: الضابطين لعدده ، وأما هم ففي شغل
شاغل وعذاب مذهل، عن معرفة عدده، فقال لهم: {
إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا }
سواء عينتم عدده، أم لا
{ لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ }





{ 115 - 116 } { أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا
خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ *
فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ
الْعَرْشِ الْكَرِيمِ }




أي: { أَفَحَسِبْتُمْ }


أيها الخلق { أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا }
أي: سدى وباطلا، تأكلون وتشربون وتمرحون، وتتمتعون بلذات الدنيا، ونترككم
لا نأمركم، و[لا] ننهاكم ولا نثيبكم، ولا نعاقبكم؟ ولهذا قال:
{ وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ }
لا يخطر هذا ببالكم ،
{ فَتَعَالَى اللَّهُ }
أي: تعاظم وانتفع عن هذا الظن الباطل،
الذي يرجع إلى القدح في حكمته. { الْمَلِكُ
الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ }

فكونه ملكا للخلق كلهم حقا، في صدقه، ووعده، ووعيده، مألوها معبودا، لما
له من الكمال { رَبُّ الْعَرْشِ الكريم }
فما دونه من باب أولى، يمنع أن يخلقكم عبثا.





{ 117 - 118 } { وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ
لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ
الْكَافِرُونَ * وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ
الرَّاحِمِينَ }




أي: ومن دعا مع الله آلهة غيره، بلا بينة من أمره ولا برهان يدل على ما
ذهب إليه، وهذا قيد ملازم، فكل من دعا غير الله، فليس له برهان على ذلك،
بل دلت البراهين على بطلان ما ذهب إليه، فأعرض عنها ظلما وعنادا، فهذا
سيقدم على ربه، فيجازيه بأعماله، ولا ينيله من الفلاح شيئا، لأنه كافر،
{ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ }
فكفرهم منعهم من الفلاح.




{ وَقُلْ }

داعيا لربك مخلصا له الدين { رَبِّ اغْفِرْ }
لنا حتى تنجينا من المكروه، وارحمنا، لتوصلنا برحمتك إلى كل خير
{ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ } فكل
راحم للعبد، فالله خير له منه، أرحم بعبده من الوالدة بولدها، وأرحم به
من نفسه.




تم تفسير سورة المؤمنين، من فضل الله وإحسانه.

descriptionتفسيرالقران - صفحة 6 Emptyرد: تفسيرالقران

more_horiz
- تفسير سورة الحج
عدد آياتها 78

(



آية




1-25
)
قيل:
مكية، وقيل: مدنية






{ 1 - 2 } {
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا
رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ
تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ
ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى
وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ
}




يخاطب الله الناس كافة، بأن يتقوا ربهم، الذي رباهم بالنعم الظاهرة
والباطنة، فحقيق بهم أن يتقوه، بترك الشرك والفسوق والعصيان، ويمتثلوا
أوامره، مهما استطاعوا.




ثم ذكر ما يعينهم على التقوى، ويحذرهم من تركها، وهو الإخبار بأهوال
القيامة، فقال:




{ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ
} لا يقدر قدره، ولا يبلغ كنهه، ذلك بأنها إذا وقعت الساعة، رجفت
الأرض وارتجت، وزلزلت زلزالها، وتصدعت الجبال، واندكت، وكانت كثيبا
مهيلا، ثم كانت هباء منبثا، ثم انقسم الناس ثلاثة أزواج.




فهناك تنفطر السماء، وتكور الشمس والقمر، وتنتثر النجوم، ويكون من
القلاقل والبلابل ما تنصدع له القلوب، وتجل منه الأفئدة، وتشيب منه
الولدان، وتذوب له الصم الصلاب، ولهذا قال: {
يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ

} مع أنها مجبولة على شدة محبتها لولدها، خصوصا في هذه الحال، التي لا
يعيش إلا بها.




{ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا
} من شدة الفزع والهول، { وَتَرَى
النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى
} أي: تحسبهم -أيها
الرائي لهم- سكارى من الخمر، وليسوا سكارى.




{ وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ }
فلذلك أذهب عقولهم، وفرغ قلوبهم، وملأها من الفزع، وبلغت القلوب الحناجر،
وشخصت الأبصار، وفي ذلك اليوم، لا يجزي والد عن ولده، ولا مولود هو جاز
عن والده شيئا.




ويومئذ { يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ*
وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ* وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ* لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ
يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ
}




وهناك { يعض الظالم على يديه، يقول يا ليتني
اتخذت مع الرسول سبيلا يا ويلتي ليتني لم أتخذ فلانا خليلا
}
وتسود حينئذ وجوه وتبيض وجوه، وتنصب الموازين، التي يوزن بها مثاقيل
الذر، من الخير والشر، وتنشر صحائف الأعمال وما فيها من جميع الأعمال
والأقوال والنيات، من صغير وكبير، وينصب الصراط على متن جهنم، وتزلف
الجنة للمتقين، وبرزت الجحيم للغاوين. { إذا
رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا* وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا
مقرنين دعوا هنالك ثبورا
} ويقال لهم: {
لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا
} وإذا نادوا ربهم ليخرجهم منها، قال: {
اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ
} قد غضب عليهم الرب الرحيم،
وحضرهم العذاب الأليم، وأيسوا من كل خير، ووجدوا أعمالهم كلها، لم يفقدوا
منها نقيرا ولا قطميرا.




هذا، والمتقون في روضات الجنات يحبرون، وفي أنواع اللذات يتفكهون، وفيما
اشتهت أنفسهم خالدون، فحقيق بالعاقل الذي يعرف أن كل هذا أمامه، أن يعد
له عدته، وأن لا يلهيه الأمل، فيترك العمل، وأن تكون تقوى الله شعاره،
وخوفه دثاره، ومحبة الله، وذكره، روح أعماله.




{ 3 - 4 } {
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ
كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ * كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ
فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ
}




أي: ومن الناس طائفة وفرقة، سلكوا طريق الضلال، وجعلوا يجادلون بالباطل
الحق، يريدون إحقاق الباطل وإبطال الحق، والحال أنهم في غاية الجهل ما
عندهم من العلم شيء، وغاية ما عندهم، تقليد أئمة الضلال، من كل شيطان
مريد، متمرد على الله وعلى رسله، معاند لهم، قد شاق الله ورسوله، وصار من
الأئمة الذين يدعون إلى النار.




{ كُتِبَ عَلَيْهِ } أي: قدر على هذا
الشيطان المريد { أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ
} أي: اتبعه { فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ
} عن الحق، ويجنبه الصراط المستقيم {
وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ
} وهذا نائب إبليس حقا، فإن
الله قال عنه { إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ
لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ
} فهذا الذي يجادل في
الله، قد جمع بين ضلاله بنفسه، وتصديه إلى إضلال الناس، وهو متبع، ومقلد
لكل شيطان مريد، ظلمات بعضها فوق بعض، ويدخل في هذا، جمهور أهل الكفر
والبدع، فإن أكثرهم مقلدة، يجادلون بغير علم.




{ 5 - 7 } {
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا
خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ
ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ
لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى
ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ
مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ
لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ
هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ
وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ *ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ
الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
قَدِيرٌ * وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ
يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ
}




يقول تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ
كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ
} أي: شك واشتباه، وعدم علم
بوقوعه، مع أن الواجب عليكم أن تصدقوا ربكم، وتصدقوا رسله في ذلك، ولكن
إذا أبيتم إلا الريب، فهاكم دليلين عقليين تشاهدونهما، كل واحد منهما،
يدل دلالة قطعية على ما شككتم فيه، ويزيل عن قلوبكم الريب.




أحدهما: الاستدلال بابتداء خلق الإنسان، وأن الذي ابتدأه سيعيده، فقال
فيه: { فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ
} وذلك بخلق أبي البشر آدم عليه السلام، {
ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ
} أي: مني، وهذا ابتداء أول التخليق، {
ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ
} أي: تنقلب تلك النطفة، بإذن الله دما أحمر،
{ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ } أي: ينتقل الدم
مضغة، أي: قطعة لحم، بقدر ما يمضغ، وتلك المضغة تارة تكون {
مُخَلَّقَةٍ
} أي: مصور منها خلق الآدمي، {
وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ
} تارة، بأن تقذفها الأرحام قبل تخليقها، {
لِنُبَيِّنَ لَكُمْ
} أصل نشأتكم، مع قدرته تعالى، على تكميل خلقه
في لحظة واحدة، ولكن ليبين لنا كمال حكمته، وعظيم قدرته، وسعة رحمته.




{ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ
إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى
} أي : ونقر، أي: نبقي في الأرحام من
الحمل، الذي لم تقذفه الأرحام، ما نشاء إبقاءه إلى أجل مسمى، وهو مدة
الحمل. { ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ } من بطون
أمهاتكم { طِفْلًا } لا تعلمون شيئا،
وليس لكم قدرة، وسخرنا لكم الأمهات، وأجرينا لكم في ثديها الرزق، ثم
تنتقلون طورا بعد طور، حتى تبلغوا أشدكم، وهو كمال القوة والعقل.




{ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى } من قبل
أن يبلغ سن الأشد، ومنكم من يتجاوزه فيرد إلى أرذل العمر، أي: أخسه
وأرذله، وهو سن الهرم والتخريف، الذي به يزول العقل، ويضمحل، كما زالت
باقي القوة، وضعفت.




{ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ
شَيْئًا
} أي: لأجل أن لا يعلم هذا المعمر شيئا مما كان يعلمه قبل
ذلك، وذلك لضعف عقله، فقوة الآدمي محفوفة بضعفين، ضعف الطفولية ونقصها،
وضعف الهرم ونقصه، كما قال تعالى: { اللَّهُ
الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً
ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا
يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ
} والدليل الثاني، إحياء
الأرض بعد موتها، فقال الله فيه: { وَتَرَى
الْأَرْضَ هَامِدَةً
} أي: خاشعة مغبرة لا نبات فيها، ولا خضر، {
فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ
} أي: تحركت
بالنبات { وَرَبَتْ } أي: ارتفعت بعد
خشوعها وذلك لزيادة نباتها، { وَأَنْبَتَتْ
مِنْ كُلِّ زَوْجٍ
} أي: صنف من أصناف النبات {
بَهِيجٍ
} أي: يبهج الناظرين، ويسر المتأملين، فهذان الدليلان
القاطعان، يدلان على هذه المطالب الخمسة، وهي هذه.




{ ذَلِكَ } الذي أنشأ الآدمي من ما وصف
لكم، وأحيا الأرض بعد موتها، { بِأَنَّ اللَّهَ
هُوَ الْحَقُّ
} أي: الرب المعبود، الذي لا تنبغي العبادة إلا له،
وعبادته هي الحق، وعبادة غيره باطلة، {
وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى
} كما ابتدأ الخلق، وكما أحيا الأرض
بعد موتها، { وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
قَدِيرٌ
} كما أشهدكم من بديع قدرته وعظيم صنعته ما أشهدكم.




{ وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ
فِيهَا
} فلا وجه لاستبعادها، { وَأَنَّ
اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ
} فيجازيكم بأعمالكم حسنها
وسيئها.




{ 8 - 9 } {
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى
وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ * ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ
اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
عَذَابَ الْحَرِيقِ
}




المجادلة المتقدمة للمقلد، وهذه المجادلة للشيطان المريد، الداعي إلى
البدع، فأخبر أنه { يُجَادِلُ فِي اللَّهِ
} أي: يجادل رسل الله وأتباعهم بالباطل ليدحض به الحق، {
بِغَيْرِ عِلْمٍ
} صحيح { وَلَا هُدًى
} أي: غير متبع في جداله هذا من يهديه، لا عقل مرشد، ولا متبوع
مهتد، { وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ } أي:
واضح بين، أي: فلا له حجة عقلية ولا نقلية ، إن هي إلا شبهات، يوحيها
إليه الشيطان { وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ
لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ
} ومع هذا {
ثَانِيَ عِطْفِهِ
} أي: لاوي جانبه وعنقه، وهذا كناية عن كبره عن
الحق، واحتقاره للخلق، فقد فرح بما معه من العلم غير النافع، واحتقر أهل
الحق وما معهم من الحق، { لِيُضِلَّ }
الناس، أي: ليكون من دعاة الضلال، ويدخل تحت هذا جميع أئمة الكفر
والضلال، ثم ذكر عقوبتهم الدنيوية والأخروية فقال: {
لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ
} أي: يفتضح هذا في الدنيا قبل
الآخرة، وهذا من آيات الله العجيبة، فإنك لا تجد داعيا من دعاة الكفر
والضلال، إلا وله من المقت بين العالمين، واللعنة، والبغض، والذم، ما هو
حقيق به، وكل بحسب حاله.




{ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ
الْحَرِيقِ
} أي: نذيقه حرها الشديد، وسعيرها البليغ، وذلك بما
قدمت يداه، { وَأَّن اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ
لِلْعَبِيدِ
}




{ 11 - 13 } {
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ
خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى
وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ
الْمُبِينُ * يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا
يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ * يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ
أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ
}




أي: ومن الناس من هو ضعيف الإيمان، لم يدخل الإيمان قلبه، ولم تخالطه
بشاشته، بل دخل فيه، إما خوفا، وإما عادة على وجه لا يثبت عند المحن، {
فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ
} أي: إن استمر رزقه
رغدا، ولم يحصل له من المكاره شيء، اطمأن بذلك الخير، لا بإيمانه. فهذا،
ربما أن الله يعافيه، ولا يقيض له من الفتن ما ينصرف به عن دينه، {
وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ
} من حصول مكروه، أو زوال محبوب {
انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ
} أي: ارتد عن دينه، {
خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ
} أما في الدنيا، فإنه لا يحصل له
بالردة ما أمله الذي جعل الردة رأسا لماله، وعوضا عما يظن إدراكه، فخاب
سعيه، ولم يحصل له إلا ما قسم له، وأما الآخرة، فظاهر، حرم الجنة التي
عرضها السماوات والأرض، واستحق النار، { ذَلِكَ
هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ
} أي: الواضح البين.




{ يَدْعُو } هذا الراجع على وجهه {
مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ
}
وهذا صفة كل مدعو ومعبود من دون الله، فإنه لا يملك لنفسه ولا لغيره نفعا
ولا ضرا، { ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ
} الذي قد بلغ في البعد إلى حد النهاية، حيث أعرض عن عبادة النافع
الضار، الغني المغني ، وأقبل على عبادة مخلوق مثله أو دونه، ليس بيده من
الأمر شيء بل هو إلى حصول ضد مقصوده أقرب، ولهذا قال: {
يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ
} فإن ضرره في
العقل والبدن والدنيا والآخرة معلوم { لَبِئْسَ
الْمَوْلَى
} أي: هذا المعبود {
وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ
} أي: القرين الملازم على صحبته، فإن
المقصود من المولى والعشير، حصول النفع، ودفع الضرر، فإذا لم يحصل شيء من
هذا، فإنه مذموم ملوم.




{ 14 } {
إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ
مَا يُرِيدُ
}




لما ذكر تعالى المجادل بالباطل، وأنه على قسمين، مقلد، وداع، ذكر أن
المتسمي بالإيمان أيضا على قسمين، قسم لم يدخل الإيمان قلبه كما تقدم،
والقسم الثاني: المؤمن حقيقة، صدق ما معه من الإيمان بالأعمال الصالحة،
فأخبر تعالى أنه يدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار، وسميت الجنة جنة،
لاشتمالها على المنازل والقصور والأشجار والنوابت التي تجن من فيها،
ويستتر بها من كثرتها، { إِنَّ اللَّهَ
يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ
} فما أراده تعالى فعله من غير ممانع ولا
معارض، ومن ذلك، إيصال أهل الجنة إليها، جعلنا الله منهم بمنه وكرمه.




{ 15 } { مَنْ
كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ
فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ
هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ
}




أي: من كان يظن أن الله لا ينصر رسوله، وأن دينه سيضمحل، فإن النصر من
الله ينزل من السماء { فَلْيَمْدُدْ }
ذلك الظان { بِسَبَبٍ } أي: حبل {
إِلَى السَّمَاءِ
} وليرقى إليها {
ثُمَّ لِيَقْطَعْ
} النصر النازل عليه من السماء




{ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ
} أي: ما يكيد به الرسول، ويعمله من محاربته، والحرص على إبطال
دينه، ما يغيظه من ظهور دينه، وهذا استفهام بمعنى النفي [وأنه]، لا يقدر
على شفاء غيظه بما يعمله من الأسباب.




ومعنى هذه الآية الكريمة: يا أيها المعادي للرسول محمد صلى الله عليه
وسلم، الساعي في إطفاء دينه، الذي يظن بجهله، أن سعيه سيفيده شيئا، اعلم
أنك مهما فعلت من الأسباب، وسعيت في كيد الرسول، فإن ذلك لا يذهب غيظك،
ولا يشفي كمدك، فليس لك قدرة في ذلك، ولكن سنشير عليك برأي، تتمكن به من
شفاء غيظك، ومن قطع النصر عن الرسول -إن كان ممكنا- ائت الأمر مع بابه،
وارتق إليه بأسبابه، اعمد إلى حبل من ليف أو غيره، ثم علقه في السماء، ثم
اصعد به حتى تصل إلى الأبواب التي ينزل منها النصر، فسدها وأغلقها
واقطعها، فبهذه الحال تشفي غيظك، فهذا هو الرأي: والمكيدة، وأما ما سوى
هذه الحال فلا يخطر ببالك أنك تشفي بها غيظك، ولو ساعدك من ساعدك من
الخلق. وهذه الآية الكريمة، فيها من الوعد والبشارة بنصر الله لدينه
ولرسوله وعباده المؤمنين ما لا يخفى، ومن تأييس الكافرين، الذين يريدون
أن يطفئوا نور الله بأفواههم، والله متم نوره، ولو كره الكافرون، أي:
وسعوا مهما أمكنهم.




{ 16 } {
وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي
مَنْ يُرِيدُ
}




أي: وكذلك لما فصلنا في هذا القرآن ما فصلنا، جعلناه آيات بينات واضحات،
دالات على جميع المطالب والمسائل النافعة، ولكن الهداية بيد الله، فمن
أراد الله هدايته، اهتدى بهذا القرآن، وجعله إماما له وقدوة، واستضاء
بنوره، ومن لم يرد الله هدايته، فلو جاءته كل آية ما آمن، ولم ينفعه
القرآن شيئا، بل يكون حجة عليه.




{ 17 - 24 } {
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ
وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ
يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ
شَيْءٍ شَهِيدٌ * أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي
السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ
وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ
النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ
فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ * هَذَانِ
خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِم
} إلى قوله:




{ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ }
يخبر تعالى عن طوائف أهل الأرض، من الذين أوتوا الكتاب، من المؤمنين
واليهود والنصارى والصابئين، ومن المجوس، ومن المشركين أن الله سيجمعهم
جميعهم ليوم القيامة، ويفصل بينهم بحكمه العدل، ويجازيهم بأعمالهم التي
حفظها وكتبها وشهدها، ولهذا قال: { إِنَّ
اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ
} ثم فصل هذا الفصل بينهم
بقوله: { هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي
رَبِّهِمْ
} كل يدعي أنه المحق.




{ فَالَّذِينَ كَفَرُوا } يشمل كل كافر،
من اليهود، والنصارى، والمجوس، والصابئين، والمشركين.




{ قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ
} أي: يجعل لهم ثياب من قطران، وتشعل فيها النار، ليعمهم العذاب من جميع
جوانبهم.




{ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ
} الماء الحار جدا، يصهر ما في بطونهم من اللحم والشحم والأمعاء،
من شدة حره، وعظيم أمره، { وَلَهُمْ مَقَامِعُ
مِنْ حَدِيدٍ
} بيد الملائكة الغلاظ الشداد، تضربهم فيها وتقمعهم،
{ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا
مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا
} فلا يفتر عنهم العذاب، ولا هم
ينظرون، ويقال لهم توبيخا: { ذُوقُوا عَذَابَ
الْحَرِيقِ
} أي: المحرق للقلوب والأبدان ، {
إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ
} ومعلوم أن هذا
الوصف لا يصدق على غير المسلمين، الذين آمنوا بجميع الكتب، وجميع الرسل،
{ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ
ذَهَبٍ
} أي: يسورون في أيديهم، رجالهم ونساؤهم أساور الذهب.




{ وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ } فتم
نعيمهم بذكر أنواع المأكولات اللذيذات المشتمل عليها، لفظ الجنات، وذكر
الأنهار السارحات، أنهار الماء واللبن والعسل والخمر، وأنواع اللباس،
والحلي الفاخر، وذلك بسبب أنهم { هُدُوا إِلَى
الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ
} الذي أفضله وأطيبه كلمة الإخلاص، ثم
سائر الأقوال الطيبة التي فيها ذكر الله، أو إحسان إلى عباد الله، {
وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ
} أي: الصراط المحمود، وذلك،
لأن جميع الشرع كله محتو على الحكمة والحمد، وحسن المأمور به، وقبح
المنهي عنه، وهو الدين الذي لا إفراط فيه ولا تفريط، المشتمل على العلم
النافع والعمل الصالح. أو: وهدوا إلى صراط الله الحميد، لأن الله كثيرا
ما يضيف الصراط إليه، لأنه يوصل صاحبه إلى الله، وفي ذكر {
الحميد
} هنا، ليبين أنهم نالوا الهداية بحمد ربهم ومنته عليهم،
ولهذا يقولون في الجنة: { الْحَمْدُ لِلَّهِ
الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ
هَدَانَا اللَّهُ
} واعترض تعالى بين هذه الآيات بذكر سجود
المخلوقات له، جميع من في السماوات والأرض، والشمس، والقمر، والنجوم،
والجبال، والشجر، والدواب، الذي يشمل الحيوانات كلها، وكثير من الناس،
وهم المؤمنون، { وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ
الْعَذَابُ
} أي: وجب وكتب، لكفره وعدم إيمانه، فلم يوفقه
للإيمان، لأن الله أهانه، { وَمَنْ يُهِنِ
اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ
} ولا راد لما أراد، ولا معارض
لمشيئته، فإذا كانت المخلوقات كلها ساجدة لربها، خاضعة لعظمته، مستكينة
لعزته، عانية لسلطانه، دل على أنه وحده، الرب المعبود، والملك المحمود،
وأن من عدل عنه إلى عبادة سواه، فقد ضل ضلالا بعيدا، وخسر خسرانا مبينا.




{ 25 } {
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ
وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً
الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِي وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ
نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ
}




يخبر تعالى عن شناعة ما عليه المشركون الكافرون بربهم، وأنهم جمعوا بين
الكفر بالله ورسوله، وبين الصد عن سبيل الله ومنع الناس من الإيمان،
والصد أيضا عن المسجد الحرام، الذي ليس ملكا لهم ولا لآبائهم، بل الناس
فيه سواء، المقيم فيه، والطارئ إليه، بل صدوا عنه أفضل الخلق محمدا
وأصحابه، والحال أن هذا المسجد الحرام، من حرمته واحترامه وعظمته، أن من
يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم.




فمجرد إرادة الظلم والإلحاد في الحرم، موجب للعذاب، وإن كان غيره لا
يعاقب العبد عليه إلا بعمل الظلم، فكيف بمن أتى فيه أعظم الظلم، من الكفر
والشرك، والصد عن سبيله، ومنع من يريده بزيارة، فما ظنكم أن يفعل الله
بهم؟"




وفي هذه الآية الكريمة، وجوب احترام الحرم، وشدة تعظيمه، والتحذير من
إرادة المعاصي فيه وفعلها.

descriptionتفسيرالقران - صفحة 6 Emptyرد: تفسيرالقران

more_horiz
تابع
- تفسير سورة الحج
عدد آياتها 78


(


آية
26-5
1
)

قيل:
مكية، وقيل: مدنية






{ 26 - 29 } {
وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ
بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ
وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ
رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ *
لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ
مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا
مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ * ثُمَّ لْيَقْضُوا
تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ
الْعَتِيقِ
}




يذكر تعالى عظمة البيت الحرام وجلالته وعظمة بانيه، وهو خليل الرحمن،
فقال: { وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ
مَكَانَ الْبَيْتِ
} أي: هيأناه له، وأنزلناه إياه، وجعل قسما من
ذريته من سكانه، وأمره الله ببنيانه، فبناه على تقوى الله، وأسسه على
طاعة الله، وبناه هو وابنه إسماعيل، وأمره أن لا يشرك به شيئا، بأن يخلص
لله أعماله، ويبنيه على اسم الله.




{ وَطَهِّرْ بَيْتِيَ } أي: من الشرك
والمعاصي، ومن الأنجاس والأدناس وأضافه الرحمن إلى نفسه، لشرفه، وفضله،
ولتعظم محبته في القلوب، وتنصب إليه الأفئدة من كل جانب، وليكون أعظم
لتطهيره وتعظيمه، لكونه بيت الرب للطائفين به والعاكفين عنده، المقيمين
لعبادة من العبادات من ذكر، وقراءة، وتعلم علم وتعليمه، وغير ذلك من
أنواع القرب، { وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ
} أي: المصلين، أي: طهره لهؤلاء الفضلاء، الذين همهم طاعة مولاهم وخدمته،
والتقرب إليه عند بيته، فهؤلاء لهم الحق، ولهم الإكرام، ومن إكرامهم
تطهير البيت لأجلهم، ويدخل في تطهيره، تطهيره من الأصوات اللاغية
والمرتفعة التي تشوش المتعبدين، بالصلاة والطواف، وقدم الطواف على
الاعتكاف والصلاة، لاختصاصه بهذا البيت، ثم الاعتكاف، لاختصاصه بجنس
المساجد.




{ وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ }
أي: أعلمهم به، وادعهم إليه، وبلغ دانيهم وقاصيهم، فرضه وفضيلته، فإنك
إذا دعوتهم، أتوك حجاجا وعمارا، رجالا، أي: مشاة على أرجلهم من الشوق، {
وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ
} أي: ناقة ضامر، تقطع المهامه والمفاوز،
وتواصل السير، حتى تأتي إلى أشرف الأماكن، {
مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ
} أي: من كل بلد بعيد، وقد فعل الخليل
عليه السلام، ثم من بعده ابنه محمد صلى الله عليه وسلم، فدعيا الناس إلى
حج هذا البيت، وأبديا في ذلك وأعادا، وقد حصل ما وعد الله به، أتاه الناس
رجالا وركبانا من مشارق الأرض ومغاربها، ثم ذكر فوائد زيارة بيت الله
الحرام، مرغبا فيه فقال: { لِيَشْهَدُوا
مَنَافِعَ لَهُمْ
} أي: لينالوا ببيت الله منافع دينية، من
العبادات الفاضلة، والعبادات التي لا تكون إلا فيه، ومنافع دنيوية، من
التكسب، وحصول الأرباح الدنيوية، وكل هذا أمر مشاهد كل يعرفه، {
وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا
رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ
} وهذا من المنافع
الدينية والدنيوية، أي: ليذكروا اسم الله عند ذبح الهدايا، شكرا لله على
ما رزقهم منها، ويسرها لهم، فإذا ذبحتموها {
فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ
} أي: شديد
الفقر ، { ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ
} أي: يقضوا نسكهم، ويزيلوا الوسخ والأذى، الذي لحقهم في حال الإحرام، {
وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ
} التي أوجبوها على أنفسهم، من الحج،
والعمرة والهدايا، { وَلْيَطَّوَّفُوا
بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ
} أي: القديم، أفضل المساجد على الإطلاق،
المعتق: من تسلط الجبابرة عليه. وهذا أمر بالطواف، خصوصا بعد الأمر
بالمناسك عموما، لفضله، وشرفه، ولكونه المقصود، وما قبله وسائل إليه.




ولعله -والله أعلم أيضا- لفائدة أخرى، وهو: أن الطواف مشروع كل وقت،
وسواء كان تابعا لنسك، أم مستقلا بنفسه.




{ 30 - 31 } {
ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ
رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ
فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ
الزُّورِ *حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ
بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ
أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ
}




{ ذَلِكَ } الذي ذكرنا لكم من تلكم
الأحكام، وما فيها من تعظيم حرمات الله وإجلالها وتكريمها، لأن تعظيم
حرمات الله، من الأمور المحبوبة لله، المقربة إليه، التي من عظمها
وأجلها، أثابه الله ثوابا جزيلا، وكانت خيرا له في دينه، ودنياه وأخراه
عند ربه.




وحرمات الله: كل ماله حرمة، وأمر باحترامه، بعبادة أو غيرها، كالمناسك
كلها، وكالحرم والإحرام، وكالهدايا، وكالعبادات التي أمر الله العباد
بالقيام بها، فتعظيمها إجلالها بالقلب، ومحبتها، وتكميل العبودية فيها،
غير متهاون، ولا متكاسل، ولا متثاقل، ثم ذكر منته وإحسانه بما أحله
لعباده، من بهيمة الأنعام، من إبل وبقر وغنم، وشرعها من جملة المناسك،
التي يتقرب بها إليه، فعظمت منته فيها من الوجهين، {
إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ
} في القرآن تحريمه من قوله: {
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ
} الآية، ولكن الذي من رحمته بعباده، أن حرمه عليهم، ومنعهم منه،
تزكية لهم، وتطهيرا من الشرك به وقول الزور، ولهذا قال: {
فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ
} أي: الخبث القذر {
مِنَ الْأَوْثَانِ
} أي: الأنداد، التي جعلتموها آلهة مع الله،
فإنها أكبر أنواع الرجس، والظاهر أن { من
} هنا ليست لبيان الجنس، كما قاله كثير من المفسرين، وإنما هي
للتبعيض، وأن الرجس عام في جميع المنهيات المحرمات، فيكون منهيا عنها
عموما، وعن الأوثان التي هي بعضها خصوصا، {
وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ
} أي: جميع الأقوال المحرمات،
فإنها من قول الزور الذي هو الكذب، ومن ذلك شهادة الزور فلما نهاهم عن
الشرك والرجس وقول الزور.




أمرهم أن يكونوا { حُنَفَاءَ لِلَّهِ }
أي: مقبلين عليه وعلى عبادته، معرضين عما سواه.




{ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ
بِاللَّهِ
} فمثله { فَكَأَنَّمَا خَرَّ
مِنَ السَّمَاءِ
} أي: سقط منها {
فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ
} بسرعة { أَوْ
تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ
} أي: بعيد، كذلك
المشرك، فالإيمان بمنزلة السماء، محفوظة مرفوعة.




ومن ترك الإيمان، بمنزلة الساقط من السماء، عرضة للآفات والبليات، فإما
أن تخطفه الطير فتقطعه أعضاء، كذلك المشرك إذا ترك الاعتصام بالإيمان
تخطفته الشياطين من كل جانب، ومزقوه، وأذهبوا عليه دينه ودنياه.




{ 32 - 33 } {
ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى
الْقُلُوبِ * لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ
مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ
}




أي: ذلك الذي ذكرنا لكم من تعظيم حرماته وشعائره، والمراد بالشعائر:
أعلام الدين الظاهرة، ومنها المناسك كلها، كما قال تعالى: {
إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ
} ومنها
الهدايا والقربان للبيت، وتقدم أن معنى تعظيمها، إجلالها، والقيام بها،
وتكميلها على أكمل ما يقدر عليه العبد، ومنها الهدايا، فتعظيمها،
باستحسانها واستسمانها، وأن تكون مكملة من كل وجه، فتعظيم شعائر الله
صادر من تقوى القلوب، فالمعظم لها يبرهن على تقواه وصحة إيمانه، لأن
تعظيمها، تابع لتعظيم الله وإجلاله.




{ لَكُمْ فِيهَا } أي: [في] الهدايا {
مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى
} هذا في الهدايا المسوقة، من
البدن ونحوها، ينتفع بها أربابها، بالركوب، والحلب ونحو ذلك، مما لا
يضرها { إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى } مقدر،
موقت وهو ذبحها إذا وصلت مَحِلُّهَا وهو الْبَيْتِ الْعَتِيقِ، أي: الحرم
كله " منى " وغيرها، فإذا ذبحت، أكلوا منها وأهدوا، وأطعموا البائس
الفقير.




{ 34 - 35 } {
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى
مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ
فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ * الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ
اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ
وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ
}




أي: ولكل أمة من الأمم السالفة جعلنا منسكا، أي: فاستبقوا إلى الخيرات
وتسارعوا إليها، ولننظر أيكم أحسن عملا، والحكمة في جعل الله لكل أمة
منسكا، لإقامة ذكره، والالتفات لشكره، ولهذا قال: {
لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ
الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ
} وإن اختلفت أجناس
الشرائع، فكلها متفقة على هذا الأصل، وهو ألوهية الله، وإفراده
بالعبودية، وترك الشرك به ولهذا قال: { فَلَهُ
أَسْلِمُوا
} أي: انقادوا واستسلموا له لا لغيره، فإن الإسلام له
طريق إلى الوصول إلى دار السلام. { وَبَشِّرِ
الْمُخْبِتِينَ
} بخير الدنيا والآخرة، والمخبت: الخاضع لربه،
المستسلم لأمره، المتواضع لعباده ، ثم ذكر صفات المخبتين فقال: {
الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ
} أي: خوفا
وتعظيما، فتركوا لذلك المحرمات، لخوفهم ووجلهم من الله وحده، {
وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ
} من البأساء والضراء،
وأنواع الأذى، فلا يجري منهم التسخط لشيء من ذلك، بل صبروا ابتغاء وجه
ربهم، محتسبين ثوابه، مرتقبين أجره، {
وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ
} أي: الذين جعلوها قائمة مستقيمة
كاملة، بأن أدوا اللازم فيها والمستحب، وعبوديتها الظاهرة والباطنة، {
وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ
} وهذا يشمل جميع النفقات
الواجبة، كالزكاة، والكفارة، والنفقة على الزوجات والمماليك، والأقارب،
والنفقات المستحبة، كالصدقات بجميع وجوهها، وأتي بـ {
من
} المفيدة للتبعيض، ليعلم سهولة ما أمر الله به ورغب فيه، وأنه
جزء يسير مما رزق الله، ليس للعبد في تحصيله قدرة، لولا تيسير الله له
ورزقه إياه. فيا أيها المرزوق من فضل الله، أنفق مما رزقك الله، ينفق
الله عليك، ويزدك من فضله.




{ 36 - 37 } {
وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا
خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ
جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ
كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * لَنْ يَنَالَ
اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى
مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا
هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ
}




هذا دليل على أن الشعائر عام في جميع أعلام الدين الظاهرة. وتقدم أن الله
أخبر أن من عظم شعائره، فإن ذلك من تقوى القلوب، وهنا أخبر أن من جملة
شعائره، البدن، أي: الإبل، والبقر، على أحد القولين، فتعظم وتستسمن،
وتستحسن، { لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ } أي:
المهدي وغيره، من الأكل، والصدقة، والانتفاع، والثواب، والأجر، {
فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا
} أي: عند ذبحها قولوا " بسم
الله "س واذبحوها، { صَوَافَّ } أي:
قائمات، بأن تقام على قوائمها الأربع، ثم تعقل يدها اليسرى، ثم تنحر.




{ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا } أي:
سقطت في الأرض جنوبها، حين تسلخ، ثم يسقط الجزار جنوبها على الأرض،
فحينئذ قد استعدت لأن يؤكل منها، { فَكُلُوا
مِنْهَا
} وهذا خطاب للمهدي، فيجوز له الأكل من هديه، {
وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ
} أي: الفقير الذي لا
يسأل، تقنعا، وتعففا، والفقير الذي يسأل، فكل منهما له حق فيهما.




{ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ } أي:
البدن { لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } الله
على تسخيرها، فإنه لولا تسخيره لها، لم يكن لكم بها طاقة، ولكنه ذللها
لكم وسخرها، رحمة بكم وإحسانا إليكم، فاحمدوه.




وقوله: { لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا
وَلَا دِمَاؤُهَا
} أي: ليس المقصود منها ذبحها فقط. ولا ينال
الله من لحومها ولا دمائها شيء، لكونه الغني الحميد، وإنما يناله الإخلاص
فيها، والاحتساب، والنية الصالحة، ولهذا قال: {
وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ
} ففي هذا حث وترغيب على
الإخلاص في النحر، وأن يكون القصد وجه الله وحده، لا فخرا ولا رياء، ولا
سمعة، ولا مجرد عادة، وهكذا سائر العبادات، إن لم يقترن بها الإخلاص
وتقوى الله، كانت كالقشور الذي لا لب فيه، والجسد الذي لا روح فيه.




{ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا
اللَّهَ
} أي: تعظموه وتجلوه، { عَلَى
مَا هَدَاكُمْ
} أي: مقابلة لهدايته إياكم، فإنه يستحق أكمل
الثناء وأجل الحمد، وأعلى التعظيم، { وَبَشِّرِ
الْمُحْسِنِينَ
} بعبادة الله بأن يعبدوا الله، كأنهم يرونه، فإن
لم يصلوا إلى هذه الدرجة فليعبدوه، معتقدين وقت عبادتهم اطلاعه عليهم،
ورؤيته إياهم، والمحسنين لعباد الله، بجميع وجوه الإحسان من نفع مال، أو
علم، أو جاه، أو نصح، أو أمر بمعروف، أو نهي عن منكر، أو كلمة طيبة ونحو
ذلك، فالمحسنون لهم البشارة من الله، بسعادة الدنيا والآخرة وسيحسن الله
إليهم، كما أحسنوا في عبادته ولعباده { هَلْ
جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ
} {
لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ
}




{ 38 } {
إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا
يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ
}




هذا إخبار ووعد وبشارة من الله، للذين آمنوا، أن الله يدافع عنهم كل
مكروه، ويدفع عنهم كل شر -بسبب إيمانهم- من شر الكفار، وشر وسوسة
الشيطان، وشرور أنفسهم، وسيئات أعمالهم، ويحمل عنهم عند نزول المكاره، ما
لا يتحملون، فيخفف عنهم غاية التخفيف. كل مؤمن له من هذه المدافعة
والفضيلة بحسب إيمانه، فمستقل ومستكثر.




{ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ
} أي: خائن في أمانته التي حمله الله إياها، فيبخس حقوق الله
عليه، ويخونها، ويخون الخلق.




{ كَفُورٌ } لنعم الله، يوالي عليه
الإحسان، ويتوالى منه الكفر والعصيان، فهذا لا يحبه الله، بل يبغضه
ويمقته، وسيجازيه على كفره وخيانته، ومفهوم الآية، أن الله يحب كل أمين
قائم بأمانته، شكور لمولاه.




{ 39 - 41 } {
أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ
عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ
بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ
اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ
وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا
وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ
عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا
الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا
عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ
}




كان المسلمون في أول الإسلام ممنوعين من قتال الكفار، ومأمورين بالصبر
عليهم، لحكمة إلهية، فلما هاجروا إلى المدينة، وأوذوا، وحصل لهم منعة
وقوة، أذن لهم بالقتال، قال تعالى: { أُذِنَ
لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ
} يفهم منه أنهم كانوا قبل ممنوعين، فأذن
الله لهم بقتال الذين يقاتلون، وإنما أذن لهم، لأنهم ظلموا، بمنعهم من
دينهم، وأذيتهم عليه، وإخراجهم من ديارهم.




{ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ
} فليستنصروه، وليستعينوا به، ثم ذكر صفة ظلمهم فقال: {
الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ
} أي: ألجئوا إلى الخروج
بالأذية والفتنة { بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا
} أن ذنبهم الذي نقم منهم أعداؤهم {
أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ
} أي: إلا أنهم وحدوا الله،
وعبدوه مخلصين له الدين، فإن كان هذا ذنبا، فهو ذنبهم كقوله تعالى: {
وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ
الْحَمِيدِ
} وهذا يدل على حكمة الجهاد، وأن المقصود منه إقامة
دين الله، وذب الكفار المؤذين للمؤمنين، البادئين لهم بالاعتداء، عن
ظلمهم واعتدائهم، والتمكن من عبادة الله، وإقامة الشرائع الظاهرة، ولهذا
قال: { وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ
بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ
} فيدفع الله بالمجاهدين في سبيله ضرر
الكافرين، { لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ
وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ
} أي: لهدمت هذه المعابد الكبار، لطوائف
أهل الكتاب، معابد اليهود والنصارى، والمساجد للمسلمين، {
يُذْكَرَ فِيهَا
} أي: في هذه المعابد {
اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا
} تقام فيها الصلوات، وتتلى فيها كتب
الله، ويذكر فيها اسم الله بأنواع الذكر، فلولا دفع الله الناس بعضهم
ببعض، لاستولى الكفار على المسلمين، فخربوا معابدهم، وفتنوهم عن دينهم،
فدل هذا، أن الجهاد مشروع، لأجل دفع الصائل والمؤذي، ومقصود لغيره، ودل
ذلك على أن البلدان التي حصلت فيها الطمأنينة بعبادة الله، وعمرت
مساجدها، وأقيمت فيها شعائر الدين كلها، من فضائل المجاهدين وببركتهم،
دفع الله عنها الكافرين، قال الله تعالى: {
وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ
الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ
}




فإن قلت: نرى الآن مساجد المسلمين عامرة لم تخرب، مع أنها كثير منها
إمارة صغيرة، وحكومة غير منظمة، مع أنهم لا يدان لهم بقتال من جاورهم من
الإفرنج، بل نرى المساجد التي تحت ولايتهم وسيطرتهم عامرة، وأهلها آمنون
مطمئنون، مع قدرة ولاتهم من الكفار على هدمها، والله أخبر أنه لولا دفع
الله الناس بعضهم ببعض، لهدمت هذه المعابد، ونحن لا نشاهد دفعا.




أجيب بأن هذا السؤال والاستشكال، داخل في عموم هذه الآية وفرد من
أفرادها، فإن من عرف أحوال الدول الآن ونظامها، وأنها تعتبر كل أمة وجنس
تحت ولايتها، وداخل في حكمها، تعتبره عضوا من أعضاء المملكة، وجزء من
أجزاء الحكومة، سواء كانت تلك الأمة مقتدرة بعددها أو عددها، أو مالها،
أو عملها، أو خدمتها، فتراعي الحكومات مصالح ذلك الشعب، الدينية
والدنيوية، وتخشى إن لم تفعل ذلك أن يختل نظامها، وتفقد بعض أركانها،
فيقوم من أمر الدين بهذا السبب ما يقوم، خصوصا المساجد، فإنها -ولله
الحمد- في غاية الانتظام، حتى في عواصم الدول الكبار.




وتراعي تلك الدول الحكومات المستقلة، نظرا لخواطر رعاياهم المسلمين، مع
وجود التحاسد والتباغض بين دول النصارى، الذي أخبر الله أنه لا يزال إلى
يوم القيامة، فتبقى الحكومة المسلمة، التي لا تقدر تدافع عن نفسها، سالمة
من [كثير] ضررهم، لقيام الحسد عندهم، فلا يقدر أحدهم أن يمد يده عليها،
خوفا من احتمائها بالآخر، مع أن الله تعالى لا بد أن يري عباده من نصر
الإسلام والمسلمين، ما قد وعد به في كتابه.




وقد ظهرت -ولله الحمد- أسبابه [بشعور المسلمين بضرورة رجوعهم إلى دينهم
والشعور مبدأ العمل] فنحمده ونسأله أن يتم نعمته، ولهذا قال في وعده
الصادق المطابق للواقع: { وَلَيَنْصُرَنَّ
اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ
} أي: يقوم بنصر دينه، مخلصا له في ذلك،
يقاتل في سبيله، لتكون كلمة الله هي العليا.




{ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ }
أي: كامل القوة، عزيز لا يرام، قد قهر الخلائق، وأخذ بنواصيهم، فأبشروا،
يا معشر المسلمين، فإنكم وإن ضعف عددكم وعددكم، وقوي عدد عدوكم وعدتهم
فإن ركنكم القوي العزيز، ومعتمدكم على من خلقكم وخلق ما تعملون، فاعملوا
بالأسباب المأمور بها، ثم اطلبوا منه نصركم، فلا بد أن ينصركم.




{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ
تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ
}
وقوموا، أيها المسلمون، بحق الإيمان والعمل الصالح، فقد {
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ
وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا
يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا
}




ثم ذكر علامة من ينصره، وبها يعرف، أن من ادعى أنه ينصر الله وينصر دينه،
ولم يتصف بهذا الوصف، فهو كاذب فقال: {
الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ
} أي: ملكناهم إياها،
وجعلناهم المتسلطين عليها، من غير منازع ينازعهم، ولا معارض، {
أَقَامُوا الصَّلَاةَ
} في أوقاتها، وحدودها، وأركانها، وشروطها،
في الجمعة والجماعات.




{ وَآتُوا الزَّكَاةَ } التي عليهم
خصوصا، وعلى رعيتهم عموما، آتوها أهلها، الذين هم أهلها، {
وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ
} وهذا يشمل كل معروف حسنه شرعا وعقلا،
من حقوق الله، وحقوق الآدميين، { وَنَهَوْا
عَنِ الْمُنْكَرِ
} كل منكر شرعا وعقلا، معروف قبحه، والأمر
بالشيء والنهي عنه يدخل فيه ما لا يتم إلا به، فإذا كان المعروف والمنكر
يتوقف على تعلم وتعليم، أجبروا الناس على التعلم والتعليم، وإذا كان
يتوقف على تأديب مقدر شرعا، أو غير مقدر، كأنواع التعزير، قاموا بذلك،
وإذا كان يتوقف على جعل أناس متصدين له، لزم ذلك، ونحو ذلك مما لا يتم
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا به.




{ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ } أي:
جميع الأمور، ترجع إلى الله، وقد أخبر أن العاقبة للتقوى، فمن سلطه الله
على العباد من الملوك، وقام بأمر الله، كانت له العاقبة الحميدة، والحالة
الرشيدة، ومن تسلط عليهم بالجبروت، وأقام فيهم هوى نفسه، فإنه وإن حصل له
ملك موقت، فإن عاقبته غير حميدة، فولايته مشئومة، وعاقبته مذمومة.




{ 42 - 46 } {
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ
وَثَمُودُ * وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ * وَأَصْحَابُ
مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ
أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ * فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ
أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا
وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ * أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي
الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ
يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى
الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ
}




يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وإن يكذبك هؤلاء المشركون
فلست بأول رسول كذب، وليسوا بأول أمة كذبت رسولها {
فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ* وَقَوْمُ
إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ* وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ
} أي: قوم
شعيب.




{ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ
لِلْكَافِرِينَ
} المكذبين، فلم أعاجلهم بالعقوبة، بل أمهلتهم،
حتى استمروا في طغيانهم يعمهون، وفي كفرهم وشرهم يزدادون، {
ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ
} بالعذاب أخذ عزيز مقتدر {
فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ
} أي: إنكاري عليهم كفرهم، وتكذيبهم كيف
حاله، كان أشد العقوبات، وأفظع المثلات، فمنهم من أغرقه، ومنهم من أخذته
الصيحة، ومنهم من أهلك بالريح العقيم، ومنهم من خسف به الأرض، ومنهم من
أرسل عليه عذاب يوم الظلة، فليعتبر بهم هؤلاء المكذبون، أن يصيبهم ما
أصابهم، فإنهم ليسوا خيرا منهم، ولا كتب لهم براءة في الكتب المنزلة من
الله، وكم من المعذبين المهلكين أمثال هؤلاء كثير، ولهذا قال: {
فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ
} أي: وكم من قرية {
أَهْلَكْنَاهَا
} بالعذاب الشديد، والخزي الدنيوي، {
وَهِيَ ظَالِمَةٌ
} بكفرها بالله وتكذيبها لرسله، لم يكن عقوبتنا
لها ظلما منا، { فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى
عُرُوشِهَا
} أي: فديارهم متهدمة، قصورها، وجدرانها، قد سقطت
عروشها، فأصبحت خرابا بعد أن كانت عامرة، وموحشة بعد أن كانت آهلة بأهلها
آنسة، { وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ
} أي: وكم من بئر، قد كان يزدحم عليه الخلق، لشربهم، وشرب
مواشيهم، ففقد أهله، وعدم منه الوارد والصادر، وكم من قصر، تعب عليه
أهله، فشيدوه، ورفعوه، وحصنوه، وزخرفوه، فحين جاءهم أمر الله، لم يغن
عنهم شيئا، وأصبح خاليا من أهله، قد صاروا عبرة لمن اعتبر، ومثالا لمن
فكر ونظر.




ولهذا دعا الله عباده إلى السير في الأرض، لينظروا، ويعتبروا فقال: {
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ
} بأبدانهم وقلوبهم {
فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا
} آيات الله ويتأملون
بها مواقع عبره، { أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ
بِهَا
} أخبار الأمم الماضين، وأنباء القرون المعذبين، وإلا فمجرد
نظر العين، وسماع الأذن، وسير البدن الخالي من التفكر والاعتبار، غير
مفيد، ولا موصل إلى المطلوب، ولهذا قال: {
فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ
الَّتِي فِي الصُّدُورِ
} أي: هذا العمى الضار في الدين، عمى
القلب عن الحق، حتى لا يشاهده كما لا يشاهد الأعمى المرئيات، وأما عمى
البصر، فغايته بلغة، ومنفعة دنيوية.




{ 47 - 48 } {
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ
وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ *
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ
أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ
}




أي: يستعجلك هؤلاء المكذبون بالعذاب، لجهلهم، وظلمهم، وعنادهم، وتعجيزا
لله، وتكذيبا لرسله، ولن يخلف الله وعده، فما وعدهم به من العذاب، لابد
من وقوعه، ولا يمنعهم منه مانع، وأما عجلته، والمبادرة فيه، فليس ذلك
إليك يا محمد، ولا يستفزنك عجلتهم وتعجيزهم إيانا. فإن أمامهم يوم
القيامة، الذي يجمع فيه أولهم وآخرهم، ويجازون بأعمالهم، ويقع بهم العذاب
الدائم الأليم، ولهذا قال: { وَإِنَّ يَوْمًا
عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ
} من طوله،
وشدته، وهو له، فسواء أصابهم عذاب في الدنيا، أم تأخر عنهم العذاب، فإن
هذا اليوم، لا بد أن يدركهم.




ويحتمل أن المراد: أن الله حليم، ولو استعجلوا العذاب، فإن يوما عنده
كألف سنة مما تعدون، فالمدة، وإن تطاولتموها، واستبطأتم فيها نزول
العذاب، فإن الله يمهل المدد الطويلة ولا يهمل، حتى إذا أخذ الظالمين
بعذابه لم يفلتهم.




{ وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا
} أي: أمهلتها مدة طويلة { وَهِيَ
ظَالِمَةٌ
} أي: مع ظلمهم، فلم يكن مبادرتهم بالظلم، موجبا
لمبادرتنا بالعقوبة، { ثُمَّ أَخَذْتُهَا
} بالعذاب { وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ
} أي: مع عذابها في الدنيا، سترجع إلى الله، فيعذبها بذنوبها،
فليحذر هؤلاء الظالمون من حلول عقاب الله، ولا يغتروا بالإمهال.




{ 49 - 51 } {
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ *
فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ
وَرِزْقٌ كَرِيمٌ * وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ
أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ
}




يأمر تعالى عبده ورسوله محمدا صلى الله عليه وسلم أن يخاطب الناس جميعا،
بأنه رسول الله حقا، مبشرا للمؤمنين بثواب الله، منذرا للكافرين
والظالمين من عقابه، وقوله: { مُبِينٌ }
أي: بين الإنذار، وهو التخويف مع الإعلام بالمخوف، وذلك لأنه أقام
البراهين الساطعة على صدق ما أنذرهم به، ثم ذكر تفصيل النذارة والبشارة
فقال: { فَالَّذِينَ آمَنُوا } بقلوبهم
إيمانا صحيحا صادقا { وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
} بجوارحهم { في جنات النعيم }
أي: الجنات التي يتنعم بها بأنواع النعيم من المآكل والمشارب والمناكح
والصور والأصوات والتنعم برؤية الرب الكريم وسماع كلامه {
والذين كفروا
} أي: جحدوا نعمة ربهم وكذبوا رسله وآياته فأولئك
أصحاب الجحيم أي: الملازمون لها، المصاحبون لها في كل أوقاتهم، فلا يخفف
عنهم من عذابها ولا يفتر عنهم لحظة من عقابها.

descriptionتفسيرالقران - صفحة 6 Emptyرد: تفسيرالقران

more_horiz
تابع
- تفسير سورة الحج
عدد آياتها 78


(



آية

52-78
)
قيل:
مكية، وقيل: مدنية






{ 52 - 57 } {
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا
إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ
اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ
وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ
فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ
وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ
أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ
فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِي الَّذِينَ آمَنُوا
إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي
مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ
يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ * الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ
يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي
جَنَّاتِ النَّعِيمِ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا
فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ
}




يخبر تعالى بحكمته البالغة، واختياره لعباده، وأن الله ما أرسل قبل محمد
{ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا
تَمَنَّى
} أي: قرأ قراءته، التي يذكر بها الناس، ويأمرهم
وينهاهم، { أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي
أُمْنِيَّتِهِ
} أي: في قراءته، من طرقه ومكايده، ما هو مناقض
لتلك القراءة، مع أن الله تعالى قد عصم الرسل بما يبلغون عن الله، وحفظ
وحيه أن يشتبه، أو يختلط بغيره. ولكن هذا الإلقاء من الشيطان، غير مستقر
ولا مستمر، وإنما هو عارض يعرض، ثم يزول، وللعوارض أحكام، ولهذا قال: {
فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ
} أي: يزيله ويذهبه
ويبطله، ويبين أنه ليس من آياته، و { يُحْكِمُ
اللَّهُ آيَاتِهِ
} أي: يتقنها، ويحررها، ويحفظها، فتبقى خالصة من
مخالطة إلقاء الشيطان، { وَاللَّهُ عَزِيزٌ
} أي: كامل القوة والاقتدار، فبكمال قوته، يحفظ وحيه، ويزيل ما
تلقيه الشياطين، { حَكِيمٌ } يضع
الأشياء مواضعها، فمن كمال حكمته، مكن الشياطين من الإلقاء المذكور،
ليحصل ما ذكره بقوله: { لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي
الشَّيْطَانُ فِتْنَةً
} لطائفتين من الناس، لا يبالي الله بهم،
وهم الذين { فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ }
أي: ضعف وعدم إيمان تام وتصديق جازم، فيؤثر في قلوبهم أدنى شبهة تطرأ
عليها، فإذا سمعوا ما ألقاه الشيطان، داخلهم الريب والشك، فصار فتنة لهم.




{ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ } أي:
الغليظة، التي لا يؤثر فيها زجر ولا تذكير، ولا تفهم عن الله وعن رسوله
لقسوتها، فإذا سمعوا ما ألقاه الشيطان، جعلوه حجة لهم على باطلهم،
وجادلوا به وشاقوا الله ورسوله، ولهذا قال: {
وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ
} أي: مشاقة لله،
ومعاندة للحق، ومخالفة له، بعيد من الصواب، فما يلقيه الشيطان، يكون فتنة
لهؤلاء الطائفتين، فيظهر به ما في قلوبهم، من الخبث الكامن فيها ، وأما
الطائفة الثالثة، فإنه يكون رحمة في حقها، وهم المذكورون بقوله: {
وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ
} لأن الله منحهم من العلم، ما به يعرفون الحق من الباطل، والرشد
من الغي، فيميزون بين الأمرين، الحق المستقر، الذي يحكمه الله، والباطل
العارض الذي ينسخه الله، بما على كل منهما من الشواهد، وليعلموا أن الله
حكيم، يقيض بعض أنواع الابتلاء، ليظهر بذلك كمائن النفوس الخيرة
والشريرة، { فَيُؤْمِنُوا بِهِ } بسبب
ذلك، ويزداد إيمانهم عند دفع المعارض والشبه.




{ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ } أي:
تخشع وتخضع، وتسلم لحكمته، وهذا من هدايته إياهم، {
وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِي الَّذِينَ آمَنُوا
} بسبب إيمانهم {
إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ
} علم بالحق، وعمل بمقتضاه، فيثبت الله
الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، وهذا النوع من
تثبيت الله لعبده.




وهذه الآيات، فيها بيان أن للرسول صلى الله عليه وسلم أسوة بإخوانه
المرسلين، لما وقع منه عند قراءته صلى الله عليه وسلم: {
والنجم
} فلما بلغ { أَفَرَأَيْتُمُ
اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى
} ألقى
الشيطان في قراءته: " تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترتجى " فحصل
بذلك للرسول حزن وللناس فتنة، كما ذكر الله، فأنزل الله هذه الآيات.




{ 55 - 57 } {
وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى
تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ
عَقِيمٍ * الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * وَالَّذِينَ
كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ
}




يخبر تعالى عن حالة الكفار، وأنهم لا يزالون في شك مما جئتهم به يا محمد،
لعنادهم، وإعراضهم، وأنهم لا يبرحون مستمرين على هذه الحال {
حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً
} أي: مفاجأة {
أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ
} أي: لا خير فيه، وهو
يوم القيامة، فإذا جاءتهم الساعة، أو أتاهم ذلك اليوم، علم الذين كفروا
أنهم كانوا كاذبين، وندموا حيث لا ينفعهم الندم، وأبلسوا وأيسوا من كل
خير، وودوا لو آمنوا بالرسول واتخذوا معه سبيلا، ففي هذا تحذيرهم من
إقامتهم على مريتهم وفريتهم.




{ الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ } أي: يوم
القيامة { لِلَّهِ } تعالى، لا لغيره، {
يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ
} بحكمه العدل، وقضائه الفصل، {
فَالَّذِينَ آمَنُوا
} بالله ورسله، وما جاءوا به {
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
} ليصدقوا بذلك إيمانهم {
فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ
} نعيم القلب والروح والبدن، مما لا يصفه
الواصفون، ولا تدركه العقول.




{ وَالَّذِينَ كَفَرُوا } بالله ورسله
وكذبوا بآياته الهادية للحق والصواب فأعرضوا عنها، أو عاندوها، {
فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ
} لهم، من شدته، وألمه،
وبلوغه للأفئدة كما استهانوا برسله وآياته، أهانهم الله بالعذاب.




{ 58 - 59 } {
وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا
لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ
خَيْرُ الرَّازِقِينَ * لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ
وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ
}




هذه بشارة كبرى، لمن هاجر في سبيل الله، فخرج من داره ووطنه وأولاده
وماله، ابتغاء وجه الله، ونصرة لدين الله، فهذا قد وجب أجره على الله،
سواء مات على فراشه، أو قتل مجاهدا في سبيل الله، {
لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا
} في البرزخ، وفي يوم
القيامة بدخول الجنة الجامعة للروح والريحان، والحسن والإحسان، ونعيم
القلب والبدن، ويحتمل أن المعنى أن المهاجر في سبيل الله، قد تكفل برزقه
في الدنيا، رزقا واسعا حسنا، سواء علم الله منه أنه يموت على فراشه، أو
يقتل شهيدا، فكلهم مضمون له الرزق، فلا يتوهم أنه إذا خرج من دياره
وأمواله، سيفتقر ويحتاج، فإن رازقه هو خير الرازقين، وقد وقع كما أخبر،
فإن المهاجرين السابقين، تركوا ديارهم وأبناءهم وأموالهم، نصرة لدين
الله، فلم يلبثوا إلا يسيرا، حتى فتح الله عليهم البلاد، ومكنهم من
العباد فاجتبوا من أموالها، ما كانوا به من أغنى الناس، ويكون على هذا
القول، قوله: { لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا
يَرْضَوْنَهُ
} إما ما يفتحه الله عليهم من البلدان، خصوصا فتح
مكة المشرفة، فإنهم دخلوها في حالة الرضا والسرور، وإما المراد به رزق
الآخرة، وأن ذلك دخول الجنة، فتكون الآية جمعت بين الرزقين، رزق الدنيا،
ورزق الآخرة، واللفظ صالح لذلك كله، والمعنى صحيح، فلا مانع من إرادة
الجميع { وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ }
بالأمور، ظاهرها، وباطنها، متقدمها، ومتأخرها، {
حَلِيمٌ
} يعصيه الخلائق، ويبارزونه بالعظائم، وهو لا يعاجلهم
بالعقوبة مع كمال اقتداره، بل يواصل لهم رزقه، ويسدي إليهم فضله.




{ 60 } {
ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ
لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ
}




ذلك بأن من جني عليه وظلم، فإنه يجوز له مقابلة الجاني بمثل جنايته، فإن
فعل ذلك، فليس عليه سبيل، وليس بملوم، فإن بغي عليه بعد هذا، فإن الله
ينصره، لأنه مظلوم، فلا يجوز أن يبغي عليه، بسبب أنه استوفى حقه، وإذا
كان المجازي غيره، بإساءته إذا ظلم بعد ذلك، نصره الله، فالذي بالأصل لم
يعاقب أحدا إذا ظلم وجني عليه، فالنصر إليه أقرب.




{ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ }
أي: يعفو عن المذنبين، فلا يعاجلهم بالعقوبة، ويغفر ذنوبهم فيزيلها،
ويزيل آثارها عنهم، فالله هذا وصفه المستقر اللازم الذاتي، ومعاملته
لعباده في جميع الأوقات بالعفو والمغفرة، فينبغي لكم أيها المظلومون
المجني عليهم، أن تعفوا وتصفحوا وتغفروا ليعاملكم الله كما تعاملون عباده
{ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى
اللَّهِ
}




{ 61 - 62 } {
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ
النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ * ذَلِكَ
بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ
الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ
}





ذلك الذي شرع لكم تلك الأحكام الحسنة العادلة، هو حسن التصرف، في تقديره
وتدبيره، الذي { يُولِجُ اللَّيْلَ فِي
النَّهَارِ
} أي: يدخل هذا على هذا، وهذا على هذا، فيأتي بالليل
بعد النهار، وبالنهار بعد الليل، ويزيد في أحدهما ما ينقصه في الآخر، ثم
بالعكس، فيترتب على ذلك، قيام الفصول، ومصالح الليل والنهار، والشمس
والقمر، التي هي من أجل نعمه على العباد، وهي من الضروريات لهم. {
وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ
} يسمع ضجيج الأصوات، باختلاف، اللغات،
على تفنن الحاجات، { بَصِيرٌ } يرى دبيب
النملة السوداء، تحت الصخرة الصماء، في الليلة الظلماء {
سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ
مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ
}




{ ذَلِكَ } صاحب الحكم والأحكام {
بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ
} أي: الثابت، الذي لا يزال ولا
يزول، الأول الذي ليس قبله شيء، الآخر الذي ليس بعده شيء، كامل الأسماء
والصفات، صادق الوعد، الذي وعده حق ولقاؤه حق، ودينه حق، وعبادته هي
الحق، النافعة الباقية على الدوام.




{ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ }
من الأصنام والأنداد، من الحيوانات والجمادات، {
هُوَ الْبَاطِلُ
} الذي، هو باطل في نفسه، وعبادته باطلة، لأنها
متعلقة بمضمحل فان، فتبطل تبعا لغايتها ومقصودها، {
وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ
} العلي في ذاته، فهو
عال على جميع المخلوقات وفي قدره، فهو كامل الصفات، وفي قهره لجميع
المخلوقات، الكبير في ذاته، وفي أسمائه، وفي صفاته، الذي من عظمته
وكبريائه، أن الأرض قبضته يوم القيامة، والسماوات مطويات بيمينه، ومن
كبريائه، أن كرسيه وسع السماوات والأرض، ومن عظمته وكبريائه، أن نواصي
العباد بيده، فلا يتصرفون إلا بمشيئته، ولا يتحركون ويسكنون إلا بإرادته.




وحقيقة الكبرياء التي لا يعلمها إلا هو، لا ملك مقرب، ولا نبي مرسل، أنها
كل صفة كمال وجلال وكبرياء وعظمة، فهي ثابتة له، وله من تلك الصفة أجلها
وأكملها، ومن كبريائه، أن العبادات كلها، الصادرة من أهل السماوات
والأرض، كلها المقصود منها، تكبيره وتعظيمه، وإجلاله وإكرامه، ولهذا كان
التكبير شعارا للعبادات الكبار، كالصلاة وغيرها.




{ 63 - 64 } {
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ
الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ * لَهُ مَا فِي
السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ
الْحَمِيدُ
}




هذا حث منه تعالى، وترغيب في النظر بآياته الدالات على وحدانيته، وكماله
فقال: { أَلَمْ تَرَ } أي: ألم تشاهد
ببصرك وبصيرتك { أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ
السَّمَاءِ مَاءً
} وهو: المطر، فينزل على أرض خاشعة مجدبة، قد
أغبرت أرجاؤها، ويبس ما فيها، من شجر ونبات، فتصبح مخضرة قد اكتست من كل
زوج كريم، وصار لها بذلك منظر بهيج، إن الذي أحياها بعد موتها وهمودها
لمحيي الموتى بعد أن كانوا رميما.




{ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ }
اللطيف الذي يدرك بواطن الأشياء، وخفياتها، وسرائرها، الذي يسوق إلى عبده
الخير، ويدفع عنه الشر بطرق لطيفة تخفى على العباد، ومن لطفه، أنه يري
عبده، عزته في انتقامه وكمال اقتداره، ثم يظهر لطفه بعد أن أشرف العبد
على الهلاك، ومن لطفه، أنه يعلم مواقع القطر من الأرض، وبذور الأرض في
باطنها، فيسوق ذلك الماء إلى ذلك البذر، الذي خفي على علم الخلائق فينبت
منه أنواع النبات، { خَبِيرٌ } بسرائر
الأمور، وخبايا الصدور، وخفايا الأمور.




{ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وما في الْأَرْضِ
} خلقا وعبيدا، يتصرف فيهم بملكه وحكمته وكمال اقتداره، ليس لأحد
غيره من الأمر شيء.




{ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ }
بذاته الذي له الغنى المطلق التام، من جميع الوجوه، ومن غناه، أنه لا
يحتاج إلى أحد من خلقه، ولا يواليهم من ذلة، ولا يتكثر بهم من قلة، ومن
غناه، أنه ما اتخذ صاحبة ولا ولدا، ومن غناه، أنه صمد، لا يأكل ولا يشرب،
ولا يحتاج إلى ما يحتاج إليه الخلق بوجه من الوجوه، فهو يطعم ولا يطعم،
ومن غناه، أن الخلق كلهم مفتقرون إليه، في إيجادهم، وإعدادهم وإمدادهم،
وفي دينهم ودنياهم، ومن غناه، أنه لو اجتمع من في السماوات ومن في الأرض،
الأحياء منهم والأموات، في صعيد واحد، فسأل كل منهم ما بلغت أمنيته،
فأعطاهم فوق أمانيهم، ما نقص ذلك من ملكه شيء، ومن غناه، أن يده سحاء
بالخير والبركات، الليل والنهار، لم يزل إفضاله على الأنفاس، ومن غناه
وكرمه، ما أودعه في دار كرامته، مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر
على قلب بشر.




{ الْحَمِيدِ } أي: المحمود في ذاته،
وفي أسمائه، لكونها حسنى، وفي صفاته، لكونها كلها صفات كمال، وفي أفعاله،
لكونها دائرة بين العدل والإحسان والرحمة والحكمة وفي شرعه، لكونه لا
يأمر إلا بما فيه مصلحة خالصة أو راجحة، ولا ينهى إلا عما فيه مفسدة
خالصة أو راجحة، الذي له الحمد، الذي يملأ ما في السماوات والأرض، وما
بينهما، وما شاء بعدها، الذي لا يحصي العباد ثناء على حمده، بل هو كما
أثنى على نفسه، وفوق ما يثني عليه عباده، وهو المحمود على توفيق من
يوفقه، وخذلان من يخذله، وهو الغني في حمده، الحميد في غناه.




{ 65 - 66 } {
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ
تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ
عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ
رَحِيمٌ * وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ
يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ
}




أي: ألم تشاهد ببصرك وقلبك نعمة ربك السابغة، وأياديه الواسعة، و {
أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ
} من حيوانات،
ونبات، وجمادات، فجميع ما في الأرض، مسخر لبني آدم، حيواناتها، لركوبه،
وحمله، وأعماله، وأكله، وأنواع انتفاعه، وأشجارها، وثمارها، يقتاتها، وقد
سلط على غرسها واستغلالها، ومعادنها، يستخرجها، وينتفع بها، {
وَالْفُلْكِ
} أي: وسخر لكم الفلك، وهي السفن {
تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ
} تحملكم، وتحمل تجاراتكم،
وتوصلكم من محل إلى محل، وتستخرجون من البحر حلية تلبسونها، ومن رحمته
بكم أنه { يمسك السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى
الْأَرْضِ
} فلولا رحمته وقدرته، لسقطت السماء على الأرض، فتلف ما
عليها، وهلك من فيها { إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ
أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا
غَفُورًا
}




{ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ
} أرحم بهم من والديهم، ومن أنفسهم، ولهذا يريد لهم الخير،
ويريدون لها الشر والضر، ومن رحمته، أن سخر لهم ما سخر من هذه الأشياء.




{ وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ } أوجدكم
من العدم { ثُمَّ يُمِيتُكُمْ } بعد أن
أحياكم، { ثُمَّ يُحْيِيكُمْ } بعد
موتكم، ليجازي المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته، {
إِنَّ الْإِنْسَانَ
} أي: جنسه، إلا من عصمه الله {
لَكَفُورٌ
} لنعم الله، كفور بالله، لا يعترف بإحسانه، بل ربما
كفر بالبعث وقدرة ربه.




{ 67 - 70 } {
لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا
يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى
هُدًى مُسْتَقِيمٍ * وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا
تَعْمَلُونَ * اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا
كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ * أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ
مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ
عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ
}




يخبر تعالى أنه جعل لكل أمة { مَنْسَكًا
} أي: معبدا وعبادة، قد تختلف في بعض الأمور، مع اتفاقها على العدل
والحكمة، كما قال تعالى: { لِكُلٍّ جَعَلْنَا
مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ
أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ
}
الآية، { هُمْ نَاسِكُوهُ } أي: عاملون
عليه، بحسب أحوالهم، فلا اعتراض على شريعة من الشرائع، خصوصا من الأميين،
أهل الشرك والجهل المبين، فإنه إذا ثبتت رسالة الرسول بأدلتها، وجب أن
يتلقى جميع ما جاء به بالقبول والتسليم، وترك الاعتراض، ولهذا قال: {
فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ
} أي: لا ينازعك المكذبون لك،
ويعترضون على بعض ما جئتهم به، بعقولهم الفاسدة، مثل منازعتهم في حل
الميتة، بقياسهم الفاسد، يقولون: " تأكلون ما قتلتم، ولا تأكلون ما قتل
الله " وكقولهم { إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ
الرِّبَا
} ونحو ذلك من اعتراضاتهم، التي لا يلزم الجواب عن
أعيانها، وهم منكرون لأصل الرسالة، وليس فيها مجادلة ومحاجة بانفرادها،
بل لكل مقام مقال، فصاحب هذا الاعتراض، المنكر لرسالة الرسول، إذا زعم
أنه يجادل ليسترشد، يقال له: الكلام معك في إثبات الرسالة وعدمها، وإلا
فالاقتصار على هذه، دليل أن مقصوده التعنت والتعجيز، ولهذا أمر الله
رسوله أن يدعو إلى ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، ويمضي على ذلك، سواء
اعترض المعترضون أم لا، وأنه لا ينبغي أن يث*-تم الحذف. كلمة غير محترمة لا يسمح بها في هذا المنتدى-* عن الدعوة شيء، لأنك {
على هُدًى مُسْتَقِيمٍ
} أي: معتدل موصل للمقصود، متضمن علم الحق
والعمل به، فأنت على ثقة من أمرك، ويقين من دينك، فيوجب ذلك لك الصلابة
والمضي لما أمرك به ربك، ولست على أمر مشكوك فيه، أو حديث مفترى، فتقف مع
الناس ومع أهوائهم، وآرائهم، ويوقفك اعتراضهم، ونظير هذا قوله تعالى: {
فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ
}
مع أن في قوله: { إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى
مُسْتَقِيمٍ
} إرشاد لأجوبة المعترضين على جزئيات الشرع، بالعقل
الصحيح، فإن الهدى وصف لكل ما جاء به الرسول، والهدى: ما تحصل به
الهداية، من مسائل الأصول والفروع، وهي المسائل التي يعرف حسنها وعدلها
وحكمتها بالعقل والفطرة السليمة، وهذا يعرف بتدبر تفاصيل المأمورات
والمنهيات.




ولهذا أمره الله بالعدول عن جدالهم في هذه الحالة، فقال: {
وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ
}
أي: هو عالم بمقاصدكم ونياتكم، فمجازيكم عليها في يوم القيامة الذي يحكم
الله بينكم فيما كنتم فيه تختلفون، فمن وافق الصراط المستقيم، فهو من أهل
النعيم، ومن زاغ عنه، فهو من أهل الجحيم، ومن تمام حكمه، أن يكون حكما
بعلم، فلذلك ذكر إحاطة علمه، وإحاطة كتابه فقال: {
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ
} لا يخفى عليه منها خافية، من ظواهر الأمور وبواطنها، خفيها
وجليها، متقدمها ومتأخرها، أن ذلك العلم المحيط بما في السماء والأرض قد
أثبته الله في كتاب، وهو اللوح المحفوظ، حين خلق الله القلم، قال له: "
اكتب " قال: ما أكتب؟ قال: " اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة





{ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ }
وإن كان تصوره عندكم لا يحاط به، فالله تعالى يسير عليه أن يحيط علما
بجميع الأشياء، وأن يكتب ذلك في كتاب مطابق للواقع.




{ 71 - 72 } {
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا
وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ *
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ
الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ
يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ
ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ
الْمَصِيرُ
}




يذكر تعالى حالة المشركين به، العادلين به غيره، وأن حالهم أقبح الحالات،
وأنه لا مستند لهم على ما فعلوه، فليس لهم به علم، وإنما هو تقليد تلقوه
عن آبائهم الضالين، وقد يكون الإنسان لا علم عنده بما فعله، وهو -في نفس
الأمر- له حجة ما علمها، فأخبر هنا، أن الله لم ينزل في ذلك سلطانا، أي:
حجة تدل علي وتجوزه، بل قد أنزل البراهين القاطعة على فساده وبطلانه، ثم
توعد الظالمين منهم المعاندين للحق فقال: {
وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ
} ينصرهم من عذاب الله إذا نزل
بهم وحل. وهل لهؤلاء الذين لا علم لهم بما هم عليه قصد في اتباع الآيات
والهدى إذا جاءهم؟ أم هم راضون بما هم عليه من الباطل؟ ذكر ذلك بقوله: {
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا
} التي هي آيات الله
الجليلة، المستلزمة لبيان الحق من الباطل، لم يلتفتوا إليها، ولم يرفعوا
بها رأسا، بل { تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ
كَفَرُوا الْمُنْكَرَ
} من بغضها وكراهتها، ترى وجوههم معبسة،
وأبشارهم مكفهرة، { يَكَادُونَ يَسْطُونَ
بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا
} أي: يكادون يوقعون
بهم القتل والضرب البليغ، من شدة بغضهم وبغض الحق وعداوته، فهذه الحالة
من الكفار بئس الحالة، وشرها بئس الشر، ولكن ثم ما هو شر منها، حالتهم
التي يؤولون إليها، فلهذا قال: { قُلْ
أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ
الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ
} فهذه شرها طويل عريض،
ومكروهها وآلامها تزداد على الدوام.




{ 73 - 74 } { يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ
إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا
وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا
يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ * مَا قَدَرُوا
اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ }




هذا مثل ضربه الله لقبح عبادة الأوثان، وبيان نقصان عقول من عبدها، وضعف
الجميع، فقال: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ }
هذا خطاب للمؤمنين والكفار، المؤمنون يزدادون علما وبصيرة، والكافرون
تقوم عليهم الحجة، { ضُرِبَ مَثَلٌ
فَاسْتَمِعُوا لَهُ }
أي: ألقوا إليه أسماعكم، وتفهموا ما احتوى
عليه، ولا يصادف منكم قلوبا لاهية، وأسماعا معرضة، بل ألقوا إليه القلوب
والأسماع، وهو هذا: { إِنَّ الَّذِينَ
تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ }
شمل كل ما يدعى من دون الله،
{ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا } الذي هو
من أحقر المخلوقات وأخسها، فليس في قدرتهم خلق هذا المخلوق الضعيف، فما
فوقه من باب أولى، { وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ }
بل أبلغ من ذلك لو { يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ
شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ }
وهذا غاية ما يصير من
العجز. { ضَعُفَ الطَّالِبُ } الذي هو
المعبود من دون الله { وَالْمَطْلُوبُ }
الذي هو الذباب، فكل منهما ضعيف، وأضعف منهما، من يتعلق بهذا الضعيف،
وينزله منزلة رب العالمين.




فهذا ما قدر { اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ }
حيث سوى الفقير العاجز من جميع الوجوه، بالغني القوي من جميع الوجوه، سوى
من لا يملك لنفسه، ولا لغيره نفعا ولا ضرا، ولا موتا ولا حياة ولا نشورا،
بمن هو النافع الضار، المعطي المانع، مالك الملك، والمتصرف فيه بجميع
أنواع التصريف.




{ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ }

أي: كامل القوة، كامل العزة، من كمال قوته وعزته، أن نواصي الخلق بيديه،
وأنه لا يتحرك متحرك، ولا يسكن ساكن، إلا بإرادته ومشيئته، فما شاء الله
كان وما لم يشأ لم يكن، ومن كمال قوته، أنه يمسك السماوات والأرض أن
تزولا، ومن كمال قوته، أنه يبعث الخلق كلهم، أولهم وآخرهم، بصيحة واحدة،
ومن كمال قوته، أنه أهلك الجبابرة والأمم العاتية، بشيء يسير، وسوط من
عذابه.





{ 75 - 76 } { اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ
الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ *
يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ
تُرْجَعُ الْأُمُورُ }




لما بين تعالى كماله وضعف الأصنام، وأنه المعبود حقا، بين حالة الرسل،
وتميزهم عن الخلق بما تميزوا به من الفضائل فقال:
{ اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ
رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ }
أي: يختار ويجتبي من الملائكة رسلا،
ومن الناس رسلا، يكونون أزكى ذلك النوع، وأجمعه لصفات المجد، وأحقه
بالاصطفاء، فالرسل لا يكونون إلا صفوة الخلق على الإطلاق، والذي اختارهم
واصطفاهم ليس جاهلا بحقائق الأشياء، أو يعلم شيئا دون شيء، وإنما المصطفى
لهم، السميع، البصير، الذي قد أحاط علمه وسمعه وبصره بجميع الأشياء،
فاختياره إياهم، عن علم منه، أنهم أهل لذلك، وأن الوحي يصلح فيهم كما قال
تعالى: { اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ
رِسَالَتَهُ }




{ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ }

أي: هو يرسل الرسل، يدعون الناس إلى الله، فمنهم المجيب، ومنهم الراد
لدعوتهم، ومنهم العامل، ومنهم الناكل، فهذا وظيفة الرسل، وأما الجزاء على
تلك الأعمال، فمصيرها إلى الله، فلا تعدم منه فضلا أو عدلا.





{ 77 - 78 } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ
لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ
اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ
أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ
وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا
شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ
وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ
النَّصِيرُ }




يأمر تعالى، عباده المؤمنين بالصلاة، وخص منها الركوع والسجود، لفضلهما
وركنيتهما، وعبادته التي هي قرة العيون، وسلوة القلب المحزون، وأن
ربوبيته وإحسانه على العباد، يقتضي منهم أن يخلصوا له العبادة، ويأمرهم
بفعل الخير عموما.




وعلق تعالى الفلاح على هذه الأمور فقال: {
لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }
أي: تفوزون بالمطلوب المرغوب، وتنجون
من المكروه المرهوب، فلا طريق للفلاح سوى الإخلاص في عبادة الخالق،
والسعي في نفع عبيده، فمن وفق لذلك، فله القدح المعلى، من السعادة
والنجاح والفلاح.




{ وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ }

والجهاد بذل الوسع في حصول الغرض المطلوب، فالجهاد في الله حق جهاده، هو
القيام التام بأمر الله، ودعوة الخلق إلى سبيله بكل طريق موصل إلى ذلك،
من نصيحة وتعليم وقتال وأدب وزجر ووعظ، وغير ذلك.




{ هُوَ اجْتَبَاكُمْ }

أي: اختاركم -يا معشر المسلمين- من بين الناس، واختار لكم الدين، ورضيه
لكم، واختار لكم أفضل الكتب وأفضل الرسل، فقابلوا هذه المنحة العظيمة،
بالقيام بالجهاد فيه حق القيام، ولما كان قوله:
{ وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ }
ربما توهم متوهم أن
هذا من باب تكليف ما لا يطاق، أو تكليف ما يشق، احترز منه بقوله:
{ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ
حَرَجٍ }
أي: مشقة وعسر، بل يسره غاية التيسير، وسهله بغاية
السهولة، فأولا ما أمر وألزم إلا بما هو سهل على النفوس، لا يثقلها ولا
يؤودها، ثم إذا عرض بعض الأسباب الموجبة للتخفيف، خفف ما أمر به، إما
بإسقاطه، أو إسقاط بعضه. ويؤخذ من هذه الآية، قاعدة شرعية وهي أن "
المشقة تجلب التيسير " و " الضرورات تبيح المحظورات " فيدخل في ذلك من
الأحكام الفرعية، شيء كثير معروف في كتب الأحكام.




{ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ }

أي: هذه الملة المذكورة، والأوامر المزبورة، ملة أبيكم إبراهيم، التي ما
زال عليها، فالزموها واستمسكوا بها.




{ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ }

أي: في الكتب السابقة، مذكورون ومشهورون، {
وَفِي هَذَا }
أي: هذا الكتاب، وهذا الشرع. أي: ما زال هذا الاسم
لكم قديما وحديثا، { لِيَكُونَ الرَّسُولُ
شَهِيدًا عَلَيْكُمْ }
بأعمالكم خيرها وشرها
{ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ }
لكونكم خير أمة أخرجت للناس، أمة وسطا عدلا خيارا، تشهدون للرسل أنهم
بلغوا أممهم، وتشهدون على الأمم أن رسلهم بلغتهم بما أخبركم الله به في
كتابه، { فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ }
بأركانها وشروطها وحدودها، وجميع لوازمها، {
وَآتُوا الزَّكَاةَ }
المفروضة لمستحقيها شكرا لله على ما أولاكم،
{ وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ } أي:
امتنعوا به وتوكلوا عليه في ذلك، ولا تتكلوا على حولكم وقوتكم،
{ هُوَ مَوْلَاكُمْ } الذي يتولى
أموركم، فيدبركم بحسن تدبيره، ويصرفكم على أحسن تقديره،
{ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ }
أي: نعم المولى لمن تولاه، فحصل له مطلوبه {
وَنِعْمَ النَّصِيرُ }
لمن استنصره فدفع عنه المكروه.




تم تفسير سورة الحج، والحمد لله رب العالمين.

descriptionتفسيرالقران - صفحة 6 Emptyرد: تفسيرالقران

more_horiz


الجزء ا
لسابع
عشر





21-


تفسير سورة الأنبياء عليهم السلام عدد آياتها 112

(



آية


1-25
)

وهي مكية








{ 1 - 4
} { بِسْمِ
اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ
فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ * مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ
مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ * لَاهِيَةً
قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا
إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ
تُبْصِرُونَ * قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ
وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ }




هذا تعجب من حالة الناس، وأنه لا ينجع فيهم تذكير، ولا يرعون إلى نذير،
وأنهم قد قرب حسابهم، ومجازاتهم على أعمالهم الصالحة والطالحة، والحال
أنهم في غفلة معرضون، أي: غفلة عما خلقوا له، وإعراض عما زجروا به. كأنهم
للدنيا خلقوا، وللتمتع بها ولدوا، وأن الله تعالى لا يزال يجدد لهم
التذكير والوعظ، ولا يزالون في غفلتهم وإعراضهم، ولهذا قال:
{ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ
مُحْدَثٍ }
يذكرهم ما ينفعهم ويحثهم عليه وما يضرهم، ويرهبهم منه
{ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ } سماعا، تقوم
عليهم به الحجة، { وَهُمْ يَلْعَبُونَ
لَاهِيَةً* قُلُوبُهُمْ }
أي: قلوبهم غافلة معرضة لاهية بمطالبها
الدنيوية، وأبدانهم لاعبة، قد اشتغلوا بتناول الشهوات والعمل بالباطل،
والأقوال الردية، مع أن الذي ينبغي لهم أن يكونوا بغير هذه الصفة، تقبل
قلوبهم على أمر الله ونهيه، وتستمعه استماعا، تفقه المراد منه، وتسعى
جوارحهم، في عبادة ربهم، التي خلقوا لأجلها، ويجعلون القيامة والحساب
والجزاء منهم على بال، فبذلك يتم لهم أمرهم، وتستقيم أحوالهم، وتزكوا
أعمالهم، وفي معنى قوله: { اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ
حِسَابُهُمْ }
قولان: أحدهما أن هذه الأمة هي آخر الأمم، ورسولها
آخر الرسل، وعلى أمته تقوم الساعة، فقد قرب الحساب منها بالنسبة لما
قبلها من الأمم، لقوله صلى الله عليه وسلم " بعثت أنا والساعة كهاتين "
وقرن بين إصبعيه، السبابة والتي تليها.




والقول الثاني: أن المراد بقرب الحساب الموت، وأن من مات، قامت قيامته،
ودخل في دار الجزاء على الأعمال، وأن هذا تعجب من كل غافل معرض، لا يدري
متى يفجأه الموت، صباحا أو مساء، فهذه حالة الناس كلهم، إلا من أدركته
العناية الربانية، فاستعد للموت وما بعده.




ثم ذكر ما يتناجى به الكافرون الظالمون على وجه العناد، ومقابلة الحق
بالباطل، وأنهم تناجوا، وتواطأوا فيما بينهم، أن يقولوا في الرسول صلى
الله عليه وسلم، إنه بشر مثلكم، فما الذي فضله عليكم، وخصه من بينكم، فلو
ادعى أحد منكم مثل دعواه، لكان قوله من جنس قوله، ولكنه يريد أن يتفضل
عليكم، ويرأس فيكم، فلا تطيعوه، ولا تصدقوه، وأنه ساحر، وما جاء به من
القرآن سحر، فانفروا عنه، ونفروا الناس، وقولوا:
{ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ
تُبْصِرُونَ }
هذا وهم يعلمون أنه رسول الله حقا بما شاهدوا من
الآيات الباهرة ما لم يشاهد غيرهم، ولكن حملهم على ذلك الشقاء والظلم
والعناد، والله تعالى قد أحاط علما بما تناجوا به، وسيجازيهم عليه، ولهذا
قال: { قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ }
أي: الخفي والجلي { فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ
}
أي: في جميع ما احتوت عليه أقطارهما {
وَهُوَ السَّمِيعُ }
لسائر الأصوات، باختلاف اللغات، على تفنن
الحاجات { الْعَلِيمُ } بما في الضمائر،
وأكنته السرائر.




{ 5 - 6 }

{ بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ
افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ
الْأَوَّلُونَ * مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا
أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ }




يذكر تعالى ائتفاك المكذبين بمحمد صلى الله عليه وسلم، وبما جاء به من
القرآن العظيم، وأنهم سفهوه وقالوا فيه الأقاويل الباطلة المختلفة،
فتارة يقولون: { أضغاث أحلام } بمنزلة
كلام النائم الهاذي، الذي لا يحس بما يقول، وتارة يقولون:
{ افتراه } واختلقه وتقوله من عند نفسه،
وتارة يقولون: إنه شاعر وما جاء به شعر.




وكل من له أدنى معرفة بالواقع، من حالة الرسول، ونظر في هذا الذي جاء به،
جزم جزما لا يقبل الشك، أنه أجل الكلام وأعلاه، وأنه من عند الله، وأن
أحدا من البشر لا يقدر على الإتيان بمثل بعضه، كما تحدى الله أعداءه
بذلك، ليعارضوا مع توفر دواعيهم لمعارضته وعداوته، فلم يقدروا على شيء من
معارضته، وهم يعلمون ذلك وإلا فما الذي أقامهم وأقعدهم وأقض مضاجعهم
وبلبل ألسنتهم إلا الحق الذي لا يقوم له شيء، وإنما يقولون هذه الأقوال
فيه - حيث لم يؤمنوا به - تنفيرا عنه لمن لم يعرفه، وهو أكبر الآيات
المستمرة، الدالة على صحة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وصدقه،
وهو كاف شاف، فمن طلب دليلا غيره، أو اقترح آية من الآيات سواه، فهو جاهل
ظالم مشبه لهؤلاء المعاندين الذين كذبوه وطلبوا من الآيات الاقتراح ما هو
أضر شيء عليهم، وليس لهم فيها مصلحة، لأنهم إن كان قصدهم معرفة الحق إذا
تبين دليله، فقد تبين دليله بدونها، وإن كان قصدهم التعجيز وإقامة العذر
لأنفسهم، إن لم يأت بما طلبوا فإنهم بهذه الحالة - على فرض إتيان ما
طلبوا من الآيات - لا يؤمنون قطعا، فلو جاءتهم كل آية، لا يؤمنون حتى
يروا العذاب الأليم.




ولهذا قال الله عنهم: { فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ
كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ }
أي: كناقة صالح، وعصا موسى، ونحو
ذلك.




قال الله: { مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ
قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا }
أي: بهذه الآيات المقترحة، وإنما سنته
تقتضي أن من طلبها، ثم حصلت له، فلم يؤمن أن يعاجله بالعقوبة. فالأولون
ما آمنوا بها، أفيؤمن هؤلاء بها؟ ما الذي فضلهم على أولئك، وما الخير
الذي فيهم، يقتضي الإيمان عند وجودها؟ وهذا الاستفهام بمعنى النفي، أي:
لا يكون ذلك منهم أبدا.





{ 7 - 9 } {
وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ
فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ * وَمَا
جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا
خَالِدِينَ * ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ
نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ }




هذا جواب لشبه المكذبين للرسول القائلين: هلا كان ملكا، لا يحتاج إلى
طعام وشراب، وتصرف في الأسواق، وهلا كان خالدا؟ فإذا لم يكن كذلك، دل على
أنه ليس برسول.




وهذه الشبه ما زالت في قلوب المكذبين للرسل، تشابهوا في الكفر، فتشابهت
أقوالهم، فأجاب تعالى عن هذه الشبه لهؤلاء المكذبين للرسول، المقرين
بإثبات الرسل قبله - ولو لم يكن إلا إبراهيم عليه السلام، الذي قد أقر
بنبوته جميع الطوائف، والمشركون يزعمون أنهم على دينه وملته - بأن الرسل
قبل محمد صلى الله عليه وسلم، كلهم من البشر، الذين يأكلون الطعام،
ويمشون في الأسواق، وتطرأ عليهم العوارض البشرية، من الموت وغيره، وأن
الله أرسلهم إلى قومهم وأممهم، فصدقهم من صدقهم، وكذبهم من كذبهم، وأن
الله صدقهم ما وعدهم به من النجاة، والسعادة لهم ولأتباعهم، وأهلك
المسرفين المكذبين لهم.




فما بال محمد صلى الله عليه وسلم، تقام الشبه الباطلة على إنكار رسالته،
وهي موجودة في إخوانه المرسلين، الذين يقر بهم المكذبون لمحمد؟ فهذا
إلزام لهم في غاية الوضوح، وأنهم إن أقروا برسول من البشر، ولن يقروا
برسول من غير البشر، إن شبههم باطلة، قد أبطلوها هم بإقرارهم بفسادها،
وتناقضهم بها، فلو قدر انتقالهم من هذا إلى إنكار نبوة البشر رأسا، وأنه
لا يكون نبي إن لم يكن ملكا مخلدا، لا يأكل الطعام، فقد أجاب [الله]
تعالى عن هذه الشبهة بقوله: { وَقَالُوا
لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ
الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ* وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا
لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ }





وأن البشر لا طاقة لهم بتلقي الوحي من الملائكة
{ قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ
لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا }
فإن
حصل معكم شك وعدم علم بحالة الرسل المتقدمين {
فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ }
من الكتب السالفة، كأهل التوراة
والإنجيل، يخبرونكم بما عندهم من العلم، وأنهم كلهم بشر من جنس المرسل
إليهم.




وهذه الآية وإن كان سببها خاصا بالسؤال عن حالة الرسل المتقدمين لأهل
الذكر وهم أهل العلم، فإنها عامة في كل مسألة من مسائل الدين، أصوله
وفروعه، إذا لم يكن عند الإنسان علم منها، أن يسأل من يعلمها، ففيه الأمر
بالتعلم والسؤال لأهل العلم، ولم يؤمر بسؤالهم، إلا لأنه يجب عليهم
التعليم والإجابة عما علموه.




وفي تخصيص السؤال بأهل الذكر والعلم، نهي عن سؤال المعروف بالجهل وعدم
العلم، ونهي له أن يتصدى لذلك، وفي هذه الآية دليل على أن النساء ليس
منهن نبية، لا مريم ولا غيرها، لقوله { إِلَّا
رِجَالًا }





{ 10 } {
لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا
تَعْقِلُونَ }




لقد أنزلنا إليكم - أيها المرسل إليهم، محمد بن عبد الله بن عبد المطلب -
كتابا جليلا، وقرآنا مبينا { فِيهِ ذِكْرُكُمْ
}
أي: شرفكم وفخركم وارتفاعكم، إن تذكرتم به ما فيه من الأخبار
الصادقة فاعتقدتموها، وامتثلتم ما فيه من الأوامر، واجتنبتم ما فيه من
النواهي، ارتفع قدركم، وعظم أمركم، { أَفَلَا
تَعْقِلُونَ }
ما ينفعكم وما يضركم؟ كيف لا ترضون ولا تعملون على
ما فيه ذكركم وشرفكم في الدنيا والآخرة، فلو كان لكم عقل، لسلكتم هذا
السبيل، فلما لم تسلكوه، وسلكتم غيره من الطرق، التي فيها ضعتكم وخستكم
في الدنيا والآخرة وشقاوتكم فيهما، علم أنه ليس لكم معقول صحيح، ولا رأي
رجيح.




وهذه الآية، مصداقها ما وقع، فإن المؤمنين بالرسول، الذين تذكروا
بالقرآن، من الصحابة، فمن بعدهم، حصل لهم من الرفعة والعلو الباهر،
والصيت العظيم، والشرف على الملوك، ما هو أمر معلوم لكل أحد، كما أنه
معلوم ما حصل، لمن لم يرفع بهذا القرآن رأسا، ولم يهتد به ويتزك به، من
المقت والضعة، والتدسية، والشقاوة، فلا سبيل إلى سعادة الدنيا والآخرة
إلا بالتذكر بهذا الكتاب.




{ 11 - 15 ْ} { وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً
وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ * فَلَمَّا أَحَسُّوا
بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ * لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا
إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ *
قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ * فَمَا زَالَتْ تِلْكَ
دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ ْ}




يقول تعالى - محذرا لهؤلاء الظالمين، المكذبين للرسول، بما فعل بالأمم
المكذبة لغيره من الرسل - { وَكَمْ قَصَمْنَا
ْ}
أي: أهلكنا بعذاب مستأصل { مِنْ
قَرْيَةٍ ْ}
تلفت عن آخرها {
وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ ْ}
وأن هؤلاء المهلكين،
لما أحسوا بعذاب الله وعقابه، وباشرهم نزوله، لم يمكن لهم الرجوع ولا
طريق لهم إلى النزوع وإنما ضربوا الأرض بأرجلهم، ندما وقلقا، وتحسرا على
ما فعلوا وهروبا من وقوعه، فقيل لهم على وجه التهكم بهم:
{ لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا
أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ ْ}

أي: لا يفيدكم الركوض والندم، ولكن إن كان لكم اقتدار، فارجعوا إلى ما
أترفتم فيه، من اللذات، والمشتهيات، ومساكنكم المزخرفات، ودنياكم التي
غرتكم وألهتكم، حتى جاءكم أمر الله. فكونوا فيها متمكنين، وللذاتها
جانين، وفي منازلكم مطمئنين معظمين، لعلكم أن تكونوا مقصودين في أموركم،
كما كنتم سابقا، مسئولين من مطالب الدنيا، كحالتكم الأولى، وهيهات، أين
الوصول إلى هذا؟ وقد فات الوقت، وحل بهم العقاب والمقت، وذهب عنهم عزهم،
وشرفهم ودنياهم، وحضرهم ندمهم وتحسرهم؟.




ولهذا { قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا
ظَالِمِينَ* فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ ْ}




أي: الدعاء بالويل والثبور، والندم، والإقرار على أنفسهم بالظلم وأن الله
عادل فيما أحل بهم. { حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ
حَصِيدًا خَامِدِينَ ْ}
أي: بمنزلة النبات الذي قد حصد وأنيم، قد
خمدت منهم الحركات، وسكنت منهم الأصوات، فاحذروا - أيها المخاطبون - أن
تستمروا على تكذيب أشرف الرسل فيحل بكم كما حل بأولئك.





{ 16 - 17 ْ} { وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ
وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ * لَوْ أَرَدْنَا أَنْ
نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ
ْ}




يخبر تعالى أنه ما خلق السماوات والأرض عبثا، ولا لعبا من غير فائدة، بل
خلقها بالحق وللحق، ليستدل بها العباد على أنه الخالق العظيم، المدبر
الحكيم، الرحمن الرحيم، الذي له الكمال كله، والحمد كله، والعزة كلها،
الصادق في قيله، الصادقة رسله، فيما تخبر عنه، وأن القادر على خلقهما مع
سعتهما وعظمهما، قادر على إعادة الأجساد بعد موتها، ليجازي المحسن
بإحسانه، والمسيء بإساءته.




{ لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا ْ}

على الفرض والتقدير المحال { لَاتَّخَذْنَاهُ
مِنْ لَدُنَّا ْ}
أي: من عندنا { إِنْ
كُنَّا فَاعِلِينَ ْ}
ولم نطلعكم على ما فيه عبث ولهو، لأن ذلك
نقص ومثل سوء، لا نحب أن نريه إياكم، فالسماوات والأرض اللذان بمرأى منكم
على الدوام، لا يمكن أن يكون القصد منهما العبث واللهو، كل هذا تنزل مع
العقول الصغيرة وإقناعها بجميع الوجوه المقنعة، فسبحان الحليم الرحيم،
الحكيم في تنزيله الأشياء منازلها.





{ 18 - 20 ْ} { بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى
الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا
تَصِفُونَ * وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ
لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ *
يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ ْ}





يخبر تعالى، أنه تكفل بإحقاق الحق وإبطال الباطل، وإن كل باطل قيل وجودل
به، فإن الله ينزل من الحق والعلم والبيان، ما يدمغه، فيضمحل، ويتبين لكل
أحد بطلانه { فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ ْ}
أي: مضمحل، فانٍ، وهذا عام في جميع المسائل الدينية، لا يورد مبطل، شبهة،
عقلية ولا نقلية، في إحقاق باطل، أو رد حق، إلا وفي أدلة الله، من
القواطع العقلية والنقلية، ما يذهب ذلك القول الباطل ويقمعه فإذا هو
متبين بطلانه لكل أحد.




وهذا يتبين باستقراء المسائل، مسألة مسألة، فإنك تجدها كذلك، ثم قال:
{ وَلَكُمْ ْ} أيها الواصفون الله، بما
لا يليق به، من اتخاذ الولد والصاحبة، ومن الأنداد والشركاء، حظكم من
ذلك، ونصيبكم الذي تدركون به { الْوَيْلُ ْ}
والندامة والخسران.




ليس لكم مما قلتم فائدة، ولا يرجع عليكم بعائدة تؤملونها، وتعملون
لأجلها، وتسعون في الوصول إليها، إلا عكس مقصودكم، وهو الخيبة والحرمان،
ثم أخبر أنه له ملك السماوات والأرض وما بينهما، فالكل عبيده ومماليكه،
فليس لأحد منهم ملك ولا قسط من الملك، ولا معاونة عليه، ولا يشفع إلا
بإذن الله، فكيف يتخذ من هؤلاء آلهة وكيف يجعل لله منها ولد؟! فتعالى
وتقدس، المالك العظيم، الذي خضعت له الرقاب، وذلت له الصعاب، وخشعت له
الملائكة المقربون، وأذعنوا له بالعبادة الدائمة المستمرة أجمعون، ولهذا
قال: { وَمَنْ عِنْدَهُ ْ} أي من
الملائكة { لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ
عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ ْ}
أي: لا يملون ولا يسأمونها،
لشدة رغبتهم، وكمال محبتهم، وقوة أبدانهم.




{ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ ْ}

أي: مستغرقين في العبادة والتسبيح في جميع أوقاتهم فليس في أوقاتهم وقت
فارغ ولا خال منها وهم على كثرتهم بهذه الصفة، وفي هذا من بيان عظمته
وجلالة سلطانه وكمال علمه وحكمته، ما يوجب أن لا يعبد إلا هو، ولا تصرف
العبادة لغيره.





{ 21 - 25 ْ} { أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ
الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ * لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا
اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا
يَصِفُونَ * لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ * أَمِ
اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا
ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا
يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ * وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ
قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا
أَنَا فَاعْبُدُونِ ْ}




لما بيَّن تعالى كمال اقتداره وعظمته، وخضوع كل شيء له، أنكر على
المشركين الذين اتخذوا من دون الله آلهة من الأرض، في غاية العجز وعدم
القدرة { هُمْ يُنْشِرُونَ ْ} استفهام
بمعنى النفي، أي: لا يقدرون على نشرهم وحشرهم، يفسرها قوله تعالى:
{ وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا
يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ * وَلَا يَمْلِكُونَ
لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا
حَيَاةً وَلَا نُشُورًا ْ}
{
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ* لَا
يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ ْ}

فالمشرك يعبد المخلوق، الذي لا ينفع ولا يضر، ويدع الإخلاص لله، الذي له
الكمال كله وبيده الأمر والنفع والضر، وهذا من عدم توفيقه، وسوء حظه،
وتوفر جهله، وشدة ظلمه، فإنه لا يصلح الوجود، إلا على إله واحد، كما أنه
لم يوجد، إلا برب واحد.




ولهذا قال: { لَوْ كَانَ فِيهِمَا ْ}
أي: في السماوات والأرض { آلِهَةٌ إِلَّا
اللَّهُ لَفَسَدَتَا ْ}
في ذاتهما، وفسد من فيهما من المخلوقات.




وبيان ذلك: أن العالم العلوي والسفلي، على ما يرى، في أكمل ما يكون من
الصلاح والانتظام، الذي ما فيه خلل ولا عيب، ولا ممانعة، ولا معارضة، فدل
ذلك، على أن مدبره واحد، وربه واحد، وإلهه واحد، فلو كان له مدبران وربان
أو أكثر من ذلك، لاختل نظامه، وتقوضت أركانه فإنهما يتمانعان ويتعارضان،
وإذا أراد أحدهما تدبير شيء، وأراد الآخر عدمه، فإنه محال وجود مرادهما
معا، ووجود مراد أحدهما دون الآخر، يدل على عجز الآخر، وعدم اقتداره
واتفاقهما على مراد واحد في جميع الأمور، غير ممكن، فإذًا يتعين أن
القاهر الذي يوجد مراده وحده، من غير ممانع ولا مدافع، هو الله الواحد
القهار، ولهذا ذكر الله دليل التمانع في قوله:
{ مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ
إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى
بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ ْ}




ومنه - على أحد التأويلين - قوله تعالى: { قُلْ
لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى
ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا* سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ
عُلُوًّا كَبِيرًا ْ}
ولهذا قال هنا: {
فَسُبْحَانَ اللَّهِ ْ}
أي: تنزه وتقدس عن كل نقص لكماله وحده،
{ رَبُّ الْعَرْشِ ْ} الذي هو سقف
المخلوقات وأوسعها، وأعظمها، فربوبية ما دونه من باب أولى،
{ عَمَّا يَصِفُونَ ْ} أي: الجاحدون
الكافرون، من اتخاذ الولد والصاحبة، وأن يكون له شريك بوجه من الوجوه.




{ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ ْ}

لعظمته وعزته، وكمال قدرته، لا يقدر أحد أن يمانعه أو يعارضه، لا بقول،
ولا بفعل، ولكمال حكمته ووضعه الأشياء مواضعها، وإتقانها، أحسن كل شيء
يقدره العقل، فلا يتوجه إليه سؤال، لأن خلقه ليس فيه خلل ولا إخلال.




{ وَهُمْ ْ}

أي: المخلوقين كلهم { يُسْأَلُونَ ْ} عن
أفعالهم وأقوالهم، لعجزهم وفقرهم، ولكونهم عبيدا، قد استحقت أفعالهم
وحركاتهم فليس لهم من التصرف والتدبير في أنفسهم، ولا في غيرهم، مثقال
ذرة.




ثم رجع إلى تهجين حال المشركين، وأنهم اتخذوا من دونه آلهة فقل لهم موبخا
ومقرعا: { أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ
آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ ْ}
أي: حجتكم ودليلكم على صحة
ما ذهبتم إليه، ولن يجدوا لذلك سبيلا، بل قد قامت الأدلة القطعية على
بطلانه، ولهذا قال: { هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ
وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي ْ}
أي: قد اتفقت الكتب والشرائع على صحة ما
قلت لكم، من إبطال الشرك، فهذا كتاب الله الذي فيه ذكر كل شيء، بأدلته
العقلية والنقلية، وهذه الكتب السابقة كلها، براهين وأدلة لما قلت.




ولما علم أنهم قامت عليهم الحجة والبرهان على بطلان ما ذهبوا إليه، علم
أنه لا برهان لهم، لأن البرهان القاطع، يجزم أنه لا معارض له، وإلا لم
يكن قطعيا، وإن وجد في معارضات، فإنها شبه لا تغني من الحق شيئا.




وقوله: { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ
الْحَقَّ ْ}
أي: وإنما أقاموا على ما هم عليه، تقليدا لأسلافهم
يجادلون بغير علم ولا هدى، وليس عدم علمهم بالحق لخفائه وغموضه، وإنما
ذلك، لإعراضهم عنه، وإلا فلو التفتوا إليه أدنى التفات، لتبين لهم الحق
من الباطل تبينا واضحا جليا ولهذا قال: {
فَهُمْ مُعْرِضُونَ ْ}




ولما حول تعالى على ذكر المتقدمين، وأمر بالرجوع إليهم في بيان هذه
المسألة، بيَّنها أتم تبيين في قوله: { وَمَا
أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ
لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ْ}
فكل الرسل الذين من قبلك
مع كتبهم، زبدة رسالتهم وأصلها، الأمر بعبادة الله وحده لا شريك له،
وبيان أنه الإله الحق المعبود، وأن عبادة ما سواه باطلة.

descriptionتفسيرالقران - صفحة 6 Emptyرد: تفسيرالقران

more_horiz
بارك الله فيكم

descriptionتفسيرالقران - صفحة 6 Emptyرد: تفسيرالقران

more_horiz
تابع
-


تفسير سورة الأنبياء عليهم السلام عدد آياتها 112

(
آية
26-50

)

وهي مكية






{

26 - 29 ْ
}
{ وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ
مُكْرَمُونَ * لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ
يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا
يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ
* وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ
جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ ْ}




يخبر تعالى عن سفاهة المشركين المكذبين للرسول، وأنهم زعموا - قبحهم الله
- أن الله اتخذ ولدا فقالوا: الملائكة بنات الله، تعالى الله عن قولهم،
وأخبر عن وصف الملائكة، بأنهم عبيد مربوبون مدبرون، ليس لهم من الأمر
شيء، وإنما هم مكرمون عند الله، قد أكرمهم الله، وصيرهم من عبيد كرامته
ورحمته، وذلك لما خصهم به من الفضائل والتطهير عن الرذائل، وأنهم في غاية
الأدب مع الله، والامتثال لأوامره.




فـ { لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ ْ}
أي: لا يقولون قولا مما يتعلق بتدبير المملكة، حتى يقول الله، لكمال
أدبهم، وعلمهم بكمال حكمته وعلمه.




{ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ْ}

أي: مهما أمرهم، امتثلوا لأمره، ومهما دبرهم عليه، فعلوه، فلا يعصونه
طرفة عين، ولا يكون لهم عمل بأهواء أنفسهم من دون أمر الله، ومع هذا،
فالله قد أحاط بهم علمه، فعلم { مَا بَيْنَ
أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ ْ}
أي: أمورهم الماضية والمستقبلة،
فلا خروج لهم عن علمه، كما لا خروج لهم عن أمره وتدبيره.




ومن جزئيات وصفهم، بأنهم لا يسبقونه بالقول، أنهم لا يشفعون لأحد بدون
إذنه ورضاه، فإذا أذن لهم، وارتضى من يشفعون فيه، شفعوا فيه، ولكنه تعالى
لا يرضى من القول والعمل، إلا ما كان خالصا لوجهه، متبعا فيه الرسول،
وهذه الآية من أدلة إثبات الشفاعة، وأن الملائكة يشفعون.




{ وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ ْ}

أي: خائفون وجلون، قد خضعوا لجلاله، وعنت وجوههم لعزه وجماله.




فلما بين أنه لا حق لهم في الألوهية، ولا يستحقون شيئا من العبودية بما
وصفهم به من الصفات المقتضية لذلك، ذكر أيضا أنه لا حظ لهم، ولا بمجرد
الدعوى، وأن من قال منهم: { إِنِّي إِلَهٌ مِنْ
دُونِهِ ْ}
على سبيل الفرض والتنزل {
فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ ْ}

وأي ظلم أعظم من ادعاء المخلوق الناقص، الفقير إلى الله من جميع الوجوه
مشاركة الله في خصائص الإلهية والربوبية؟"




{ 30 ْ} { أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ
الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ ْ}




أي: أولم ينظر هؤلاء الذين كفروا بربهم، وجحدوا الإخلاص له في العبودية،
ما يدلهم دلالة مشاهدة، على أنه الرب المحمود الكريم المعبود، فيشاهدون
السماء والأرض فيجدونهما رتقا، هذه ليس فيها سحاب ولا مطر، وهذه هامدة
ميتة، لا نبات فيها، ففتقناهما: السماء بالمطر، والأرض بالنبات، أليس
الذي أوجد في السماء السحاب، بعد أن كان الجو صافيا لا قزعة فيه، وأودع
فيه الماء الغزير، ثم ساقه إلى بلد ميت; قد اغبرت أرجاؤه، وقحط عنه ماؤه،
فأمطره فيها، فاهتزت، وتحركت، وربت، وأنبتت من كل زوج بهيج، مختلف
الأنواع، متعدد المنافع، [أليس ذلك] دليلا على أنه الحق، وما سواه باطل،
وأنه محيي الموتى، وأنه الرحمن الرحيم؟ ولهذا قال:
{ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ ْ} أي: إيمانا
صحيحا، ما فيه شك ولا شرك. ثم عدد تعالى الأدلة الأفقية فقال:






{ 31 - 33 ْ} { وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ
رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا
لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ * وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا
وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ * وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ
وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ْ}




أي: ومن الأدلة على قدرته وكماله ووحدانيته ورحمته، أنه لما كانت الأرض
لا تستقر إلا بالجبال، أرساها بها وأوتدها، لئلا تميد بالعباد، أي: لئلا
تضطرب، فلا يتمكن العباد من السكون فيها، ولا حرثها، ولا الاستقرار بها،
فأرساها بالجبال، فحصل بسبب ذلك، من المصالح والمنافع، ما حصل، ولما كانت
الجبال المتصل بعضها ببعض، قد تتصل اتصالا كثيرا جدا، فلو بقيت بحالها،
جبالا شامخات، وقللا باذخات، لتعطل الاتصال بين كثير من البلدان.




فمن حكمة الله ورحمته، أن جعل بين تلك الجبال فجاجا سبلا، أي: طرقا سهلة
لا حزنة، لعلهم يهتدون إلى الوصول، إلى مطالبهم من البلدان، ولعلهم
يهتدون بالاستدلال بذلك على وحدانية المنان.




{ وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا ْ}

للأرض التي أنتم عليها { مَحْفُوظًا ْ}
من السقوط { إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا ْ}
محفوظا أيضا من
استراق الشياطين للسمع.




{ وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ ْ}

أي: غافلون لاهون، وهذا عام في جميع آيات السماء، من علوها، وسعتها،
وعظمتها، ولونها الحسن، وإتقانها العجيب، وغير ذلك من المشاهد فيها، من
الكواكب الثوابت والسيارات، وشمسها، وقمرها النيرات، المتولد عنهما،
الليل والنهار، وكونهما دائما في فلكهما سابحين، وكذلك النجوم، فتقوم
بسبب ذلك منافع العباد من الحر والبرد، والفصول، ويعرفون حساب عباداتهم
ومعاملاتهم، ويستريحون في ليلهم، ويهدأون ويسكنون وينتشرون في نهارهم،
ويسعون في معايشهم، كل هذه الأمور إذا تدبرها اللبيب، وأمعن فيها النظر،
جزم حزما لا شك فيه، أن الله جعلها مؤقتة في وقت معلوم، إلى أجل محتوم،
يقضي العباد منها مآربهم، وتقوم بها منافعهم، وليستمتعوا وينتفعوا، ثم
بعد هذا، ستزول وتضمحل، ويفنيها الذي أوجدها، ويسكنها الذي حركها، وينتقل
المكلفون إلى دار غير هذه الدار، يجدون فيها جزاء أعمالهم، كاملا موفرا
ويعلم أن المقصود من هذه الدار أن تكون مزرعة لدار القرار، وأنها منزل
سفر، لا محل إقامة.





{ 34 - 35 ْ} { وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ
قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ * كُلُّ نَفْسٍ
ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّوَالْخَيْرِ فِتْنَةً
وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ْ}




لما كان أعداء الرسول يقولون تربصوا به ريب المنون. قال الله تعالى: هذا
طريق مسلوك، ومعبد منهوك، فلم نجعل لبشر { مِنْ
قَبْلِكَ ْ}
يا محمد { الْخُلْدِ ْ}
في الدنيا، فإذا مت، فسبيل أمثالك، من الرسل والأنبياء، والأولياء،
وغيرهم.




{ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ ْ}

أي: فهل إذا مت خلدوا بعدك، فليهنهم الخلود إذًا إن كان، وليس الأمر
كذلك، بل كل من عليها فان، ولهذا قال: { كُلُّ
نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ْ}
وهذا يشمل سائر نفوس الخلائق، وإن
هذا كأس لا بد من شربه وإن طال بالعبد المدى، وعمّر سنين، ولكن الله
تعالى أوجد عباده في الدنيا، وأمرهم، ونهاهم، وابتلاهم بالخير والشر،
بالغنى والفقر، والعز والذل والحياة والموت، فتنة منه تعالى ليبلوهم أيهم
أحسن عملا، ومن يفتتن عند مواقع الفتن ومن ينجو،
{ وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ْ} فنجازيكم
بأعمالكم، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر { وَمَا
رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ْ}
وهذه الآية، تدل على بطلان قول
من يقول ببقاء الخضر، وأنه مخلد في الدنيا، فهو قول، لا دليل عليه،
ومناقض للأدلة الشرعية.




{ 36 - 41 ْ} { وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ
إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ
الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ * خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ
سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ * وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا
الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا
حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ
وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ * بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ
فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ * وَلَقَدِ
اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا
مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ْ}




وهذا من شدة كفرهم، فإن المشركين إذا رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم،
استهزأوا به وقالوا: { أَهَذَا الَّذِي
يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ ْ}
أي: هذا المحتقر بزعمهم، الذي يسب آلهتكم
ويذمها، ويقع فيها، أي: فلا تبالوا به، ولا تحتفلوا به.




هذا استهزاؤهم واحتقارهم له، بما هو من كماله، فإنه الأكمل الأفضل الذي
من فضائله ومكارمه، إخلاص العبادة لله، وذم كل ما يعبد من دونه وتنقصه،
وذكر محله ومكانته، ولكن محل الازدراء والاستهزاء، هؤلاء الكفار، الذين
جمعوا كل خلق ذميم، ولو لم يكن إلا كفرهم بالرب وجحدهم لرسله فصاروا
بذلك، من أخس الخلق وأرذلهم، ومع هذا، فذكرهم للرحمن، الذي هو أعلى
حالاتهم، كافرون بها، لأنهم لا يذكرونه ولا يؤمنون به إلا وهم مشركون
فذكرهم كفر وشرك، فكيف بأحوالهم بعد ذلك؟ ولهذا قال:
{ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ
ْ}
وفي ذكر اسمه { الرَّحْمَنِ ْ}
هنا، بيان لقباحة حالهم، وأنهم كيف قابلوا الرحمن - مسدي النعم كلها،
ودافع النقم الذي ما بالعباد من نعمة إلا منه، ولا يدفع السوء إلا إياه -
بالكفر والشرك.




{ خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ ْ}

أي: خلق عجولا، يبادر الأشياء، ويستعجل بوقوعها، فالمؤمنون، يستعجلون
عقوبة الله للكافرين، ويتباطئونها، والكافرون يتولون ويستعجلون بالعذاب،
تكذيبا وعنادا، ويقولون: { مَتَى هَذَا
الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ْ}
والله تعالى، يمهل ولا
يهمل ويحلم، ويجعل لهم أجلا مؤقتا { إِذَا
جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ ْ}

ولهذا قال: { سَأُرِيكُمْ آيَاتِي ْ}
أي: في انتقامي ممن كفر بي وعصاني { فَلَا
تَسْتَعْجِلُونِ ْ}
ذلك، وكذلك الذين كفروا يقولون:
{ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ
صَادِقِينَ ْ}
قالوا هذا القول، اغترارا، ولما يحق عليهم العقاب،
وينزل بهم العذاب.




فـ { لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا ْ}
حالهم الشنيعة حين لا يكفون عن وجوههم النار ولا عن ظهورهم، إذ قد أحاط
بهم من كل جانب وغشيهم من كل مكان { وَلَا هُمْ
يُنْصَرُونَ ْ}
أي: لا ينصرهم غيرهم، فلا نصروا ولا انتصروا.




{ بَلْ تَأْتِيهِمْ ْ}

النار { بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ ْ} من
الانزعاج والذعر والخوف العظيم.




{ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا ْ}

إذ هم أذل وأضعف من ذلك.




{ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ ْ}

أي: يمهلون، فيؤخر عنهم العذاب. فلو علموا هذه الحالة حق المعرفة، لما
استعجلوا بالعذاب، ولخافوه أشد الخوف، ولكن لما ترحل عنهم هذا العلم،
قالوا ما قالوا، ولما ذكر استهزاءهم برسوله بقولهم:
{ أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ ْ}
سلاه بأن هذا دأب الأمم السالفة مع رسلهم فقال:
{ وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ
سَخِرُوا مِنْهُمْ ْ}
أي: نزل بهم { مَا
كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ْ}
أي: نزل بهم العذاب، وتقطعت عنهم
الأسباب، فليحذر هؤلاء، أن يصيبهم ما أصاب أولئك المكذبين.





{ 42 - 44 ْ} { قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ
بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ
رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ * أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا
لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ *
بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ
الْعُمُرُ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ
أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ ْ}




يقول تعالى - ذاكرا عجز هؤلاء، الذين اتخذوا من دونه آلهة، وأنهم محتاجون
مضطرون إلى ربهم الرحمن، الذي رحمته، شملت البر والفاجر، في ليلهم
ونهارهم - فقال: { قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ ْ}
أي: يحرسكم ويحفظكم { بِاللَّيْلِ ْ} إذ
كنتم نائمين على فرشكم، وذهبت حواسكم {
وَالنَّهَارِ ْ}
وقت انتشاركم وغفلتكم {
مِنَ الرَّحْمَنِ ْ}
أي: بدله غيره، أي: هل يحفظكم أحد غيره؟ لا
حافظ إلا هو.




{ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ ْ}

فلهذا أشركوا به، وإلا فلو أقبلوا على ذكر ربهم، وتلقوا نصائحه، لهدوا
لرشدهم، ووفقوا في أمرهم.




{ أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا ْ}

أي: إذا أردناهم بسوء هل من آلهتهم، من يقدر على منعهم من ذلك السوء،
والشر النازل بهم؟؟




{ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ
ْ}

أي: لا يعانون على أمورهم من جهتنا، وإذا لم يعانوا من الله، فهم مخذولون
في أمورهم، لا يستطيعون جلب منفعة، ولا دفع مضرة.




والذي أوجب لهم استمرارهم على كفرهم وشركهم قوله:
{ بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ
حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ ْ}
أي: أمددناهم بالأموال
والبنين، وأطلنا أعمارهم، فاشتغلوا بالتمتع بها، ولهوا بها، عما له
خلقوا، وطال عليهم الأمد، فقست قلوبهم، وعظم طغيانهم، وتغلظ كفرانهم، فلو
لفتوا أنظارهم إلى من عن يمينهم، وعن يسارهم من الأرض، لم يجدوا إلا
هالكا ولم يسمعوا إلا صوت ناعية، ولم يحسوا إلا بقرون متتابعة على
الهلاك، وقد نصب الموت في كل طريق لاقتناص النفوس الأشراك، ولهذا قال:
{ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ
نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا ْ}
أي: بموت أهلها وفنائهم، شيئا
فشيئا، حتى يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين، فلو رأوا هذه
الحالة لم يغتروا ويستمروا على ما هم عليه.




{ أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ ْ}

الذين بوسعهم، الخروج عن قدر الله؟ وبطاقتهم الامتناع عن الموت؟ فهل هذا
وصفهم حتى يغتروا بطول البقاء؟ أم إذا جاءهم رسول ربهم لقبض أرواحهم،
أذعنوا، وذلوا، ولم يظهر منهم أدنى ممانعة؟




{ 45 - 46 ْ} { قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ
الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ * وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ
نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا
ظَالِمِينَ ْ}




أي: { قُلْ ْ} يا محمد، للناس كلهم:
{ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ ْ}
أي: إنما أنا رسول، لا آتيكم بشيء من عندي، ولا عندي خزائن الله، ولا
أعلم الغيب، ولا أقول إني ملك، وإنما أنذركم بما أوحاه الله إلي، فإن
استجبتم، فقد استجبتم لله، وسيثيبكم على ذلك، وإن أعرضتم وعارضتم، فليس
بيدي من الأمر شيء، وإنما الأمر لله، والتقدير كله لله.




{ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ ْ}

أي: الأصم لا يسمع صوتا، لأن سمعه قد فسد وتعطل، وشرط السماع مع الصوت،
أن يوجد محل قابل لذلك، كذلك الوحي سبب لحياة القلوب والأرواح، وللفقه عن
الله، ولكن إذا كان القلب غير قابل لسماع الهدى، كان بالنسبة للهدى
والإيمان، بمنزلة الأصم، بالنسبة إلى الأصوات فهؤلاء المشركون، صم عن
الهدى، فلا يستغرب عدم اهتدائهم، خصوصا في هذه الحالة، التي لم يأتهم
العذاب، ولا مسهم ألمه.




فلو مسهم { نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ ْ}
أي: ولو جزءا يسيرا ولا يسير من عذابه، {
لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ْ}
أي: لم
يكن قولهم إلا الدعاء بالويل والثبور، والندم، والاعتراف بظلمهم وكفرهم
واستحقاقهم للعذاب.





{ 47 ْ} { وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ
لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ
مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا
حَاسِبِينَ ْ}




يخبر تعالى عن حكمه العدل، وقضائه القسط بين عباده إذا جمعهم في يوم
القيامة، وأنه يضع لهم الموازين العادلة، التي يبين فيها مثاقيل الذر،
الذي توزن بها الحسنات والسيئات، { فَلَا
تُظْلَمُ نَفْسٌ ْ}
مسلمة أو كافرة {
شَيْئًا ْ}
بأن تنقص من حسناتها، أو يزاد في سيئاتها.




{ وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ ْ}

التي هي أصغر الأشياء وأحقرها، من خير أو شر {
أَتَيْنَا بِهَا ْ}
وأحضرناها، ليجازى بها صاحبها، كقوله:
{ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا
يَرَهُ* وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ْ}





وقالوا { يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا
الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا
وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا ْ}




{ وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ْ}

يعني بذلك نفسه الكريمة، فكفى به حاسبا، أي: عالما بأعمال العباد، حافظا
لها، مثبتا لها في الكتاب، عالما بمقاديرها ومقادير ثوابها وعقابها
واستحقاقها، موصلا للعمال جزاءها.





{ 48 - 50 ْ} { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى
وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ
يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ *
وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ
ْ}




كثيرا ما يجمع تعالى، بين هذين الكتابين الجليلين، اللذين لم يطرق العالم
أفضل منهما، ولا أعظم ذكرا، ولا أبرك، ولا أعظم هدى وبيانا، [وهما
التوراة والقرآن] فأخبر أنه آتى موسى أصلا، وهارون تبعا
{ الْفُرْقَانَ ْ} وهي التوراة الفارقة
بين الحق والباطل، والهدى والضلال، وأنها {
ضِيَاءً ْ}
أي: نور يهتدي به المهتدون، ويأتم به السالكون، وتعرف
به الأحكام، ويميز به بين الحلال والحرام، وينير في ظلمة الجهل والبدع
والغواية، { وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ ْ}
يتذكرون به، ما ينفعهم، وما يضرهم، ويتذكر به الخير والشر، وخص
{ المتقين ْ} بالذكر، لأنهم المنتفعون
بذلك، علما وعملا.




ثم فسر المتقين فقال: { الَّذِينَ يَخْشَوْنَ
رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ ْ}
أي: يخشونه في حال غيبتهم، وعدم مشاهدة
الناس لهم، فمع المشاهدة أولى، فيتورعون عما حرم، ويقومون بما ألزم،
{ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ ْ}
أي: خائفون وجلون، لكمال معرفتهم بربهم، فجمعوا بين الإحسان والخوف،
والعطف هنا من باب عطف الصفات المتغايرات، الواردة على شيء واحد وموصوف
واحد.




{ وَهَذَا ْ}

أي: القرآن { ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ
ْ}
فوصفه بوصفين جليلين، كونه ذكرا يتذكر به جميع المطالب، من
معرفة الله بأسمائه وصفاته وأفعاله، ومن صفات الرسل والأولياء وأحوالهم،
ومن أحكام الشرع من العبادات والمعاملات وغيرها، ومن أحكام الجزاء والجنة
والنار، فيتذكر به المسائل والدلائل العقلية والنقلية، وسماه ذكرا، لأنه
يذكر ما ركزه الله في العقول والفطر، من التصديق بالأخبار الصادقة،
والأمر بالحسن عقلا، والنهي عن القبيح عقلا، وكونه
{ مباركا ْ} يقتضي كثرة خيراته ونمائها
وزيادتها، ولا شيء أعظم بركة من هذا القرآن، فإن كل خير ونعمة، وزيادة
دينية أو دنيوية، أو أخروية، فإنها بسببه، وأثر عن العمل به، فإذا كان
ذكرا مباركا، وجب تلقيه بالقبول والانقياد، والتسليم، وشكر الله على هذه
المنحة الجليلة، والقيام بها، واستخراج بركته، بتعلم ألفاظه ومعانيه،
وأما مقابلته بضد هذه الحالة، من الإعراض عنه، والإضراب عنه، صفحا
وإنكاره، وعدم الإيمان به فهذا من أعظم الكفر وأشد الجهل والظلم، ولهذا
أنكر تعالى على من أنكره فقال: { أَفَأَنْتُمْ
لَهُ مُنْكِرُونَ ْ}
.



privacy_tip صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى