هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

دخول

تفسيرالقران

descriptionتفسيرالقران - صفحة 5 Emptyتفسيرالقران

more_horiz
تذكير بمساهمة فاتح الموضوع :

السسلام عليكم ورحمه الله وبركاته
هاذا موضوع مخصص لتفسير القراان كامل

وباذن الله بضع التفسيرات كامله

وجزاكم الله خير




عدل سابقا من قبل PriNcE A7MeD في الأربعاء 3 أكتوبر 2012 - 12:26 عدل 1 مرات

descriptionتفسيرالقران - صفحة 5 Emptyرد: تفسيرالقران

more_horiz
تابع
- تفسير سورة الصافات عدد آياتها 182

(



آية


114-132

)

وهي مكية






{

114 - 122


} {

وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ


} إلى آخر القصة.




يذكر تعالى مِنَّتهُ على عبديه ورسوليه، موسى، وهارون ابني عمران،
بالنبوة والرسالة، والدعوة إلى اللّه تعالى، ونجاتهما وقومهما من عدوهما
فرعون، ونصرهما عليه، حتى أغرقه اللّه وهم ينظرون، وإنزال اللّه عليهما
الكتاب المستبين، وهو التوراة التي فيها الأحكام والمواعظ وتفصيل كل شيء،
وأن اللّه هداهما الصراط المستقيم، بأن شرع لهما دينا ذا أحكام وشرائع
مستقيمة موصلة إلى اللّه، ومَنَّ عليهما بسلوكه.




{

وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآخِرِينَ سَلَامٌ عَلَى مُوسَى
وَهَارُونَ


} أي: أبقى عليهما ثناء حسنا، وتحية في الآخرين، ومن باب أولى وأحرى في
الأولين {

إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا
الْمُؤْمِنِينَ


}




{

123 - 132


} {

وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا
تَتَّقُونَ * أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ *
اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ * فَكَذَّبُوهُ
فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ * إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ *
وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ * سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ *
إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا
الْمُؤْمِنِينَ


}




يمدح تعالى عبده ورسوله، إلياس عليه الصلاة والسلام، بالنبوة والرسالة،
والدعوة إلى اللّه، وأنه أمر قومه بالتقوى، وعبادة اللّه وحده، ونهاهم عن
عبادتهم، صنما لهم يقال له "بعل" وتركهم عبادة اللّه، الذي خلق الخلق،
وأحسن خلقهم، ورباهم فأحسن تربيتهم، وأدرَّ عليهم النعم الظاهرة
والباطنة، وأنكم كيف تركتم عبادة من هذا شأنه، إلى عبادة صنم، لا يضر،
ولا ينفع، ولا يخلق، ولا يرزق، بل لا يأكل ولا يتكلم؟" وهل هذا إلا من
أعظم الضلال والسفه والغي؟"




{

"فَكَذَّبُوهُ"


} فيما دعاهم إليه، فلم ينقادوا له، قال اللّه متوعدا لهم: {

فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ


} أي يوم القيامة في العذاب، ولم يذكر لهم عقوبة دنيوية.




{

إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ


} أي: الذين أخلصهم اللّه، ومنَّ عليهم باتباع نبيهم، فإنهم غير محضرين
في العذاب، وإنما لهم من اللّه جزيل الثواب.




{

وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ


} أي: على إلياس {

فِي الْآخِرِينَ


} ثناء حسنا.




{

سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ


} أي: تحية من اللّه، ومن عباده عليه.




{

إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا
الْمُؤْمِنِينَ


} فأثنى اللّه عليه كما أثنى على إخوانه صلوات اللّه وسلامه عليهم
أجمعين.

descriptionتفسيرالقران - صفحة 5 Emptyرد: تفسيرالقران

more_horiz
تابع
- تفسير سورة الصافات عدد آياتها 182

(


آية


133-157
)

وهي مكية






{

133 - 138


} {

وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ
أَجْمَعِينَ * إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ * ثُمَّ دَمَّرْنَا
الْآخَرِينَ * وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ *
وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ


}




وهذا ثناء منه تعالى على عبده ورسوله، لوط بالنبوة والرسالة، ودعوته إلى
اللّه قومه، ونهيهم عن الشرك، وفعل الفاحشة.




فلما لم ينتهوا، نجاه اللّه وأهله أجمعين، فسروا ليلا فنجوا.




{

إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ


} أي: الباقين المعذبين، وهي زوجة لوط لم تكن على دينه.




{

ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ


} بأن قلبنا عليهم ديارهم {

فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً
مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ


} حتى همدوا وخمدوا.




{

وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ


} أي: على ديار قوم لوط {

مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ


} أي: في هذه الأوقات، يكثر ترددكم إليها ومروركم بها، فلم تقبل الشك
والمرية {

أَفَلَا تَعْقِلُونَ


} الآيات والعبر، وتنزجرون عما يوجب الهلاك؟




{

139 - 148


} {

وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ


} إلى آخر القصة.




وهذا ثناء منه تعالى، على عبده ورسوله، يونس بن متى، كما أثنى على إخوانه
المرسلين، بالنبوة والرسالة، والدعوة إلى اللّه، وذكر تعالى عنه، أنه
عاقبه عقوبة دنيوية، أنجاه منها بسبب إيمانه وأعماله الصالحة، فقال: {

إِذْ أَبَقَ


}




أي: من ربه مغاضبا له، ظانا أنه لا يقدر عليه، ويحبسه في بطن الحوت، ولم
يذكر اللّه ما غاضب عليه، ولا ذنبه الذي ارتكبه، لعدم فائدتنا بذكره،
وإنما فائدتنا بما ذُكِّرنا عنه أنه أذنب، وعاقبه اللّه مع كونه من الرسل
الكرام، وأنه نجاه بعد ذلك، وأزال عنه الملام، وقيض له ما هو سبب صلاحه.








فلما أبق لجأ {

إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ


} بالركاب والأمتعة، فلما ركب مع غيره، والفلك شاحن، ثقلت السفينة،
فاحتاجوا إلى إلقاء بعض الركبان، وكأنهم لم يجدوا لأحد مزية في ذلك،
فاقترعوا على أن من قرع وغلب، ألقي في البحر عدلا من أهل السفينة، وإذا
أراد اللّه أمرا هيأ أسبابه.




فلما [اقترعوا] أصابت القرعة يونس {

فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ


} أي: المغلوبين.




فألقي في البحر {

فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ


} وقت التقامه {

مُلِيمٌ


} أي: فاعل ما يلام عليه، وهو مغاضبته لربه.




{

فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ


} أي: في وقته السابق بكثرة عبادته لربه، وتسبيحه، وتحميده، وفي بطن
الحوت حيث قال: {

لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ


}




{

لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ


} أي: لكانت مقبرته، ولكن بسبب تسبيحه وعبادته للّه، نجاه اللّه تعالى،
وكذلك ينجي اللّه المؤمنين، عند وقوعهم في الشدائد.




{

فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ


} بأن قذفه الحوت من بطنه بالعراء، وهي الأرض الخالية العارية من كل أحد،
بل ربما كانت عارية من الأشجار والظلال. {

وَهُوَ سَقِيمٌ


} أي: قد سقم ومرض، بسبب حبسه في بطن الحوت، حتى صار مثل الفرخ الممعوط
من البيضة.




{

وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ


} تظله بظلها الظليل، لأنها بادرة باردة الظلال، ولا يسقط عليها ذباب،
وهذا من لطفه به، وبره.




ثم لطف به لطفا آخر، وامْتَنَّ عليه مِنّة عظمى، وهو أنه أرسله {

إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ


} من الناس {

أَوْ يَزِيدُونَ


} عنها، والمعنى أنهم إن ما زادوا لم ينقصوا، فدعاهم إلى اللّه تعالى.




{

فَآمَنُوا


} فصاروا في موازينه، لأنه الداعي لهم.




{

فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ


} بأن صرف اللّه عنهم العذاب بعدما انعقدت أسبابه، قال تعالى: {

فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا
قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ


}




{

149 - 157


} {

فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ * أَمْ
خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ * أَلَا إِنَّهُمْ
مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ * وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ
* أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ
تَحْكُمُونَ * أَفَلَا تَذَكَّرُونَ * أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ *
فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ


}




يقول تعالى لنبيه محمد صلى اللّه عليه وسلم: {

فَاسْتَفْتِهِمْ


} أي: اسأل المشركين باللّه غيره، الذين عبدوا الملائكة، وزعموا أنها
بنات اللّه، فجمعوا بين الشرك باللّه، ووصفه بما لا يليق بجلاله، {

أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ


} أي: هذه قسمة ضيزى، وقول جائر، من جهة جعلهم الولد للّه تعالى، ومن جهة
جعلهم أردأ القسمين وأخسهما له وهو البنات التي لا يرضونهن لأنفسهم، كما
قال في الآية الأخرى {

وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ


} ومن جهة جعلهم الملائكة بنات اللّه، وحكمهم بذلك.




قال تعالى في بيان كذبهم: {

أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ


} خلقهم؟ أي: ليس الأمر كذلك، فإنهم ما شهدوا خلقهم، فدل على أنهم قالوا
هذا القول، بلا علم، بل افتراء على اللّه، ولهذا قال: {

أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ


} أي: كذبهم الواضح {

لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ


}




{

أَصْطَفَى


} أي: اختار {

الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ


} هذا الحكم الجائر.




{

أَفَلَا تَذَكَّرُونَ


} وتميزون هذا القول الباطل الجائر، فإنكم لو تذكرتم لم تقولوا هذا
القول.




{

أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ


} أي: حجة ظاهرة على قولكم، من كتاب أو رسول.




وكل هذا غير واقع، ولهذا قال: {

فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ


} فإن من يقول قولا لا يقيم عليه حجة شرعية، فإنه كاذب متعمد، أو قائل
على اللّه بلا علم.

descriptionتفسيرالقران - صفحة 5 Emptyرد: تفسيرالقران

more_horiz
تابع
- تفسير سورة الصافات عدد آياتها 182

(
آية 158-182 )

وهي مكية






{

158 - 160


} {

وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ
الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ * سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا
يَصِفُونَ * إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ


}




أي: جعل هؤلاء المشركون باللّه بين اللّه وبين الجنة نسبا، حيث زعموا أن
الملائكة بنات اللّه، وأن أمهاتهم سروات الجن، والحال أن الجنة قد علمت
أنهم محضرون بين يدي اللّه، [ليجازيهم] عبادا أذلاء، فلو كان بينهم وبينه
نسب، لم يكونوا كذلك.




{

سُبْحَانَ اللَّهِ


} الملك العظيم، الكامل الحليم، عما يصفه به المشركون من كل وصف أوجبه
كفرهم وشركهم.




{

إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ


} فإنه لم ينزه نفسه عما وصفوه به، لأنهم لم يصفوه إلا بما يليق بجلاله،
وبذلك كانوا مخلصين.




{

161 - 163


} {

فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ * مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ *
إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِي الْجَحِيمِ


}




أي: إنكم أيها المشركون ومن عبدتموه مع اللّه، لا تقدرون أن تفتنوا
وتضلوا أحدا إلا من قضى اللّه أنه من أهل الجحيم، فينفذ فيه القضاء
الإلهي، والمقصود من هذا، بيان عجزهم وعجز آلهتهم عن إضلال أحد، وبيان
كمال قدرة اللّه تعالى، أي: فلا تطمعوا بإضلال عباد اللّه المخلصين وحزبه
المفلحين.




{

164 - 166


} {

وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ * وَإِنَّا لَنَحْنُ
الصَّافُّونَ * وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ


}




هذا [فيه] بيان براءة الملائكة عليهم السلام، عما قاله فيهم المشركون،
وأنهم عباد اللّه، لا يعصونه طرفة عين، فما منهم من أحد إلا له مقام
وتدبير قد أمره اللّه به لا يتعداه ولا يتجاوزه، وليس لهم من الأمر شيء.




{

وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ


} في طاعة اللّه وخدمته.




{

وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ


} لله عما لا يليق به. فكيف - مع هذا - يصلحون أن يكونوا شركاء للّه؟!
تعالى الله.




{

167 - 182


} {

وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ * لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ
الْأَوَّلِينَ * لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ * فَكَفَرُوا
بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ * وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا
الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا
لَهُمُ الْغَالِبُونَ * فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ


} إلى آخر السورة.




يخبر تعالى أن هؤلاء المشركين، يظهرون التمني، ويقولون: لو جاءنا من
الذكر والكتب، ما جاء الأولين، لأخلصنا للّه العبادة، بل لكنا المخلصين
على الحقيقة.




وهم كَذَبَة في ذلك، فقد جاءهم أفضل الكتب فكفروا به، فعلم أنهم متمردون
على الحق {

فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ


} العذاب حين يقع بهم، ولا يحسبوا أيضا أنهم في الدنيا غالبون، بل قد
سبقت كلمة اللّه التي لا مرد لها ولا مخالف لها لعباده المرسلين وجنده
المفلحين، أنهم الغالبون لغيرهم، المنصورون من ربهم، نصرا عزيزا، يتمكنون
فيه من إقامة دينهم، وهذه بشارة عظيمة لمن اتصف بأنه من جند اللّه، بأن
كانت أحواله مستقيمة، وقاتل من أمر بقتالهم، أنه غالب منصور.




ثم أمر رسوله بالإعراض عمن عاندوا، ولم يقبلوا الحق، وأنه ما بقي إلا
انتظار ما يحل بهم من العذاب، ولهذا قال: {

وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ


} من يحل به النكال، فإنه سيحل بهم.




{

فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ


} أي: نزل عليهم، وقريبا منهم {

فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ


} لأنه صباح الشر والعقوبة، والاستئصال.




ثم كرر الأمر بالتَّولي عنهم، وتهديدهم بوقوع العذاب.




ولما ذكر في هذه السورة، كثيرا من أقوالهم الشنيعة، التي وصفوه بها، نزه
نفسه عنها فقال: {

سُبْحَانَ رَبِّكَ


} أي: تنزه وتعالى {

رَبِّ الْعِزَّةِ


} [أي:] الذي عز فقهر كل شيء، واعتز عن كل سوء يصفونه به.




{

وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ


} لسلامتهم من الذنوب والآفات، وسلامة ما وصفوا به فاطر الأرض والسماوات.




{

وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ


} الألف واللام، للاستغراق، فجميع أنواع الحمد، من الصفات الكاملة
العظيمة، والأفعال التي ربى بها العالمين، وأدرَّ عليهم فيها النعم، وصرف
عنهم بها النقم، ودبرهم تعالى في حركاتهم وسكونهم، وفي جميع أحوالهم،
كلها للّه تعالى، فهو المقدس عن النقص، المحمود بكل كمال، المحبوب
المعظم، ورسله سالمون مسلم عليهم، ومن اتبعهم في ذلك له السلامة في
الدنيا والآخرة. [وأعداؤه لهم الهلاك والعطب في الدنيا والآخرة]





تم تفسير سورة الصافات في 6 شوال سنة 1343هـ على يد جامعه:عبد الرحمن بن
ناصر السعدي وصلى اللّه على سيدنا محمد وسلم تسليما والحمد للّه الذي
بنعمته تتم الصالحات. المجلد السابع من تيسير الكريم المنان في تفسير
آيات القرآن لجامعه: عبد الرحمن بن ناصر السعدي غفر الله له ولوالديه
وجميع المسلمين.

descriptionتفسيرالقران - صفحة 5 Emptyرد: تفسيرالقران

more_horiz
-

تفسير
سورة

يس

عدد آياتها
83

(



آية


1-30
)

وهي مكية






{ 1 - 12 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يس * وَالْقُرْآنِ
الْحَكِيمِ * إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ
* تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ
آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ * لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى
أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ * إِنَّا جَعَلْنَا فِي
أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ
* وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا
فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ * وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ
أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ * إِنَّمَا
تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ
فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ * إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي
الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ
أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ }




هذا قسم من اللّه تعالى بالقرآن الحكيم، الذي وصفه الحكمة، وهي وضع كل
شيء موضعه، وضع الأمر والنهي في الموضع اللائق بهما، ووضع الجزاء بالخير
والشر في محلهما اللائق بهما، فأحكامه الشرعية والجزائية كلها مشتملة على
غاية الحكمة.




ومن حكمة هذا القرآن، أنه يجمع بين ذكر الحكم وحكمته، فينبه العقول على
المناسبات والأوصاف المقتضية لترتيب الحكم عليها.




{ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ }

هذا المقسم عليه، وهو رسالة محمد صلى اللّه عليه وسلم، وإنك من جملة
المرسلين، فلست ببدع من الرسل، وأيضا فجئت بما جاء به الرسل من الأصول
الدينية، وأيضا فمن تأمل أحوال المرسلين وأوصافهم، وعرف الفرق بينهم
وبين غيرهم، عرف أنك من خيار المرسلين، بما فيك من الصفات الكاملة،
والأخلاق الفاضلة.




ولا يخفى ما بين المقسم به، وهو القرآن الحكيم، وبين المقسم عليه، [وهو]
رسالة الرسول محمد صلى اللّه عليه وسلم، من الاتصال، وأنه لو لم يكن
لرسالته دليل ولا شاهد إلا هذا القرآن الحكيم، لكفى به دليلا وشاهدا على
رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، بل القرآن العظيم أقوى الأدلة المتصلة
المستمرة على رسالة الرسول، فأدلة القرآن كلها أدلة لرسالة محمد صلى
اللّه عليه وسلم.




ثم أخبر بأعظم أوصاف الرسول صلى اللّه عليه وسلم، الدالة على رسالته، وهو
أنه


{ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ }

معتدل، موصل إلى اللّه وإلى دار كرامته، وذلك الصراط المستقيم، مشتمل على
أعمال، وهي الأعمال الصالحة، المصلحة للقلب والبدن، والدنيا والآخرة،
والأخلاق الفاضلة، المزكية للنفس، المطهرة للقلب، المنمية للأجر، فهذا
الصراط المستقيم، الذي هو وصف الرسول صلى اللّه عليه وسلم، ووصف دينه
الذي جاء به، فتأمل جلالة هذا القرآن الكريم، كيف جمع بين القسم بأشرف
الأقسام، على أجل مقسم عليه، وخبر اللّه وحده كاف، ولكنه تعالى أقام من
الأدلة الواضحة والبراهين الساطعة في هذا الموضع على صحة ما أقسم عليه،
من رسالة رسوله ما نبهنا عليه، وأشرنا إشارة لطيفة لسلوك طريقه، وهذا
الصراط المستقيم


{ تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ }

فهو الذي أنزل به كتابه، وأنزله طريقا لعباده، موصلا لهم إليه، فحماه
بعزته عن التغيير والتبديل، ورحم به عباده رحمة اتصلت بهم، حتى أوصلتهم
إلى دار رحمته، ولهذا ختم الآية بهذين الاسمين الكريمين: العزيز. الرحيم.




فلما أقسم تعالى على رسالته وأقام الأدلة عليها، ذكر شدة الحاجة إليها
واقتضاء الضرورة لها فقال:


{ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ }

وهم العرب الأميون، الذين لم يزالوا خالين من الكتب، عادمين الرسل، قد
عمتهم الجهالة، وغمرتهم الضلالة، وأضحكوا عليهم وعلى سفههم عقول
العالمين، فأرسل اللّه إليهم رسولا من أنفسهم، يزكيهم ويعلمهم الكتاب
والحكمة، وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين، فينذر العرب الأميين، ومن لحق
بهم من كل أمي، ويذكر أهل الكتب بما عندهم من الكتب، فنعمة اللّه به على
العرب خصوصا، وعلى غيرهم عموما. ولكن هؤلاء الذين بعثت فيهم لإنذارهم
بعدما أنذرتهم، انقسموا قسمين: قسم رد لما جئت به، ولم يقبل النذارة، وهم
الذين قال اللّه فيهم


{ لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ }

أي: نفذ فيهم القضاء والمشيئة، أنهم لا يزالون في كفرهم وشركهم، وإنما حق
عليهم القول بعد أن عرض عليهم الحق فرفضوه، فحينئذ عوقبوا بالطبع على
قلوبهم.




وذكر الموانع من وصول الإيمان لقلوبهم، فقال:


{ إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا }

وهي جمع "غل" و "الغل" ما يغل به العنق، فهو للعنق بمنزلة القيد للرجل،
وهذه الأغلال التي في الأعناق عظيمة قد وصلت إلى أذقانهم ورفعت رءوسهم
إلى فوق،


{ فَهُمْ مُقْمَحُونَ }

أي: رافعو رءوسهم من شدة الغل الذي في أعناقهم، فلا يستطيعون أن يخفضوها.




{ وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا
}

أي: حاجزا يحجزهم عن الإيمان،


{ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ }

قد غمرهم الجهل والشقاء من جميع جوانبهم، فلم تفد فيهم النذارة.


{ وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا
يُؤْمِنُونَ }

وكيف يؤمن من طبع على قلبه، ورأى الحق باطلا والباطل حقا؟!




والقسم الثاني: الذين قبلوا النذارة، وقد ذكرهم بقوله:


{ إِنَّمَا تُنْذِرُ }

أي: إنما تنفع نذارتك، ويتعظ بنصحك


{ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ }

[أي:] من قصده اتباع الحق وما ذكر به،


{ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ }

أي: من اتصف بهذين الأمرين، القصد الحسن في طلب الحق، وخشية اللّه تعالى،
فهم الذين ينتفعون برسالتك، ويزكون بتعليمك، وهذا الذي وفق لهذين الأمرين


{ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ }

لذنوبه،


{ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ }

لأعماله الصالحة، ونيته الحسنة.




{ إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى }

أي: نبعثهم بعد موتهم لنجازيهم على الأعمال،


{ وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا }

من الخير والشر، وهو أعمالهم التي عملوها وباشروها في حال حياتهم،


{ وَآثَارَهُمْ }

وهي آثار الخير وآثار الشر، التي كانوا هم السبب في إيجادها في حال
حياتهم وبعد وفاتهم، وتلك الأعمال التي نشأت من أقوالهم وأفعالهم
وأحوالهم، فكل خير عمل به أحد من الناس، بسبب علم العبد وتعليمه ونصحه،
أو أمره بالمعروف، أو نهيه عن المنكر، أو علم أودعه عند المتعلمين، أو في
كتب ينتفع بها في حياته وبعد موته، أو عمل خيرا، من صلاة أو زكاة أو صدقة
أو إحسان، فاقتدى به غيره، أو عمل مسجدا، أو محلا من المحال التي يرتفق
بها الناس، وما أشبه ذلك، فإنها من آثاره التي تكتب له، وكذلك عمل الشر.




ولهذا:


{ من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن سنة
سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة }

وهذا الموضع، يبين لك علو مرتبة الدعوة إلى اللّه والهداية إلى سبيله بكل
وسيلة وطريق موصل إلى ذلك، ونزول درجة الداعي إلى الشر الإمام فيه، وأنه
أسفل الخليقة، وأشدهم جرما، وأعظمهم إثما.




{ وَكُلَّ شَيْءٍ }

من الأعمال والنيات وغيرها


{ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ }

أي: كتاب هو أم الكتب وإليه مرجع الكتب، التي تكون بأيدي الملائكة، وهو
اللوح المحفوظ.




{ 13 - 30 } { وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ
جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ }

إلى آخر القصة.








أي: واضرب لهؤلاء المكذبين برسالتك، الرادين لدعوتك، مثلا يعتبرون به،
ويكون لهم موعظة إن وفقوا للخير، وذلك المثل: أصحاب القرية، وما جرى منهم
من التكذيب لرسل اللّه، وما جرى عليهم من عقوبته ونكاله.




وتعيين تلك القرية، لو كان فيه فائدة، لعينها اللّه، فالتعرض لذلك وما
أشبهه من باب التكلف والتكلم بلا علم، ولهذا إذا تكلم أحد في مثل هذا تجد
عنده من الخبط والخلط والاختلاف الذي لا يستقر له قرار، ما تعرف به أن
طريق العلم الصحيح، الوقوف مع الحقائق، وترك التعرض لما لا فائدة فيه،
وبذلك تزكو النفس، ويزيد العلم، من حيث يظن الجاهل أن زيادته بذكر
الأقوال التي لا دليل عليها، ولا حجة عليها ولا يحصل منها من الفائدة إلا
تشويش الذهن واعتياد الأمور المشكوك فيها.




والشاهد أن هذه القرية جعلها اللّه مثلا للمخاطبين.


{ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ }

من اللّه تعالى يأمرونهم بعبادة اللّه وحده، وإخلاص الدين له، وينهونهم
عن الشرك والمعاصي.




{ إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا
بِثَالِثٍ }

أي: قويناهما بثالث، فصاروا ثلاثة رسل، اعتناء من اللّه بهم، وإقامة
للحجة بتوالي الرسل إليهم،


{ فَقَالُوا }

لهم:


{ إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ }

فأجابوهم بالجواب الذي ما زال مشهورا عند من رد دعوة الرسل: فـ


{ قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا }

أي: فما الذي فضلكم علينا وخصكم من دوننا؟ قالت الرسل لأممهم:


{ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى
مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ }





{ وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ }

أي: أنكروا عموم الرسالة، ثم أنكروا أيضا المخاطبين لهم، فقالوا:


{ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ }





فقالت هؤلاء الرسل الثلاثة:


{ رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ }

فلو كنا كاذبين، لأظهر اللّه خزينا، ولبادرنا بالعقوبة.




{ وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ }

أي: البلاغ المبين الذي يحصل به توضيح الأمور المطلوب بيانها، وما عدا
هذا من آيات الاقتراح، ومن سرعة العذاب، فليس إلينا، وإنما وظيفتنا -التي
هي البلاغ المبين- قمنا بها، وبيناها لكم، فإن اهتديتم، فهو حظكم
وتوفيقكم، وإن ضللتم، فليس لنا من الأمر شيء.




فقال أصحاب القرية لرسلهم:


{ إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ }

أي: لم نر على قدومكم علينا واتصالكم بنا إلا الشر، وهذا من أعجب
العجائب، أن يجعل من قدم عليهم بأجل نعمة ينعم اللّه بها على العباد،
وأجل كرامة يكرمهم بها، وضرورتهم إليها فوق كل ضرورة، قد قدم بحالة شر،
زادت على الشر الذي هم عليه، واستشأموا بها، ولكن الخذلان وعدم التوفيق،
يصنع بصاحبه أعظم مما يصنع به عدوه.




ثم توعدوهم فقالوا:


{ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ }

أي: نقتلنكم رجما بالحجارة أشنع القتلات


{ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ }





فقالت لهم رسلهم:


{ طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ }

وهو ما معهم من الشرك والشر، المقتضي لوقوع المكروه والنقمة، وارتفاع
المحبوب والنعمة.


{ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ }

أي: بسبب أنا ذكرناكم ما فيه صلاحكم وحظكم، قلتم لنا ما قلتم.




{ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ }

متجاوزون للحد، متجرهمون في قولكم، فلم يزدهم [دعاؤهم] إلا نفورا
واستكبارا.




{ وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى }

حرصا على نصح قومه حين سمع ما دعت إليه الرسل وآمن به، وعلم ما رد به
قومه عليهم فقال [لهم]:


{ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ }

فأمرهم باتباعهم ونصحهم على ذلك، وشهد لهم بالرسالة، ثم ذكر تأييدا لما
شهد به ودعا إليه، فقال:


{ اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا }

أي: اتبعوا من نصحكم نصحا يعود إليكم بالخير، وليس [يريد منكم أموالكم
ولا أجرا على نصحه لكم وإرشاده إياكم، فهذا موجب لاتباع من هذا وصفه.




بقي] أن يقال: فلعله يدعو ولا يأخذ أجرة، ولكنه ليس على الحق، فدفع هذا
الاحتراز بقوله:


{ وَهُمْ مُهْتَدُونَ }

لأنهم لا يدعون إلا لما يشهد العقل الصحيح بحسنه، ولا ينهون إلا بما يشهد
العقل الصحيح بقبحه.




فكأن قومه لم يقبلوا نصحه، بل عادوا لائمين له على اتباع الرسل، وإخلاص
الدين للّه وحده، فقال:


{ وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ }

أي: وما المانع لي من عبادة من هو المستحق للعبادة، لأنه الذي فطرني،
وخلقني، ورزقني، وإليه مآل جميع الخلق، فيجازيهم بأعمالهم، فالذي بيده
الخلق والرزق، والحكم بين العباد، في الدنيا والآخرة، هو الذي يستحق أن
يعبد، ويثنى عليه ويمجد، دون من لا يملك نفعا ولا ضرا، ولا عطاء ولا
منعا، ولا حياة ولا موتا ولا نشورا، ولهذا قال:


{ أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ
لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ }

لأنه لا أحد يشفع عند الله إلا بإذنه، فلا تغني شفاعتهم عني شيئا، وَلَا
هُمْ يُنْقذون من الضر الذي أراده اللّه بي.




{ إِنِّي إِذًا }

أي: إن عبدت آلهة هذا وصفها


{ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ }

فجمع في هذا الكلام، بين نصحهم، والشهادة للرسل بالرسالة، والاهتداء
والإخبار بِتعيُّن عبادة اللّه وحده، وذكر الأدلة عليها، وأن عبادة غيره
باطلة، وذكر البراهين عليها، والإخبار بضلال من عبدها، والإعلان بإيمانه
جهرا، مع خوفه الشديد من قتلهم، فقال:


{ إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ }

فقتله قومه، لما سمعوا منه وراجعهم بما راجعهم به.




فـ


{ قِيلَ }

له في الحال:


{ ادْخُلِ الْجَنَّةَ }

فقال مخبرا بما وصل إليه من الكرامة على توحيده وإخلاصه، وناصحا لقومه
بعد وفاته، كما نصح لهم في حياته:


{ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي }

أي: بأي: شيء غفر لي، فأزال عني أنواع العقوبات،


{ وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ }

بأنواع المثوبات والمسرات، أي: لو وصل علم ذلك إلى قلوبهم، لم يقيموا على
شركهم.




قال اللّه في عقوبة قومه: [


{ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ] مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ
السَّمَاءِ }

أي: ما احتجنا أن نتكلف في عقوبتهم، فننزل جندا من السماء لإتلافهم،


{ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ }

لعدم الحاجة إلى ذلك، وعظمة اقتدار اللّه تعالى، وشدة ضعف بني آدم، وأنهم
أدنى شيء يصيبهم من عذاب اللّه يكفيهم


{ إِنْ كَانَتْ }

أي: كانت عقوبتهم


{ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً }

أي: صوتا واحدا، تكلم به بعض ملائكة اللّه،


{ فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ }

قد تقطعت قلوبهم في أجوافهم، وانزعجوا لتلك الصيحة، فأصبحوا خامدين، لا
صوت ولا حركة، ولا حياة بعد ذلك العتو والاستكبار، ومقابلة أشرف الخلق
بذلك الكلام القبيح، وتجبرهم عليهم.




قال اللّه متوجعا للعباد:


{ يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا
كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ }

أي: ما أعظم شقاءهم، وأطول عناءهم، وأشد جهلهم، حيث كانوا بهذه الصفة
القبيحة، التي هي سبب لكل شقاء وعذاب ونكال"


descriptionتفسيرالقران - صفحة 5 Emptyرد: تفسيرالقران

more_horiz
تابع
-


تفسير
سورة

يس

عدد آياتها
83

(
آية
31-54

)

وهي مكية






{ 31 - 32 } { أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ
الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ * وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا
جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ }




يقول تعالى: ألم ير هؤلاء ويعتبروا بمن قبلهم من القرون المكذبة، التي
أهلكها الله تعالى وأوقع بها عقابها، وأن جميعهم قد باد وهلك، فلم يرجع
إلى الدنيا، ولن يرجع إليها، وسيعيد اللّه الجميع خلقا جديدا، ويبعثهم
بعد موتهم، ويحضرون بين يديه تعالى، ليحكم بينهم بحكمه العدل الذي لا
يظلم مثقال ذرة


{ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا
عَظِيمًا }








{ 33 - 36 } { وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا
وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ * وَجَعَلْنَا فِيهَا
جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ
* لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا
يَشْكُرُونَ * سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا
تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ }




أي:


{ وَآيَةٌ لَهُمُ }

على البعث والنشور، والقيام بين يدي اللّه تعالى للجزاء على الأعمال، هذه


{ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ }

أنزل اللّه عليها المطر، فأحياها بعد موتها،


{ وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ }

من جميع أصناف الزروع، ومن جميع أصناف النبات، التي تأكله أنعامهم،


{ وَجَعَلْنَا فِيهَا }

أي: في تلك الأرض الميتة


{ جَنَّاتٍ }

أي: بساتين، فيها أشجار كثيرة، وخصوصا النخيل والأعناب، اللذان هما أشرف
الأشجار،


{ وَفَجَّرْنَا فِيهَا }

أي: في الأرض


{ مِنَ الْعُيُونِ }





جعلنا في الأرض تلك الأشجار، والنخيل والأعناب،


{ لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ }

قوتا وفاكهة، وأدْمًا ولذة،


{ و }

الحال أن تلك الثمار


{ مَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ }

[وليس لهم فيه صنع، ولا عمل، إن هو إلا صنعة أحكم الحاكمين، وخير
الرازقين، وأيضا فلم تعمله أيديهم] بطبخ ولا غيره، بل أوجد اللّه هذه
الثمار، غير محتاجة لطبخ ولا شيّ، تؤخذ من أشجارها، فتؤكل في الحال.


{ أَفَلَا يَشْكُرُونَ }

من ساق لهم هذه النعم، وأسبغ عليهم من جوده وإحسانه، ما به تصلح أمور
دينهم ودنياهم، أليس الذي أحيا الأرض بعد موتها، فأنبت فيها الزروع
والأشجار، وأودع فيها لذيذ الثمار، وأظهر ذلك الجنى من تلك الغصون، وفجر
الأرض اليابسة الميتة بالعيون، بقادر على أن يحيي الموتى؟ بل، إنه على كل
شيء قدير.




{ سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا }

أي: الأصناف كلها،


{ مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ }

فنوع فيها من الأصناف ما يعسر تعداده.


{ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ }

فنوعهم إلى ذكر وأنثى، وفاوت بين خلقهم وخُلُقِهمْ، وأوصافهم الظاهرة
والباطنة.


{ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ }

من المخلوقات التي قد خلقت وغابت عن علمنا، والتي لم تخلق بعد، فسبحانه
وتعالى أن يكون له شريك، أو ظهير، أو عوين، أو وزير، أو صاحبة، أو ولد،
أو سَمِيٌّ، أو شبيه، أو مثيل في صفات كماله ونعوت جلاله، أو يعجزه شيء
يريده.







{ 37 - 40 } { وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ
فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ * وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا
ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ
مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ * لَا الشَّمْسُ
يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ
النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ }




أي:


{ وَآيَةٌ لَهُمُ }

على نفوذ مشيئة اللّه، وكمال قدرته، وإحيائه الموتى بعد موتهم.


{ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ }

أي: نزيل الضياء العظيم الذي طبق الأرض، فنبدله بالظلمة، ونحلها محله


{ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ }

وكذلك نزيل هذه الظلمة، التي عمتهم وشملتهم، فتطلع الشمس، فتضيء الأقطار،
وينتشر الخلق لمعاشهم ومصالحهم، ولهذا قال:


{ وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا }

[أي: دائما تجري لمستقر لها] قدره اللّه لها، لا تتعداه، ولا تقصر عنه،
وليس لها تصرف في نفسها، ولا استعصاء على قدرة اللّه تعالى.


{ ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ }

الذي بعزته دبر هذه المخلوقات العظيمة، بأكمل تدبير، وأحسن نظام.


{ الْعَلِيمُ }

الذي بعلمه، جعلها مصالح لعباده، ومنافع في دينهم ودنياهم.




{ وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ }

ينزل بها، كل ليلة ينزل منها واحدة،


{ حَتَّى }

يصغر جدا، فيعود


{ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ }

أي: عرجون النخلة، الذي من قدمه نش وصغر حجمه وانحنى، ثم بعد ذلك، ما زال
يزيد شيئا فشيئا، حتى يتم [نوره] ويتسق ضياؤه.




{ وَكُلٌّ }

من الشمس والقمر، والليل والنهار، قدره [اللّه] تقديرا لا يتعداه، وكل له
سلطان ووقت، إذا وجد عدم الآخر، ولهذا قال:


{ لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ }

أي: في سلطانه الذي هو الليل، فلا يمكن أن توجد الشمس في الليل،


{ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ }

فيدخل عليه قبل انقضاء سلطانه،


{ وَكُلٌّ }

من الشمس والقمر والنجوم


{ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ }

أي: يترددون على الدوام، فكل هذا دليل ظاهر، وبرهان باهر، على عظمة
الخالق، وعظمة أوصافه، خصوصا وصف القدرة والحكمة والعلم في هذا الموضع.




{ 41 - 50 } { وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي
الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا
يَرْكَبُونَ * وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا
هُمْ يُنْقَذُونَ * إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ *
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ
لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ * وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ
رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ
أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا
لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ
إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا
الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً
وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ * فَلَا يَسْتَطِيعُونَ
تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ }




أي: ودليل لهم وبرهان، على أن اللّه وحده المعبود، لأنه المنعم بالنعم،
الصارف للنقم، الذي من جملة نعمه


{ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ }

قال كثير من المفسرين: المراد بذلك: آباؤهم.




{ وَخَلَقْنَا لَهُمْ }

أي: للموجودين من بعدهم


{ مِنْ مِثْلِهِ }

أي: من مثل ذلك الفلك، أي: جنسه


{ مَا يَرْكَبُونَ }

به، فذكر نعمته على الآباء بحملهم في السفن، لأن النعمة عليهم، نعمة على
الذرية. وهذا الموضع من أشكل المواضع عليَّ في التفسير، فإن ما ذكره كثير
من المفسرين، من أن المراد بالذرية الآباء، مما لا يعهد في القرآن إطلاق
الذرية على الآباء، بل فيها من الإيهام، وإخراج الكلام عن موضوعه، ما
يأباه كلام رب العالمين، وإرادته البيان والتوضيح لعباده.




وثَمَّ احتمال أحسن من هذا، وهو أن المراد بالذرية الجنس، وأنهم هم
بأنفسهم، لأنهم هم من ذرية [بني] آدم، ولكن ينقض هذا المعنى قوله:


{ وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ }

إن أريد: وخلقنا من مثل ذلك الفلك، أي: لهؤلاء المخاطبين، ما يركبون من
أنواع الفلك، فيكون ذلك تكريرا للمعنى، تأباه فصاحة القرآن. فإن أريد
بقوله:


{ وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ }

الإبل، التي هي سفن البر، استقام المعنى واتضح، إلا أنه يبقى أيضا، أن
يكون الكلام فيه تشويش، فإنه لو أريد هذا المعنى، لقال: وَآيَةٌ لَهُمْ
أَنَّا حَمَلْنَاهم فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُون،ِ وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ
مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ ، فأما أن يقول في الأول: وحملنا ذريتهم، وفي
الثاني: حملناهم، فإنه لا يظهر المعنى، إلا أن يقال: الضمير عائد إلى
الذرية، واللّه أعلم بحقيقة الحال.




فلما وصلت في الكتابة إلى هذا الموضع، ظهر لي معنى ليس ببعيد من مراد
اللّه تعالى، وذلك أن من عرف جلالة كتاب اللّه وبيانه التام من كل وجه،
للأمور الحاضرة والماضية والمستقبلة، وأنه يذكر من كل معنى أعلاه وأكمل
ما يكون من أحواله، وكانت الفلك من آياته تعالى ونعمه على عباده، من حين
أنعم عليهم بتعلمها إلى يوم القيامة، ولم تزل موجودة في كل زمان، إلى
زمان المواجهين بالقرآن.




فلما خاطبهم اللّه تعالى بالقرآن، وذكر حالة الفلك، وعلم تعالى أنه سيكون
أعظم آيات الفلك في غير وقتهم، وفي غير زمانهم، حين يعلمهم [صنعة] الفلك
[البحرية] الشراعية منها والنارية، والجوية السابحة في الجو، كالطيور
ونحوها، [والمراكب البرية] مما كانت الآية العظمى فيه لم توجد إلا في
الذرية، نبَّه في الكتاب على أعلى نوع من أنواع آياتها فقال:




{ وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ
الْمَشْحُونِ }

أي: المملوء ركبانا وأمتعة. فحملهم اللّه تعالى، ونجاهم بالأسباب التي
علمهم اللّه بها، من الغرق، و[لهذا] نبههم على نعمته عليهم حيث أنجاهم
مع قدرته على ذلك، فقال:


{ وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ }

أي: لا أحد يصرخ لهم فيعاونهم على الشدة، ولا يزيل عنهم المشقة،


{ وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ }

مما هم فيه


{ إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ }

حيث لم نغرقهم، لطفا بهم، وتمتيعا لهم إلى حين، لعلهم يرجعون، أو
يستدركون ما فرط منهم.




{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا
خَلْفَكُمْ }

أي: من أحوال البرزخ والقيامة، وما في الدنيا من العقوبات


{ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ }

أعرضوا عن ذلك، فلم يرفعوا به رأسا، ولو جاءتهم كل آية، ولهذا قال:


{ وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا
عَنْهَا مُعْرِضِينَ }

وفي إضافة الآيات إلى ربهم، دليل على كمالها ووضوحها، لأنه ما أبين من
آية من آيات اللّه، ولا أعظم بيانا.




وإن من جملة تربية اللّه لعباده، أن أوصل إليهم الآيات التي يستدلون بها
على ما ينفعهم، في دينهم ودنياهم.




{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ }

أي: من الرزق الذي منَّ به اللّه عليكم، ولو شاء لسلبكم إياه،


{ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا }

معارضين للحق، محتجين بالمشيئة:


{ أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ }

أيها المؤمنون


{ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ }

حيث تأمروننا بذلك.




وهذا مما يدل على جهلهم العظيم، أو تجاهلهم الوخيم، فإن المشيئة، ليست
حجة لعاص أبدا، فإنه وإن كان ما شاء اللّه كان، وما لم يشأ لم يكن، فإنه
تعالى مكَّن العباد، وأعطاهم من القوة ما يقدرون على فعل الأمر واجتناب
النهي، فإذا تركوا ما أمروا به، كان ذلك اختيارا منهم، لا جبرا لهم ولا
قهرا.




{ وَيَقُولُونَ }

على وجه التكذيب والاستعجال:


{ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ }

قال اللّه تعالى: لا يستبعدوا ذلك، فإنه [عن] قريب


{ مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً }

وهي نفخة الصور


{ تَأْخُذُهُمْ }

أي: تصيبهم


{ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ }

أي: وهم لا هون عنها، لم تخطر على قلوبهم في حال خصومتهم، وتشاجرهم
بينهم، الذي لا يوجد في الغالب إلا وقت الغفلة.




وإذا أخذتهم وقت غفلتهم، فإنهم لا ينظرون ولا يمهلون


{ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً }

أي: لا قليلة ولا كثيرة


{ وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ }








{ 51 - 54 } { وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ
إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ * قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا
مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ
* إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ
لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ * فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا
تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ }




النفخة الأولى، هي نفخة الفزع والموت، وهذه نفخة البعث والنشور، فإذا نفخ
في الصور، خرجوا من الأجداث والقبور، ينسلون إلى ربهم، أي: يسرعون للحضور
بين يديه، لا يتمكنون من التأنِّي والتأخر، وفي تلك الحال، يحزن
المكذبون، ويظهرون الحسرة والندم، ويقولون:


{ يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا }

أي: من رقدتنا في القبور، لأنه ورد في بعض الأحاديث، أن لأهل القبور رقدة
قبيل النفخ في الصور، فيجابون، فيقال [لهم:]


{ هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ }

أي: هذا الذي وعدكم اللّه به، ووعدتكم به الرسل، فظهر صدقهم رَأْيَ عين.




ولا تحسب أن ذكر الرحمن في هذا الموضع، لمجرد الخبر عن وعده، وإنما ذلك
للإخبار بأنه في ذلك اليوم العظيم، سيرون من رحمته ما لا يخطر على
الظنون، ولا حسب به الحاسبون، كقوله:


{ الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ }



{ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ }

ونحو ذلك، مما يذكر اسمه الرحمن، في هذا.




{ إِنْ كَانَتْ }

البعثة من القبور


{ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً }

ينفخ فيها إسرافيل في الصور، فتحيا الأجساد،


{ فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ }

الأولون والآخرون، والإنس والجن، ليحاسبوا على أعمالهم.




{ فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا }

لا ينقص من حسناتها، ولا يزاد في سيئاتها،


{ وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ }

من خير أو شر، فمن وجد خيرا فليحمد اللّه على ذلك، ومن وجد غير ذلك فلا
يلومن إلا نفسه

descriptionتفسيرالقران - صفحة 5 Emptyرد: تفسيرالقران

more_horiz
تابع
-


تفسير
سورة

يس

عدد آياتها
83

(


آية
55-83
)

وهي مكية






{ 55 - 58 } { إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ
فَاكِهُونَ * هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ
مُتَّكِئُونَ * لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ *
سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ }




[لما ذكر تعالى] أن كل أحد لا يجازى إلا ما عمله، ذكر جزاء الفريقين،
فبدأ بجزاء أهل الجنة، وأخبر أنهم في ذلك اليوم


{ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ }

أي: في شغل مفكه للنفس، مُلِذِّ لها، من كل ما تهواه النفوس، وتلذه
العيون، ويتمناه المتمنون.




ومن ذلك افتضاض العذارى الجميلات، كما قال:


{ هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ }

من الحور العين، اللاتي قد جمعن حسن الوجوه والأبدان وحسن الأخلاق.


{ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ }

أي: على السرر المزينة باللباس المزخرف الحسن.


{ مُتَّكِئُونَ }

عليها، اتكاء على كمال الراحة والطمأنينة واللذة.




{ لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ }

كثيرة، من جميع أنواع الثمار اللذيذة، من عنب وتين ورمان، وغيرها،


{ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ }

أي: يطلبون، فمهما طلبوه وتمنوه أدركوه.




ولهم أيضا


{ سَلَامٌ }

حاصل لهم


{ مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ }

ففي هذا كلام الرب تعالى لأهل الجنة وسلامه عليهم، وأكده بقوله:


{ قَوْلًا }

وإذا سلم عليهم الرب الرحيم، حصلت لهم السلامة التامة من جميع الوجوه،
وحصلت لهم التحية، التي لا تحية أعلى منها، ولا نعيم مثلها، فما ظنك
بتحية ملك الملوك، الرب العظيم، الرءوف الرحيم، لأهل دار كرامته، الذي
أحل عليهم رضوانه، فلا يسخط عليهم أبدا، فلولا أن اللّه تعالى قدر أن لا
يموتوا، أو تزول قلوبهم عن أماكنها من الفرح والبهجة والسرور، لحصل ذلك.




فنرجو ربنا أن لا يحرمنا ذلك النعيم، وأن يمتعنا بالنظر إلى وجهه الكريم.







{ 59 - 67 } { وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ * أَلَمْ
أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ
إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ
مُسْتَقِيمٌ * وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ
تَكُونُوا تَعْقِلُونَ * هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ *
اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ * الْيَوْمَ نَخْتِمُ
عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ
بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى
أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ * وَلَوْ
نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا
مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ }




لما ذكر تعالى جزاء المتقين، ذكر جزاء المجرمين


{ و }

أنهم يقال لهم يوم القيامة


{ امْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ }

أي: تميزوا عن المؤمنين، وكونوا على حدة، ليوبخهم ويقرعهم على رءوس
الأشهاد قبل أن يدخلهم النار، فيقول لهم:


{ أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ }

أي: آمركم وأوصيكم، على ألسنة رسلي، [وأقول لكم:]


{ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ }

أي: لا تطيعوه؟ وهذا التوبيخ، يدخل فيه التوبيخ عن جميع أنواع الكفر
والمعاصي، لأنها كلها طاعة للشيطان وعبادة له،


{ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ }

فحذرتكم منه غاية التحذير، وأنذرتكم عن طاعته، وأخبرتكم بما يدعوكم إليه،


{ و }

أمرتكم


{ أَنِ اعْبُدُونِي }

بامتثال أوامري وترك زواجري،


{ هَذَا }

أي: عبادتي وطاعتي، ومعصية الشيطان


{ صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ }

فعلوم الصراط المستقيم وأعماله ترجع إلى هذين الأمرين، أي: فلم تحفظوا
عهدي، ولم تعملوا بوصيتي، فواليتم عدوكم، فـ


{ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا }

أي: خلقا كثيرا.




{ أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ }

أي: فلا كان لكم عقل يأمركم بموالاة ربكم ووليكم الحق، ويزجركم عن اتخاذ
أعدى الأعداء لكم وليا، فلو كان لكم عقل صحيح لما فعلتم ذلك، فإذا أطعتم
الشيطان، وعاديتم الرحمن، وكذبتم بلقائه، ووردتم القيامة دار الجزاء، وحق
عليكم القول بالعذاب فـ


{ هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ }

وتكذبون بها، فانظروا إليها عيانا، فهناك تنزعج منهم القلوب، وتزوغ
الأبصار، ويحصل الفزع الأكبر.




ثم يكمل ذلك، بأن يؤمر بهم إلى النار، ويقال لهم:


{ اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ }

أي: ادخلوها على وجه تصلاكم، ويحيط بكم حرها، ويبلغ منكم كل مبلغ، بسبب
كفركم بآيات اللّه، وتكذيبكم لرسل اللّه.




قال الله تعالى في بيان وصفهم الفظيع في دار الشقاء:


{ الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ }

بأن نجعلهم خرسا فلا يتكلمون، فلا يقدرون على إنكار ما عملوه من الكفر
والتكذيب.


{ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا
يَكْسِبُونَ }

أي: تشهد عليهم أعضاؤهم بما عملوه، وينطقها الذي أنطق كل شيء.




{ وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ }

بأن نُذْهِبَ أبصارهم، كما طمسنا على نطقهم.


{ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ }

أي: فبادروا إليه، لأنه الطريق إلى الوصول إلى الجنة،


{ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ }

وقد طمست أبصارهم.




{ وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ }

أي: لأذهبنا حركتهم


{ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا }

إلى الأمام


{ وَلَا يَرْجِعُونَ }

إلى ورائهم ليبعدوا عن النار. والمعنى: أن هؤلاء الكفار، حقت عليهم كلمة
العذاب، ولم يكن بُدٌّ من عقابهم.




وفي ذلك الموطن، ما ثَمَّ إلا النار قد برزت، وليس لأحد نجاة إلا بالعبور
على الصراط، وهذا لا يستطيعه إلا أهل الإيمان، الذين يمشون في نورهم،
وأما هؤلاء، فليس لهم عند اللّه عهد في النجاة من النار؛ فإن شاء طمس
أعينهم وأبقى حركتهم، فلم يهتدوا إلى الصراط لو استبقوا إليه وبادروه،
وإن شاء أذهب حراكهم فلم يستطيعوا التقدم ولا التأخر. المقصود: أنهم لا
يعبرونه، فلا تحصل لهم النجاة.







{ 68 } { وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا
يَعْقِلُونَ }




يقول تعالى:


{ وَمَنْ نُعَمِّرْهُ }

من بني آدم


{ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ }

أي: يعود إلى الحالة التي ابتدأ حالة الضعف، ضعف العقل، وضعف القوة.


{ أَفَلَا يَعْقِلُونَ }

أن الآدمي ناقص من كل وجه، فيتداركوا قوتهم وعقولهم، فيستعملونها في طاعة
ربهم.







{ 69 - 70 } { وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ
هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ * لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا
وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ }




ينزه تعالى نبيه محمدا صلى اللّه عليه وسلم، عما رماه به المشركون، من
أنه شاعر، وأن الذي جاء به شعر فقال:


{ وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ }

أن يكون شاعرا، أي: هذا من جنس المحال أن يكون شاعرا، لأنه رشيد مهتد،
والشعراء غاوون، يتبعهم الغاوون، ولأن اللّه تعالى حسم جميع الشبه التي
يتعلق بها الضالون على رسوله، فحسم أن يكون يكتب أو يقرأ، وأخبر أنه ما
علمه الشعر وما ينبغي له،


{ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ }

أي: ما هذا الذي جاء به إلا ذكر يتذكر به أولو الألباب، جميع المطالب
الدينية، فهو مشتمل عليها أتم اشتمال، وهو يذكر العقول، ما ركز اللّه في
فطرها من الأمر بكل حسن، والنهي عن كل قبيح.




{ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ }

أي: مبين لما يطلب بيانه. ولهذا حذف المعمول، ليدل على أنه مبين لجميع
الحق، بأدلته التفصيلية والإجمالية، والباطل وأدلة بطلانه، أنزله اللّه
كذلك على رسوله.




{ لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا }

أي: حي القلب واعيه، فهو الذي يزكو على هذا القرآن، وهو الذي يزداد من
العلم منه والعمل، ويكون القرآن لقلبه بمنزلة المطر للأرض الطيبة
الزاكية.


{ وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ }

لأنهم قامت عليهم به حجة اللّه، وانقطع احتجاجهم، فلم يبق لهم أدنى عذر
وشبهة يُدْلُونَ بها.




{ 71 - 73 } { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ
أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ * وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ
فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ * وَلَهُمْ فِيهَا
مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ }




يأمر تعالى العباد بالنظر إلى ما سخر لهم من الأنعام وذللها، وجعلهم
مالكين لها، مطاوعة لهم في كل أمر يريدونه منها، وأنه جعل لهم فيها منافع
كثيرة من حملهم وحمل أثقالهم ومحاملهم وأمتعتهم من محل إلى محل، ومن
أكلهم منها، وفيها دفء، ومن أوبارها وأشعارها وأصوافها أثاثا ومتاعا إلى
حين، وفيها زينة وجمال، وغير ذلك من المنافع المشاهدة منها،


{ أَفَلَا يَشْكُرُونَ }

اللّه تعالى الذي أنعم بهذه النعم، ويخلصون له العبادة ولا يتمتعون بها
تمتعا خاليا من العبرة والفكرة.







{ 74 - 75 } { وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ
يُنْصَرُونَ * لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ
مُحْضَرُونَ }




هذا بيان لبطلان آلهة المشركين، التي اتخذوها مع اللّه تعالى، ورجوا
نصرها وشفعها، فإنها في غاية العجز


{ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ }

ولا أنفسهم ينصرون، فإذا كانوا لا يستطيعون نصرهم، فكيف ينصرونهم؟ والنصر
له شرطان: الاستطاعة [والقدرة] فإذا استطاع، يبقى: هل يريد نصرة من عبده
أم لا؟ فَنَفْيُ الاستطاعة، ينفي الأمرين كليهما.




{ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ }

أي: محضرون هم وهم في العذاب، ومتبرئ بعضهم من بعض، أفلا تبرأوا في
الدنيا من عبادة هؤلاء، وأخلصوا العبادة للذي بيده الملك والنفع والضر،
والعطاء والمنع، وهو الولي النصير؟







{ 76 } { فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ
وَمَا يُعْلِنُونَ }




أي: فلا يحزنك يا أيها الرسول، قول المكذبين، والمراد بالقول: ما دل عليه
السياق، كل قول يقدحون فيه في الرسول، أو فيما جاء به.




أي: فلا تشغل قلبك بالحزن عليهم


{ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ }





فنجازيهم على حسب علمنا بهم، وإلا فقولهم لا يضرك شيئا.







{ 77 - 83 } { أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ
نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا
وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ
يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ
عَلِيمٌ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا
فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ * أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ
بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ * إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ
شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * فَسُبْحَانَ الَّذِي
بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ }




هذه الآيات الكريمات، فيها [ذكر] شبهة منكري البعث، والجواب عنها بأتم
جواب وأحسنه وأوضحه، فقال تعالى:


{ أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ }

المنكر للبعث و الشاك فيه، أمرا يفيده اليقين التام بوقوعه، وهو ابتداء
خلقه


{ مِنْ نُطْفَةٍ }

ثم تنقله في الأطوار شيئا فشيئا، حتى كبر وشب، وتم عقله واستتب،


{ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ }

بعد أن كان ابتداء خلقه من نطفة، فلينظر التفاوت بين هاتين الحالتين،
وليعلم أن الذي أنشأه من العدم، قادر على أن يعيده بعد ما تفرق وتمزق، من
باب أولى.




{ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا }

لا ينبغي لأحد أن يضربه، وهو قياس قدرة الخالق بقدرة المخلوق، وأن الأمر
المستبعد على قدرة المخلوق مستبعد على قدرة الخالق. فسر هذا المثل
[بقوله]:


{ قَالَ }

ذلك الإنسان


{ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ }

أي: هل أحد يحييها؟ استفهام إنكار، أي: لا أحد يحييها بعد ما بليت
وتلاشت.




هذا وجه الشبهة والمثل، وهو أن هذا أمر في غاية البعد على ما يعهد من
قدرة البشر، وهذا القول الذي صدر من هذا الإنسان غفلة منه، ونسيان
لابتداء خلقه، فلو فطن لخلقه بعد أن لم يكن شيئا مذكورا فوجد عيانا، لم
يضرب هذا المثل.




فأجاب تعالى عن هذا الاستبعاد بجواب شاف كاف، فقال:


{ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ }

وهذا بمجرد تصوره، يعلم به علما يقينا لا شبهة فيه، أن الذي أنشأها أول
مرة قادر على الإعادة ثاني مرة، وهو أهون على القدرة إذا تصوره المتصور،


{ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ }





هذا أيضا دليل ثان من صفات اللّه تعالى، وهو أن علمه تعالى محيط بجميع
مخلوقاته في جميع أحوالها، في جميع الأوقات، ويعلم ما تنقص الأرض من
أجساد الأموات وما يبقى، ويعلم الغيب والشهادة، فإذا أقر العبد بهذا
العلم العظيم، علم أنه أعظم وأجل من إحياء اللّه الموتى من قبورهم.




ثم ذكر دليلا ثالثا


{ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا
أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ }

فإذا أخرج [النار] اليابسة من الشجر الأخضر، الذي هو في غاية الرطوبة، مع
تضادهما وشدة تخالفهما، فإخراجه الموتى من قبورهم مثل ذلك.




ثم ذكر دليلا رابعا فقال:


{ أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ }

على سعتهما وعظمهما


{ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ }

أي: [أن] يعيدهم [بأعيانهم].


{ بَلَى }

قادر على ذلك، فإن خلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس.


{ وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ }

وهذا دليل خامس، فإنه تعالى الخلاق، الذي جميع المخلوقات، متقدمها
ومتأخرها، صغيرها وكبيرها، كلها أثر من آثار خلقه وقدرته، وأنه لا يستعصي
عليه مخلوق أراد خلقه.




فإعادته للأموات، فرد من أفراد [آثار] خلقه، ولهذا قال:


{ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا }

نكرة في سياق الشرط، فتعم كل شيء.


{ أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ }

أي: في الحال من غير تمانع.




{ فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ }

وهذا دليل سادس، فإنه تعالى هو الملك المالك لكل شيء، الذي جميع ما سكن
في العالم العلوي والسفلي ملك له، وعبيد مسخرون ومدبرون، يتصرف فيهم
بأقداره الحكمية، وأحكامه الشرعية، وأحكامه الجزائية.




فإعادته إياهم بعد موتهم، لينفذ فيهم حكم الجزاء، من تمام ملكه، ولهذا
قال:


{ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ }

من غير امتراء ولا شك، لتواتر البراهين القاطعة والأدلة الساطعة على ذلك.
فتبارك الذي جعل في كلامه الهدى والشفاء والنور.




تم تفسير سورة يس، فللّه [تعالى] الحمد كما ينبغي لجلاله، وله الثناء كما
يليق بكماله، وله المجد كما تستدعيه عظمته وكبرياؤه، وصلى اللّه على محمد
وآله وسلم

descriptionتفسيرالقران - صفحة 5 Emptyرد: تفسيرالقران

more_horiz
-

تفسير
سورة

فاطر
عدد آياتها 45

(



آية 1-24

)

وهي مكية






{ 1 - 2 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ
فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا
أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ
مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * مَا يَفْتَحِ
اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ
فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }




يمدح الله تعالى نفسه الكريمة المقدسة، على خلقه السماوات والأرض، وما
اشتملتا عليه من المخلوقات، لأن ذلك دليل على كمال قدرته، وسعة ملكه،
وعموم رحمته، وبديع حكمته، وإحاطة علمه.




ولما ذكر الخلق، ذكر بعده ما يتضمن الأمر، وهو: أنه


{ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا }

في تدبير أوامره القدرية، ووسائط بينه وبين خلقه، في تبليغ أوامره
الدينية.




وفي ذكره أنه جعل الملائكة رسلا، ولم يستثن منهم أحدا، دليل على كمال
طاعتهم لربهم وانقيادهم لأمره، كما قال تعالى:


{ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ }





ولما كانت الملائكة مدبرات بإذن اللّه، ما جعلهم اللّه موكلين فيه، ذكر
قوتهم على ذلك وسرعة سيرهم، بأن جعلهم


{ أُولِي أَجْنِحَةٍ }

تطير بها، فتسرع بتنفيذ ما أمرت به.


{ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ }

أي: منهم من له جناحان وثلاثة وأربعة، بحسب ما اقتضته حكمته.




{ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ }

أي: يزيد بعض مخلوقاته على بعض، في صفة خلقها، وفي القوة، وفي الحسن، وفي
زيادة الأعضاء المعهودة، وفي حسن الأصوات، ولذة النغمات.




{ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }

فقدرته تعالى تأتي على ما يشاؤه، ولا يستعصي عليها شيء، ومن ذلك، زيادة
مخلوقاته بعضها على بعض.




ثم ذكر انفراده تعالى بالتدبير والعطاء والمنع فقال:


{ مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا
وَمَا يُمْسِكْ }

من رحمته عنهم


{ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ }

فهذا يوجب التعلق باللّه تعالى، والافتقار إليه من جميع الوجوه، وأن لا
يدعى إلا هو، ولا يخاف ويرجى، إلا هو.


{ وَهُوَ الْعَزِيزُ }

الذي قهر الأشياء كلها


{ الْحَكِيمُ }

الذي يضع الأشياء مواضعها وينزلها منازلها.







{ 3 - 4 } { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ
عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ
السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ *
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى
اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ }





يأمر تعالى، جميع الناس أن يذكروا نعمته عليهم، وهذا شامل لذكرها بالقلب
اعترافا، وباللسان ثناء، وبالجوارح انقيادا، فإن ذكر نعمه تعالى داع
لشكره، ثم نبههم على أصول النعم، وهي الخلق والرزق، فقال:


{ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ
وَالْأَرْضِ }





ولما كان من المعلوم أنه ليس أحد يخلق ويرزق إلا اللّه، نتج من ذلك، أن
كان ذلك دليلا على ألوهيته وعبوديته، ولهذا قال:


{ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ }

أي: تصرفون عن عبادة الخالق الرازق لعبادة المخلوق المرزوق.




{ وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ }

يا أيها الرسول، فلك أسوة بمن قبلك من المرسلين،


{ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ }

فأهلك المكذبون، ونجى اللّه الرسل وأتباعهم.


{ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ }








{ 5 - 7 } { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا
تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ
الْغَرُورُ * إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا
إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ *
الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ }





يقول تعالى:


{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ }

بالبعث والجزاء على الأعمال،


{ حَقٌّ }

أي: لا شك فيه، ولا مرية، ولا تردد، قد دلت على ذلك الأدلة السمعية
والبراهين العقلية، فإذا كان وعده حقا، فتهيئوا له، وبادروا أوقاتكم
الشريفة بالأعمال الصالحة، ولا يقطعكم عن ذلك قاطع،


{ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا }

بلذاتها وشهواتها ومطالبها النفسية، فتلهيكم عما خلقتم له،


{ وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ }

الذي هو


{ الشَّيْطَانُ }

الذي هو عدوكم في الحقيقة


{ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا }

أي: لتكن منكم عداوته على بال، ولا تهملوا محاربته كل وقت، فإنه يراكم
وأنتم لا ترونه، وهو دائما لكم بالمرصاد.




{ إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ }

هذا غايته ومقصوده ممن تبعه، أن يهان غاية الإهانة بالعذاب الشديد.




ثم ذكر أن الناس انقسموا بحسب طاعة الشيطان وعدمها إلى قسمين، وذكر جزاء
كل منهما، فقال:


{ الَّذِينَ كَفَرُوا }

أي: جحدوا ما جاءت به الرسل، ودلت عليه الكتب


{ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ }

في نار جهنم، شديد في ذاته ووصفه، وأنهم خالدون فيها أبدا.




{ وَالَّذِينَ آمَنُوا }

بقلوبهم، بما دعا اللّه إلى الإيمان به


{ وَعَمِلُوا }

بمقتضى ذلك الإيمان، بجوارحهم، الأعمال


{ الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ }

لذنوبهم، يزول بها عنهم الشر والمكروه


{ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ }

يحصل به المطلوب.







{ 8 } { أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ
اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ
نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ
}




يقول تعالى:


{ أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ }

عمله السيئ، القبيح، زينه له الشيطان، وحسنه في عينه.




{ فَرَآهُ حَسَنًا }

أي: كمن هداه اللّه إلى الصراط المستقيم والدين القويم، فهل يستوي هذا
وهذا؟




فالأول: عمل السيئ، ورأى الحق باطلا، والباطل حقا.




والثاني: عمل الحسن، ورأى الحق حقا، والباطل باطلا، ولكن الهداية
والإضلال بيد اللّه تعالى،


{ فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا
تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ }

أي: على الضالين الذين زين لهم سوء أعمالهم، وصدهم الشيطان عن الحق


{ حَسَرَاتٍ }

فليس عليك إلا البلاغ، وليس عليك من هداهم شيء، والله [هو] الذي يجازيهم
بأعمالهم.


{ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ }








{ 9 } { وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا
فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ
مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ }




يخبر تعالى عن كمال اقتداره، وسعة جوده، وأنه


{ أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ
مَيِّتٍ }

فأنزله اللّه عليها


{ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا }





فحييت البلاد والعباد، وارتزقت الحيوانات، ورتعت في تلك الخيرات،


{ كَذَلِكَ }

الذي أحيا الأرض بعد موتها، ينشر الله الأموات من قبورهم، بعدما مزقهم
البلى، فيسوق إليهم مطرا، كما ساقه إلى الأرض الميتة، فينزله عليهم فتحيا
الأجساد والأرواح من القبور، ويأتون للقيام بين يدي الله ليحكم بينهم،
ويفصل بحكمه العدل.







{ 10 } { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا
إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ
يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ
شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ }




أي: يا من يريد العزة، اطلبها ممن هي بيده، فإن العزة بيد اللّه، ولا
تنال إلا بطاعته، وقد ذكرها بقوله:


{ إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ }

من قراءة وتسبيح وتحميد وتهليل وكل كلام حسن طيب، فيرفع إلى اللّه ويعرض
عليه ويثني اللّه على صاحبه بين الملأ الأعلى


{ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ }

من أعمال القلوب وأعمال الجوارح


{ يَرْفَعُهُ }

اللّه تعالى إليه أيضا، كالكلم الطيب.




وقيل: والعمل الصالح يرفع الكلم الطيب، فيكون رفع الكلم الطيب بحسب أعمال
العبد الصالحة، فهي التي ترفع كلمه الطيب، فإذا لم يكن له عمل صالح، لم
يرفع له قول إلى اللّه تعالى، فهذه الأعمال التي ترفع إلى اللّه تعالى،
ويرفع اللّه صاحبها ويعزه.




وأما السيئات فإنها بالعكس، يريد صاحبها الرفعة بها، ويمكر ويكيد ويعود
ذلك عليه، ولا يزداد إلا إهانة ونزولا، ولهذا قال:


{ والعمل الصالح يرفعه وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ
عَذَابٌ شَدِيدٌ }

يهانون فيه غاية الإهانة.


{ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ }

أي: يهلك ويضمحل، ولا يفيدهم شيئا، لأنه مكر بالباطل، لأجل الباطل.







{ 11 } { وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ
جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا
بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ
إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ }




يذكر تعالى خلقه الآدمي، وتنقله في هذه الأطوار، من تراب إلى نطفة وما
بعدها.




{ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا }

أي: لم يزل ينقلكم، طورا بعد طور، حتى أوصلكم إلى أن كنتم أزواجا، ذكرا
يتزوج أنثى، ويراد بالزواج، الذرية والأولاد، فهو وإن كان النكاح من
الأسباب فيه، فإنه مقترن بقضاء اللّه وقدره، وعلمه،


{ وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ }

وكذلك أطوار الآدمي، كلها بعلمه وقضائه.




{ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ }

أي: عمر الذي كان معمرا عمرا طويلا


{ إِلَّا }

بعلمه تعالى، أو ما ينقص من عمر الإنسان الذي هو بصدد أن يصل إليه، لولا
ما سلكه من أسباب قصر العمر، كالزنا، وعقوق الوالدين، وقطيعة الأرحام،
ونحو ذلك مما ذكر أنها من أسباب قصر العمر.




والمعنى: أن طول العمر وقصره، بسبب وبغير سبب كله بعلمه تعالى، وقد أثبت
ذلك


{ فِي كِتَابٍ }

حوى ما يجري على العبد، في جميع أوقاته وأيام حياته.




{ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ }

أي: إحاطة علمه بتلك المعلومات الكثيرة، وإحاطة كتابه فيها، فهذه ثلاثة
أدلة من أدلة البعث والنشور، كلها عقلية، نبه اللّه عليها في هذه الآيات:
إحياء الأرض بعد موتها، وأن الذي أحياها سيحيي الموتى، وتنقل الآدمي في
تلك الأطوار.




فالذي أوجده ونقله، طبقا بعد طبق، وحالا بعد حال، حتى بلغ ما قدر له، فهو
على إعادته وإنشائه النشأة الأخرى أقدر، وهو أهون عليه، وإحاطة علمه
بجميع أجزاء العالم، العلوي والسفلي، دقيقها وجليلها، الذي في القلوب،
والأجنة التي في البطون، وزيادة الأعمار ونقصها، وإثبات ذلك كله في كتاب.
فالذي كان هذا [نعته] يسيرا عليه، فإعادته للأموات أيسر وأيسر. فتبارك
من كثر خيره، ونبه عباده على ما فيه صلاحهم، في معاشهم ومعادهم.




{ 12 - 14 } { وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ
سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ
لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى
الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ
تَشْكُرُونَ * يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ
فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ
مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ
تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ
تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا
اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ
وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ }




هذا إخبار عن قدرته وحكمته ورحمته، أنه جعل البحرين لمصالح العالم الأرضي
كلهم، وأنه لم يسوِّ بينهما، لأن المصلحة تقتضي أن تكون الأنهار عذبة
فراتا، سائغا شرابها، لينتفع بها الشاربون والغارسون والزارعون، وأن يكون
البحر ملحا أجاجا، لئلا يفسد الهواء المحيط بالأرض بروائح ما يموت في
البحر من الحيوانات ولأنه ساكن لا يجري، فملوحته تمنعه من التغير، ولتكون
حيواناته أحسن وألذ، ولهذا قال:


{ وَمِنْ كُلٍ }

من البحر الملح والعذب


{ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا }

وهو السمك المتيسر صيده في البحر،


{ وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا }

من لؤلؤ ومرجان وغيرهما، مما يوجد في البحر، فهذه مصالح عظيمة للعباد.




ومن المصالح أيضا والمنافع في البحر، أن سخره اللّه تعالى يحمل الفلك من
السفن والمراكب، فتراها تمخر البحر وتشقه، فتسلك من إقليم إلى إقليم آخر،
ومن محل إلى محل، فتحمل السائرين وأثقالهم وتجاراتهم، فيحصل بذلك من فضل
اللّه وإحسانه شيء كثير، ولهذا قال:


{ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }





ومن ذلك أيضا، إيلاجه تعالى الليل بالنهار والنهار بالليل، يدخل هذا على
هذا، وهذا على هذا، كلما أتى أحدهما ذهب الآخر، ويزيد أحدهما وينقص
الآخر، ويتساويان، فيقوم بذلك ما يقوم من مصالح العباد في أبدانهم
وحيواناتهم وأشجارهم وزروعهم.




وكذلك ما جعل اللّه في تسخير الشمس والقمر، الضياء والنور، والحركة
والسكون، وانتشار العباد في طلب فضله، وما فيهما من تنضيج الثمار وتجفيف
ما يجفف وغير ذلك مما هو من الضروريات، التي لو فقدت لَلَحِقَ الناس
الضرر.




وقوله:


{ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى }

أي: كل من الشمس والقمر، يسيران في فلكهما ما شاء اللّه أن يسيرا، فإذا
جاء الأجل، وقرب انقضاء الدنيا، انقطع سيرهما، وتعطل سلطانهما، وخسف
القمر، وكورت الشمس، وانتثرت النجوم.




فلما بين تعالى ما بيَّن من هذه المخلوقات العظيمة، وما فيها من العبر
الدالة على كماله وإحسانه، قال:


{ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ }

أي: الذي انفرد بخلق هذه المذكورات وتسخيرها، هو الرب المألوه المعبود،
الذي له الملك كله.




{ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ }

من الأوثان والأصنام


{ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ }

أي: لا يملكون شيئا، لا قليلا ولا كثيرا، حتى ولا القطمير الذي هو أحقر
الأشياء، وهذا من تنصيص النفي وعمومه، فكيف يُدْعَوْنَ، وهم غير مالكين
لشيء من ملك السماوات والأرض؟




ومع هذا


{ إِنْ تَدْعُوهُمْ }

لا يسمعوكم لأنهم ما بين جماد وأموات وملائكة مشغولين بطاعة ربهم.


{ وَلَوْ سَمِعُوا }

على وجه الفرض والتقدير


{ مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ }

لأنهم لا يملكون شيئا، ولا يرضى أكثرهم بعبادة من عبده، ولهذا قال:


{ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ }

أي: يتبرأون منكم، ويقولون:


{ سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ }





{ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ }

أي: لا أحد ينبئك، أصدق من الله العليم الخبير، فاجزم بأن هذا الأمر،
الذي نبأ به كأنه رَأْيُ عين، فلا تشك فيه ولا تمتر. فتضمنت هذه الآيات،
الأدلة والبراهين الساطعة، الدالة على أنه تعالى المألوه المعبود، الذي
لا يستحق شيئا من العبادة سواه، وأن عبادة ما سواه باطلة متعلقة بباطل،
لا تفيد عابده شيئا.







{ 15 - 18 } { يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى
اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * إِنْ يَشَأْ
يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ
بِعَزِيزٍ * وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ
مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا
قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ
وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى
لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ }




يخاطب تعالى جميع الناس، ويخبرهم بحالهم ووصفهم، وأنهم فقراء إلى اللّه
من جميع الوجوه:




فقراء في إيجادهم، فلولا إيجاده إياهم، لم يوجدوا.




فقراء في إعدادهم بالقوى والأعضاء والجوارح، التي لولا إعداده إياهم
[بها]، لما استعدوا لأي عمل كان.




فقراء في إمدادهم بالأقوات والأرزاق والنعم الظاهرة والباطنة، فلولا فضله
وإحسانه وتيسيره الأمور، لما حصل [لهم] من الرزق والنعم شيء.




فقراء في صرف النقم عنهم، ودفع المكاره، وإزالة الكروب والشدائد. فلولا
دفعه عنهم، وتفريجه لكرباتهم، وإزالته لعسرهم، لاستمرت عليهم المكاره
والشدائد.




فقراء إليه في تربيتهم بأنواع التربية، وأجناس التدبير.




فقراء إليه، في تألههم له، وحبهم له، وتعبدهم، وإخلاص العبادة له تعالى،
فلو لم يوفقهم لذلك، لهلكوا، وفسدت أرواحهم، وقلوبهم وأحوالهم.




فقراء إليه، في تعليمهم ما لا يعلمون، وعملهم بما يصلحهم، فلولا تعليمه،
لم يتعلموا، ولولا توفيقه، لم يصلحوا.




فهم فقراء بالذات إليه، بكل معنى، وبكل اعتبار، سواء شعروا ببعض أنواع
الفقر أم لم يشعروا، ولكن الموفق منهم، الذي لا يزال يشاهد فقره في كل
حال من أمور دينه ودنياه، ويتضرع له، ويسأله أن لا يكله إلى نفسه طرفة
عين، وأن يعينه على جميع أموره، ويستصحب هذا المعنى في كل وقت، فهذا أحرى
بالإعانة التامة من ربه وإلهه، الذي هو أرحم به من الوالدة بولدها.




{ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ }

أي: الذي له الغنى التام من جميع الوجوه، فلا يحتاج إلى ما يحتاج إليه
خلقه، ولا يفتقر إلى شيء مما يفتقر إليه الخلق، وذلك لكمال صفاته، وكونها
كلها، صفات كمال، ونعوت وجلال.




ومن غناه تعالى، أن أغنى الخلق في الدنيا والآخرة، الحميد في ذاته،
وأسمائه، لأنها حسنى، وأوصافه، لكونها عليا، وأفعاله لأنها فضل وإحسان
وعدل وحكمة ورحمة، وفي أوامره ونواهيه، فهو الحميد على ما فيه، وعلى ما
منه، وهو الحميد في غناه [الغني في حمده].




{ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ }

يحتمل أن المراد: إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بغيركم من الناس، أطوع
للّه منكم، ويكون في هذا تهديد لهم بالهلاك والإبادة، وأن مشيئته غير
قاصرة عن ذلك.




ويحتمل أن المراد بذلك، إثبات البعث والنشور، وأن مشيئة اللّه تعالى
نافذة في كل شيء، وفي إعادتكم بعد موتكم خلقا جديدا، ولكن لذلك الوقت أجل
قدره اللّه، لا يتقدم عنه ولا يتأخر.




{ وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ }

أي: بممتنع، ولا معجز له.




ويدل على المعنى الأخير، ما ذكره بعده في قوله:


{ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى }

أي: في يوم القيامة كل أحد يجازى بعمله، ولا يحمل أحد ذنب أحد.


{ وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ }

أي: نفس مثقلة بالخطايا والذنوب، تستغيث بمن يحمل عنها بعض أوزارها


{ لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى }

فإنه لا يحمل عن قريب، فليست حال الآخرة بمنزلة حال الدنيا، يساعد الحميم
حميمه، والصديق صديقه، بل يوم القيامة، يتمنى العبد أن يكون له حق على
أحد، ولو على والديه وأقاربه.




{ إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ
وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ }

أي: هؤلاء الذين يقبلون النذارة وينتفعون بها، أهل الخشية للّه بالغيب،
أي: الذين يخشونه في حال السر والعلانية، والمشهد والمغيب، وأهل إقامة
الصلاة، بحدودها وشروطها وأركانها وواجباتها وخشوعها، لأن الخشية للّه
تستدعي من العبد العمل بما يخشى من تضييعه العقاب، والهرب مما يخشى من
ارتكابه العذاب، والصلاة تدعو إلى الخير، وتنهى عن الفحشاء والمنكر.




{ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ }

أي: ومن زكى نفسه بالتنقِّي من العيوب، كالرياء والكبر، والكذب والغش،
والمكر والخداع والنفاق، ونحو ذلك من الأخلاق الرذيلة، وتحلَّى بالأخلاق
الجميلة، من الصدق، والإخلاص، والتواضع، ولين الجانب، والنصح للعباد،
وسلامة الصدر من الحقد والحسد وغيرهما من مساوئ الأخلاق، فإن تزكيته يعود
نفعها إليه، ويصل مقصودها إليه، ليس يضيع من عمله شيء.




{ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ }

فيجازي الخلائق على ما أسلفوه، ويحاسبهم على ما قدموه وعملوه، ولا يغادر
صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها.




{ 19 - 24 } { وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ * وَلَا
الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ * وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ * وَمَا
يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ
يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ * إِنْ أَنْتَ
إِلَّا نَذِيرٌ * إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا
وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ }




يخبر تعالى أنه لا يتساوى الأضداد في حكمة اللّه، وفيما أودعه في فطر
عباده.


{ وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى }

فاقد البصر


{ وَالْبَصِيرُ وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ وَلَا الظِّلُّ وَلَا
الْحَرُورُ وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ }

فكما أنه من المتقرر عندكم، الذي لا يقبل الشك، أن هذه المذكورات لا
تتساوى، فكذلك فلتعلموا أن عدم تساوي المتضادات المعنوية أولى وأولى.




فلا يستوي المؤمن والكافر، ولا المهتدي والضال، ولا العالم والجاهل، ولا
أصحاب الجنة وأصحاب النار، ولا أحياء القلوب وأمواتها، فبين هذه الأشياء
من التفاوت والفرق ما لا يعلمه إلا اللّه تعالى، فإذا علمت المراتب،
وميزت الأشياء، وبان الذي ينبغي أن يتنافس في تحصيله من ضده، فليختر
الحازم لنفسه، ما هو أولى به وأحقها بالإيثار.




{ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ }

سماع فهم وقبول، لأنه تعالى هو الهادي الموفق


{ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ }

أي: أموات القلوب، أو كما أن دعاءك لا يفيد سكان القبور شيئا، كذلك لا
يفيد المعرض المعاند شيئا، ولكن وظيفتك النذارة، وإبلاغ ما أرسلت به، قبل
منك أم لا.




ولهذا قال:


{ إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ * إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ }

أي: مجرد إرسالنا إياك بالحق، لأن اللّه تعالى بعثك على حين فترة من
الرسل، وطموس من السبل، واندراس من العلم، وضرورة عظيمة إلى بعثك، فبعثك
اللّه رحمة للعالمين.




وكذلك ما بعثناك به من الدين القويم، والصراط المستقيم، حق لا باطل،
وكذلك ما أرسلناك به، من هذا القرآن العظيم، وما اشتمل عليه من الذكر
الحكيم، حق وصدق.


{ بَشِيرًا }

لمن أطاعك، بثواب اللّه العاجل والآجل،


{ وَنَذِيرًا }

لمن عصاك، بعقاب اللّه العاجل والآجل، ولست ببدع من الرسل.




فما


{ مِنْ أُمَّةٍ }

من الأمم الماضية والقرون الخالية


{ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ }

يقيم عليهم حجة اللّه


{ لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ
بَيِّنَةٍ }

descriptionتفسيرالقران - صفحة 5 Emptyرد: تفسيرالقران

more_horiz
تابع
-


تفسير
سورة

فاطر
عدد آياتها 45

(
آية



25-45
)
وهي مكية






{ 25 - 26 } { وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ
وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ * ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ
كَانَ نَكِيرِ }




أي: وإن يكذبك أيها الرسول، هؤلاء المشركون، فلست أول رسول كذب،


{ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ
بِالْبَيِّنَاتِ }

الدالات على الحق، وعلى صدقهم فيما أخبروهم به،


{ وَبالزُّبُرِ }

أي: الكتب المكتوبة، المجموع فيها كثير من الأحكام،


{ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ }

أي: المضيء في أخباره الصادقة، وأحكامه العادلة، فلم يكن تكذيبهم إياهم
ناشئا عن اشتباه، أو قصور بما جاءتهم به الرسل، بل بسبب ظلمهم وعنادهم.








{ ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا }

بأنواع العقوبات


{ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ }

عليهم؟ كان أشد النكير وأعظم التنكيل، فإياكم وتكذيب هذا الرسول الكريم،
فيصيبكم كما أصاب أولئك، من العذاب الأليم والخزي الوخيم.







{ 27 - 28 } { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً
فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ
الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ
سُودٌ * وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ
أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ
الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ }




يذكر تعالى خلقه للأشياء المتضادات، التي أصلها واحد، ومادتها واحدة،
وفيها من التفاوت والفرق ما هو مشاهد معروف، ليدل العباد على كمال قدرته
وبديع حكمته.




فمن ذلك: أن اللّه تعالى أنزل من السماء ماء، فأخرج به من الثمرات
المختلفات، والنباتات المتنوعات، ما هو مشاهد للناظرين، والماء واحد،
والأرض واحدة.




ومن ذلك: الجبال التي جعلها اللّه أوتادا للأرض، تجدها جبالا مشتبكة، بل
جبلا واحدا، وفيها ألوان متعددة، فيها جدد بيض، أي: طرائق بيض، وفيها
طرائق صفر وحمر، وفيها غرابيب سود، أي: شديدة السواد جدا.




ومن ذلك: الناس والدواب، والأنعام، فيها من اختلاف الألوان والأوصاف
والأصوات والهيئات، ما هو مرئي بالأبصار، مشهود للنظار، والكل من أصل
واحد ومادة واحدة.




فتفاوتها دليل عقلي على مشيئة اللّه تعالى، التي خصصت ما خصصت منها،
بلونه، ووصفه، وقدرة اللّه تعالى حيث أوجدها كذلك، وحكمته ورحمته، حيث
كان ذلك الاختلاف، وذلك التفاوت، فيه من المصالح والمنافع، ومعرفة الطرق،
ومعرفة الناس بعضهم بعضا، ما هو معلوم.




وذلك أيضا، دليل على سعة علم اللّه تعالى، وأنه يبعث من في القبور، ولكن
الغافل ينظر في هذه الأشياء وغيرها نظر غفلة لا تحدث له التذكر، وإنما
ينتفع بها من يخشى اللّه تعالى، ويعلم بفكره الصائب وجه الحكمة فيها.




ولهذا قال:


{ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ }

فكل من كان باللّه أعلم، كان أكثر له خشية، وأوجبت له خشية اللّه،
الانكفاف عن المعاصي، والاستعداد للقاء من يخشاه، وهذا دليل على فضيلة
العلم، فإنه داع إلى خشية اللّه، وأهل خشيته هم أهل كرامته، كما قال
تعالى:


{ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ
}





{ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ }

كامل العزة، ومن عزته خلق هذه المخلوقات المتضادات.




{ غَفُورٌ }

لذنوب التائبين.







{ 29 - 30 } { إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا
الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً
يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ
وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ }




{ إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ }

أي: يتبعونه في أوامره فيمتثلونها، وفي نواهيه فيتركونها، وفي أخباره،
فيصدقونها ويعتقدونها، ولا يقدمون عليه ما خالفه من الأقوال، ويتلون أيضا
ألفاظه، بدراسته، ومعانيه، بتتبعها واستخراجها.




ثم خص من التلاوة بعد ما عم، الصلاة التي هي عماد الدين، ونور المسلمين،
وميزان الإيمان، وعلامة صدق الإسلام، والنفقة على الأقارب والمساكين
واليتامى وغيرهم، من الزكاة والكفارات والنذور والصدقات.


{ سِرًّا وَعَلَانِيَةً }

في جميع الأوقات.




{ يَرْجُونَ }

[بذلك]


{ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ }

أي: لن تكسد وتفسد، بل تجارة، هي أجل التجارات وأعلاها وأفضلها، ألا وهي
رضا ربهم، والفوز بجزيل ثوابه، والنجاة من سخطه وعقابه، وهذا فيه أنهم
يخلصون بأعمالهم، وأنهم لا يرجون بها من المقاصد السيئة والنيات الفاسدة
شيئا.




وذكر أنهم حصل لهم ما رجوه فقال:


{ لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ }

أي: أجور أعمالهم، على حسب قلتها وكثرتها، وحسنها وعدمه،


{ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ }

زيادة عن أجورهم.


{ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ }

غفر لهم السيئات، وقبل منهم القليل من الحسنات.




{ 31 - 35 } { وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ
الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ
لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ * ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ
اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ
مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ
هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ
فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا
حَرِيرٌ * وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا
الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ * الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ
الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا
يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ }




يذكر تعالى أن الكتاب الذي أوحاه إلى رسوله


{ هُوَ الْحَقُّ }

من كثرة ما اشتمل عليه من الحق، كأن الحق منحصر فيه، فلا يكن في قلوبكم
حرج منه، ولا تتبرموا منه، ولا تستهينوا به، فإذا كان هو الحق، لزم أن كل
ما دل عليه من المسائل الإلهية والغيبية وغيرها، مطابق لما في الواقع،
فلا يجوز أن يراد به ما يخالف ظاهره وما دل عليه.




{ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ }

من الكتب والرسل، لأنها أخبرت به، فلما وجد وظهر، ظهر به صدقها. فهي بشرت
به وأخبرت، وهو صدقها، ولهذا لا يمكن أحدا أن يؤمن بالكتب السابقة، وهو
كافر بالقرآن أبدا، لأن كفره به، ينقض إيمانه بها، لأن من جملة أخبارها
الخبر عن القرآن، ولأن أخبارها مطابقة لأخبار القرآن.




{ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ }

فيعطي كل أمة وكل شخص، ما هو اللائق بحاله. ومن ذلك، أن الشرائع السابقة
لا تليق إلا بوقتها وزمانها، ولهذا، ما زال اللّه يرسل الرسل رسولا بعد
رسول، حتى ختمهم بمحمد صلى اللّه عليه وسلم، فجاء بهذا الشرع، الذي يصلح
لمصالح الخلق إلى يوم القيامة، ويتكفل بما هو الخير في كل وقت.




ولهذا، لما كانت هذه الأمة أكمل الأمم عقولا، وأحسنهم أفكارا، وأرقهم
قلوبا، وأزكاهم أنفسا، اصطفاهم الله تعالى، واصطفى لهم دين الإسلام،
وأورثهم الكتاب المهيمن على سائر الكتب، ولهذا قال:


{ ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا
}

وهم هذه الأمة.


{ فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ }

بالمعاصي، [التي] هي دون الكفر.


{ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ }

مقتصر على ما يجب عليه، تارك للمحرم.


{ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ }

أي: سارع فيها واجتهد، فسبق غيره، وهو المؤدي للفرائض، المكثر من
النوافل، التارك للمحرم والمكروه.




فكلهم اصطفاه اللّه تعالى، لوراثة هذا الكتاب، وإن تفاوتت مراتبهم،
وتميزت أحوالهم، فلكل منهم قسط من وراثته، حتى الظالم لنفسه، فإن ما معه
من أصل الإيمان، وعلوم الإيمان، وأعمال الإيمان، من وراثة الكتاب، لأن
المراد بوراثة الكتاب، وراثة علمه وعمله، ودراسة ألفاظه، واستخراج
معانيه.




وقوله


{ بِإِذْنِ اللَّهِ }

راجع إلى السابق إلى الخيرات، لئلا يغتر بعمله، بل ما سبق إلى الخيرات
إلا بتوفيق اللّه تعالى ومعونته، فينبغي له أن يشتغل بشكر اللّه تعالى
على ما أنعم به عليه.




{ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ }

أي: وراثة الكتاب الجليل، لمن اصطفى تعالى من عباده، هو الفضل الكبير،
الذي جميع النعم بالنسبة إليه، كالعدم، فأجل النعم على الإطلاق، وأكبر
الفضل، وراثة هذا الكتاب.




ثم ذكر جزاء الذين أورثهم كتابه فقال:


{ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا }

أي: جنات مشتملات على الأشجار، والظل، والظليل، والحدائق الحسنة،
والأنهار المتدفقة، والقصور العالية، والمنازل المزخرفة، في أبد لا يزول،
وعيش لا ينفد.




والعدن "الإقامة" فجنات عدن أي: جنات إقامة، أضافها للإقامة، لأن الإقامة
والخلود وصفها ووصف أهلها.




{ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ }

وهو الحلي الذي يجعل في اليدين، على ما يحبون، ويرون أنه أحسن من غيره،
الرجال والنساء في الحلية في الجنة سواء.




{ و }

يحلون فيها


{ لُؤْلُؤًا }

ينظم في ثيابهم وأجسادهم.


{ وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ }

من سندس، ومن إستبرق أخضر.




{ و }

لما تم نعيمهم، وكملت لذتهم


{ قَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ }

وهذا يشمل كل حزن، فلا حزن يعرض لهم بسبب نقص في جمالهم، ولا في طعامهم
وشرابهم، ولا في لذاتهم ولا في أجسادهم، ولا في دوام لبثهم، فهم في نعيم
ما يرون عليه مزيدا، وهو في تزايد أبد الآباد.




{ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ }

حيث غفر لنا الزلات


{ شَكُورٌ }

حيث قبل منا الحسنات وضاعفها، وأعطانا من فضله ما لم تبلغه أعمالنا ولا
أمانينا، فبمغفرته نجوا من كل مكروه ومرهوب، وبشكره وفضله حصل لهم كل
مرغوب محبوب.




{ الَّذِي أَحَلَّنَا }

أي: أنزلنا نزول حلول واستقرار، لا نزول معبر واعتبار.


{ دَارَ الْمُقَامَةِ }

أي: الدار التي تدوم فيها الإقامة، والدار التي يرغب في المقام فيها،
لكثرة خيراتها، وتوالي مسراتها، وزوال كدوراتها، وذلك الإحلال


{ مِنْ فَضْلِهِ }

علينا وكرمه، لا بأعمالنا، فلولا فضله، لما وصلنا إلى ما وصلنا إليه.




{ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ }

أي: لا تعب في الأبدان ولا في القلب والقوى، ولا في كثرة التمتع، وهذا
يدل على أن اللّه تعالى يجعل أبدانهم في نشأة كاملة، ويهيئ لهم من أسباب
الراحة على الدوام، ما يكونون بهذه الصفة، بحيث لا يمسهم نصب ولا لغوب،
ولا هم ولا حزن.




ويدل على أنهم لا ينامون في الجنة، لأن النوم فائدته زوال التعب، وحصول
الراحة به، وأهل الجنة بخلاف ذلك، ولأنه موت أصغر، وأهل الجنة لا يموتون،
جعلنا اللّه منهم، بمنه وكرمه.







{ 36 - 37 } { وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى
عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا
كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ * وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا
أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ
نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ
النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ }




لما ذكر تعالى حال أهل الجنة ونعيمهم، ذكر حال أهل النار وعذابهم فقال:


{ وَالَّذِينَ كَفَرُوا }

أي: جحدوا ما جاءتهم به رسلهم من الآيات، وأنكروا لقاء ربهم.




{ لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ }

يعذبون فيها أشد العذاب، وأبلغ العقاب.


{ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ }

بالموت


{ فَيَمُوتُوا }

فيستريحوا،


{ وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا }

فشدة العذاب وعظمه، مستمر عليهم في جميع الآنات واللحظات.




{ كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا }

أي: يصرخون ويتصايحون ويستغيثون ويقولون:


{ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا
نَعْمَلُ }

فاعترفوا بذنبهم، وعرفوا أن اللّه عدل فيهم، ولكن سألوا الرجعة في غير
وقتها، فيقال لهم:


{ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا }

أي: دهرا وعمرا


{ يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ }

أي: يتمكن فيه من أراد التذكر من العمل، متعناكم في الدنيا، وأدررنا
عليكم الأرزاق، وقيضنا لكم أسباب الراحة، ومددنا لكم في العمر، وتابعنا
عليكم الآيات، وأوصلنا إليكم النذر، وابتليناكم بالسراء والضراء، لتنيبوا
إلينا وترجعوا إلينا، فلم ينجع فيكم إنذار، ولم تفد فيكم موعظة، وأخرنا
عنكم العقوبة، حتى إذا انقضت آجالكم، وتمت أعماركم، ورحلتم عن دار
الإمكان، بأشر الحالات، ووصلتم إلى هذه الدار دار الجزاء على الأعمال،
سألتم الرجعة؟ هيهات هيهات، فات وقت الإمكان، وغضب عليكم الرحيم الرحمن،
واشتد عليكم عذاب النار، ونسيكم أهل الجنة، فامكثوا فيها خالدين مخلدين،
وفي العذاب مهانين، ولهذا قال:


{ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ }

ينصرهم فيخرجهم منها، أو يخفف عنهم من عذابها.







{ 38 } { إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ }




لما ذكر تعالى جزاء أهل الدارين، وذكر أعمال الفريقين، أخبر تعالى عن سعة
علمه تعالى، واطلاعه على غيب السماوات والأرض، التي غابت عن أبصار الخلق
وعن علمهم، وأنه عالم بالسرائر، وما تنطوي عليه الصدور من الخير والشر
والزكاء وغيره، فيعطي كلا ما يستحقه، وينزل كل أحد منزلته.




{ 39 } { هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ
فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ
رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا
خَسَارًا }




يخبر تعالى عن كمال حكمته ورحمته بعباده، أنه قدر بقضائه السابق، أن يجعل
بعضهم يخلف بعضا في الأرض، ويرسل لكل أمة من الأمم النذر، فينظر كيف
يعملون، فمن كفر باللّه وبما جاءت به رسله، فإن كفره عليه، وعليه إثمه
وعقوبته، ولا يحمل عنه أحد، ولا يزداد الكافر بكفره إلا مقت ربه له وبغضه
إياه، وأي: عقوبة أعظم من مقت الرب الكريم؟!




{ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا }

أي: يخسرون أنفسهم وأهليهم وأعمالهم ومنازلهم في الجنة، فالكافر لا يزال
في زيادة من الشقاء والخسران، والخزي عند اللّه وعند خلقه والحرمان.







{ 40 } { قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ
دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ
شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى
بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا
إِلَّا غُرُورًا }




يقول تعالى مُعجِّزًا لآلهة المشركين، ومبينا نقصها، وبطلان شركهم من
جميع الوجوه.




{ قُلْ }

يا أيها الرسول لهم:


{ أَرَأَيْتُمْ }

أي: أخبروني عن شركائكم


{ الذين تدعون من دون الله }

هل هم مستحقون للدعاء والعبادة، فـ


{ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا [مِنَ الْأَرْضِ }

هل خلقوا بحرا أم خلقوا جبالا أو خلقوا] حيوانا، أو خلقوا جمادا؟ سيقرون
أن الخالق لجميع الأشياء، هو اللّه تعالى، أَمْ لشركائكم شِرْكٌة


{ فِي السَّمَاوَاتِ }

في خلقها وتدبيرها؟ سيقولون: ليس لهم شركة.




فإذا لم يخلقوا شيئا، ولم يشاركوا الخالق في خلقه، فلم عبدتموهم
ودعوتموهم مع إقراركم بعجزهم؟ فانتفى الدليل العقلي على صحة عبادتهم، ودل
على بطلانها.




ثم ذكر الدليل السمعي، وأنه أيضا منتف، فلهذا قال:


{ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا }

يتكلم بما كانوا به يشركون، يأمرهم بالشرك وعبادة الأوثان.


{ فَهُمْ }

في شركهم


{ عَلَى بَيِّنَةٍ }

من ذلك الكتاب الذي نزل عليهم في صحة الشرك؟




ليس الأمر كذلك؟ فإنهم ما نزل عليهم كتاب قبل القرآن، ولا جاءهم نذير قبل
رسول اللّه محمد صلى اللّه عليه وسلم، ولو قدر نزول كتاب إليهم، وإرسال
رسول إليهم، وزعموا أنه أمرهم بشركهم، فإنا نجزم بكذبهم، لأن اللّه قال:


{ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ
أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ }

فالرسل والكتب، كلها متفقة على الأمر بإخلاص الدين للّه تعالى،


{ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ
حُنَفَاءَ }





فإن قيل: إذا كان الدليل العقلي، والنقلي قد دلا على بطلان الشرك، فما
الذي حمل المشركين على الشرك، وفيهم ذوو العقول والذكاء والفطنة؟




أجاب تعالى بقوله:


{ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا }

أي: ذلك الذي مشوا عليه، ليس لهم فيه حجة، فإنما ذلك توصية بعضهم لبعض
به، وتزيين بعضهم لبعض، واقتداء المتأخر بالمتقدم الضال، وأمانيّ
مَنَّاها الشيطان، وزين لهم [سوء] أعمالهم، فنشأت في قلوبهم، وصارت صفة
من صفاتها، فعسر زوالها، وتعسر انفصالها، فحصل ما حصل من الإقامة على
الكفر والشرك الباطل المضمحل.







{ 41 } { إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ
تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ
بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا }




يخبر تعالى عن كمال قدرته، وتمام رحمته، وسعة حلمه ومغفرته، وأنه تعالى
يمسك السماوات والأرض عن الزوال، فإنهما لو زالتا ما أمسكهما أحد من
الخلق، ولعجزت قدرهم وقواهم عنهما.




ولكنه تعالى، قضى أن يكونا كما وجدا، ليحصل للخلق القرار، والنفع،
والاعتبار، وليعلموا من عظيم سلطانه وقوة قدرته، ما به تمتلئ قلوبهم له
إجلالا وتعظيما، ومحبة وتكريما، وليعلموا كمال حلمه ومغفرته، بإمهال
المذنبين، وعدم معالجته للعاصين، مع أنه لو أمر السماء لحصبتهم، ولو أذن
للأرض لابتلعتهم، ولكن وسعتهم مغفرته، وحلمه، وكرمه


{ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا }








{ 42 - 43 } { وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ
جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا
جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا * اسْتِكْبَارًا فِي
الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ
إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّةَ الْأَوَّلِينَ
فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ
اللَّهِ تَحْوِيلًا }




أي وأقسم هؤلاء، الذين كذبوك يا رسول اللّه، قسما اجتهدوا فيه بالأيمان
الغليظة.


{ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ
}

أي: أهدى من اليهود والنصارى [أهل الكتب]، فلم يفوا بتلك الإقسامات
والعهود.




{ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ }

لم يهتدوا، ولم يصيروا أهدى من إحدى الأمم، بل لم يدوموا على ضلالهم الذي
كان، بل


{ مَا زَادَهُمْ }

ذلك


{ إِلَّا نُفُورًا }

وزيادة ضلال وبغي وعناد.




وليس إقسامهم المذكور، لقصد حسن، وطلب للحق، وإلا لوفقوا له، ولكنه صادر
عن استكبار في الأرض على الخلق، وعلى الحق، وبهرجة في كلامهم هذا، يريدون
به المكر والخداع، وأنهم أهل الحق، الحريصون على طلبه، فيغتر به
المغترون، ويمشي خلفهم المقتدون.




{ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ }

الذي مقصوده مقصود سيئ، ومآله وما يرمي إليه سيئ باطل


{ إِلَّا بِأَهْلِهِ }

فمكرهم إنما يعود عليهم، وقد أبان اللّه لعباده في هذه المقالات وتلك
الإقسامات، أنهم كذبة في ذلك مزورون، فاستبان خزيهم، وظهرت فضيحتهم،
وتبين قصدهم السيئ، فعاد مكرهم في نحورهم، ورد اللّه كيدهم في صدورهم.




فلم يبق لهم إلا انتظار ما يحل بهم من العذاب، الذي هو سنة اللّه في
الأولين، التي لا تبدل ولا تغير، أن كل من سار في الظلم والعناد
والاستكبار على العباد، أن يحل به نقمته، وتسلب عنه نعمته، فَلْيَتَرَّقب
هؤلاء، ما فعل بأولئك.







{ 44 - 45 } { أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ
كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ
قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ
وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا * وَلَوْ يُؤَاخِذُ
اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ
دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ
أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا }





يحض تعالى على السير في الأرض، في القلوب والأبدان، للاعتبار، لا لمجرد
النظر والغفلة، وأن ينظروا إلى عاقبة الذين من قبلهم ممن كذبوا الرسل،
وكانوا أكثر منهم أموالا وأولادا وأشد قوة، وعمروا الأرض أكثر مما عمرها
هؤلاء، فلما جاءهم العذاب، لم تنفعهم قوتهم، ولم تغن عنهم أموالهم ولا
أولادهم من اللّه شيئا، ونفذت فيهم قدرة اللّه ومشيئته.




{ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا
فِي الْأَرْضِ }

لكمال علمه وقدرته


{ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا }





ثم ذكر تعالى كمال حلمه، وشدة إمهاله وإنظاره أرباب الجرائم والذنوب،
فقال:


{ وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا }

من الذنوب


{ مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ }

أي: لاستوعبت العقوبة، حتى الحيوانات غير المكلفة.




{ وَلَكِنْ }

يمهلهم تعالى ولا يهملهم و


{ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ
اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا }

فيجازيهم بحسب ما علمه منهم، من خير وشر.




تم تفسير سورة فاطر، والحمد للّه رب العالمين


descriptionتفسيرالقران - صفحة 5 Emptyرد: تفسيرالقران

more_horiz
-

تفسير
سورة


سبأ

عدد آياتها 54

(



آية


1-27

)

وهي مكية






{ 1 - 2 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ
الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ
الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ * يَعْلَمُ مَا
يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ
السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ }





الحمد: الثناء بالصفات الحميدة, والأفعال الحسنة, فللّه تعالى الحمد, لأن
جميع صفاته, يحمد عليها, لكونها صفات كمال, وأفعاله, يحمد عليها, لأنها
دائرة بين الفضل الذي يحمد عليه ويشكر, والعدل الذي يحمد عليه ويعترف
بحكمته فيه.




وحمد نفسه هنا, على أن { لَهُ مَا فِي
السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ }
ملكا وعبيدا, يتصرف فيهم
بحمده. { وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ }
لأن في الآخرة, يظهر من حمده, والثناء عليه, ما لا يكون في الدنيا، فإذا
قضى اللّه تعالى بين الخلائق كلهم, ورأى الناس والخلق كلهم, ما حكم به,
وكمال عدله وقسطه, وحكمته فيه, حمدوه كلهم على ذلك، حتى أهل العقاب ما
دخلوا النار, إلا وقلوبهم ممتلئة من حمده, وأن هذا من جراء أعمالهم, وأنه
عادل في حكمه بعقابهم.




وأما ظهور حمده في دار النعيم والثواب, فذلك شيء قد تواردت به الأخبار,
وتوافق عليه الدليل السمعي والعقلي، فإنهم في الجنة, يرون من توالي نعم
اللّه, وإدرار خيره, وكثرة بركاته, وسعة عطاياه, التي لم يبق في قلوب أهل
الجنة أمنية, ولا إرادة, إلا وقد أعطي فوق ما تمنى وأراد، بل يعطون من
الخير ما لم تتعلق به أمانيهم, ولم يخطر بقلوبهم.




فما ظنك بحمدهم لربهم في هذه الحال, مع أن في الجنة تضمحل العوارض
والقواطع, التي تقطع عن معرفة اللّه ومحبته والثناء عليه, ويكون ذلك أحب
إلى أهلها من كل نعيم, وألذ عليهم من كل لذة، ولهذا إذا رأوا اللّه
تعالى, وسمعوا كلامه عند خطابه لهم, أذهلهم ذلك عن كل نعيم, ويكون الذكر
لهم في الجنة, كالنَّفس, متواصلا في جميع الأوقات، هذا إذا أضفت ذلك إلى
أنه يظهر لأهل الجنة في الجنة كل وقت من عظمة ربهم, وجلاله, وجماله, وسعة
كماله, ما يوجب لهم كمال الحمد, والثناء عليه.




{ وَهُوَ الْحَكِيمُ }

في ملكه وتدبيره, الحكيم في أمره ونهيه. {
الْخَبِيرُ }
المطلع على سرائر الأمور وخفاياها ولهذا فصل علمه
بقوله: { يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ }
أي: من مطر, وبذر, وحيوان { وَمَا يَخْرُجُ
مِنْهَا }
من أنواع النباتات, وأصناف الحيوانات
{ وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ } من
الأملاك والأرزاق والأقدار { وَمَا يَعْرُجُ
فِيهَا }
من الملائكة والأرواح وغير ذلك.




ولما ذكر مخلوقاته وحكمته فيها, وعلمه بأحوالها, ذكر مغفرته ورحمته لها,
فقال: { وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ }
أي: الذي الرحمة والمغفرة وصفه, ولم تزل آثارهما تنزل على عباده كل وقت
بحسب ما قاموا به من مقتضياتهما.





{ 3 - 5 } { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا
تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ
الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ
وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا
فِي كِتَابٍ مُبِينٍ * لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ *
وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ
عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ }




لما بين تعالى, عظمته, بما وصف به نفسه, وكان هذا موجبا لتعظيمه وتقديسه,
والإيمان به, ذكر أن من أصناف الناس, طائفة لم تقدر ربها حق قدره, ولم
تعظمه حق عظمته, بل كفروا به, وأنكروا قدرته على إعادة الأموات, وقيام
الساعة, وعارضوا بذلك رسله فقال: { وَقَالَ
الَّذِينَ كَفَرُوا }
أي باللّه وبرسله, وبما جاءوا به، فقالوا
بسبب كفرهم: { لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ }
أي: ما هي, إلا هذه الحياة الدنيا, نموت ونحيا. فأمر اللّه رسوله أن يرد
قولهم ويبطله, ويقسم على البعث, وأنه سيأتيهم، واستدل على ذلك بدليل من
أقرَّ به, لزمه أن يصدق بالبعث ضرورة, وهو علمه تعالى الواسع العام فقال:
{ عَالِمِ الْغَيْبِ } أي: الأمور
الغائبة عن أبصارنا, وعن علمنا, فكيف بالشهادة؟".




ثم أكد علمه فقال: { لَا يَعْزُبُ } أي:
لا يغيب عن علمه { مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي
السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ }
أي: جميع الأشياء بذواتها
وأجزائها, حتى أصغر ما يكون من الأجزاء, وهو المثاقيل منها.




{ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ
}

أي: قد أحاط به علمه, وجرى به قلمه, وتضمنه الكتاب المبين, الذي هو اللوح
المحفوظ، فالذي لا يخفى عن علمه مثقال الذرة فما دونه, في جميع الأوقات,
ويعلم ما تنقص الأرض من الأموات, وما يبقى من أجسادهم, قادر على بعثهم
من باب أولى, وليس بعثهم بأعجب من هذا العلم المحيط.




ثم ذكر المقصود من البعث فقال: { لِيَجْزِيَ
الَّذِينَ آمَنُوا }
بقلوبهم, صدقوا اللّه, وصدقوا رسله تصديقا
جازما، { وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ }
تصديقا لإيمانهم. { أُولَئِكَ لَهُمْ
مَغْفِرَةٌ }
لذنوبهم, بسبب إيمانهم وعملهم, يندفع بها كل شر
وعقاب. { وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } بإحسانهم,
يحصل لهم به كل مطلوب ومرغوب, وأمنية.




{ وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ }

أي: سعوا فيها كفرا بها, وتعجيزا لمن جاء بها, وتعجيزا لمن أنزلها, كما
عجزوه في الإعادة بعد الموت. { أُولَئِكَ
لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ }
أي: مؤلم لأبدانهم وقلوبهم.





{ 6 } { وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ
الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى
صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ }




لما ذكر تعالى إنكار من أنكر البعث, وأنهم يرون ما أنزل على رسوله ليس
بحق، ذكر حالة الموفقين من العباد, وهم أهل العلم, وأنهم يرون ما أنزل
اللّه على رسوله من الكتاب, وما اشتمل عليه من الأخبار, هو الحق, أي:
الحق منحصر فيه, وما خالفه وناقضه, فإنه باطل, لأنهم وصلوا من العلم إلى
درجة اليقين.




ويرون أيضا أنه في أوامره ونواهيه { يَهْدِي
إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ }
وذلك أنهم جزموا بصدق ما
أخبر به من وجوه كثيرة: من جهة علمهم بصدق من أخبر به، ومن جهة موافقته
للأمور الواقعة, والكتب السابقة، ومن جهة ما يشاهدون من أخبارها, التي
تقع عيانا، ومن جهة ما يشاهدون من الآيات العظيمة الدالة عليها في الآفاق
وفي أنفسهم ومن جهة موافقتها, لما دلت عليه أسماؤه تعالى وأوصافه.




ويرون في الأوامر والنواهي, أنها تهدي إلى الصراط المستقيم, المتضمن
للأمر بكل صفة تزكي النفس، وتنمي الأجر، وتفيد العامل وغيره، كالصدق
والإخلاص وبر الوالدين, وصلة الأرحام, والإحسان إلى عموم الخلق, ونحو
ذلك. وتنهى عن كل صفة قبيحة, تدنس النفس, وتحبط الأجر, وتوجب الإثم
والوزر, من الشرك, والزنا, والربا, والظلم في الدماء والأموال, والأعراض.




وهذه منقبة لأهل العلم وفضيلة, وعلامة لهم, وأنه كلما كان العبد أعظم
علما وتصديقا بأخبار ما جاء به الرسول, وأعظم معرفة بحكم أوامره ونواهيه,
كان من أهل العلم الذين جعلهم اللّه حجة على ما جاء به الرسول, احتج
اللّه بهم على المكذبين المعاندين, كما في هذه الآية وغيرها.





{ 7 - 9 } { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ
نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ
مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ * أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ
كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ
فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ * أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا
بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنْ
نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ
السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ }





أي: { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا } على
وجه التكذيب والاستهزاء والاستبعاد، وذكر وجه الاستبعاد.




أي: قال بعضهم لبعض: { هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى
رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي
خَلْقٍ جَدِيدٍ }
يعنون بذلك الرجل, رسول اللّه صلى اللّه عليه
وسلم, وأنه رجل أتى بما يستغرب منه, حتى صار - بزعمهم - فرجة يتفرجون
عليه, وأعجوبة يسخرون منه، وأنه كيف يقول {
إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ }
بعدما مزقكم البلى, وتفرقت أوصالكم,
واضمحلت أعضاؤكم؟!.




فهذا الرجل الذي يأتي بذلك, هل { أَفْتَرَى
عَلَى اللَّهِ كَذِبًا }
فتجرأ عليه وقال ما قال,
{ أَمْ بِهِ جِنَّةٌ } ؟ فلا يستغرب
منه, فإن الجنون فنون، وكل هذا منهم, على وجه العناد والظلم, ولقد علموا,
أنه أصدق خلق اللّه وأعقلهم, ومن علمهم, أنهم أبدوا وأعادوا في معاداتهم,
وبذلوا أنفسهم وأموالهم, في صد الناس عنه، فلو كان كاذبا مجنونا لم ينبغ
لكم - يا أهل العقول غير الزاكية - أن تصغوا لما قال, ولا أن تحتفلوا
بدعوته، فإن المجنون, لا ينبغي للعاقل أن يلفت إليه نظره, أو يبلغ قوله
منه كل مبلغ.




ولولا عنادكم وظلمكم, لبادرتم لإجابته, ولبيتم دعوته, ولكن
{ مَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ
قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ }
ولهذا قال تعالى:
{ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ
}
ومنهم الذين قالوا تلك المقالة، { فِي
الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ }
أي: في الشقاء العظيم,
والضلال البعيد, الذي ليس بقريب من الصواب، وأي شقاء وضلال, أبلغ من
إنكارهم لقدرة اللّه على البعث وتكذيبهم لرسوله الذي جاء به, واستهزائهم
به, وجزمهم بأن ما جاءوا به هو الحق, فرأوا الحق باطلا, والباطل والضلال
حقا وهدى.




ثم نبههم على الدليل العقلي, الدال على عدم استبعاد البعث, الذي
استبعدوه, وأنهم لو نظروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم, من السماء والأرض
فرأوا من قدرة اللّه فيهما, ما يبهر العقول, ومن عظمته ما يذهل العلماء
الفحول, وأن خلقهما وعظمتهما وما فيهما من المخلوقات, أعظم من إعادة
الناس - بعد موتهم - من قبورهم، فما الحامل لهم, على ذلك التكذيب مع
التصديق, بما هو أكبر منه؟ نعم ذاك خبر غيبي إلى الآن, ما شاهدوه, فلذلك
كذبوا به.




قال اللّه: { إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ
الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ }

أي: من العذاب, لأن الأرض والسماء تحت تدبيرنا, فإن أمرناهما لم يستعصيا،
فاحذروا إصراركم على تكذيبكم, فنعاقبكم أشد العقوبة.
{ إِنَّ فِي ذَلِكَ } أي: خلق السماوات
والأرض, وما فيهما من المخلوقات { لَآيَةً
لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ }




فكلما كان العبد أعظم إنابة إلى اللّه, كان انتفاعه بالآيات أعظم, لأن
المنيب مقبل إلى ربه, قد توجهت إراداته وهماته لربه, ورجع إليه في كل أمر
من أموره, فصار قريبا من ربه, ليس له هم إلا الاشتغال بمرضاته، فيكون
نظره للمخلوقات نظر فكرة وعبرة, لا نظر غفلة غير نافعة.





{ 10 - 11 } { وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ
مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ
الْحَدِيدَ * أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ
وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }





أي: ولقد مننا على عبدنا ورسولنا, داود عليه الصلاة والسلام, وآتيناه
فضلا من العلم النافع, والعمل الصالح, والنعم الدينية والدنيوية، ومن
نعمه عليه, ما خصه به من أمره تعالى الجمادات, كالجبال والحيوانات, من
الطيور, أن تُؤَوِّب معه, وتُرَجِّع التسبيح بحمد ربها, مجاوبة له، وفي
هذا من النعمة عليه, أن كان ذلك من خصائصه التي لم تكن لأحد قبله ولا
بعده, وأن ذلك يكون منهضا له ولغيره على التسبيح إذا رأوا هذه الجمادات
والحيوانات, تتجاوب بتسبيح ربها, وتمجيده, وتكبيره, وتحميده, كان ذلك مما
يهيج على ذكر اللّه تعالى.




ومنها: أن ذلك - كما قال كثير من العلماء, أنه طرب لصوت داود، فإن اللّه
تعالى, قد أعطاه من حسن الصوت, ما فاق به غيره, وكان إذا رجَّع التسبيح
والتهليل والتحميد بذلك الصوت الرخيم الشجيِّ المطرب, طرب كل من سمعه, من
الإنس, والجن, حتى الطيور والجبال, وسبحت بحمد ربها.




ومنها: أنه لعله ليحصل له أجر تسبيحها, لأنه سبب ذلك, وتسبح تبعا له.




ومن فضله عليه, أن ألان له الحديد, ليعمل الدروع السابغات, وعلمه تعالى
كيفية صنعته, بأن يقدره في السرد, أي: يقدره حلقا, ويصنعه كذلك, ثم يدخل
بعضها ببعض.




قال تعالى: { وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ
لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ }





ولما ذكر ما امتن به عليه وعلى آله, أمره بشكره, وأن يعملوا صالحا,
ويراقبوا اللّه تعالى فيه, بإصلاحه وحفظه من المفسدات, فإنه بصير
بأعمالهم, مطلع عليهم, لا يخفى عليه منها شيء.





{ 12 - 14 } { وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ
غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ
الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ
رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ
السَّعِيرِ * يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ
وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ
شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ * فَلَمَّا قَضَيْنَا
عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ
الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ
أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ
الْمُهِينِ }




لما ذكر فضله على داود عليه السلام, ذكر فضله على ابنه سليمان, عليه
الصلاة والسلام, وأن اللّه سخر له الريح تجري بأمره, وتحمله, وتحمل جميع
ما معه, وتقطع المسافة البعيدة جدا, في مدة يسيرة, فتسير في اليوم, مسيرة
شهرين. { غُدُوُّهَا شَهْرٌ } أي: أول
النهار إلى الزوال { وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ }
من الزوال, إلى آخر النهار { وَأَسَلْنَا لَهُ
عَيْنَ الْقِطْرِ }
أي: سخرنا له عين النحاس, وسهلنا له الأسباب,
في استخراج ما يستخرج منها من الأواني وغيرها.




وسخر اللّه له أيضا, الشياطين والجن, لا يقدرون أن يستعصوا عن أمره,
{ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا
نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ }
وأعمالهم كل ما شاء سليمان,
عملوه.




{ مِنْ مَحَارِيبَ }

وهو كل بناء يعقد, وتحكم به الأبنية, فهذا فيه ذكر الأبنية الفخمة،
{ وَتَمَاثِيلَ } أي: صور الحيوانات
والجمادات, من إتقان صنعتهم, وقدرتهم على ذلك وعملهم لسليمان
{ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ } أي: كالبرك
الكبار, يعملونها لسليمان للطعام, لأنه يحتاج إلى ما لا يحتاج إليه غيره
، " و " يعملون له قدورا راسيات لا تزول عن أماكنها, من عظمها.




فلما ذكر منته عليهم, أمرهم بشكرها فقال: {
اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ }
وهم داود, وأولاده, وأهله, لأن المنة على
الجميع, وكثير من هذه المصالح عائد لكلهم. {
شُكْرًا }
للّه على ما أعطاهم, ومقابلة لما أولاهم.
{ وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ }
فأكثرهم, لم يشكروا اللّه تعالى على ما أولاهم من نعمه, ودفع عنهم من
النقم.




والشكر: اعتراف القلب بمنة اللّه تعالى, وتلقيها افتقارا إليها, وصرفها
في طاعة اللّه تعالى, وصونها عن صرفها في المعصية.




فلم يزل الشياطين يعملون لسليمان, عليه الصلاة والسلام, كل بناء، وكانوا
قد موهوا على الإنس, وأخبروهم أنهم يعلمون الغيب, ويطلعون على المكنونات،
فأراد اللّه تعالى أن يُرِيَ العباد كذبهم في هذه الدعوى, فمكثوا يعملون
على عملهم، وقضى اللّه الموت على سليمان عليه السلام, واتَّكأ على عصاه,
وهي المنسأة، فصاروا إذا مروا به وهو متكئ عليها, ظنوه حيا, وهابوه.




فغدوا على عملهم كذلك سنة كاملة على ما قيل, حتى سلطت دابة الأرض على
عصاه, فلم تزل ترعاها, حتى باد وسقط فسقط سليمان عليه السلام وتفرقت
الشياطين وتبينت الإنس أن الجن { لَوْ كَانُوا
يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ }

وهو العمل الشاق عليهم، فلو علموا الغيب, لعلموا موت سليمان, الذي هم
أحرص شيء عليه, ليسلموا مما هم فيه.




{ 15 - 21 } { لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ
عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ
بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ * فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا
عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ
جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ
قَلِيلٍ * ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا
الْكَفُورَ * وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي
بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ
سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ * فَقَالُوا رَبَّنَا
بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ
أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ
لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ * وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ
ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * وَمَا
كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ
بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ
شَيْءٍ حَفِيظٌ }




سبأ قبيلة معروفة في أداني اليمن, ومسكنهم بلدة يقال لها "مأرب" ومن نعم
اللّه ولطفه بالناس عموما, وبالعرب خصوصا, أنه قص في القرآن أخبار
المهلكين والمعاقبين, ممن كان يجاور العرب, ويشاهد آثاره, ويتناقل الناس
أخباره, ليكون ذلك أدعى إلى التصديق, وأقرب للموعظة فقال:
{ لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ }
أي: محلهم الذي يسكنون فيه { آيَةٌ }
والآية هنا: ما أدرَّ اللّه عليهم من النعم, وصرف عنهم من النقم, الذي
يقتضي ذلك منهم, أن يعبدوا اللّه ويشكروه. ثم فسر الآية بقوله
{ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ }
وكان لهم واد عظيم, تأتيه سيول كثيرة, وكانوا بنوا سدا محكما, يكون مجمعا
للماء، فكانت السيول تأتيه, فيجتمع هناك ماء عظيم, فيفرقونه على
بساتينهم, التي عن يمين ذلك الوادي وشماله. وتُغِلُّ لهم تلك الجنتان
العظيمتان, من الثمار ما يكفيهم, ويحصل لهم به الغبطة والسرور، فأمرهم
اللّه بشكر نعمه التي أدرَّها عليهم من وجوه كثيرة، منها: هاتان الجنتان
اللتان غالب أقواتهم منهما.




ومنها: أن اللّه جعل بلدهم, بلدة طيبة, لحسن هوائها, وقلة وخمها, وحصول
الرزق الرغد فيها.




ومنها: أن اللّه تعالى وعدهم - إن شكروه - أن يغفر لهم وَيرحمهم, ولهذا
قال: { بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ }




ومنها: أن اللّه لما علم احتياجهم في تجارتهم ومكاسبهم إلى الأرض
المباركة, - الظاهر أنها: [قرى صنعاء قاله غير واحد من السلف, وقيل:
إنها] الشام - هيأ لهم من الأسباب ما به يتيسر وصولهم إليها, بغاية
السهولة, من الأمن, وعدم الخوف, وتواصل القرى بينهم وبينها, بحيث لا يكون
عليهم مشقة, بحمل الزاد والمزاد.




ولهذا قال: { وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ
الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا
السَّيْرَ }
أي: [سيرا] مقدرا يعرفونه, ويحكمون عليه, بحيث لا
يتيهون عنه { لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ }
أي: مطمئنين في السير, في تلك الليالي والأيام, غير خائفين. وهذا من تمام
نعمة اللّه عليهم, أن أمنهم من الخوف.




فأعرضوا عن المنعم, وعن عبادته, وبطروا النعمة, وملوها، حتى إنهم طلبوا
وتمنوا, أن تتباعد أسفارهم بين تلك القرى, التي كان السير فيها متيسرا.




{ وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ }

بكفرهم باللّه وبنعمته, فعاقبهم اللّه تعالى بهذه النعمة, التي أطغتهم,
فأبادها عليهم, فأرسل عليها سيل العرم.




أي: السيل المتوعر, الذي خرب سدهم, وأتلف جناتهم, وخرب بساتينهم، فتبدلت
تلك الجنات ذات الحدائق المعجبة, والأشجار المثمرة, وصار بدلها أشجار لا
نفع فيها, ولهذا قال: { وَبَدَّلْنَاهُمْ
بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ }
أي: شيء قليل من
الأكل الذي لا يقع منهم موقعا { خَمْطٍ
وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ }
وهذا كله شجر معروف,
وهذا من جنس عملهم.




فكما بدلوا الشكر الحسن, بالكفر القبيح, بدلوا تلك النعمة بما ذكر, ولهذا
قال: { ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا
وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ }
أي: وهل نجازي جزاء العقوبة
- بدليل السياق - إلا من كفر باللّه وبطر النعمة؟




فلما أصابهم ما أصابهم, تفرقوا وتمزقوا, بعدما كانوا مجتمعين, وجعلهم
اللّه أحاديث يتحدث بهم, وأسمارا للناس, وكان يضرب بهم المثل فيقال:
"تفرقوا أيدي سبأ" فكل أحد يتحدث بما جرى لهم، ولكن لا ينتفع بالعبرة
فيهم إلا من قال اللّه: { إِنَّ فِي ذَلِكَ
لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ }
صبار على المكاره والشدائد,
يتحملها لوجه اللّه, ولا يتسخطها بل يصبر عليها. شكور لنعمة اللّه تعالى
يُقِرُّ بها, ويعترف, ويثني على من أولاها, ويصرفها في طاعته. فهذا إذا
سمع بقصتهم, وما جرى منهم وعليهم, عرف بذلك أن تلك العقوبة, جزاء لكفرهم
نعمة اللّه, وأن من فعل مثلهم, فُعِلَ به كما فعل بهم، وأن شكر اللّه
تعالى, حافظ للنعمة, دافع للنقمة، وأن رسل اللّه, صادقون فيما أخبروا به،
وأن الجزاء حق, كما رأى أنموذجه في دار الدنيا.




ثم ذكر أن قوم سبأ من الذين صدَّق عليهم إبليس ظنه, حيث قال لربه:
{ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ
إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ }
وهذا ظن من إبليس, لا
يقين, لأنه لا يعلم الغيب, ولم يأته خبر من اللّه, أنه سيغويهم أجمعين,
إلا من استثنى، فهؤلاء وأمثالهم, ممن صدق عليه إبليس ظنه, ودعاهم
وأغواهم، { فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ }
ممن لم يكفر بنعمة اللّه, فإنه لم يدخل تحت ظن
إبليس.




ويحتمل أن قصة سبأ, انتهت عند قوله: { إِنَّ
فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ }




ثم ابتدأ فقال: { وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ
}
أي: على جنس الناس, فتكون الآية عامة في كل من اتبعه.




ثم قال تعالى: { وَمَا كَانَ لَهُ } أي:
لإبليس { عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ }
أي: تسلط وقهر, وقسر على ما يريده منهم, ولكن حكمة اللّه تعالى اقتضت
تسليطه وتسويله لبني آدم.




{ لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ
}

أي: ليقوم سوق الامتحان, ويعلم به الصادق من الكاذب, ويعرف من كان إيمانه
صحيحا, يثبت عند الامتحان والاختبار, وإلقاء الشبه الشيطانية, ممن إيمانه
غير ثابت, يتزلزل بأدنى شبهة, ويزول بأقل داع يدعوه إلى ضده، فاللّه
تعالى جعله امتحانا, يمتحن به عباده, ويظهر الخبيث من الطيب.




{ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ }

يحفظ العباد, ويحفظ عليهم أعمالهم, ويحفظ تعالى جزاءها, فيوفيهم إياها,
كاملة موفرة.





{ 22 - 23 } { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ
زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي
السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ
وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ * وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ
عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ
قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ
الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ }




أي: { قُلْ } يا أيها الرسول, للمشركين
باللّه غيره من المخلوقات, التي لا تنفع ولا تضر, ملزما لهم بعجزها,
ومبينا لهم بطلان عبادتها: { ادْعُوا الَّذِينَ
زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ }
أي: زعمتموهم شركاء للّه, إن كان
دعاؤكم ينفع، فإنهم قد توفرت فيهم أسباب العجز, وعدم إجابة الدعاء من كل
وجه، فإنهم ليس لهم أدنى ملك فـ { لَا
يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ }

على وجه الاستقلال, ولا على وجه الاشتراك, ولهذا قال:
{ وَمَا لَهُمْ } أي: لتلك الآلهة الذين
زعمتم { فِيهِمَا } أي: في السماوات
والأرض، { مِنْ شِرْكٍ } أي: لا شرك
قليل ولا كثير, فليس لهم ملك, ولا شركة ملك.




بقي أن يقال: ومع ذلك, فقد يكونون أعوانا للمالك, ووزراء له, فدعاؤهم
يكون نافعا, لأنهم - بسبب حاجة الملك إليهم - يقضون حوائج من تعلق بهم،
فنفى تعالى هذه المرتبة فقال: { وَمَا لَهُ }
أي: للّه تعالى الواحد القهار { مِنْهُمْ }
أي: من هؤلاء المعبودين { مِنْ ظَهِيرٍ }
أي: معاون ووزير يساعده على الملك والتدبير.




فلم يبق إلا الشفاعة, فنفاها بقوله: { وَلَا
تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ }
فهذه
أنواع التعلقات, التي يتعلق بها المشركون بأندادهم, وأوثانهم, من البشر,
والشجر, وغيرهم, قطعها اللّه وبيَّن بطلانها, تبيينا حاسما لمواد الشرك,
قاطعا لأصوله، لأن المشرك إنما يدعو ويعبد غير اللّه, لما يرجو منه من
النفع, فهذا الرجاء, هو الذي أوجب له الشرك، فإذا كان من يدعوه [غير
اللّه], لا مالكا للنفع والضر, ولا شريكا للمالك, ولا عونا وظهيرا
للمالك, ولا يقدر أن يشفع بدون إذن المالك, كان هذا الدعاء, وهذه
العبادة, ضلالا في العقل, باطلة في الشرع.




بل ينعكس على المشرك مطلوبه ومقصوده, فإنه يريد منها النفع، فبيَّن اللّه
بطلانه وعدمه, وبيَّن في آيات أخر, ضرره على عابديه وأنه يوم القيامة,
يكفر بعضهم ببعض, ويلعن بعضهم بعضا, ومأواهم النار
{ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ
أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ }




والعجب, أن المشرك استكبر عن الانقياد للرسل, بزعمه أنهم بشر, ورضي أن
يعبد ويدعو الشجر, والحجر, استكبر عن الإخلاص للملك الرحمن الديان, ورضي
بعبادة من ضره أقرب من نفعه, طاعة لأعدى عدو له وهو الشيطان.




وقوله: { حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ
قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ
الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ }
يحتمل أن الضمير في هذا الموضع, يعود إلى
المشركين, لأنهم مذكورون في اللفظ، والقاعدة في الضمائر, أن تعود إلى
أقرب مذكور، ويكون المعنى: إذا كان يوم القيامة, وفزع عن قلوب المشركين,
أي: زال الفزع, وسئلوا حين رجعت إليهم عقولهم, عن حالهم في الدنيا,
وتكذيبهم للحق الذي جاءت به الرسل, أنهم يقرون, أن ما هم عليه من الكفر
والشرك, باطل, وأن ما قال اللّه, وأخبرت به عنه رسله, هو الحق فبدا لهم
ما كانوا يخفون من قبل وعلموا أن الحق للّه, واعترفوا بذنوبهم.




{ وَهُوَ الْعَلِيُّ }

بذاته, فوق جميع مخلوقاته وقهره لهم, وعلو قدره, بما له من الصفات
العظيمة, جليلة المقدار { الْكَبِيرُ }
في ذاته وصفاته.




ومن علوه, أن حكمه تعالى, يعلو, وتذعن له النفوس, حتى نفوس المتكبرين
والمشركين.




وهذا المعنى أظهر, وهو الذي يدل عليه السياق، ويحتمل أن الضمير يعود إلى
الملائكة, وذلك أن اللّه تعالى إذا تكلم بالوحي, سمعته الملائكة, فصعقوا,
وخروا للّه سجدا، فيكون أول من يرفع رأسه جبريل, فيكلمه اللّه من وحيه
بما أراد، وإذا زال الصعق عن قلوب الملائكة, وزال الفزع, فيسأل بعضهم
بعضا عن ذلك الكلام الذي صعقوا منه: ماذا قال ربكم؟ فيقول بعضهم لبعض:
قال الحق, إما إجمالا, لعلمهم أنه لا يقول إلا حقا، وإما أن يقولوا: قال
كذا وكذا, للكلام الذي سمعوه منه, وذلك من الحق.




فيكون المعنى على هذا: أن المشركين الذين عبدوا مع اللّه تلك الآلهة,
التي وصفنا لكم عجزها ونقصها, وعدم نفعها بوجه من الوجوه, كيف صدفوا
وصرفوا عن إخلاص العبادة للرب العظيم, العلي الكبير, الذي - من عظمته
وجلاله - أن الملائكة الكرام, والمقربين من الخلق, يبلغ بهم الخضوع
والصعق, عند سماع كلامه هذا المبلغ, ويقرون كلهم للّه, أنه لا يقول إلا
الحق.




فما بال هؤلاء المشركين, استكبروا عن عبادة من هذا شأنه, وعظمة ملكه
وسلطانه. فتعالى العلي الكبير, عن شرك المشركين, وإفكهم, وكذبهم.




24 - 27 } { قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ
اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ
مُبِينٍ * قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ
عَمَّا تَعْمَلُونَ * قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ
بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ * قُلْ أَرُونِيَ
الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }




يأمر تعالى, نبيه محمدا صلى اللّه عليه وسلم, أن يقول لمن أشرك باللّه
ويسأله عن حجة شركه: { مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ }
فإنهم لا بد أن يقروا أنه اللّه،
ولئن لم يقروا فـ { قُلِ اللَّهُ } فإنك
لا تجد من يدفع هذا القول، فإذا تبين أن اللّه وحده الذي يرزقكم من
السماوات والأرض, وينزل [لكم] المطر, وينبت لكم النبات, ويفجر لكم
الأنهار, ويطلع لكم من ثمار الأشجار, وجعل لكم الحيوانات جميعها, لنفعكم
ورزقكم, فلم تعبدون معه من لا يرزقكم شيئا, ولا يفيدكم نفعا؟.




وقوله: { وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى
هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ }
أي: إحدى الطائفتين منا ومنكم,
على الهدى, مستعلية عليه, أو في ضلال مبين، منغمرة فيه، وهذا الكلام
يقوله من تبين له الحق, واتضح له الصواب, وجزم بالحق الذي هو عليه,
وبطلان ما عليه خصمه.




أي: قد شرحنا من الأدلة الواضحة عندنا وعندكم, ما به يعلم علما يقينا لا
شك فيه, من المحق منا, ومن المبطل, ومن المهتدي ومن الضال؟ حتى إنه يصير
التعيين بعد ذلك, لا فائدة فيه، فإنك إذا وازنت بين من يدعو إلى عبادة
الخالق, لسائر المخلوقات المتصرف فيها, بجميع أنواع التصرفات, المسدي
جميع النعم, الذي رزقهم وأوصل إليهم كل نعمة, ودفع عنهم كل نقمة, الذي له
الحمد كله, والملك كله, وكل أحد من الملائكة فما دونهم, خاضعون لهيبته,
متذللون لعظمته, وكل الشفعاء تخافه, لا يشفع أحد منهم عنده إلا بإذنه
العلي الكبير, في ذاته, وأوصافه, وأفعاله, الذي له كل كمال, وكل جلال,
وكل جمال, وكل حمد وثناء ومجد، يدعو إلى التقرب لمن هذا شأنه, وإخلاص
العمل له, وينهى عن عبادة من سواه, وبين من يتقرب إلى أوثان, وأصنام,
وقبور, لا تخلق, ولا ترزق, ولا تملك لأنفسها, ولا لمن عبدها, نفعا ولا
ضرا, ولا موتا ولا حياة, ولا نشورا، بل هي جمادات, لا تعقل, ولا تسمع
دعاء عابديها, ولو سمعته ما استجابت لهم، ويوم القيامة يكفرون بشركهم,
ويتبرأون منهم, ويتلاعنون بينهم، ليس لهم قسط من الملك, ولا شركة فيه,
ولا إعانة فيه، ولا لهم شفاعة يستقلون بها دون اللّه، فهو يدعو مَنْ هذا
وصفه, ويتقرب إليه مهما أمكنه, ويعادي من أخلص الدين للّه, ويحاربه,
ويكذب رسل اللّه, الذين جاءوا بالإخلاص للّه وحده، تبين لك أي الفريقين,
المهتدي من الضال, والشقي من السعيد؟ ولم يحتج إلى أن يعين لك ذلك, لأن
وصف الحال, أوضح من لسان المقال.




{ قُلْ }

لهم d]{ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا
وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ }
أي: كل منا ومنكم, له عمله
أنتم] { لا تسألون } عن إجرامنا وذنوبنا
لو أذنبنا, ونحن لا نسأل عن أعمالكم، فليكن المقصود منا ومنكم طلب
الحقائق وسلوك طريق الإنصاف، ودعوا ما كنا نعمل, ولا يكن مانعا لكم من
اتباع الحق، فإن أحكام الدنيا تجري على الظواهر, ويتبع فيها الحق, ويجتنب
الباطل، وأما الأعمال فلها دار أخرى, يحكم فيها أحكم الحاكمين, ويفصل بين
المختصمين, أعدل العادلين.




ولهذا قال: { قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا
ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا }
أي: يحكم بيننا حكما, يتبين به الصادق
من الكاذب, والمستحق للثواب, من المستحق للعقاب، وهو خير الفاتحين.




{ قُلْ }

لهم يا أيها الرسول, ومن ناب منابك: {
أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ }
أي: أين هم؟
وأين السبيل إلى معرفتهم؟ وهل هم في الأرض, أم في السماء؟ فإن عالم الغيب
والشهادة قد أخبرنا أنه ليس في الوجود له شريك.




{ وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا
يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ
أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ }

الآية { وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ
مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ
هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ }




وكذلك خواص خلقه من الأنبياء والمرسلين, لا يعلمون له شريكا، فيا أيها
المشركون أروني الذين ألحقتم بزعمكم الباطل باللّه
{ شُرَكَاءُ }




وهذا السؤال لا يمكنهم الإجابة عنه, ولهذا قال:
{ كَلَّا }
أي: ليس للّه شريك, ولا ند, ولا ضد.
{ بَلْ هُوَ اللَّهُ } الذي لا يستحق
التأله والتعبد, إلا هو { الْعَزِيزُ }
الذي قهر كل شيء فكل ما سواه, فهو مقهور مسخر مدبر.
{ الْحَكِيمُ } الذي أتقن ما خلقه,
وأحسن ما شرعه، ولو لم يكن في حكمته في شرعه إلا أنه أمر بتوحيده, وإخلاص
الدين له, وأحب ذلك, وجعله طريقا للنجاة, ونهى عن الشرك به, واتخاذ
الأنداد من دونه, وجعل ذلك طريقا للشقاء والهلاك, لكفى بذلك برهانا على
كمال حكمته، فكيف وجميع ما أمر به ونهى عنه, مشتمل على الحكمة؟"

descriptionتفسيرالقران - صفحة 5 Emptyرد: تفسيرالقران

more_horiz
تابع
-


تفسير
سورة


سبأ

عدد آياتها 54

(
آية
28-54

)

وهي مكية






{ 28 - 30 } { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا
وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ * وَيَقُولُونَ
مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ
يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ }




يخبر تعالى أنه ما أرسل رسوله صلى اللّه عليه وسلم, إلا ليبشر جميع الناس
بثواب اللّه, ويخبرهم بالأعمال الموجبة لذلك، وينذرهم عقاب اللّه,
ويخبرهم بالأعمال الموجبة له, فليس لك من الأمر شيء، وكل ما اقترح عليك
أهل التكذيب والعناد, فليس من وظيفتك, إنما ذلك بيد اللّه تعالى،
{ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ
}
أي: ليس لهم علم صحيح, بل إما جهال, أو معاندون لم يعملوا
بعلمهم, فكأنهم لا علم لهم. ومن عدم علمهم, جعلهم عدم الإجابة لما
اقترحوه على الرسول, مجبا لرد دعوته.




فمما اقترحوه, استعجالهم العذاب, الذي أنذرهم به فقال:
{ وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ
كُنْتُمْ صَادِقِينَ }
وهذا ظلم منهم. فأي ملازمة بين صدقه, وبين
الإخبار بوقت وقوعه؟ وهل هذا إلا رد للحق, وسفه في العقل؟ أليس النذير
[في أمر] في أحوال الدنيا, لو جاء قوما, يعلمون صدقه ونصحه, ولهم عدو
ينتهز الفرصة منهم ويُعِدُّ لهم فقال لهم: تركت عدوكم قد سار, يريد
اجتياحكم واستئصالكم. فلو قال بعضهم: إن كنت صادقا, فأخبرنا بأية ساعة
يصل إلينا, وأين مكانه الآن؟ فهل يعد هذا القائل عاقلا, أم يحكم بسفهه
وجنونه؟




هذا, والمخبر يمكن صدقه وكذبه, والعدو قد يبدو له غيرهم, وقد تنحل
عزيمته، وهم قد يكون بهم منعة يدافعون بها عن أنفسهم، فكيف بمن كذب أصدق
الخلق, المعصوم في خبره, الذي لا ينطق عن الهوى, بالعذاب اليقين, الذي لا
مدفع له, ولا ناصر منه؟! أليس رد خبره بحجة عدم بيانه وقت وقوعه من أسفه
السفه؟"




{ قُلْ }

لهم - مخبرا بوقت وقوعه الذي لا شك فيه -: {
لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا
تَسْتَقْدِمُونَ }
فاحذروا ذلك اليوم, وأعدوا له عدته.




{ 31 - 33 } { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا
الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ
الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى
بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ
اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ * قَالَ الَّذِينَ
اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ
الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ * وَقَالَ
الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ
وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ
لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ
وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ
يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ }





لما ذكر تعالى أن ميعاد المستعجلين بالعذاب, لا بد من وقوعه عند حلول
أجله، ذكر هنا حالهم في ذلك اليوم, وأنك لو رأيت حالهم إذا وقفوا عند
ربهم, واجتمع الرؤساء والأتباع في الكفر والضلال, لرأيت أمرا عظيما وهولا
جسيما، ورأيت كيف يتراجع, ويرجع بعضهم إلى بعض القول، فـ
{ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا }
وهم الأتباع { لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا }
وهم القادة: { لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا
مُؤْمِنِينَ }
ولكنكم حُلْتُم بيننا وبين الإيمان, وزينتم لنا
الكفر[ان], فتبعناكم على ذلك، ومقصودهم بذلك أن يكون العذاب على الرؤساء
دونهم.




{ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا }

مستفهمين لهم ومخبرين أن الجميع مشتركون في الجرم:
{ أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ
إِذْ جَاءَكُمْ }
أي: بقوتنا وقهرنا لكم.
{ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ } أي:
مختارين للإجرام, لستم مقهورين عليه, وإن كنا قد زينا لكم, فما كان لنا
عليكم من سلطان.




{ وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ
اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ
وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا }

أي: بل الذي دهانا منكم, ووصل إلينا من إضلالكم, ما دبرتموه من المكر, في
الليل والنهار, إذ تُحَسِّنون لنا الكفر, وتدعوننا إليه, وتقولون: إنه
الحق, وتقدحون في الحق وتهجنونه, وتزعمون أنه الباطل، فما زال مكركم بنا,
وكيدكم إيانا, حتى أغويتمونا وفتنتمونا.




فلم تفد تلك المراجعة بينهم شيئا إلا تبري بعضهم من بعض, والندامة
العظيمة, ولهذا قال: { وَأَسَرُّوا
النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ }
أي: زال عنهم ذلك
الاحتجاج الذي احتج به بعضهم على بعض لينجو من العذاب, وعلم أنه ظالم
مستحق له، فندم كل منهم غاية الندم, وتمنى أن لو كان على الحق, [وأنه]
ترك الباطل الذي أوصله إلى هذا العذاب, سرا في أنفسهم, لخوفهم من الفضيحة
في إقرارهم على أنفسهم. وفي بعض مواقف القيامة, وعند دخولهم النار,
يظهرون ذلك الندم جهرا.




{ وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي
اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ
أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا }

الآيات.




{ وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي
أَصْحَابِ السَّعِيرِ * فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا
لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ }





{ وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا }

يغلون كما يغل المسجون الذي سيهان في سجنه كما قال تعالى
{ إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ
وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ
يُسْجَرُونَ }
الآيات.




{ هَلْ يُجْزَوْنَ }

في هذا العذاب والنكال, وتلك الأغلال الثقال {
إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ }
من الكفر والفسوق والعصيان.





{ 34 - 39 } { وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ
مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ
كَافِرُونَ * وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا
نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ * قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ
يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ * وَمَا
أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا
زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ
الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ *
وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ فِي
الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ * قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ
يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ
فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ }




يخبر تعالى عن حالة الأمم الماضية المكذبة للرسل, أنها كحال هؤلاء
الحاضرين المكذبين لرسولهم محمد صلى اللّه عليه وسلم, وأن اللّه إذا أرسل
رسولا في قرية من القرى, كفر به مترفوها, وأبطرتهم نعمتهم وفخروا بها.




{ وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا }

أي: ممن اتبع الحق { وَمَا نَحْنُ
بِمُعَذَّبِينَ }
أي: أولا, لسنا بمبعوثين, فإن بعثنا, فالذي
أعطانا الأموال والأولاد في الدنيا, سيعطينا أكثر من ذلك في الآخرة ولا
يعذبنا.




فأجابهم اللّه تعالى, بأن بسط الرزق وتضييقه, ليس دليلا على ما زعمتم،
فإن الرزق تحت مشيئة اللّه, إن شاء بسطه لعبده, وإن شاء ضيقه.




وليست الأموال والأولاد بالتي تقرب إلى الله زلفى وتدني إليه، وإنما الذي
يقرب منه زلفى, الإيمان بما جاء به المرسلون, والعمل الصالح الذي هو من
لوازم الإيمان, فأولئك لهم الجزاء عند اللّه تعالى مضاعفا الحسنة بعشر
أمثالها, إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة, لا يعلمها إلا اللّه،
{ وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ }
أي: في المنازل العاليات المرتفعات جدا, ساكنين فيها مطمئنين, آمنون من
المكدرات والمنغصات, لما هم فيه من اللذات, وأنواع المشتهيات, وآمنون من
الخروج منها والحزن فيها.




وأما الذين سعوا في آياتنا على وجه التعجيز لنا ولرسلنا والتكذيب فـ
{ أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ }








ثم أعاد تعالى أنه { يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ
يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ }
ليرتب عليه قوله:
{ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ }
نفقة واجبة, أو مستحبة, على قريب, أو جار, أو مسكين, أو يتيم, أو غير
ذلك، { فَهُوَ } تعالى
{ يُخْلِفُهُ } فلا تتوهموا أن الإنفاق
مما ينقص الرزق, بل وعد بالخلف للمنفق, الذي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر
{ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ }
فاطلبوا الرزق منه, واسعوا في الأسباب التي أمركم بها.




{ 40 - 42 } { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ
لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ * قَالُوا
سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ
الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ * فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ
بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا
ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ }





{ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا }

أي: العابدين لغير اللّه والمعبودين من دونه, من الملائكة.
{ ثُمَّ يَقُولُ } الله
{ لِلْمَلَائِكَةِ } على وجه التوبيخ
لمن عبدهم { أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا
يَعْبُدُونَ }
فتبرأوا من عبادتهم.




و { قَالُوا سُبْحَانَكَ } أي: تنزيها
لك وتقديسا, أن يكون لك شريك, أو ند { أَنْتَ
وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ }
فنحن مفتقرون إلى ولايتك, مضطرون
إليها, فكيف ندعو غيرنا إلى عبادتنا؟ أم كيف نصلح لأن نتخذ من دونك
أولياء وشركاء؟"




ولكن هؤلاء المشركون { كَانُوا يَعْبُدُونَ
الْجِنَّ }
أي: الشياطين, يأمرون بعبادتنا أو عبادة غيرنا,
فيطيعونهم بذلك. وطاعتهم هي عبادتهم, لأن العبادة الطاعة, كما قال تعالى
مخاطبا لكل من اتخذ معه آلهة { أَلَمْ أَعْهَدْ
إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ
لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ
}




{ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ }

أي: مصدقون للجن, منقادون لهم, لأن الإيمان هو: التصديق الموجب للانقياد.




فلما تبرأوا منهم, قال تعالى [مخاطبا] لهم: {
فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا }

تقطعت بينكم الأسباب, وانقطع بعضكم من بعض. {
وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا }
بالكفر والمعاصي - بعد ما ندخلهم
النار - { ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي
كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ }
فاليوم عاينتموها, ودخلتموها, جزاء
لتكذيبكم, وعقوبة لما أحدثه ذلك التكذيب, من عدم الهرب من أسبابها.





{ 43 - 45 } { وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ
آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ
يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا
إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا
جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ * وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ
كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ
نَذِيرٍ * وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ
مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ }





يخبر تعالى عن حالة المشركين, عندما تتلى عليهم آيات اللّه البينات,
وحججه الظاهرات, وبراهينه القاطعات, الدالة على كل خير, الناهية عن كل
شر, التي هي أعظم نعمة جاءتهم, ومِنَّةٍ وصلت إليهم, الموجبة لمقابلتها
بالإيمان والتصديق, والانقياد, والتسليم, أنهم يقابلونها بضد ما ينبغي,
ويكذبون من جاءهم بها ويقولون: { مَا هَذَا
إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ
آبَاؤُكُمْ }
أي: هذا قصده, حين يأمركم بالإخلاص للّه, لتتركوا
عوائد آبائكم, الذين تعظمون وتمشون خلفهم، فردوا الحق, بقول الضالين, ولم
يوردوا برهانا, ولا شبهة.




فأي شبهة إذا أمرت الرسل بعض الضالين, باتباع الحق, فادَّعوا أن إخوانهم,
الذين على طريقتهم, لم يزالوا عليه؟ وهذه السفاهة, ورد الحق, بأقوال
الضالين, إذا تأملت كل حق رد, فإذا هذا مآله لا يرد إلا بأقوال الضالين
من المشركين, والدهريين, والفلاسفة, والصابئين, والملحدين في دين اللّه,
المارقين, فهم أسوة كل من رد الحق إلى يوم القيامة.




ولما احتجوا بفعل آبائهم, وجعلوها دافعة لما جاءت به الرسل, طعنوا بعد
هذا بالحق، { وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا
إِفْكٌ مُفْتَرًى }
أي: كذب افتراه هذا الرجل, الذي جاء به.
{ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا
جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ }
أي: سحر ظاهر بيِّن
لكل أحد, تكذيبا بالحق, وترويجا على السفهاء.




ولما بيَّن ما ردوا به الحق, وأنها أقوال دون مرتبة الشبهة, فضلا أن تكون
حجة, ذكر أنهم وإن أراد أحد أن يحتج لهم, فإنهم لا مستند لهم, ولا لهم
شيء يعتمدون عليه أصلا, فقال: { وَمَا
آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا }
حتى تكون عمدة لهم
{ وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ
نَذِيرٍ }
حتى يكون عندهم من أقواله وأحواله, ما يدفعون به, ما
جئتهم به، فليس عندهم علم, ولا أثارة من علم.




ثم خوفهم ما فعل بالأمم المكذبين [قبلهم] فقال:
{ وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا }
أي: ما
بلغ هؤلاء المخاطبون { مِعْشَارَ مَا
آتَيْنَاهُمْ }
{ فَكَذَّبُوا }
أي: الأمم الذين من قبلهم { رُسُلِي فَكَيْفَ
كَانَ نَكِيرِ }
أي: إنكاري عليهم, وعقوبتي إياهم. قد أعلمنا ما
فعل بهم من النكال, وأن منهم من أغرقه, ومنهم من أهلكه بالريح العقيم,
وبالصيحة, وبالرجفة, وبالخسف بالأرض, وبإرسال الحاصب من السماء، فاحذروا
يا هؤلاء المكذبون, أن تدوموا على التكذيب, فيأخذكم كما أخذ من قبلكم,
ويصيبكم ما أصابهم.





{ 46 - 50 } { قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ
بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ
تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ
لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ * قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ
أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى
كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ
الْغُيُوبِ * قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا
يُعِيدُ * قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ
اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ }





أي { قُلْ } يا أيها الرسول, لهؤلاء
المكذبين المعاندين, المتصدين لرد الحق وتكذيبه, والقدح بمن جاء به:
{ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ }
أي: بخصلة واحدة, أشير عليكم بها, وأنصح لكم في سلوكها، وهي طريق نصف,
لست أدعوكم بها إلى اتباع قولي, ولا إلى ترك قولكم, من دون موجب لذلك,
وهي: { أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى
وَفُرَادَى }
أي: تنهضوا بهمة, ونشاط, وقصد لاتباع الصواب, وإخلاص
للّه, مجتمعين, ومتباحثين في ذلك, ومتناظرين, وفرادى, كل واحد يخاطب نفسه
بذلك.




فإذا قمتم للّه, مثنى وفرادى, استعملتم فكركم, وأجلتموه, وتدبرتم أحوال
رسولكم، هل هو مجنون, فيه صفات المجانين من كلامه, وهيئته, وصفته؟ أم هو
نبي صادق, منذر لكم ما يضركم, مما أمامكم من العذاب الشديد؟




فلو قبلوا هذه الموعظة, واستعملوها, لتبين لهم أكثر من غيرهم, أن رسول
اللّه صلى اللّه عليه وسلم, ليس بمجنون, لأن هيئاته ليست كهيئات
المجانين, في خنقهم, واختلاجهم, ونظرهم، بل هيئته أحسن الهيئات, وحركاته
أجل الحركات, وهو أكمل الخلق, أدبا, وسكينة, وتواضعا, ووقارا, لا يكون
[إلا] لأرزن الرجال عقلا.




ثم [إذا] تأملوا كلامه الفصيح, ولفظه المليح, وكلماته التي تملأ القلوب,
أمنا, وإيمانا, وتزكى النفوس, وتطهر القلوب, وتبعث على مكارم الأخلاق,
وتحث على محاسن الشيم, وترهب عن مساوئ الأخلاق ورذائلها، إذا تكلم رمقته
العيون, هيبة وإجلالا وتعظيما.




فهل هذا يشبه هذيان المجانين, وعربدتهم, وكلامهم الذي يشبه أحوالهم؟"




فكل من تدبر أحواله ومقصده استعلام هل هو رسول اللّه أم لا؟ سواء تفكر
وحده, أو مع غيره, جزم بأنه رسول اللّه حقا, ونبيه صدقا, خصوصا
المخاطبين, الذي هو صاحبهم يعرفون أول أمره وآخره.




وثَمَّ مانع للنفوس آخر عن اتباع الداعي إلى الحق, وهو أنه يأخذ أموال من
يستجيب له, ويأخذ أجرة على دعوته. فبين اللّه تعالى نزاهة رسوله صلى الله
عليه وسلم عن هذا الأمر فقال: { قُلْ مَا
سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ }
أي: على اتباعكم للحق
{ فَهُوَ لَكُمْ } أي: فأشهدكم أن ذلك
الأجر - على التقدير - أنه لكم، { إِنْ
أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ }

أي: محيط علمه بما أدعو إليه، فلو كنت كاذبا, لأخذني بعقوبته، وشهيد أيضا
على أعمالكم, سيحفظها عليكم, ثم يجازيكم بها.




ولما بين البراهين الدالة على صحة الحق, وبطلان الباطل, أخبر تعالى أن
هذه سنته وعادته أن { يَقْذِفُ بِالْحَقِّ
عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ }
لأنه بين
من الحق في هذا الموضع, ورد به أقوال المكذبين, ما كان عبرة للمعتبرين,
وآية للمتأملين.




فإنك كما ترى, كيف اضمحلت أقوال المكذبين, وتبين كذبهم وعنادهم, وظهر
الحق وسطع, وبطل الباطل وانقمع، وذلك بسبب بيان
{ عَلَّامُ الْغُيُوبِ }
الذي يعلم ما تنطوي عليه القلوب, من
الوساوس والشبه, ويعلم ما يقابل ذلك, ويدفعه من الحجج.




فيعلم بها عباده, ويبينها لهم, ولهذا قال: {
قُلْ جَاءَ الْحَقُّ }
أي: ظهر وبان, وصار بمنزلة الشمس, وظهر
سلطانه، { وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا
يُعِيدُ }
أي: اضمحل وبطل أمره, وذهب سلطانه, فلا يبدئ ولا يعيد.




ولما تبين الحق بما دعا إليه الرسول, وكان المكذبون له, يرمونه بالضلال,
أخبرهم بالحق, ووضحه لهم, وبين لهم عجزهم عن مقاومته, وأخبرهم أن رميهم
له بالضلال, ليس بضائر الحق شيئا, ولا دافع ما جاء به.




وأنه إن ضل - وحاشاه من ذلك, لكن على سبيل التنزل في المجادلة - فإنما
يضل على نفسه, أي: ضلاله قاصر على نفسه, غير متعد إلى غيره.




{ وَإِنِ اهْتَدَيْتُ }

فليس ذلك من نفسي, وحولي, وقوتي, وإنما هدايتي بما
{ يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي } فهو مادة
هدايتي, كما هو مادة هداية غيري. إن ربي {
سَمِيعٌ }
للأقوال والأصوات كلها {
قَرِيبٌ }
ممن دعاه وسأله وعبده.





{ 51 - 54 } { وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا
فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ * وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ
وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ * وَقَدْ كَفَرُوا
بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ *
وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ
بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ }




يقول تعالى { وَلَوْ تَرَى } أيها
الرسول, ومن قام مقامك, حال هؤلاء المكذبين، {
إِذْ فَزِعُوا }
حين رأوا العذاب, وما أخبرتهم به الرسل, وما
كذبوا به, لرأيت أمرا هائلا, ومنظرا مفظعا, وحالة منكرة, وشدة شديدة,
وذلك حين يحق عليهم العذاب.




فليس لهم عنه مهرب ولا فوت { وَأُخِذُوا مِنْ
مَكَانٍ قَرِيبٍ }
أي: ليس بعيدا عن محل العذاب, بل يؤخذون, ثم
يقذفون في النار.




{ وَقَالُوا }

في تلك الحال: { آمَنَّا } بالله وصدقنا
ما به كذبنا { و } لكن
{ أَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ } أي:
تناول الإيمان { مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ }
قد حيل بينهم وبينه, وصار من الأمور المحالة في هذه الحالة، فلو أنهم
آمنوا وقت الإمكان, لكان إيمانهم مقبولا، ولكنهم
{ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ }
أي: يرمون { بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ
}
بقذفهم الباطل, ليدحضوا به الحق، ولكن لا سبيل إلى ذلك, كما لا
سبيل للرامي, من مكان بعيد إلى إصابة الغرض، فكذلك الباطل, من المحال أن
يغلب الحق أو يدفعه, وإنما يكون له صولة, وقت غفلة الحق عنه, فإذا برز
الحق, وقاوم الباطل, قمعه.




{ وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ }

من الشهوات واللذات, والأولاد, والأموال, والخدم, والجنود، قد انفردوا
بأعمالهم, وجاءوا فرادى, كما خلقوا, وتركوا ما خولوا, وراء ظهورهم،
{ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ } من
الأمم السابقين, حين جاءهم الهلاك, حيل بينهم وبين ما يشتهون،
{ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ }
أي: محدث الريبة وقلق القلب فلذلك, لم يؤمنوا, ولم يعتبوا حين استعتبوا.




تم تفسير سورة سبأ - وللّه الحمد والمنة, والفضل, ومنه العون, وعليه
التوكل, وبه الثقة.

descriptionتفسيرالقران - صفحة 5 Emptyرد: تفسيرالقران

more_horiz
-

تفسير
سورة
ا
لأحزاب
عدد آياتها 73

(



آية


1-35
)

وهي


مدنية






{ 1 - 3 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يَا أَيُّهَا
النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ
إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ
مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا *
وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا }




أي: يا أيها الذي منَّ اللّه عليه بالنبوة، واختصه بوحيه، وفضله على سائر
الخلق، اشكر نعمة ربك عليك، باستعمال تقواه، التي أنت أولى بها من غيرك،
والتي يجب عليك منها، أعظم من سواك، فامتثل أوامره ونواهيه، وبلغ
رسالاته، وأدِّ إلى عباده وحيه، وابذل النصيحة للخلق.




ولا يصدنك عن هذا المقصود صاد، ولا يردك عنه راد، فلا تطع كل كافر، قد
أظهر العداوة للّه ورسوله، ولا منافق، قد استبطن التكذيب والكفر، وأظهر
ضده.




فهؤلاء هم الأعداء على الحقيقة، فلا تطعهم في بعض الأمور، التي تنقض
التقوى، وتناقضها، ولا تتبع أهواءهم، فيضلوك عن الصواب.




{ وَ }

لكن { اتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ
رَبِّكَ }
فإنه هو الهدى والرحمة، وَارْجُ بذلك ثواب ربك، فإنه
بما تعملون خبير، يجازيكم بحسب ما يعلمه منكم، من الخير والشر.




فإن وقع في قلبك، أنك إن لم تطعهم في أهوائهم المضلة، حصل عليك منهم ضرر،
أو حصل نقص في هداية الخلق، فادفع ذلك عن نفسك، واستعمل ما يقاومه ويقاوم
غيره، وهو التوكل على اللّه، بأن تعتمد على ربك، اعتماد من لا يملك لنفسه
ضرًا ولا نفعًا، ولا موتًا ولا حياة، ولا نشورًا، في سلامتك من شرهم، وفي
إقامة الدين، الذي أمرت به، وثق باللّه في حصول ذلك الأمر على أي: حال
كان.




{ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا }

توكل إليه الأمور، فيقوم بها، وبما هو أصلح للعبد، وذلك لعلمه بمصالح
عبده، من حيث لا يعلم العبد، وقدرته على إيصالها إليه، من حيث لا يقدر
عليها العبد، وأنه أرحم بعبده من نفسه، ومن والديه، وأرأف به من كل أحد،
خصوصًا خواص عبيده، الذين لم يزل يربيهم ببره، ويُدِرُّ عليهم بركاته
الظاهرة والباطنة، خصوصًا وقد أمره بإلقاء أموره إليه، ووعده، فهناك لا
تسأل عن كل أمر يتيسر، وصعب يسهل، وخطوب تهون، وكروب تزول، وأحوال وحوائج
تقضى، وبركات تنزل، ونقم تدفع، وشرور ترفع.




وهناك ترى العبد الضعيف، الذي فوض أمره لسيده، قد قام بأمور لا تقوم بها
أمة من الناس، وقد سهل اللّه [عليه] ما كان يصعب على فحول الرجال
وباللّه المستعان.





{ 4 - 5 } { مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ
قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي
تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ
أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ
الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ * ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ
أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ
فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ
جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ
وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا }




يعاتب تعالى [عباده] عن التكلم بما ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن
لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم وليس عليكم جناح فيما
أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم وكان الله غفورًا رحيمًا لا حقيقة له من
الأقوال، ولم يجعله الله تعالى كما قالوا،فإن ذلك القول منكم كذب وزور،
يترتب عليه منكرات من الشرع. وهذه قاعدة عامة في التكلم في كل شيء،
والإخبار بوقوع ووجود، ما لم يجعله اللّه تعالى.




ولكن خص هذه الأشياء المذكورة، لوقوعها، وشدة الحاجة إلى بيانها، فقال:
{ مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ
فِي جَوْفِهِ }
هذا لا يوجد، فإياكم أن تقولوا عن أحد: إن له
قلبين في جوفه، فتكونوا كاذبين على الخلقة الإلهية.




{ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ }

بأن يقول أحدكم لزوجته: "أنت عَليَّ كظهر أمي أو كأمي" فما جعلهن اللّه
{ أُمَّهَاتِكُمْ } أمك من ولدتك، وصارت
أعظم النساء عليك، حرمة وتحريمًا، وزوجتك أحل النساء لك، فكيف تشبه أحد
المتناقضين بالآخر؟




هذا أمر لا يجوز، كما قال تعالى: { الَّذِينَ
يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ
أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ
مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا }




{ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ }

والأدعياء، الولد الذي كان الرجل يدعيه، وهو ليس له، أو يُدْعَى إليه،
بسبب تبنيه إياه، كما كان الأمر بالجاهلية، وأول الإسلام.




فأراد اللّه تعالى أن يبطله ويزيله، فقدم بين يدي ذلك بيان قبحه، وأنه
باطل وكذب، وكل باطل وكذب، لا يوجد في شرع اللّه، ولا يتصف به عباد
اللّه.




يقول تعالى: فاللّه لم يجعل الأدعياء الذين تدعونهم، أو يدعون إليكم،
أبناءكم، فإن أبناءكم في الحقيقة، من ولدتموهم، وكانوا منكم، وأما هؤلاء
الأدعياء من غيركم، فلا جعل اللّه هذا كهذا.




{ ذَلِكُمْ }

القول، الذي تقولون في الدعي: إنه ابن فلان، الذي ادعاه، أو والده فلان
{ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ } أي: قول
لا حقيقة له ولا معنى له.




{ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ }

أي: اليقين والصدق، فلذلك أمركم باتباعه، على قوله وشرعه، فقوله، حق،
وشرعه حق، والأقوال والأفعال الباطلة، لا تنسب إليه بوجه من الوجوه،
وليست من هدايته، لأنه لا يهدي إلا إلى السبيل المستقيمة، والطرق
الصادقة.




وإن كان ذلك واقعًا بمشيئته، فمشيئته عامة، لكل ما وجد من خير وشر.




ثم صرح لهم بترك الحالة الأولى، المتضمنة للقول الباطل فقال:
{ ادْعُوهُمْ } أي: الأدعياء
{ لِآبَائِهِمْ } الذين ولدوهم
{ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ } أي:
أعدل، وأقوم، وأهدى.




{ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ }

الحقيقيين { فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ
وَمَوَالِيكُمْ }
أي: إخوتكم في دين اللّه، ومواليكم في ذلك،
فادعوهم بالأخوة الإيمانية الصادقة، والموالاة على ذلك، فترك الدعوة إلى
من تبناهم حتم، لا يجوز فعلها.




وأما دعاؤهم لآبائهم، فإن علموا، دعوا إليهم، وإن لم يعلموا، اقتصر على
ما يعلم منهم، وهو أخوة [الدين] والموالاة، فلا تظنوا أن حالة عدم علمكم
بآبائهم، عذر في دعوتهم إلى من تبناهم، لأن المحذور لا يزول بذلك.




{ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ }

بأن سبق على لسان أحدكم، دعوته إلى من تبناه، فهذا غير مؤاخذ به، أو علم
أبوه ظاهرًا، [فدعوتموه إليه] وهو في الباطن، غير أبيه، فليس عليكم في
ذلك حرج، إذا كان خطأ، { وَلَكِنْ }
يؤاخذكم { بِمَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ }
من الكلام، بما لا يجوز. { وَكَانَ اللَّهُ
غَفُورًا رَحِيمًا }
غفر لكم ورحمكم، حيث لم يعاقبكم بما سلف،
وسمح لكم بما أخطأتم به، ورحمكم حيث بيَّن لكم أحكامه التي تصلح دينكم
ودنياكم، فله الحمد تعالى.





{ 6 } { النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ
مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ
بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ
مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا }




يخبر تعالى المؤمنين، خبرًا يعرفون به حالة الرسول صلى اللّه عليه وسلم
ومرتبته، فيعاملونه بمقتضى تلك الحالة فقال: {
النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ }
أقرب ما
للإنسان، وأولى ما له نفسه، فالرسول أولى به من نفسه، لأنه عليه الصلاة
والسلام، بذل لهم من النصح، والشفقة، والرأفة، ما كان به أرحم الخلق،
وأرأفهم، فرسول اللّه، أعظم الخلق مِنَّةً عليهم، من كل أحد، فإنه لم يصل
إليهم مثقال ذرة من الخير، ولا اندفع عنهم مثقال ذرة من الشر، إلا على
يديه وبسببه.




فلذلك، وجب عليهم إذا تعارض مراد النفس، أو مراد أحد من الناس، مع مراد
الرسول، أن يقدم مراد الرسول، وأن لا يعارض قول الرسول، بقول أحد، كائنًا
من كان، وأن يفدوه بأنفسهم وأموالهم وأولادهم، ويقدموا محبته على الخلق
كلهم، وألا يقولوا حتى يقول، ولا يتقدموا بين يديه.




وهو صلى اللّه عليه وسلم، أب للمؤمنين، كما في قراءة بعض الصحابة، يربيهم
كما يربي الوالد أولاده.




فترتب على هذه الأبوة، أن كان نساؤه أمهاتهم، أي: في الحرمة والاحترام،
والإكرام، لا في الخلوة والمحرمية، وكأن هذا مقدمة، لما سيأتي في قصة زيد
بن حارثة، الذي كان قبل يُدْعَى: "زيد بن محمد" حتى أنزل اللّه
{ مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ
رِجَالِكُمْ }
فقطع نسبه، وانتسابه منه، فأخبر في هذه الآية، أن
المؤمنين كلهم، أولاد للرسول، فلا مزية لأحد عن أحد وإن انقطع عن أحدهم
انتساب الدعوة، فإن النسب الإيماني لم ينقطع عنه، فلا يحزن ولا يأسف.




وترتب على أن زوجات الرسول أمهات المؤمنين، أنهن لا يحللن لأحد من بعده،
كما الله صرح بذلك: "وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ
أَبَدًا"




{ وَأُولُو الْأَرْحَامِ }

أي: الأقارب، قربوا أو بعدوا { بَعْضُهُمْ
أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ }
[أي]: في حكمه، فيرث
بعضهم بعضًا، ويبر بعضهم بعضًا، فهم أولى من الحلف والنصرة.




والأدعياء الذين كانوا من قبل، يرثون بهذه الأسباب، دون ذوي الأرحام،
فقطع تعالى، التوارث بذلك، وجعله للأقارب، لطفًا منه وحكمة، فإن الأمر لو
استمر على العادة السابقة، لحصل من الفساد والشر، والتحيل لحرمان الأقارب
من الميراث، شيء كثير.




{ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ }

أي: سواء كان الأقارب مؤمنين مهاجرين وغير مهاجرين، فإن ذوي الأرحام
مقدمون في ذلك، وهذه الآية حجة على ولاية ذوي الأرحام، في جميع الولايات،
كولاية النكاح، والمال، وغير ذلك.




{ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا }

أي: ليس لهم حق مفروض، وإنما هو بإرادتكم، إن شئتم أن تتبرعوا لهم
تبرعًا، وتعطوهم معروفًا منكم، { كَانَ }
ذلك الحكم المذكور { فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا
}
أي: قد سطر، وكتب، وقدره اللّه، فلا بد من نفوذه.




{ 7 - 8 }

{ وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ
مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى
ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا * لِيَسْأَلَ
الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا
أَلِيمًا }




يخبر تعالى أنه أخذ من النبيين عمومًا، ومن أولي العزم -وهم، هؤلاء
الخمسة المذكورون- خصوصًا، ميثاقهم الغليظ وعهدهم الثقيل المؤكد، على
القيام بدين اللّه والجهاد في سبيله، وأن هذا سبيل، قد مشى الأنبياء
المتقدمون، حتى ختموا بسيدهم وأفضلهم، محمد صلى اللّه عليه وسلم، وأمر
الناس بالاقتداء بهم.




وسيسأل اللّه الأنبياء وأتباعهم، عن هذا العهد الغليظ هل وفوا فيه،
وصدقوا؟ فيثيبهم جنات النعيم؟ أم كفروا، فيعذبهم العذاب الأليم؟ قال
تعالى: { مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا
مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ }





{ 9 - 11 } {
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ
إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا
لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا * إِذْ
جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ
الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ
الظُّنُونَ * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا
زِلْزَالًا شَدِيدًا }




يذكر تعالى عباده المؤمنين، نعمته عليهم، ويحثهم على شكرها، حين جاءتهم
جنود أهل مكة والحجاز، من فوقهم، وأهل نجد، من أسفل منهم، وتعاقدوا
وتعاهدوا على استئصال الرسول والصحابة، وذلك في وقعة الخندق.




ومالأتهم [طوائف] اليهود، الذين حوالي المدينة، فجاءوا بجنود عظيمة وأمم
كثيرة.




وخندق رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، على المدينة، فحصروا المدينة،
واشتد الأمر، وبلغت القلوب الحناجر، حتى بلغ الظن من كثير من الناس كل
مبلغ، لما رأوا من الأسباب المستحكمة، والشدائد الشديدة، فلم يزل الحصار
على المدينة، مدة طويلة، والأمر كما وصف اللّه:
{ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ
وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ }
أي: الظنون السيئة، أن اللّه
لا ينصر دينه، ولا يتم كلمته.




{ هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ }

بهذه الفتنة العظيمة { وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا
شَدِيدًا }
بالخوف والقلق، والجوع، ليتبين إيمانهم، ويزيد
إيقانهم، فظهر -وللّه الحمد- من إيمانهم، وشدة يقينهم، ما فاقوا فيه
الأولين والآخرين.




وعندما اشتد الكرب، وتفاقمت الشدائد، صار إيمانهم عين اليقين،
{ وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ
قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ
وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا }





وهنالك تبين نفاق المنافقين، وظهر ما كانوا يضمرون قال تعالى:








{ 12 }

{ وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ
فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا
غُرُورًا }




وهذه عادة المنافق عند الشدة والمحنة، لا يثبت إيمانه، وينظر بعقله
القاصر، إلى الحالة القاصرة ويصدق ظنه.




{ وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ }

من المنافقين، بعد ما جزعوا وقلَّ صبرهم، وصاروا أيضًا من المخذولين، فلا
صبروا بأنفسهم، ولا تركوا الناس من شرهم، فقالت هذه الطائفة:
{ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ } يريدون
{ يا أهل المدينة } فنادوهم باسم الوطن
المنبئ [عن التسمية] فيه إشارة إلى أن الدين والأخوة الإيمانية، ليس له
في قلوبهم قدر، وأن الذي حملهم على ذلك، مجرد الخور الطبيعي.




{ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ }

أي: في موضعكم الذي خرجتم إليه خارج المدينة، وكانوا عسكروا دون الخندق،
وخارج المدينة، { فَارْجِعُوا } إلى
المدينة، فهذه الطائفة تخذل عن الجهاد، وتبين أنهم لا قوة لهم بقتال
عدوهم، ويأمرونهم بترك القتال، فهذه الطائفة، شر الطوائف وأضرها، وطائفة
أخرى دونهم، أصابهم الجبن والجزع، وأحبوا أن ينخزلوا عن الصفوف، فجعلوا
يعتذرون بالأعذار الباطلة، وهم الذين قال اللّه فيهم:
{ وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ
يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ }
أي: عليها الخطر، ونخاف
عليها أن يهجم عليها الأعداء، ونحن غُيَّبٌ عنها، فَأْذَنْ لنا نرجع
إليها، فنحرسها، وهم كذبة في ذلك.




{ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ }

أي: ما قصدهم { إِلَّا فِرَارًا } ولكن
جعلوا هذا الكلام، وسيلة وعذرًا. [لهم] فهؤلاء قل إيمانهم، وليس له ثبوت
عند اشتداد المحن.





{ وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ } المدينة
{ مِنْ أَقْطَارِهَا } أي: لو دخل
الكفار إليها من نواحيها، واستولوا عليها -لا كان ذلك-
{ ثُمَّ } سئل هؤلاء
{ الْفِتْنَة } أي: الانقلاب عن دينهم،
والرجوع إلى دين المستولين المتغلبين {
لَآتَوْهَا }
أي: لأعطوها مبادرين.




{ وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا }

أي: ليس لهم منعة ولا تَصلُّبٌ على الدين، بل بمجرد ما تكون الدولة
للأعداء، يعطونهم ما طلبوا، ويوافقونهم على كفرهم، هذه حالهم.





والحال أنهم قد { عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ
قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا }

سيسألهم عن ذلك العهد، فيجدهم قد نقضوه، فما ظنهم إذًا، بربهم؟




{ 16 }

{ قُلْ }




{ قُلْ }

لهم، لائمًا على فرارهم، ومخبرًا أنهم لا يفيدهم ذلك شيئًا
{ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ
فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ }
فلو كنتم في بيوتكم،
لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعكم.




والأسباب تنفع، إذا لم يعارضها القضاء والقدر، فإذا جاء القضاء والقدر،
تلاشى كل سبب، وبطلت كل وسيلة، ظنها الإنسان تنجيه.




{ وَإِذَا }

حين فررتم لتسلموا من الموت والقتل، ولتنعموا في الدنيا فإنكم
{ لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا }
متاعًا، لا يسوى فراركم، وترككم أمر اللّه، وتفويتكم على أنفسكم، التمتع
الأبدي، في النعيم السرمدي.





ثم بين أن الأسباب كلها لا تغني عن العبد شيئًا إذا أراده اللّه بسوء،
فقال: { قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ }
أي: يمنعكم { من اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ
سُوءًا }
أي: شرًا، { أَوْ أَرَادَ
بِكُمْ رَحْمَةً }
فإنه هو المعطي المانع، الضار النافع، الذي لا
يأتي بالخير إلا هو، ولا يدفع السوء إلا هو.




{ وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا }

يتولاهم، فيجلب لهم النفع { وَلَا نَصِيرًا }
أي ينصرهم، فيدفع عنهم المضار.




فَلْيَمْتَثِلُوا طاعة المنفرد بالأمور كلها، الذي نفذت مشيئته، ومضى
قدره، ولم ينفع مع ترك ولايته ونصرته، وَلِيٌّ ولا ناصر.




ثم توَّعد تعالى المخذلين المعوقين، وتهددهم فقال:
{ قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ
مِنْكُمْ }
عن الخروج، لمن [لم] يخرجوا
{ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ }
الذين خرجوا:
{ هَلُمَّ إِلَيْنَا } أي: ارجعوا، كما
تقدم من قولهم: { يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا
مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا }




وهم مع تعويقهم وتخذيلهم { وَلَا يَأْتُونَ
الْبَأْسَ }
أي: القتال والجهاد بأنفسهم
{ إِلَّا قَلِيلًا }
فهم أشد الناس حرصًا على التخلف، لعدم الداعي
لذلك، من الإيمان والصبر، ووجود المقتضى للجبن، من النفاق، وعدم الإيمان.




{ أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ }

بأبدانهم عند القتال، وبأموالهم عند النفقة فيه، فلا يجاهدون بأموالهم
وأنفسهم. { فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ
رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ }
نظر المغشى عليه
{ مِنَ الْمَوْتِ } من شدة الجبن، الذي
خلع قلوبهم، والقلق الذي أذهلهم، وخوفًا من إجبارهم على ما يكرهون، من
القتال.




{ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ }

وصاروا في حال الأمن والطمأنينة، { سَلَقُوكُمْ
بِأَلْسِنَة }
أي: خاطبوكم، وتكلموا معكم، بكلام حديد، ودعاوى غير
صحيحة.




وحين تسمعهم، تظنهم أهل الشجاعة والإقدام، {
أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ }
الذي يراد منهم، وهذا شر ما في
الإنسان، أن يكون شحيحًا بما أمر به، شحيحًا بماله أن ينفقه في وجهه،
شحيحًا في بدنه أن يجاهد أعداء اللّه، أو يدعو إلى سبيل اللّه، شحيحًا
بجاهه، شحيحًا بعلمه، ونصيحته ورأيه.




{ أُولَئِكَ }

الذين بتلك الحالة { لَمْ يُؤْمِنُوا }
بسبب عدم إيمانهم، أحبط الله أعمالهم، {
وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا }




وأما المؤمنون، فقد وقاهم اللّه، شح أنفسهم، ووفقهم لبذل ما أمروا به، من
بذل لأبدانهم في القتال في سبيله، وإعلاء كلمته، وأموالهم، للنفقة في طرق
الخير، وجاههم وعلمهم.




{ يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا }

أي: يظنون أن هؤلاء الأحزاب، الذين تحزبوا على حرب رسول اللّه صلى اللّه
عليه وسلم، وأصحابه، لم يذهبوا حتى يستأصلوهم، فخاب ظنهم، وبطل حسبانهم.




{ وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ }

مرة أخرى { يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ
فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ }
أي: لو أتى
الأحزاب مرة ثانية مثل هذه المرة، ودَّ هؤلاء المنافقون، أنهم ليسوا في
المدينة، ولا في القرب منها، وأنهم مع الأعراب في البادية، يستخبرون عن
أخباركم، ويسألون عن أنبائكم، ماذا حصل عليكم؟




فتبًا لهم، وبعدًا، فليسوا ممن يبالى بحضورهم
{ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا }
فلا
تبالوهم، ولا تأسوا عليهم.




{ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ }

حيث حضر الهيجاء بنفسه الكريمة، وباشر موقف الحرب، وهو الشريف الكامل،
والبطل الباسل، فكيف تشحون بأنفسكم، عن أمر جاد رسول اللّه صلى اللّه
عليه وسلم، بنفسه فيه؟"




فَتأَسَّوْا به في هذا الأمر وغيره.




واستدل الأصوليون في هذه الآية، على الاحتجاج بأفعال الرسول صلى اللّه
عليه وسلم، وأن الأصل، أن أمته أسوته في الأحكام، إلا ما دل الدليل
الشرعي على الاختصاص به.




فالأسوة نوعان: أسوة حسنة، وأسوة سيئة.




فالأسوة الحسنة، في الرسول صلى اللّه عليه وسلم، فإن المتأسِّي به، سالك
الطريق الموصل إلى كرامة اللّه، وهو الصراط المستقيم.




وأما الأسوة بغيره، إذا خالفه، فهو الأسوة السيئة، كقول الكفار حين
دعتهم الرسل للتأسِّي ]بهمed]{ إِنَّا
وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ
مُهْتَدُونَ }




وهذه الأسوة الحسنة، إنما يسلكها ويوفق لها، من كان يرجو اللّه، واليوم
الآخر، فإن ما معه من الإيمان، وخوف اللّه، ورجاء ثوابه، وخوف عقابه،
يحثه على التأسي بالرسول صلى اللّه عليه وسلم.




لما ذكر حالة المنافقين عند الخوف، ذكر حال المؤمنين فقال:
{ وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ
}
الذين تحزبوا، ونزلوا منازلهم، وانتهى الخوف،
{ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ
وَرَسُولُهُ }
في قوله: { أَمْ
حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ
الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ
وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ
آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ
}




{ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ }

فإنا رأينا، ما أخبرنا به { وَمَا زَادَهُمْ }
ذلك الأمر { إِلَّا إِيمَانًا } في
قلوبهم { وَتَسْلِيمًا } في جوارحهم،
وانقيادًا لأمر اللّه.




ولما ذكر أن المنافقين، عاهدوا اللّه، لا يولون الأدبار، ونقضوا ذلك
العهد، ذكر وفاء المؤمنين به، فقال: { مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ }
أي:
وفوا به، وأتموه، وأكملوه، فبذلوا مهجهم في مرضاته، وسبَّلوا أنفسهم في
طاعته.




{ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ }

أي: إرادته ومطلوبه، وما عليه من الحق، فقتل في سبيل اللّه، أو مات
مؤديًا لحقه، لم ينقصه شيئًُا.




{ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ }

تكميل ما عليه، فهو شارع في قضاء ما عليه، ووفاء نحبه ولما يكمله، وهو في
رجاء تكميله، ساع في ذلك، مجد.




{ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا }

كما بدل غيرهم، بل لم يزالوا على العهد، لا يلوون، ولا يتغيرون، فهؤلاء،
الرجال على الحقيقة، ومن عداهم، فصورهم صور رجال، وأما الصفات، فقد قصرت
عن صفات الرجال.








{ لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ }

أي: بسبب صدقهم، في أقوالهم، وأحوالهم، ومعاملتهم مع اللّه، واستواء
ظاهرهم وباطنهم، قال اللّه تعالى: { هَذَا
يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا }
الآية.




أي: قدرنا ما قدرنا، من هذه الفتن والمحن، والزلازل، ليتبين الصادق من
الكاذب، فيجزي الصادقين بصدقهم { وَيُعَذِّبَ
الْمُنَافِقِينَ }
الذين تغيرت قلوبهم وأعمالهم، عند حلول الفتن،
ولم يفوا بما عاهدوا اللّه عليه.




{ إِنْ شَاءَ }

تعذيبهم، بأن لم يشأ هدايتهم، بل علم أنهم لا خير فيهم، فلم يوفقهم.




{ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ }

بأن يوفقهم للتوبة والإنابة، وهذا هو الغالب، على كرم الكريم، ولهذا ختم
الآية باسمين دالين على المغفرة، والفضل، والإحسان فقال:
{ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رحيمًا }
غفورًا لذنوب المسرفين على أنفسهم، ولو أكثروا من العصيان، إذا أتوا
بالمتاب. { رَحِيمًا } بهم، حيث وفقهم
للتوبة، ثم قبلها منهم، وستر عليهم ما اجترحوه.





{ وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا
بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا }
أي: ردهم خائبين، لم يحصل
لهم الأمر الذي كانوا حنقين عليه، مغتاظين قادرين ]عليه[ جازمين، بأن
لهم الدائرة، قد غرتهم جموعهم، وأعجبوا بتحزبهم، وفرحوا بِعَدَدِهمْ
وعُدَدِهِمْ.




فأرسل اللّه عليهم، ريحًا عظيمة، وهي ريح الصبا، فزعزعت مراكزهم،
وقوَّضت خيامهم، وكفأت قدورهم وأزعجتهم، وضربهم اللّه بالرعب، فانصرفوا
بغيظهم، وهذا من نصر اللّه لعباده المؤمنين.




{ وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ }

بما صنع لهم من الأسباب العادية والقدرية، {
وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا }
لا يغالبه أحد إلا غُلِبَ،
ولا يستنصره أحد إلا غَلَبَ، ولا يعجزه أمر أراده، ولا ينفع أهل القوة
والعزة، قوتهم وعزتهم، إن لم يعنهم بقوته وعزته.








{ وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ }

أي عاونوهم { مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ }
أي: اليهود { مِنْ صَيَاصِيهِمْ } أي:
أنزلهم من حصونهم، نزولاً مظفورًا بهم، مجعولين تحت حكم الإسلام.




{ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ }

فلم يقووا على القتال، بل استسلموا وخضعوا وذلوا.
{ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ } وهم الرجال
المقاتلون { وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا }
مَنْ عداهم من النساء والصبيان.





{ وَأَوْرَثَكُمْ } أي: غنَّمكم
{ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ
وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا }
أي: أرضا كانت من قبل، من شرفها
وعزتها عند أهلها، لا تتمكنون من وطئها، فمكنكم اللّه وخذلهم، وغنمتم
أموالهم، وقتلتموهم، وأسرتموهم.




{ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا }

لا يعجزه شيء، ومن قدرته، قدَّر لكم ما قدر.




وكانت هذه الطائفة من أهل الكتاب، هم بنو قريظة من اليهود، في قرية خارج
المدينة، غير بعيدة، وكان النبي صلى اللّه عليه وسلم، [حين] هاجر إلى
المدينة، وادعهم، وهادنهم، فلم يقاتلهم ولم يقاتلوه، وهم باقون على
دينهم، لم يغير عليهم شيئًا.




فلما رأوا يوم الخندق، الأحزاب الذين تحزبوا على رسول اللّه وكثرتهم،
وقلة المسلمين، وظنوا أنهم سيستأصلون الرسول والمؤمنين، وساعد على ذلك،
[تدجيل] بعض رؤسائهم عليهم، فنقضوا العهد الذي بينهم وبين رسول اللّه
صلى اللّه عليه وسلم، ومالؤوا المشركين على قتاله.




فلما خذل اللّه المشركين، تفرغ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، لقتالهم،
فحاصرهم في حصنهم، فنزلوا على حكم سعد بن معاذ رضي اللّه عنه، فحكم فيهم،
أن تقتل مقاتلتهم، وتسبى ذراريهم، وتغنم أموالهم.




فأتم اللّه لرسوله والمؤمنين، المنة، وأسبغ عليهم النعمة، وأَقَرَّ
أعينهم، بخذلان من انخذل من أعدائهم، وقتل من قتلوا، وأسر من أسروا، ولم
يزل لطف اللّه بعباده المؤمنين مستمرًا.




{ 28 - 29 } { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ
كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ
أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا * وَإِنْ كُنْتُنَّ
تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ
أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا }




لما اجتمع نساء رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في الغيرة، وطلبن منه
النفقة والكسوة، طلبن منه أمرًا لا يقدر عليه في كل وقت، ولم يزلن في
طلبهن متفقات، في مرادهن متعنتات، شَقَّ ذلك على الرسول، حتى وصلت به
الحال إلى أنه آلى منهن شهرًا.




فأراد اللّه أن يسهل الأمر على رسوله، وأن يرفع درجة زوجاته، ويُذْهِبَ
عنهن كل أمر ينقص أجرهن، فأمر رسوله أن يخيرهن فقال:
{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ
إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا }
أي: ليس لكن في
غيرها مطلب، وصرتن ترضين لوجودها، وتغضبن لفقدها، فليس لي فيكن أرب
وحاجة، وأنتن بهذه الحال.




{ فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ }

شيئا مما عندي، من الدنيا { وَأُسَرِّحْكُنَّ }
أي: أفارقكن { سَرَاحًا جَمِيلًا } من
دون مغاضبة ولا مشاتمة، بل بسعة صدر، وانشراح بال، قبل أن تبلغ الحال إلى
ما لا ينبغي.




{ وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ
}

أي: هذه الأشياء مرادكن، وغاية مقصودكن، وإذا حصل لَكُنَّ اللّه ورسوله
والجنة، لم تبالين بسعة الدنيا وضيقها، ويسرها وعسرها، وقنعتن من رسول
اللّه بما تيسر، ولم تطلبن منه ما يشق عليه، {
فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا }

رتب الأجر على وصفهن بالإحسان، لأنه السبب الموجب لذلك، لا لكونهن زوجات
للرسول فإن مجرد ذلك، لا يكفي، بل لا يفيد شيئًا، مع عدم الإحسان،
فخيَّرهن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في ذلك، فاخترن اللّه ورسوله،
والدار الآخرة، كلهن، ولم يتخلف منهن واحدة، رضي اللّه عنهن.




وفي هذا التخيير فوائد عديدة:




منها: الاعتناء برسوله، وغيرته عليه، أن يكون بحالة يشق عليه كثرة مطالب
زوجاته الدنيوية.




ومنها: سلامته صلى اللّه عليه وسلم، بهذا التخيير من تبعة حقوق الزوجات،
وأنه يبقى في حرية نفسه، إن شاء أعطى، وإن شاء منع
{ مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ
فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ }




ومنها: تنزيهه عما لو كان فيهن، من تؤثر الدنيا على اللّه ورسوله، والدار
الآخرة، وعن مقارنتها.




ومنها: سلامة زوجاته، رضي اللّه عنهن، عن الإثم، والتعرض لسخط اللّه
ورسوله.




فحسم اللّه بهذا التخيير عنهن، التسخط على الرسول، الموجب لسخطه، المسخط
لربه، الموجب لعقابه.




ومنها: إظهار رفعتهن، وعلو درجتهن، وبيان علو هممهن، أن كان اللّه ورسوله
والدار الآخرة، مرادهن ومقصودهن، دون الدنيا وحطامها.




ومنها: استعدادهن بهذا الاختيار، للأمر الخيار للوصول إلى خيار درجات
الجنة، وأن يَكُنَّ زوجاته في الدنيا والآخرة.




ومنها: ظهور المناسبة بينه وبينهن، فإنه أكمل الخلق، وأراد اللّه أن تكون
نساؤه كاملات مكملات، طيبات مطيبات {
وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ }





ومنها: أن هذا التخيير داع، وموجب للقناعة، التي يطمئن لها القلب، وينشرح
لها الصدر، ويزول عنهن جشع الحرص، وعدم الرضا الموجب لقلق القلب
واضطرابه، وهمه وغمه.




ومنها: أن يكون اختيارهن هذا، سببًا لزيادة أجرهن ومضاعفته، وأن يَكُنَّ
بمرتبة، ليس فيها أحد من النساء، ولهذا قال:




تفسير الجزء الثاني والعشرون



{ 30 - 31 } { يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ
مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى
اللَّهِ يَسِيرًا *وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ
وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا
لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا }





لما اخترن اللّه ورسوله والدار الآخرة، ذكر مضاعفة أجرهن، ومضاعفة وزرهن
وإثمهن، لو جرى منهن، ليزداد حذرهن، وشكرهن اللّه تعالى، فجعل من أتى
منهن بفاحشة ظاهرة، لها العذاب ضعفين.




{ وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ }

أي: تطيع { لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ
صَالِحًا }
قليلا أو كثيرًا، {
نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ }
أي: مثل ما نعطي غيرها مرتين،
{ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا }
وهي الجنة، فقنتن للّه ورسوله، وعملن صالحًا، فعلم بذلك أجرهن.






{ 32 - 34 } { يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ
لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ
بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا
مَعْ

descriptionتفسيرالقران - صفحة 5 Emptyرد: تفسيرالقران

more_horiz
تابع
-


تفسير
سورة
ا
لأحزاب
عدد آياتها 73

(
آية
36-73

)

وهي مدنية






{ 36 ْ} { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ
وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ
وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا ْ}




أي: لا ينبغي ولا يليق، ممن اتصف بالإيمان، إلا الإسراع في مرضاة اللّه
ورسوله، والهرب من سخط اللّه ورسوله، وامتثال أمرهما، واجتناب نهيهما،
فلا يليق بمؤمن ولا مؤمنة { إِذَا قَضَى
اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا ْ}
من الأمور، وحتَّما به وألزما به
{ أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ
أَمْرِهِمْ ْ}
أي: الخيار، هل يفعلونه أم لا؟ بل يعلم المؤمن
والمؤمنة، أن الرسول أولى به من نفسه، فلا يجعل بعض أهواء نفسه حجابًا
بينه وبين أمر اللّه ورسوله.




{ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا ْ}

أي: بَيِّنًا، لأنه ترك الصراط المستقيم الموصلة إلى كرامة اللّه، إلى
غيرها، من الطرق الموصلة للعذاب الأليم، فذكر أولاً السبب الموجب لعدم
معارضته أمر اللّه ورسوله، وهو الإيمان، ثم ذكر المانع من ذلك، وهو
التخويف بالضلال، الدال على العقوبة والنكال.





{ 37 ْ} { وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ
اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ
وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ
وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى
زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى
الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا
مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا ْ}





وكان سبب نزول هذه الآيات، أن اللّه تعالى أراد أن يشرع شرعًا عامًا
للمؤمنين، أن الأدعياء ليسوا في حكم الأبناء حقيقة، من جميع الوجوه وأن
أزواجهم، لا جناح على من تبناهم، في نكاحهن.




وكان هذا من الأمور المعتادة، التي لا تكاد تزول إلا بحادث كبير، فأراد
أن يكون هذا الشرع قولاً من رسوله، وفعلاً، وإذا أراد اللّه أمرًا، جعل
له سببًا، وكان زيد بن حارثة يدعى "زيد بن محمد" قد تبناه النبي صلى
اللّه عليه وسلم، فصار يدعى إليه حتى نزل {
ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ ْ}
فقيل له: "زيد بن حارثة" .




وكانت تحته، زينب بنت جحش، ابنة عمة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم،
وكان قد وقع في قلب الرسول، لو طلقها زيد، لتزوَّجها، فقدر اللّه أن يكون
بينها وبين زيد، ما اقتضى أن جاء زيد بن حارثة يستأذن النبي صلى اللّه
عليه وسلم في فراقها.




قال اللّه: { وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ
اللَّهُ عَلَيْهِ ْ}
أي: بالإسلام {
وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ ْ}
بالعتق حين جاءك مشاورًا في فراقها:
فقلت له ناصحًا له ومخبرًا بمصلحته مع وقوعها في قلبك:
{ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ ْ} أي: لا
تفارقها، واصبر على ما جاءك منها، { وَاتَّقِ
اللَّهَ ْ}
تعالى في أمورك عامة، وفي أمر زوجك خاصة، فإن التقوى،
تحث على الصبر، وتأمر به.




{ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ ْ}

والذي أخفاه، أنه لو طلقها زيد، لتزوجها صلى اللّه عليه وسلم.




{ وَتَخْشَى النَّاسَ ْ}

في عدم إبداء ما في نفسك { وَاللَّهُ أَحَقُّ
أَنْ تَخْشَاهُ ْ}
وأن لا تباليهم شيئًا،
{ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا ْ}
أي: طابت نفسه، ورغب عنها، وفارقها. {
زَوَّجْنَاكَهَا ْ}
وإنما فعلنا ذلك، لفائدة عظيمة، وهي:
{ لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ
حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ ْ}
حيث رأوك تزوجت، زوج زيد
بن حارثة، الذي كان من قبل، ينتسب إليك.




ولما كان قوله: { لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى
الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ ْ}
عامًا في
جميع الأحوال، وكان من الأحوال، ما لا يجوز ذلك، وهي قبل انقضاء وطره
منها، قيد ذلك بقوله: { إِذَا قَضَوْا
مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا ْ}
أي: لا
بد من فعله، ولا عائق له ولا مانع.




وفي هذه الآيات المشتملات على هذه القصة، فوائد، منها: الثناء على زيد بن
حارثة، وذلك من وجهين:




أحدهما: أن اللّه سماه في القرآن، ولم يسم من الصحابة باسمه غيره.




والثاني: أن اللّه أخبر أنه أنعم عليه، أي: بنعمة الإسلام والإيمان. وهذه
شهادة من اللّه له أنه مسلم مؤمن، ظاهرًا وباطنًا، وإلا، فلا وجه لتخصيصه
بالنعمة، لولا أن المراد بها، النعمة الخاصة.




ومنها: أن المُعْتَق في نعمة الْمُعْتِق.




ومنها: جواز تزوج زوجة الدَّعِيّ، كما صرح به.




ومنها: أن التعليم الفعلي، أبلغ من القولي، خصوصا، إذا اقترن بالقول، فإن
ذلك، نور على نور.




ومنها: أن المحبة التي في قلب العبد، لغير زوجته ومملوكته، ومحارمه، إذا
لم يقترن بها محذور، لا يأثم عليها العبد، ولو اقترن بذلك أمنيته، أن لو
طلقها زوجها، لتزوجها من غير أن يسعى في فرقة بينهما، أو يتسبب بأي سبب
كان، لأن اللّه أخبر أن الرسول صلى اللّه عليه وسلم، أخفى ذلك في نفسه.




ومنها: أن الرسول صلى اللّه عليه وسلم، قد بلغ البلاغ المبين، فلم يدع
شيئًا مما أوحي إليه، إلا وبلغه، حتى هذا الأمر، الذي فيه عتابه.




وهذا يدل، على أنه رسول اللّه، ولا يقول إلا ما أوحي إليه، ولا يريد
تعظيم نفسه.




ومنها: أن المستشار مؤتمن، يجب عليه -إذا استشير في أمر من الأمور- أن
يشير بما يعلمه أصلح للمستشير ولو كان له حظ نفس، فتقدم مصلحة المستشير
على هوى نفسه وغرضه.




ومنها: أن من الرأي: الحسن لمن استشار في فراق زوجته أن يؤمر بإمساكها
مهما أمكن صلاح الحال، فهو أحسن من الفرقة.




ومنها: [أنه يتعين] أن يقدم العبد خشية اللّه، على خشية الناس، وأنها
أحق منها وأولى.




ومنها: فضيلة زينب رضي اللّه عنها أم المؤمنين، حيث تولى اللّه تزويجها،
من رسوله صلى اللّه عليه وسلم، من دون خطبة ولا شهود، ولهذا كانت تفتخر
بذلك على أزواج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وتقول زوجكن أهاليكن،
وزوجني اللّه من فوق سبع سماوات.




ومنها: أن المرأة، إذا كانت ذات زوج، لا يجوز نكاحها، ولا السعي فيه وفي
أسبابه، حتى يقضي زوجها وطره منها، ولا يقضي وطره، حتى تنقضي عدتها،
لأنها قبل انقضاء عدتها، هي في عصمته، أو في حقه الذي له وطر إليها، ولو
من بعض الوجوه.





{ 38 - 39 ْ} { مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ
مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ
خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا *
الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا
يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا ْ}





هذا دفع لطعن من طعن في الرسول صلى اللّه عليه وسلم، في كثرة أزواجه،
وأنه طعن، بما لا مطعن فيه، فقال: { مَا كَانَ
عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ ْ}
أي: إثم وذنب.
{ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ ْ} أي:
قدر له من الزوجات، فإن هذا، قد أباحه اللّه للأنبياء قبله، ولهذا قال:
{ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ
قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا ْ}
أي: لا بد
من وقوعه.




ثم ذكر من هم الذين من قبل قد خلوا، وهذه سنتهم وعادتهم، وأنهم
{ الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ
ْ}
فيتلون على العباد آيات اللّه، وحججه وبراهينه، ويدعونهم إلى
اللّه { وَيَخْشَوْنَهُ ْ} وحده لا شريك
له { وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا ْ} إلا
اللّه.




فإذا كان هذا، سنة في الأنبياء المعصومين، الذين وظيفتهم قد أدوها وقاموا
بها، أتم القيام، وهو: دعوة الخلق إلى اللّه، والخشية منه وحده التي
تقتضي فعل كل مأمور، وترك كل محظور، دل ذلك على أنه لا نقص فيه بوجه.




{ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا ْ}

محاسبًا عباده، مراقبًا أعمالهم. وعلم من هذا، أن النكاح، من سنن
المرسلين.





{ 40 ْ} { مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ
مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ
وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ْ}




أي: لم يكن الرسول { مُحَمَّدٌ ْ} صلى
اللّه عليه وسلم { أَبَا أَحَدٍ مِنْ
رِجَالِكُمْ ْ}
أيها الأمة فقطع انتساب زيد بن حارثة منه، من هذا
الباب.




ولما كان هذا النفي عامًّا في جميع الأحوال، إن حمل ظاهر اللفظ على
ظاهره، أي: لا أبوة نسب، ولا أبوة ادعاء، وقد كان تقرر فيما تقدم أن
الرسول صلى اللّه عليه وسلم، أب للمؤمنين كلهم، وأزواجه أمهاتهم، فاحترز
أن يدخل في هذا النوع، بعموم النهي المذكور، فقال:
{ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ
النَّبِيِّينَ ْ}
أي: هذه مرتبته مرتبة المطاع المتبوع، المهتدى
به، المؤمن له الذي يجب تقديم محبته، على محبة كل أحد، الناصح الذي لهم،
أي: للمؤمنين، من بره [ونصحه] كأنه أب لهم.




{ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ْ}

أي: قد أحاط علمه بجميع الأشياء، ويعلم حيث يجعل رسالاته، ومن يصلح
لفضله، ومن لا يصلح.





{ 41 - 44 ْ} { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا
* هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ
الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا *
َْتَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا
كَرِيمًا }




يأمر تعالى المؤمنين، بذكره ذكرا كثيرًا، من تهليل، وتحميد، وتسبيح،
وتكبير وغير ذلك، من كل قول فيه قربة إلى اللّه، وأقل ذلك، أن يلازم
الإنسان، أوراد الصباح، والمساء، وأدبار الصلوات الخمس، وعند العوارض
والأسباب.




وينبغي مداومة ذلك، في جميع الأوقات، على جميع الأحوال، فإن ذلك عبادة
يسبق بها العامل، وهو مستريح، وداع إلى محبة اللّه ومعرفته، وعون على
الخير، وكف اللسان عن الكلام القبيح.




{ وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا }

أي: أول النهار وآخره، لفضلها، وشرفها، وسهولة العمل فيها.





{ 43} هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ
وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ
وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا * }








أي: من رحمته بالمؤمنين ولطفه بهم، أن جعل من صلاته عليهم، وثنائه، وصلاة
ملائكته ودعائهم، ما يخرجهم من ظلمات الذنوب والجهل، إلى نور الإيمان،
والتوفيق، والعلم، والعمل، فهذه أعظم نعمة، أنعم بها على العباد
الطائعين، تستدعي منهم شكرها، والإكثار من ذكر اللّه، الذي لطف بهم
ورحمهم، وجعل حملة عرشه، أفضل الملائكة، ومن حوله، يسبحون بحمد ربهم
ويستغفرون للذين آمنوا فيقولون: { رَبَّنَا
وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا
وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ رَبَّنَا
وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُم وَمَنْ صَلَحَ مِنْ
آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ
الْحَكِيمُ وَقِهِمْ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِي السَّيِّئَاتِ
يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ }





فهذه رحمته ونعمته عليهم في الدنيا.




وأما رحمته بهم في الآخرة، فأجل رحمة، وأفضل ثواب، وهو الفوز برضا ربهم،
وتحيته، واستماع كلامه الجليل، ورؤية وجهه الجميل، وحصول الأجر الكبير،
الذي لا يدري ولا يعرف كنهه، إلا من أعطاهم إياه، ولهذا قال:
{ تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ
وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا }





{ 45 - 48 } { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا
أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى
اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا * وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ
بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا * وَلَا تُطِعِ
الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى
اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا }




هذه الأشياء، التي وصف الله بها رسوله محمدًا صلى اللّه عليه وسلم، هي
المقصود من رسالته، وزبدتها وأصولها، التي اختص بها، وهي خمسة أشياء:
أحدها: كونه { شَاهِدًا } أي: شاهدًا
على أمته بما عملوه، من خير وشر، كما قال تعالى:
{ لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ
وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا }

{ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ
بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا }
فهو صلى
اللّه عليه وسلم شاهد عدل مقبول.




الثاني، والثالث: كونه { مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا
}
وهذا يستلزم ذكر المبشر والمنذر، وما يبشر به وينذر، والأعمال
الموجبة لذلك.




فالمبشَّر هم: المؤمنون المتقون، الذين جمعوا بين الإيمان والعمل الصالح،
وترك المعاصي، لهم البشرى في الحياة الدنيا، بكل ثواب دنيوي وديني، رتب
على الإيمان والتقوى، وفي الأخرى بالنعيم المقيم.




وذلك كله يستلزم، ذكر تفصيل المذكور، من تفاصيل الأعمال، وخصال التقوى،
وأنواع الثواب.




والْمنْذَر هم، هم: المجرمون الظالمون، أهل الظلم والجهل، لهم النذارة في
الدنيا، من العقوبات الدنيوية والدينية، المترتبة على الجهل والظلم، وفي
الأخرى، بالعقاب الوبيل، والعذاب الطويل.




وهذه الجملة تفصيلها، ما جاء به صلى اللّه عليه وسلم، من الكتاب والسنة،
المشتمل على ذلك.




الرابع: كونه { دَاعِيًا إِلَى اللَّهِ }
أي: أرسله اللّه، يدعو الخلق إلى ربهم، ويسوقهم لكرامته، ويأمرهم
بعبادته، التي خلقوا لها، وذلك يستلزم استقامته، على ما يدعو إليه، وذكر
تفاصيل ما يدعو إليه، بتعريفهم لربهم بصفاته المقدسة، وتنزيهه عما لا
يليق بجلاله، وذكر أنواع العبودية، والدعوة إلى اللّه بأقرب طريق موصل
إليه، وإعطاء كل ذي حق حقه، وإخلاص الدعوة إلى اللّه، لا إلى نفسه
وتعظيمها، كما قد يعرض ذلك لكثير من النفوس في هذا المقام، وذلك كله
بِإِذْنِ الله تعالى له في الدعوة وأمره وإرادته وقدره.




الخامس: كونه { سِرَاجًا مُنِيرًا }
وذلك يقتضي أن الخلق في ظلمة عظيمة، لا نور، يهتدى به في ظلماتها، ولا
علم، يستدل به في جهالاتها حتى جاء اللّه بهذا النبي الكريم، فأضاء
اللّه به تلك الظلمات، وعلم به من الجهالات، وهدى به ضُلَّالًا إلى
الصراط المستقيم.




فأصبح أهل الاستقامة، قد وضح لهم الطريق، فمشوا خلف هذا الإمام وعرفوا به
الخير والشر، وأهل السعادة من أهل الشقاوة، واستناروا به، لمعرفة
معبودهم، وعرفوه بأوصافه الحميدة، وأفعاله السديدة، وأحكامه الرشيدة.




وقوله: { وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ
لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا }
ذكر في هذه الجملة،
المبشَّر، وهم المؤمنون، وعند ذكر الإيمان بمفرده، تدخل فيه الأعمال
الصالحة.




وذكر المبشَّر به، وهو الفضل الكبير، أي: العظيم الجليل، الذي لا يقادر
قدره، من النصر في الدنيا، وهداية القلوب، وغفران الذنوب، وكشف الكروب،
وكثرة الأرزاق الدَّارَّة، وحصول النعم السارة، والفوز برضا ربهم وثوابه،
والنجاة من سخطه وعقابه.




وهذا مما ينشط العاملين، أن يذكر لهم، من ثواب اللّه على أعمالهم، ما به
يستعينون على سلوك الصراط المستقيم، وهذا من جملة حكم الشرع، كما أن من
حكمه، أن يذكر في مقام الترهيب، العقوبات المترتبة على ما يرهب منه،
ليكون عونًا على الكف عما حرم اللّه.




ولما كان ثَمَّ طائفة من الناس، مستعدة للقيام بصد الداعين إلى اللّه، من
الرسل وأتباعهم، وهم المنافقون، الذين أظهروا الموافقة في الإيمان، وهم
كفرة فجرة في الباطن، والكفار ظاهرًا وباطنًا، نهى اللّه رسوله عن
طاعتهم، وحذره ذلك فقال: { وَلَا تُطِعِ
الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ }
أي: في كل أمر يصد عن سبيل
اللّه، ولكن لا يقتضي هذا أذاهم، م [color=red]
{ وَدَعْ أَذَاهُمْ }
] فإن ذلك، جالب لهم، وداع إلى قبول
الإسلام، وإلى كف كثير من أذيتهم له، ولأهله.




{ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ }

في إتمام أمرك، وخذلان عدوك، { وَكَفَى
بِاللَّهِ وَكِيلًا }
تُوكَلُ إليه الأمور المهمة، فيقوم بها،
ويسهلها على عبده.




{ 49 } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ
الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ
فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ
وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا }




يخبر تعالى المؤمنين، أنهم إذا نكحوا المؤمنات، ثم طلقوهن من قبل أن
يمسوهن، فليس عليهن في ذلك، عدة يعتدها أزواجهن عليهن، وأمرهم بتمتيعهن
بهذه الحالة، بشيء من متاع الدنيا، الذي يكون فيه جبر لخواطرهن، لأجل
فراقهن، وأن يفارقوهن فراقًا جميلاً، من غير مخاصمة، ولا مشاتمة، ولا
مطالبة، ولا غير ذلك.




ويستدل بهذه الآية، على أن الطلاق، لا يكون إلا بعد النكاح. فلو طلقها
قبل أن ينكحها، أو علق طلاقها على نكاحها، لم يقع، لقوله:
{ إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ
طَلَّقْتُمُوهُنَّ }
فجعل الطلاق بعد النكاح، فدل على أنه قبل
ذلك، لا محل له.




وإذا كان الطلاق الذي هو فرقة تامة، وتحريم تام، لا يقع قبل النكاح،
فالتحريم الناقص، لظهار، أو إيلاء ونحوه، من باب أولى وأحرى، أن لا يقع
قبل النكاح، كما هو أصح قَوْلي العلماء.




ويدل على جواز الطلاق، لأن اللّه أخبر به عن المؤمنين، على وجه لم يلمهم
عليه، ولم يؤنبهم، مع تصدير الآية بخطاب المؤمنين.




وعلى جوازه قبل المسيس، كما قال في الآية الأخرى
{ لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ
النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ }




وعلى أن المطلقة قبل الدخول، لا عدة عليها، بل بمجرد طلاقها، يجوز لها
التزوج، حيث لا مانع، وعلى أن عليها العدة، بعد الدخول.




وهل المراد بالدخول والمسيس، الوطء كما هو مجمع عليه؟ أو وكذلك الخلوة،
ولو لم يحصل معها وطء، كما أفتى بذلك الخلفاء الراشدون، وهو الصحيح. فمن
دخل عليها، وطئها، أم لا، إذا خلا بها، وجب عليها العدة.




وعلى أن المطلقة قبل المسيس، تمتع على الموسع قدره، وعلى المقتر قدره،
ولكن هذا، إذا لم يفرض لها مهر، فإن كان لها مهر مفروض، فإنه إذا طلق قبل
الدخول، تَنَصَّف المهر، وكفى عن المتعة، وعلى أنه ينبغي لمن فارق زوجته
قبل الدخول أو بعده، أن يكون الفراق جميلاً، يحمد فيه كل منهما الآخر.




ولا يكون غير جميل، فإن في ذلك، من الشر المرتب عليه، من قدح كل منهما
بالآخر، شيء كثير.




وعلى أن العدة حق للزوج، لقوله: { فَمَا لَكُمْ
عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ }
دل مفهومه، أنه لو طلقها بعد المسيس،
كان له عليها عدة مفارقة بالوفاة، تعتد مطلقًا، لقوله:
[color=red]{ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ }
الآية]




وعلى أن من عدا غير المدخول بها، من المفارقات من الزوجات، بموت أو حياة،
عليهن العدة.





{ 50 } { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا
أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا
مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ
وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي
هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا
لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً
لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ
فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ
عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا }




يقول تعالى، ممتنًا على رسوله بإحلاله له ما أحل مما يشترك فيه، هو
والمؤمنون، وما ينفرد به، ويختص: { يَا
أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي
آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ }
أي: أعطيتهن مهورهن، من الزوجات، وهذا من
الأمور المشتركة بينه وبين المؤمنين، [فإن المؤمنين] كذلك يباح لهم ما
آتوهن أجورهن، من الأزواج.




{ و }

كذلك أحللنا لك { مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ }
أي: الإماء التي ملكت { مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ
عَلَيْكَ }
من غنيمة الكفار من عبيدهم، والأحرار من لهن زوج منهم،
ومن لا زوج لهن، وهذا أيضا مشترك.




وكذلك من المشترك، قوله { وَبَنَاتِ عَمِّكَ
وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ }

شمل العم والعمة، والخال والخالة، القريبين والبعيدين، وهذا حصر
المحللات.




يؤخذ من مفهومه، أن ما عداهن من الأقارب، غير محلل، كما تقدم في سورة
النساء، فإنه لا يباح من الأقارب من النساء، غير هؤلاء الأربع، وما عداهن
من الفروع مطلقًا، والأصول مطلقًا، وفروع الأب والأم، وإن نزلوا، وفروع
من فوقهم لصلبه، فإنه لا يباح.




وقوله { اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ }
قيد لحل هؤلاء للرسول، كما هو الصواب من القولين، في تفسير هذه الآية،
وأما غيره عليه الصلاة والسلام، فقد علم أن هذا قيد لغير الصحة.




{ و }

أحللنا لك { وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ
وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ }
بمجرد هبتها نفسها.




{ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا }

أي: هذا تحت الإرادة والرغبة، { خَالِصَةً لَكَ
مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ }
يعني: إباحة الموهبة وأما المؤمنون،
فلا يحل لهم أن يتزوجوا امرأة، بمجرد هبتها نفسها لهم.




{ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا
مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ }

أي: قد علمنا ما على المؤمنين، وما يحل لهم، وما لا يحل، من الزوجات وملك
اليمين. وقد علمناهم بذلك، وبينا فرائضه.




فما في هذه الآية، مما يخالف ذلك، فإنه خاص لك، لكون اللّه جعله خطابًا
للرسول وحده بقوله: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ
إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ }
إلى آخر الآية.




وقوله: { خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ
الْمُؤْمِنِينَ }
وأبحنا لك يا أيها النبي ما لم نبح لهم، ووسعنا
لك ما لم نوسع على غيرك، { لِكَيْلَا يَكُونَ
عَلَيْكَ حَرَجٌ }
وهذا من زيادة اعتناء اللّه تعالى برسوله صلى
اللّه عليه وسلم.




{ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا }

أي: لم يزل متصفًا بالمغفرة والرحمة، وينزل على عباده من مغفرته ورحمته،
وجوده وإحسانه، ما اقتضته حكمته، ووجدت منهم أسبابه.




{ 51 } { تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ
تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ
ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ
بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ
وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا }




وهذا أيضًا من توسعة اللّه على رسوله ورحمته به، أن أباح له ترك القسم
بين زوجاته، على وجه الوجوب، وأنه إن فعل ذلك، فهو تبرع منه، ومع ذلك،
فقد كان صلى اللّه عليه وسلم يجتهد في القسم بينهن في كل شيء، ويقول
"اللهم هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما لا أملك" .




فقال هنا: { تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ }
[أي: تؤخر من أردت من زوجاتك فلا تؤويها إليك، ولا تبيت عندها]
{ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ }
أي: تضمها وتبيت عندها.




{ و }

مع ذلك لا يتعين هذا الأمر { مَنِ ابْتَغَيْتَ
}
أي: أن تؤويها { فَلَا جُنَاحَ
عَلَيْكَ }
والمعنى أن الخيرة بيدك في ذلك كله [وقال كثير من
المفسرين: إن هذا خاص بالواهبات، له أن يرجي من يشاء، ويؤوي من يشاء، أي:
إن شاء قبل من وهبت نفسها له، وإن شاء لم يقبلها، واللّه أعلم]





ثم بين الحكمة في ذلك فقال: { ذَلِكَ }
أي: التوسعة عليك، وكون الأمر راجعًا إليك وبيدك، وكون ما جاء منك إليهن
تبرعًا منك { أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ
أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ
كُلُّهُنَّ }
لعلمهن أنك لم تترك واجبًا، ولم تفرط في حق لازم.




{ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ }

أي: ما يعرض لها عند أداء الحقوق الواجبة والمستحبة، وعند المزاحمة في
الحقوق، فلذلك شرع لك التوسعة يا رسول اللّه، لتطمئن قلوب زوجاتك.




{ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا
حَلِيمًا }

أي: واسع العلم، كثير الحلم. ومن علمه، أن شرع لكم ما هو أصلح لأموركم،
وأكثر لأجوركم. ومن حلمه، أن لم يعاقبكم بما صدر منكم، وما أصرت عليه
قلوبكم من الشر.





{ 52 } { لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ
بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ
حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ
شَيْءٍ رَقِيبًا }




وهذا شكر من اللّه، الذي لم يزل شكورًا، لزوجات رسوله، رضي اللّه عنهن،
حيث اخترن اللّه ورسوله، والدار الآخرة، أن رحمهن، وقصر رسوله عليهن
فقال: { لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ
بَعْدُ }
زوجاتك الموجودات { وَلَا أَنْ
تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ }
أي: ولا تطلق بعضهن، فتأخذ
بدلها.




فحصل بهذا، أمنهن من الضرائر، ومن الطلاق، لأن اللّه قضى أنهن زوجاته في
الدنيا والآخرة، لا يكون بينه وبينهن فرقة.




{ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ }

أي: حسن غيرهن، فلا يحللن لك { إِلَّا مَا
مَلَكَتْ يَمِينُكَ }
أي: السراري، فذلك جائز لك، لأن المملوكات،
في كراهة الزوجات، لسن بمنزلة الزوجات، في الإضرار للزوجات.
{ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا
}
أي: مراقبًا للأمور، وعالمًا بما إليه تؤول، وقائمًا بتدبيرها
على أكمل نظام، وأحسن إحكام.





{ 53 - 54 } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى
طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا
فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ
ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا
يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا
فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ
وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا
أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ
عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا * إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ
اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا }




يأمر تعالى عباده المؤمنين، بالتأدب مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم،
في دخول بيوته فقال: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ
إِلَى طَعَامٍ }
أي: لا تدخلوها بغير إذن للدخول فيها، لأجل
الطعام. وأيضًا لا تكونوا { نَاظِرِينَ إِنَاهُ
}
أي: منتظرين ومتأنين لانتظار نضجه، أو سعة صدر بعد الفراغ منه.
والمعنى: أنكم لا تدخلوا بيوت النبي إلا بشرطين:




الإذن لكم بالدخول، وأن يكون جلوسكم بمقدار الحاجة، ولهذا قال:
{ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا
فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ }

أي: قبل الطعام وبعده.




ثم بين حكمة النهي وفائدته فقال: { إِنَّ
ذَلِكُمْ }
أي: انتظاركم الزائد على الحاجة،
{ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ } أي: يتكلف
منه ويشق عليه حبسكم إياه عن شئون بيته، واشتغاله فيه
{ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ } أن يقول
لكم: { اخرجوا } كما هو جاري العادة، أن
الناس -وخصوصًا أهل الكرم منهم- يستحيون أن يخرجوا الناس من مساكنهم،
{ و } لكن {
اللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ }




فالأمر الشرعي، ولو كان يتوهم أن في تركه أدبا وحياء، فإن الحزم كل
الحزم، اتباع الأمر الشرعي، وأن يجزم أن ما خالفه، ليس من الأدب في شيء.
واللّه تعالى لا يستحي أن يأمركم، بما فيه الخير لكم، والرفق لرسوله
كائنًا ما كان.




فهذا أدبهم في الدخول في بيوته، وأما أدبهم معه في خطاب زوجاته، فإنه،
إما أن يحتاج إلى ذلك، أو لا يحتاج إليه، فإن لم يحتج إليه، فلا حاجة
إليه، والأدب تركه، وإن احتيج إليه، كأن يسألن متاعًا، أو غيره من أواني
البيت أو نحوها، فإنهن يسألن { مِنْ وَرَاءِ
حِجَابٍ }
أي: يكون بينكم وبينهن ستر، يستر عن النظر، لعدم الحاجة
إليه.




فصار النظر إليهن ممنوعًا بكل حال، وكلامهن فيه التفصيل، الذي ذكره
اللّه، ثم ذكر حكمة ذلك بقوله: { ذَلِكُمْ
أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ }
لأنه أبعد عن الريبة،
وكلما بعد الإنسان عن الأسباب الداعية إلى الشر، فإنه أسلم له، وأطهر
لقلبه.




فلهذا، من الأمور الشرعية التي بين اللّه كثيرًا من تفاصيلها، أن جميع
وسائل الشر وأسبابه ومقدماته، ممنوعة، وأنه مشروع، البعد عنها، بكل طريق.




ثم قال كلمة جامعة وقاعدة عامة: { وَمَا كَانَ
لَكُمْ }
يا معشر المؤمنين، أي: غير لائق ولا مستحسن منكم، بل هو
أقبح شيء { أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ }
أي: أذية قولية أو فعلية، بجميع ما يتعلق به، {
وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا }
هذا
من جملة ما يؤذيه، فإنه صلى اللّه عليه وسلم، له مقام التعظيم، والرفعة
والإكرام، وتزوج زوجاته [بعده] مخل بهذا المقام.




وأيضا، فإنهن زوجاته في الدنيا والآخرة، والزوجية باقية بعد موته، فلذلك
لا يحل نكاح زوجاته بعده، لأحد من أمته. {
إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا }
وقد امتثلت هذه
الأمة، هذا الأمر، واجتنبت ما نهى اللّه عنه منه، وللّه الحمد والشكر.




ثم قال تعالى: { إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا }
أي تظهروه { أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ
كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا }
يعلم ما في قلوبكم، وما
أظهرتموه، فيجازيكم عليه.




{ 55 } { لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ
وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ
أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ
وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا }




لما ذكر أنهن لا يسألن متاعًا إلا من وراء حجاب، وكان اللفظ عامًا [لكل
أحد] احتيج أن يستثنى منه هؤلاء المذكورون، من المحارم، وأنه
{ لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ } في عدم
الاحتجاب عنهم.




ولم يذكر فيها الأعمام، والأخوال، لأنهن إذا لم يحتجبن عمن هن عماته ولا
خالاته، من أبناء الإخوة والأخوات، مع رفعتهن عليهم، فعدم احتجابهن عن
عمهن وخالهن، من باب أولى، ولأن منطوق الآية الأخرى، المصرحة بذكر العم
والخال، مقدمة، على ما يفهم من هذه الآية.




وقوله { وَلَا نِسَائِهِنَّ } أي: لا
جناح عليهن ألا يحتجبن عن نسائهن، أي: اللاتي من جنسهن في الدين، فيكون
ذلك مخرجًا لنساء الكفار، ويحتمل أن المراد جنس النساء، فإن المرأة لا
تحتجب عن المرأة. { وَلَا مَا مَلَكَتْ
أَيْمَانُهُنَّ }
ما دام العبد في ملكها جميعه.




ولما رفع الجناح عن هؤلاء، شرط فيه وفي غيره، لزوم تقوى اللّه، وأن لا
يكون في محذور شرعي فقال: { وَاتَّقِينَ
اللَّهَ }
أي: استعملن تقواه في جميع الأحوال
{ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
شَهِيدًا }
يشهد أعمال العباد، ظاهرها وباطنها، ويسمع أقوالهم،
ويرى حركاتهم، ثم يجازيهم على ذلك، أتم الجزاء وأوفاه.





{ 56 } { إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ
يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا
عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا }




وهذا فيه تنبيه على كمال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، ورفعة درجته،
وعلو منزلته عند اللّه وعند خلقه، ورفع ذكره. و
{ إِنَّ اللَّهَ }
تعالى {
وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ }
عليه، أي: يثني اللّه عليه بين
الملائكة، وفي الملأ الأعلى، لمحبته تعالى له، وتثني عليه الملائكة
المقربون، ويدعون له ويتضرعون.




{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا
تَسْلِيمًا }

اقتداء باللّه وملائكته، وجزاء له على بعض حقوقه عليكم، وتكميلاً
لإيمانكم، وتعظيمًا له صلى اللّه عليه وسلم، ومحبة وإكرامًا، وزيادة في
حسناتكم، وتكفيرًا من سيئاتكم وأفضل هيئات الصلاة عليه عليه الصلاة
والسلام، ما علم به أصحابه: "اللّهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت
على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت
على آل إبراهيم إنك حميد مجيد" وهذا الأمر بالصلاة والسلام عليه مشروع في
جميع الأوقات، وأوجبه كثير من العلماء في الصلاة





{ 57 - 58 } { إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ
اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ
وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا * وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ
الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ
احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا }




لما أمر تعالى بتعظيم رسوله صلى اللّه عليه وسلم، والصلاة والسلام عليه،
نهى عن أذيته، وتوعد عليها فقال: { إِنَّ
الَّذِ

descriptionتفسيرالقران - صفحة 5 Emptyرد: تفسيرالقران

more_horiz
-

تفسير
سورة
ا
لسجدة
عدد آياتها 30

(



آية



1-30

)

وهي مكية






{ 1 - 3 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الم * تَنْزِيلُ
الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَمْ يَقُولُونَ
افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا
أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ }




يخبر تعالى أن هذا الكتاب الكريم، أنه تنزيل من رب العالمين، الذي رباهم
بنعمته.




ومن أعظم ما رباهم به، هذا الكتاب، الذي فيه كل ما يصلح أحوالهم، ويتمم
أخلاقهم، وأنه لا ريب فيه، ولا شك، ولا امتراء، ومع ذلك قال المكذبون
للرسول الظالمون في ذلك: افتراه محمد، واختلقه من عند نفسه، وهذا من أكبر
الجراءة على إنكار كلام اللّه، ورمي محمد صلى اللّه عليه وسلم، بأعظم
الكذب، وقدرة الخلق على كلام مثل كلام الخالق.




وكل واحد من هذه من الأمور العظائم، قال اللّه - رادًا على من قال:
افتراه:-




{ بَلْ هُوَ الْحَقُّ }

الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد.
{ مِنْ رَبِّكَ } أنزله رحمة للعباد
{ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ
نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ }
أي: في حالة ضرورة وفاقة لإرسال الرسول،
وإنزال الكتاب، لعدم النذير، بل هم في جهلهم يعمهون، وفي ظلمة ضلالهم
يترددون، فأنزلنا الكتاب عليك { لَعَلَّهُمْ
يَهْتَدُونَ }
من ضلالهم، فيعرفون الحق فيؤثرونه.




وهذه الأشياء التي ذكرها اللّه كلها، مناقضة لتكذيبهم له: وإنها تقتضي
منهم الإيمان والتصديق التام به، وهو كونه {
مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ }
وأنه {
الْحَقُّ }
والحق مقبول على كل حال، وأنه
{ لَا رَيْبَ فِيهِ } بوجه من الوجوه،
فليس فيه، ما يوجب الريبة، لا بخبر لا يطابق للواقع ولا بخفاء واشتباه
معانيه، وأنهم في ضرورة وحاجة إلى الرسالة، وأن فيه الهداية لكل خير
وإحسان.





{ 4 - 9 } { اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ
اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا
شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ * يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ
إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ
أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ * ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ
وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ * الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ
خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلَ
نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ * ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ
فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ
وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ }




يخبر تعالى عن كمال قدرته بخلق { السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ }
أولها، يوم
الأحد، وآخرها الجمعة، مع قدرته على خلقها بلحظة، ولكنه تعالى رفيق حكيم.




{ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ }

الذي هو سقف المخلوقات، استواء يليق بجلاله.




{ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ }

يتولاكم، في أموركم، فينفعكم { وَلَا شَفِيع }
يشفع لكم، إن توجه عليكم العقاب.




{ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ }

فتعلمون أن خالق الأرض والسماوات، المستوي على العرش العظيم، الذي انفرد
بتدبيركم، وتوليكم، وله الشفاعة كلها، هو المستحق لجميع أنواع العبادة.




{ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ }

القدري والأمر الشرعي، الجميع هو المتفرد بتدبيره، نازلة تلك التدابير من
عند المليك القدير { مِنَ السَّمَاءِ إِلَى
الْأَرْضِ }
فَيُسْعِدُ بها ويُشْقِي، ويُغْنِي ويُفْقِرُ،
ويُعِزُّ، ويُذِلُّ، ويُكرِمُ، ويُهِينُ، ويرفع أقوامًا، ويضع آخرين،
ويُنزِّل الأرزاق.




{ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ }

أي: الأمر ينزل من عنده، ويعرج إليه { فِي
يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ }
وهو
يعرج إليه، ويصله في لحظة.




{ ذَلِكَ }

الذي خلق تلك المخلوقات العظيمة، الذي استوى على العرش العظيم، وانفرد
بالتدابير في المملكة، { عَالِمُ الْغَيْبِ
وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ }
فبسعة علمه، وكمال عزته،
وعموم رحمته، أوجدها، وأودع فيها، من المنافع ما أودع، ولم يعسر عليه
تدبيرها.




{ الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ }

أي: كل مخلوق خلقه اللّه، فإن اللّه أحسن خلقه، وخلقه خلقًا يليق به،
ويوافقه، فهذا عام.




ثم خص الآدمي لشرفه وفضله فقال: { وَبَدَأَ
خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ }
وذلك بخلق آدم عليه السلام، أبي
البشر.




{ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ }

أي: ذرية آدم ناشئة { مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ }
وهو النطفة المستقذرة الضعيفة.




{ ثُمَّ سَوَّاهُ }

بلحمه، وأعضائه، وأعصابه، وعروقه، وأحسن خلقته، ووضع كل عضو منه، بالمحل
الذي لا يليق به غيره، { وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ
رُوحِهِ }
بأن أرسل إليه الملك، فينفخ فيه الروح، فيعود




بإذن اللّه، حيوانا، بعد أن كان جمادًا.




{ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ }

أي: ما زال يعطيكم من المنافع شيئًا فشيئا، حتى أعطاكم السمع والأبصار
{ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ }
الذي خلقكم وصوركم.





{ 10 - 11 } { وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي
الْأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ
كَافِرُونَ * قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ
بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ }




أي: قال المكذبون بالبعث على وجه الاستبعاد: {
أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ }
أي: بَلِينَا وتمزقنا، وتفرقنا
في المواضع التي لا تُعْلَمُ.




{ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ }

أي: لمبعوثون بعثًا جديدًا بزعمهم أن هذا من أبعد الأشياء، وذلك لقياسهم
قدرة الخالق، بقدرهم.




وكلامهم هذا، ليس لطلب الحقيقة، وإنما هو ظلم، وعناد، وكفر بلقاء ربهم
وجحد، ولهذا قال: { بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ
رَبِّهِمْ كَافِرُون }
فكلامهم علم مصدره وغايته، وإلا، فلو كان
قصدهم بيان الحق، لَبَيَّنَ لهم من الأدلة القاطعة على ذلك، ما يجعله
مشاهداً للبصيرة، بمنزلة الشمس للبصر.




ويكفيهم، أنهم معهم علم أنهم قد ابتدئوا من العدم، فالإعادة أسهل من
الابتداء، وكذلك الأرض الميتة، ينزل اللّه عليها المطر، فتحيا بعد موتها،
وينبت به متفرق بذورها.




{ قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ }

أي: جعله اللّه وكيلاً على قبض الأرواح، وله أعوان.
{ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ }
فيجازيكم بأعمالكم، وقد أنكرتم البعث، فانظروا ماذا يفعل اللّه بكم.




{ 12 - 14 } { وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ
عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا
نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ * وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ
نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ
جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ * فَذُوقُوا بِمَا
نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا
عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ }




لما ذكر تعالى رجوعهم إليه يوم القيامة، ذكر حالهم في مقامهم بين [يديه]
فقال: { وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ }
الذين أصروا على الذنوب العظيمة، { نَاكِسُو
رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ }
خاشعين خاضعين أذلاء، مقرين
بجرمهم، سائلين الرجعة قائلين: { رَبَّنَا
أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا }
أي: بأن لنا الأمر، ورأيناه عيانًا،
فصار عين يقين.




{ فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ }

أي: صار عندنا الآن، يقين بما [كنا] نكذب به، أي: لرأيت أمرا فظيعًا،
وحالاً مزعجة، وأقوامًا خاسرين، وسؤلًا غير مجاب، لأنه قد مضى وقت
الإمهال.




وكل هذا بقضاء اللّه وقدره، حيث خلى بينهم وبين الكفر والمعاصي، فلهذا
قال: { وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ
هُدَاهَا }
أي: لهدينا الناس كلهم، وجمعناهم على الهدى، فمشيئتنا
صالحة لذلك، ولكن الحكمة، تأبى أن يكونوا كلهم على الهدى، ولهذا قال:
{ وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي }
أي: وجب، وثبت ثبوتًا لا تغير فيه.




{ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ }

فهذا الوعد، لا بد منه، ولا محيد عنه، فلا بد من تقرير أسبابه من الكفر
والمعاصي.




{ فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا }

أي: يقال للمجرمين، الذين ملكهم الذل، وسألوا الرجعة إلى الدنيا،
ليستدركوا ما فاتهم، قد فات وقت الرجوع ولم يبق إلا العذاب، فذوقوا
العذاب الأليم، بما نسيتم لقاء يومكم هذا، وهذا النسيان نسيان ترك، أي:
بما أعرضتم عنه، وتركتم العمل له، وكأنكم غير قادمين عليه، ولا ملاقيه.




{ إِنَّا نَسِينَاكُمْ }

أي: تركناكم بالعذاب، جزاء من جنس عملكم، فكما نَسِيتُمْ نُسِيتُمْ،
{ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ } أي:
العذاب غير المنقطع، فإن العذاب إذا كان له أجل وغاية، كان فيه بعض
التنفيس والتخفيف، وأما عذاب جهنم - أعاذنا اللّه منه - فليس فيه روح
راحة، ولا انقطاع لعذابهم فيها. { بِمَا
كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ }
من الكفر والفسوق والمعاصي.





{ 15 - 17 } { إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا
الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ
رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ * تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ
الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا
رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ
مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ }





لما ذكر تعالى الكافرين بآياته، وما أعد لهم من العذاب، ذكر المؤمنين
بها، ووصفهم، وما أعد لهم من الثواب، فقال: {
إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا }
[أي] إيمانًا حقيقيًا، من يوجد
منه شواهد الإيمان، وهم: { الَّذِينَ إِذَا
ذُكِّرُوا }
بآيات ربهم فتليت عليهم آيات القرآن، وأتتهم النصائح
على أيدي رسل اللّه، ودُعُوا إلى التذكر، سمعوها فقبلوها، وانقادوا، و
{ خَرُّوا سُجَّدًا } أي: خاضعين لها،
خضوع ذكر للّه، وفرح بمعرفته.




{ وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ }

لا بقلوبهم، ولا بأبدانهم، فيمتنعون من الانقياد لها، بل متواضعون لها،
قد تلقوها بالقبول، والتسليم، وقابلوها بالانشراح والتسليم، وتوصلوا بها
إلى مرضاة الرب الرحيم، واهتدوا بها إلى الصراط المستقيم.




{ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ }

أي: ترتفع جنوبهم، وتنزعج عن مضاجعها اللذيذة، إلى ما هو ألذ عندهم منه
وأحب إليهم، وهو الصلاة في الليل، ومناجاة اللّه تعالى.




ولهذا قال: { يَدْعُونَ رَبَّهُمْ } أي:
في جلب مصالحهم الدينية والدنيوية، ودفع مضارهما.
{ خَوْفًا وَطَمَعًا } أي: جامعين بين
الوصفين، خوفًا أن ترد أعمالهم، وطمعًا في قبولها، خوفًا من عذاب اللّه،
وطمعًا في ثوابه.




{ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ }

من الرزق، قليلاً كان أو كثيرًا { يُنْفِقُونَ
}
ولم يذكر قيد النفقة، ولا المنفق عليه، ليدل على العموم، فإنه
يدخل فيه، النفقة الواجبة، كالزكوات، والكفارات، ونفقة الزوجات والأقارب،
والنفقة المستحبة في وجوه الخير، والنفقة والإحسان المالي، خير مطلقًا،
سواء وافق غنيًا أو فقيرًا، قريبًا أو بعيدًا، ولكن الأجر يتفاوت، بتفاوت
النفع، فهذا عملهم.




وأما جزاؤهم، فقال: { فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ }
يدخل فيه جميع نفوس الخلق، لكونها نكرة في سياق النفي. أي: فلا يعلم أحد
{ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ }
من الخير الكثير، والنعيم الغزير، والفرح والسرور، واللذة والحبور، كما
قال تعالى على لسان رسوله: "أعددت لعبادي الصالحين، ما لا عين رأت، ولا
أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر"




فكما صلوا في الليل، ودعوا، وأخفوا العمل، جازاهم من جنس عملهم، فأخفى
أجرهم، ولهذا قال: { جَزَاءً بِمَا كَانُوا
يَعْمَلُونَ }





{ 18 - 20 } { أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ
كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ * أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا
يَعْمَلُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ
كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ
لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ }




ينبه تعالى، العقول على ما تقرر فيها، من عدم تساوي المتفاوتين
المتباينين، وأن حكمته تقتضي عدم تساويهما فقال:
{ أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا } قد عمر
قلبه بالإيمان، وانقادت جوارحه لشرائعه، واقتضى إيمانه آثاره وموجباته،
من ترك مساخط اللّه، التي يضر وجودها بالإيمان.




{ كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا }

قد خرب قلبه، وتعطل من الإيمان، فلم يكن فيه وازع ديني، فأسرعت جوارحه
بموجبات الجهل والظلم، من كل إثم ومعصية، وخرج بفسقه عن طاعة الله.




أفيستوي هذان الشخصان؟.




{ لَا يَسْتَوُونَ }

عقلاً وشرعًا، كما لا يستوي الليل والنهار، والضياء والظلمة، وكذلك لا
يستوي ثوابهما في الآخرة.




{ وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ }

من فروض ونوافل { فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى
}
أي: الجنات التي هي مأوى اللذات، ومعدن الخيرات، ومحل الأفراح،
ونعيم القلوب، والنفوس، والأرواح، ومحل الخلود، وجوار الملك المعبود،
والتمتع بقربه، والنظر إلى وجهه، وسماع خطابه.




{ نُزُلًا }

لهم أي: ضيافة، وقِرًى { بِمَا كَانُوا
يَعْمَلُونَ }
فأعمالهم التي تفضل اللّه بها عليهم، هي التي
أوصلتهم لتلك المنازل الغالية العالية، التي لا يمكن التوصل إليها ببذل
الأموال، ولا بالجنود والخدم، ولا بالأولاد، بل ولا بالنفوس والأرواح،
ولا يتقرب إليها بشيء




أصلا، سوى الإيمان والعمل الصالح.




{ وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ }

أي: مقرهم ومحل خلودهم، النار التي جمعت كل عذاب وشقاء، ولا يُفَتَّرُ
عنهم العقاب ساعة.




{ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا }

فكلما حدثتهم إرادتهم بالخروج، لبلوغ العذاب منهم كل مبلغ، ردوا إليها،
فذهب عنهم روح ذلك الفرج، واشتد عليهم الكرب.




{ وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ
تُكَذِّبُونَ }

فهذا عذاب النار، الذي يكون فيه مقرهم ومأواهم، وأما العذاب الذي قبل
ذلك، ومقدمة له وهو عذاب البرزخ، فقد ذكر بقوله:




{ 21 } { وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ
الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ }








أي: ولنذيقن الفاسقين المكذبين، نموذجًا من العذاب الأدنى، وهو عذاب
البرزخ، فنذيقهم طرفًا منه، قبل أن يموتوا، إما بعذاب بالقتل ونحوه، كما
جرى لأهل بدر من المشركين، وإما عند الموت، كما في قوله تعالى
{ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي
غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا
أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ }
ثم يكمل
لهم العذاب الأدنى في برزخهم.




وهذه الآية من الأدلة على إثبات عذاب القبر، ودلالتها ظاهرة، فإنه قال:
{ وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ
الْأَدْنَى }
أي: بعض وجزء منه، فدل على أن ثَمَّ عذابًا أدنى قبل
العذاب الأكبر، وهو عذاب النار.




ولما كانت الإذاقة من العذاب الأدنى في الدنيا، قد لا يتصل بها الموت،
فأخبر تعالى أنه يذيقهم ذلك لعلهم يرجعون إليه ويتوبون من ذنوبهم كما قال
تعالى: { ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ
وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ
الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ }





{ 22 } { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ
بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ
مُنْتَقِمُونَ }




أي: لا أحد أظلم، وأزيد تعديًا، ممن ذكر بآيات ربه، التي أوصلها إليه
ربه، الذي يريد تربيته، وتكميل نعمته على أيدي رسله، تأمره، وتذكره
مصالحه الدينية والدنيوية، وتنهاه عن مضاره الدينية والدنيوية، التي
تقتضي أن يقابلها بالإيمان والتسليم، والانقياد والشكر، فقابلها هذا
الظالم بضد ما ينبغي، فلم يؤمن بها، ولا اتبعها، بل أعرض عنها وتركها
وراء ظهره، فهذا من أكبر المجرمين، الذين يستحقون شديد النقمة، ولهذا
قال: { إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ
مُنْتَقِمُونَ }





{ 23 - 25 } { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى
الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ
هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ * وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ
بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ * إِنَّ
رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا
فِيهِ يَخْتَلِفُونَ }




لما ذكر تعالى، آياته التي ذكر بها عباده، وهو: القرآن، الذي أنزله على
محمد صلى اللّه عليه وسلم، ذكر أنه ليس ببدع من الكتب، ولا من جاء به،
بغريب من الرسل، فقد آتى الله موسى الكتاب الذي هو التوراة المصدقة
للقرآن، التي قد صدقها القرآن، فتطابق حقهما، وثبت برهانهما،
{ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ }
لأنه قد تواردت أدلة الحق وبيناته، فلم يبق للشك والمرية، محل.




{ وَجَعَلْنَاهُ }

أي: الكتاب الذي آتيناه موسى { هُدًى لِبَنِي
إِسْرَائِيلَ }
يهتدون به في أصول دينهم، وفروعه وشرائعه موافقة
لذلك الزمان، في بني إسرائيل.




وأما هذا القرآن الكريم، فجعله اللّه هداية للناس كلهم، لأنه هداية
للخلق، في أمر دينهم ودنياهم، إلى يوم القيامة، وذلك لكماله وعلوه
{ وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا
لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ }




{ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ }

أي: من بني إسرائيل { أَئِمَّةً يَهْدُونَ
بِأَمْرِنَا }
أي: علماء بالشرع، وطرق الهداية، مهتدين في أنفسهم،
يهدون غيرهم بذلك الهدى، فالكتاب الذي أنزل إليهم، هدى، والمؤمنون به
منهم، على قسمين: أئمة يهدون بأمر اللّه، وأتباع مهتدون بهم.




والقسم الأول أرفع الدرجات بعد درجة النبوة والرسالة، وهي درجة الصديقين،
وإنما نالوا هذه الدرجة العالية بالصبر على التعلم والتعليم، والدعوة إلى
اللّه، والأذى في سبيله، وكفوا أنفسهم عن جماحها في المعاصي، واسترسالها
في الشهوات.




{ وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ }

أي: وصلوا في الإيمان بآيات اللّه، إلى درجة اليقين، وهو العلم التام،
الموجب للعمل، وإنما وصلوا إلى درجة اليقين، لأنهم تعلموا تعلمًا صحيحًا،
وأخذوا المسائل عن أدلتها المفيدة لليقين.




فما زالوا يتعلمون المسائل، ويستدلون عليها بكثرة الدلائل، حتى وصلوا
لذاك، فبالصبر واليقين، تُنَالُ الإمامة في الدين.




وثَمَّ مسائل اختلف فيها بنو إسرائيل، منهم من أصاب فيها الحق، ومنهم من
أخطأه خطأ، أو عمدًا، واللّه تعالى { يَفْصِلُ
بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ }

وهذا القرآن يقص على بني إسرائيل، بعض الذي يختلفون فيه، فكل خلاف وقع
بينهم، ووجد في القرآن تصديق لأحد القولين، فهو الحق، وما عداه مما
خالفه، باطل.





{ 26 - 27 } { أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ
أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي
مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ * أَوَلَمْ
يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ
بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا
يُبْصِرُونَ }




يعني: أولم يتبين لهؤلاء المكذبين للرسول، ويهدهم إلى الصواب.
{ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلَهُمْ مِنَ
الْقُرُونِ }
الذين سلكوا مسلكهم، {
يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ }
فيشاهدونها عيانًا، كقوم هود،
وصالح، وقوم لوط.




{ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ }

يستدل بها، على صدق الرسل، التي جاءتهم، وبطلان ما هم عليه، من الشرك
والشر، وعلى أن من فعل مثل فعلهم، فُعِلَ بهم، كما فُعِلَ بأشياعه من
قبل.




وعلى أن اللّه تعالى مجازي العباد، وباعثهم للحشر والتناد.
{ أَفَلَا يَسْمَعُونَ } آيات اللّه،
فيعونها، فينتفعون بها، فلو كان لهم سمع صحيح، وعقل رجيح، لم يقيموا على
حالة يجزم بها، بالهلاك.




{ أَوَلَمْ يَرَوْا }

بأبصارهم نعمتنا، وكمال حكمتنا { أَنَّا
نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ }
التي لا نبات فيها،
فيسوق اللّه المطر، الذي لم يكن قبل موجودًا فيها، فيفرغه فيها، من
السحاب، أو من الأنهار. { فَنُخْرِجُ بِهِ
زَرْعًا }
أي: نباتًا، مختلف الأنواع {
تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ }
وهو نبات البهائم
{ وَأَنْفُسهمْ } وهو طعام الآدميين.




{ أَفَلَا يُبْصِرُونَ }

تلك المنة، التي أحيا اللّه بها البلاد والعباد، فيستبصرون فيهتدون بذلك
البصر، وتلك البصيرة، إلى الصراط المستقيم، ولكن غلب عليهم العمى،
واستولت عليهم الغفلة، فلم يبصروا في ذلك، بصر الرجال، وإنما نظروا إلى
ذلك، نظر الغفلة، ومجرد العادة، فلم يوفقوا للخير.





{ 28 - 30 } { وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا
الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا
يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ *
فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ }





أي: يستعجل المجرمون بالعذاب، الذي وعدوا به على التكذيب، جهلاً منهم
ومعاندة.




{ وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ }

الذي يفتح بيننا وبينكم، بتعذيبنا على زعمكم {
إِنْ كُنْتُمْ }
أيها الرسل {
صَادِقِينَ }
في دعواكم.




{ قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ }

الذي يحصل به عقابكم، لا تستفيدون به شيئًا، فلو كان إذا حصل، حصل
إمهالكم، لتستدركوا ما فاتكم، حين صار الأمر عندكم يقينًا، لكان لذلك
وجه، ولكن إذا جاء يوم الفتح، انقضى الأمر، ولم يبق للمحنة محل فـ
{ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا
إِيمَانُهُمْ }
لأنه صار إيمان ضرورة، {
وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ }
أي: يمهلون، فيؤخر عنهم العذاب،
فيستدركون أمرهم.




{ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ }

لما وصل خطابهم إلى حالة الجهل، واستعجال العذاب.
{ وَانْتَظِرْ } الأمر الذي يحل بهم،
فإنه لا بد منه، ولكن له أجل، إذا جاء لا يتقدم ولا يتأخر.
{ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ } بك ريب
المنون، ومتربصون بكم دوائر السوء، والعاقبة للتقوى.




تم تفسير سورة السجدة - بحول اللّه ومنه فله تعالى كمال الحمد والثناء
والمجد.

descriptionتفسيرالقران - صفحة 5 Emptyرد: تفسيرالقران

more_horiz
-

تفسير
سورة


لقمان

عدد آياتها 34


(


آية 1
-34
)

وهي مكية






{ 1 - 5 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الم * تِلْكَ آيَاتُ
الْكِتَابِ الْحَكِيمِ * هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ * الَّذِينَ
يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ
يُوقِنُونَ * أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ
الْمُفْلِحُونَ }




يشير تعالى إشارة دالة على التعظيم إلى {
آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ }
أي: آياته محكمة، صدرت من حكيم
خبير.




من إحكامها، أنها جاءت بأجل الألفاظ وأفصحها، وأبينها، الدالة على أجل
المعاني وأحسنها.




ومن إحكامها، أنها محفوظة من التغيير والتبديل، والزيادة والنقص،
والتحريف.




ومن إحكامها: أن جميع ما فيها من الأخبار السابقة واللاحقة، والأمور
الغيبية كلها، مطابقة للواقع، مطابق لها الواقع، لم يخالفها كتاب من
الكتب الإلهية، ولم يخبر بخلافها، نبي من الأنبياء، [ولم يأت ولن يأتي
علم محسوس ولا معقول صحيح، يناقض ما دلت عليه]




ومن إحكامها: أنها ما أمرت بشيء، إلا وهو خالص المصلحة، أو راجحها، ولا
نهت عن شيء، إلا وهو خالص المفسدة أو راجحها، وكثيرا ما يجمع بين الأمر
بالشيء، مع ذكر [حكمته] فائدته، والنهي عن الشيء، مع ذكر مضرته.




ومن إحكامها: أنها جمعت بين الترغيب والترهيب، والوعظ البليغ، الذي تعتدل
به النفوس الخيرة، وتحتكم، فتعمل بالحزم.




ومن إحكامها: أنك تجد آياته المتكررة، كالقصص، والأحكام ونحوها، قد اتفقت
كلها وتواطأت، فليس فيها تناقض، ولا اختلاف. فكلما ازداد بها البصير
تدبرا، وأعمل فيها العقل تفكرا، انبهر عقله، وذهل لبه من التوافق
والتواطؤ، وجزم جزما لا يمترى فيه، أنه تنزيل من حكيم حميد.




ولكن - مع أنه حكيم - يدعو إلى كل خلق كريم، وينهى عن كل خلق لئيم، أكثر
الناس محرومون الاهتداء به، معرضون عن الإيمان والعمل به، إلا من وفقه
اللّه تعالى وعصمه، وهم المحسنون في عبادة ربهم والمحسنون إلى الخلق.




فإنه { هُدًى } لهم، يهديهم إلى الصراط
المستقيم، ويحذرهم من طرق الجحيم، { وَرَحْمَة
}
لهم، تحصل لهم به السعادة في الدنيا والآخرة، والخير الكثير،
والثواب الجزيل، والفرح والسرور، ويندفع عنهم الضلال والشقاء.




ثم وصف المحسنين بالعلم التام، وهو اليقين الموجب للعمل والخوف من عقاب
اللّه، فيتركون معاصيه، ووصفهم بالعمل، وخص من العمل، عملين فاضلين:
الصلاة المشتملة على الإخلاص، ومناجاة اللّه تعالى، والتعبد العام للقلب
واللسان، والجوارح المعينة، على سائر الأعمال، والزكاة التي تزكي صاحبها
من الصفات الرذيلة، وتنفع أخاه المسلم، وتسد حاجته، ويبين بها أن العبد
يؤثر محبة اللّه على محبته للمال، فيخرجه محبوبه من المال، لما هو أحب
إليه، وهو طلب مرضاة اللّه.




فـ { أُولَئِكَ } هم المحسنون الجامعون
بين العلم التام، والعمل { عَلَى هُدًى }
أي: عظيم كما يفيده التنكير، وذلك الهدى حاصل لهم، وواصل إليهم
{ مِنْ رَبِّهِمْ } الذي لم يزل يربيهم
بالنعم; ويدفع عنهم النقم.




وهذا الهدى الذي أوصله إليهم، من تربيته الخاصة بأوليائه، وهو أفضل أنواع
التربية. { وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }
الذين أدركوا رضا ربهم، وثوابه الدنيوي والأخروي، وسلموا من سخطه وعقابه،
وذلك لسلوكهم طريق الفلاح، الذي لا طريق له غيرها.




ولما ذكر تعالى المهتدين بالقرآن، المقبلين عليه، ذكر من أعرض عنه، ولم
يرفع به رأسا، وأنه عوقب على ذلك، بأن تعوض عنه كل باطل من القول، فترك
أعلى الأقوال، وأحسن الحديث، واستبدل به أسفل قول وأقبحه، فلذلك قال:





{ 6 - 9 } { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي
لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ
وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ * وَإِذَا
تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ
يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ
أَلِيمٍ * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ
جَنَّاتُ النَّعِيمِ * خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }




أي: { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ } هو محروم
مخذول { يَشْتَرِي } أي: يختار ويرغب
رغبة من يبذل الثمن في الشيء. { لَهْوَ
الْحَدِيثِ }
أي: الأحاديث الملهية للقلوب، الصادَّة لها عن أجلِّ
مطلوب. فدخل في هذا كل كلام محرم، وكل لغو، وباطل، وهذيان من الأقوال
المرغبة في الكفر، والفسوق، والعصيان، ومن أقوال الرادين على الحق،
المجادلين بالباطل ليدحضوا به الحق، ومن غيبة، ونميمة، وكذب، وشتم، وسب،
ومن غناء ومزامير شيطان، ومن الماجريات الملهية، التي لا نفع فيها في دين
ولا دنيا.




فهذا الصنف من الناس، يشتري لهو الحديث، عن هدي الحديث
{ لِيُضِلَّ } الناس
{ بِغَيْرِ عِلْمٍ } أي: بعدما ضل
بفعله، أضل غيره، لأن الإضلال، ناشئ عن الضلال.




وإضلاله في هذا الحديث; صده عن الحديث النافع، والعمل النافع، والحق
المبين، والصراط المستقيم.




ولا يتم له هذا، حتى يقدح في الهدى والحق، ويتخذ آيات اللّه هزوا ويسخر
بها، وبمن جاء بها، فإذا جمع بين مدح الباطل والترغيب فيه، والقدح في
الحق، والاستهزاء به وبأهله، أضل من لا علم عنده وخدعه بما يوحيه إليه،
من القول الذي لا يميزه ذلك الضال، ولا يعرف حقيقته.




{ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ }

بما ضلوا وأضلوا، واستهزءوا [بآيات اللّه] وكذبوا الحق الواضح.




ولهذا قال { وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ
آيَاتُنَا }
ليؤمن بها وينقاد لها، {
وَلَّى مُسْتَكْبِرًا }
أي: أدبر إدبار مستكبر عنها، رادٍّ لها،
ولم تدخل قلبه ولا أثرت فيه، بل أدبر عنها {
كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا }
بل { كَأَنَّ
فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا }
أي: صمما لا تصل إليه الأصوات; فهذا لا
حيلة في هدايته.




{ فَبَشِّرْهُ }

بشارة تؤثر في قلبه الحزن والغم; وفي بشرته السوء والظلمة والغبرة.
{ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } مؤلم لقلبه;
ولبدنه; لا يقادر قدره; ولا يدرى بعظيم أمره، وهذه بشارة أهل الشر، فلا
نِعْمَتِ البشارة.




وأما بشارة أهل الخير فقال: { إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ }
جمعوا بين عبادة الباطن
بالإيمان، والظاهر بالإسلام، والعمل الصالح.




{ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ }

بشارة لهم بما قدموه، وقرى لهم بما أسلفوه. {
خَالِدِينَ فِيهَا }
أي: في جنات النعيم، نعيم القلب والروح،
والبدن.




{ وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا }

لا يمكن أن يخلف، ولا يغير، ولا يتبدل. {
وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }
كامل العزة، كامل الحكمة، من عزته
وحكمته، وفق من وفق، وخذل من خذل، بحسب ما اقتضاه علمه فيهم وحكمته.




{ 10 - 11 } { خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا
وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا
مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا
فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ * هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي
مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ
مُبِينٍ }




يتلو تعالى على عباده، آثارا من آثار قدرته، وبدائع من بدائع حكمته،
ونعما من آثار رحمته، فقال: { خَلْقِ
السَّمَاوَاتِ }
السبع على عظمها، وسعتها، وكثافتها، وارتفاعها
الهائل. { بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا }
أي: ليس لها عمد، ولو كان لها عمد لرئيت، وإنما استقرت واستمسكت، بقدرة
اللّه تعالى.




{ وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ }

أي: جبالا عظيمة، ركزها في أرجائها وأنحائها، لئلا
{ تَمِيدَ بِكُمْ } فلولا الجبال
الراسيات لمادت الأرض، ولما استقرت بساكنيها.




{ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ }

أي: نشر في الأرض الواسعة، من جميع أصناف الدواب، التي هي مسخرة لبني
آدم، ولمصالحهم، ومنافعهم. ولما بثها في الأرض، علم تعالى أنه لا بد لها
من رزق تعيش به، فأنزل من السماء ماء مباركا، {
فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ }
المنظر، نافع
مبارك، فرتعت فيه الدواب المنبثة، وسكن إليه كل حيوان.




{ هَذَا }

أي: خلق العالم العلوي والسفلي، من جماد، وحيوان، وسَوْقِ أرزاق الخلق
إليهم { خَلق اللَّه } وحده لا شريك له،
كل مقر بذلك حتى أنتم يا معشر المشركين.




{ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ }

أي: الذين جعلتموهم له شركاء، تدعونهم وتعبدونهم، يلزم على هذا، أن يكون
لهم خلق كخلقه، ورزق كرزقه، فإن كان لهم شيء من ذلك فأرونيه، ليصح ما
ادعيتم فيهم من استحقاق العبادة.




ومن المعلوم أنهم لا يقدرون أن يروه شيئا من الخلق لها، لأن جميع
المذكورات، قد أقروا أنها خلق اللّه وحده، ولا ثَمَّ شيء يعلم غيرها،
فثبت عجزهم عن إثبات شيء لها تستحق به أن تعبد.




ولكن عبادتهم إياها، عن غير علم وبصيرة، بل عن جهل وضلال، ولهذا قال:
{ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ }
أي: جَلِيٍّ واضح حيث عبدوا من لا يملك نفعا ولا ضرا ولا موتا ولا حياة
ولا نشورا، وتركوا الإخلاص للخالق الرازق المالك لكل الأمور.




{ 12 - 19 } { وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ
لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ
فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ * وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ
وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ
لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } إلى آخر القصة.




يخبر تعالى عن امتنانه على عبده الفاضل لقمان، بالحكمة، وهي العلم
[بالحق] على وجهه وحكمته، فهي العلم بالأحكام، ومعرفة ما فيها من
الأسرار والإحكام، فقد يكون الإنسان عالما، ولا يكون حكيما.




وأما الحكمة، فهي مستلزمة للعلم، بل وللعمل، ولهذا فسرت الحكمة بالعلم
النافع، والعمل الصالح.




ولما أعطاه اللّه هذه المنة العظيمة، أمره أن يشكره على ما أعطاه، ليبارك
له فيه، وليزيده من فضله، وأخبره أن شكر الشاكرين، يعود نفعه عليهم، وأن
من كفر فلم يشكر اللّه، عاد وبال ذلك عليه. والله غني [عنه] حميد فيما
يقدره ويقضيه، على من خالف أمره، فغناه تعالى، من لوازم ذاته، وكونه
حميدا في صفات كماله، حميدا في جميل صنعه، من لوازم ذاته، وكل واحد من
الوصفين، صفة كمال، واجتماع أحدهما إلى الآخر، زيادة كمال إلى كمال.




واختلف المفسرون، هل كان لقمان نبيا، أو عبدا صالحا؟ واللّه تعالى لم
يذكر عنه إلا أنه آتاه الحكمة، وذكر بعض ما يدل على حكمته في وعظه لابنه،
فذكر أصول الحكمة وقواعدها الكبار فقال: {
وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ }




أو قال له قولا به يعظه بالأمر، والنهي، المقرون بالترغيب والترهيب،
فأمره بالإخلاص، ونهاه عن الشرك، وبيَّن له السبب في ذلك فقال:
{ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ }
ووجه كونه عظيما، أنه لا أفظع وأبشع ممن سَوَّى المخلوق من تراب، بمالك
الرقاب، وسوَّى الذي لا يملك من الأمر شيئا، بمن له الأمر كله، وسوَّى
الناقص الفقير من جميع الوجوه، بالرب الكامل الغني من جميع الوجوه،
وسوَّى من لم ينعم بمثقال ذرة [من النعم] بالذي ما بالخلق من نعمة في
دينهم، ودنياهم وأخراهم، وقلوبهم، وأبدانهم، إلا منه، ولا يصرف السوء إلا
هو، فهل أعظم من هذا الظلم شيء؟؟!




وهل أعظم ظلما ممن خلقه اللّه لعبادته وتوحيده، فذهب بنفسه الشريفة،
[فجعلها في أخس المراتب] جعلها عابدة لمن لا يسوى شيئا، فظلم نفسه ظلما
كبيرا.




ولما أمر بالقيام بحقه، بترك الشرك الذي من لوازمه القيام بالتوحيد، أمر
بالقيام بحق الوالدين فقال: { وَوَصَّيْنَا
الْإِنْسَانَ }
أي: عهدنا إليه، وجعلناه وصية عنده، سنسأله عن
القيام بها، وهل حفظها أم لا؟ فوصيناه {
بِوَالِدَيْهِ }
وقلنا له: { اشْكُرْ
لِي }
بالقيام بعبوديتي، وأداء حقوقي، وأن لا تستعين بنعمي على
معصيتي. { وَلِوَالِدَيْكَ } بالإحسان
إليهما بالقول اللين، والكلام اللطيف، والفعل الجميل، والتواضع لهما،
[وإكرامهما] وإجلالهما، والقيام بمئونتهما واجتناب الإساءة إليهما من كل
وجه، بالقول والفعل.




فوصيناه بهذه الوصية، وأخبرناه أن { إِلَيَّ
الْمَصِيرُ }
أي: سترجع أيها الإنسان إلى من وصاك، وكلفك بهذه
الحقوق، فيسألك: هل قمت بها، فيثيبك الثواب الجزيل؟ أم ضيعتها، فيعاقبك
العقاب الوبيل؟.




ثم ذكر السبب الموجب لبر الوالدين في الأم، فقال:
{ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ }
أي: مشقة على مشقة، فلا تزال تلاقي المشاق، من حين يكون نطفة، من الوحم،
والمرض، والضعف، والثقل، وتغير الحال، ثم وجع الولادة، ذلك الوجع الشديد.




ثم { فِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ } وهو
ملازم لحضانة أمه وكفالتها ورضاعها، أفما يحسن بمن تحمل على ولده هذه
الشدائد، مع شدة الحب، أن يؤكد على ولده، ويوصي إليه بتمام الإحسان إليه؟




{ وَإِنْ جَاهَدَاكَ }

أي: اجتهد والداك { عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا
لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا }
ولا تظن أن هذا داخل
في الإحسان إليهما، لأن حق اللّه، مقدم على حق كل أحد، و "لا طاعة
لمخلوق، في معصية الخالق"




ولم يقل: "وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فعقهما" بل قال:
{ فَلَا تُطِعْهُمَا } أي: بالشرك، وأما
برهما، فاستمر عليه، ولهذا قال: {
وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا }
أي: صحبة إحسان
إليهما بالمعروف، وأما اتباعهما وهما بحالة الكفر والمعاصي، فلا تتبعهما.




{ وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ }

وهم المؤمنون باللّه، وملائكته وكتبه، ورسله، المستسلمون لربهم، المنيبون
إليه.




واتباع سبيلهم، أن يسلك مسلكهم في الإنابة إلى اللّه، التي هي انجذاب
دواعي القلب وإراداته إلى اللّه، ثم يتبعها سعي البدن، فيما يرضي اللّه،
ويقرب منه.




{ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ }

الطائع والعاصي، والمنيب، وغيره {
فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ }
فلا يخفى على اللّه
من أعمالهم خافية.




{ يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ }

التي هي أصغر الأشياء وأحقرها، { فَتَكُنْ فِي
صَخْرَةٍ }
أي في وسطها { أَوْ فِي
السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ }
في أي جهة من جهاتهما
{ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ } لسعة علمه،
وتمام خبرته وكمال قدرته، ولهذا قال: { إِنَّ
اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ }
أي: لطف في علمه وخبرته، حتى اطلع على
البواطن والأسرار، وخفايا القفار والبحار.




والمقصود من هذا، الحث على مراقبة اللّه، والعمل بطاعته، مهما أمكن،
والترهيب من عمل القبيح، قَلَّ أو كَثُرَ.




{ يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ }

حثه عليها، وخصها لأنها أكبر العبادات البدنية،
{ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ }
وذلك
يستلزم العلم بالمعروف ليأمر به، والعلم بالمنكر لينهى عنه.




والأمر بما لا يتم الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر إلا به، من الرفق،
والصبر، وقد صرح به في قوله: { وَاصْبِرْ عَلَى
مَا أَصَابَكَ }
ومن كونه فاعلا لما يأمر به، كافًّا لما ينهى
عنه، فتضمن هذا، تكميل نفسه بفعل الخير وترك الشر، وتكميل غيره بذلك،
بأمره ونهيه.




ولما علم أنه لا بد أن يبتلى إذا أمر ونهى وأن في الأمر والنهي مشقة على
النفوس، أمره بالصبر على ذلك فقال: { وَاصْبِرْ
عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ }
الذي وعظ به لقمان ابنه
{ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ } أي: من
الأمور التي يعزم عليها، ويهتم بها، ولا يوفق لها إلا أهل العزائم.




{ وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ }

أي: لا تُمِلْهُ وتعبس بوجهك الناس، تكبُّرًا عليهم، وتعاظما.




{ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا }

أي: بطرا، فخرا بالنعم، ناسيا المنعم، معجبا بنفسك.
{ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ }
في نفسه وهيئته وتعاظمه { فَخُور }
بقوله.




{ وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ }

أي: امش متواضعا مستكينا، لا مَشْيَ البطر والتكبر، ولا مشي التماوت.




{ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ }

أدبا مع الناس ومع اللّه، { إِنَّ أَنْكَرَ
الْأَصْوَاتِ }
أي أفظعها وأبشعها {
لَصَوْتُ الْحَمِيرِ }
فلو كان في رفع الصوت البليغ فائدة ومصلحة،
لما اختص بذلك الحمار، الذي قد علمت خسته وبلادته.




وهذه الوصايا، التي وصى بها لقمان لابنه، تجمع أمهات الحكم، وتستلزم ما
لم يذكر منها، وكل وصية يقرن بها ما يدعو إلى فعلها، إن كانت أمرا، وإلى
تركها إن كانت نهيا.




وهذا يدل على ما ذكرنا في تفسير الحكمة، أنها العلم بالأحكام، وحِكَمِها
ومناسباتها، فأمره بأصل الدين، وهو التوحيد، ونهاه عن الشرك، وبيَّن له
الموجب لتركه، وأمره ببر الوالدين، وبين له السبب الموجب لبرهما، وأمره
بشكره وشكرهما، ثم احترز بأن محل برهما وامتثال أوامرهما، ما لم يأمرا
بمعصية، ومع ذلك فلا يعقهما، بل يحسن إليهما، وإن كان لا يطيعهما إذا
جاهداه على الشرك. وأمره بمراقبة اللّه، وخوَّفه القدوم عليه، وأنه لا
يغادر صغيرة ولا كبيرة من الخير والشر، إلا أتى بها.




ونهاه عن التكبر، وأمره بالتواضع، ونهاه عن البطر والأشر، والمرح، وأمره
بالسكون في الحركات والأصوات، ونهاه عن ضد ذلك.




وأمره بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وإقامة الصلاة، وبالصبر اللذين
يسهل بهما كل أمر، كما قال تعالى: فحقيق بمن أوصى بهذه الوصايا، أن يكون
مخصوصا بالحكمة، مشهورا بها. ولهذا من منة اللّه عليه وعلى سائر عباده،
أن قص عليهم من حكمته، ما يكون لهم به أسوة حسنة.




{ 20 - 21 } { أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي
السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ
ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ
بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ * وَإِذَا قِيلَ
لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا
وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ
إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ }




يمتن تعالى على عباده بنعمه، ويدعوهم إلى شكرها ورؤيتها; وعدم الغفلة
عنها فقال: { أَلَمْ تَرَوْا } أي:
تشاهدوا وتبصروا بأبصاركم وقلوبكم، { أَنَّ
اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ }
من الشمس والقمر
والنجوم، كلها مسخرات لنفع العباد.




{ وَمَا فِي الْأَرْضِ }

من الحيوانات والأشجار والزروع، والأنهار والمعادن ونحوها كما قال تعالى:
{ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي
الْأَرْضِ جَمِيعًا }




{ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ }

أي: عمّكم وغمركم نعمه الظاهرة والباطنة التي نعلم بها; والتي تخفى
علينا، نعم الدنيا، ونعم الدين، حصول المنافع، ودفع المضار، فوظيفتكم أن
تقوموا بشكر هذه النعم; بمحبة المنعم والخضوع له; وصرفها في الاستعانة
على طاعته، وأن لا يستعان بشيء منها على معصيته.




{ و }

لكن مع توالي هذه النعم; { مِنَ النَّاسِ مَنْ
}
لم يشكرها; بل كفرها; وكفر بمن أنعم بها; وجحد الحق الذي أنزل
به كتبه; وأرسل به رسله، فجعل { يُجَادِلُ فِي
اللَّهِ }
أي: يجادل عن الباطل; ليدحض به الحق; ويدفع به ما جاء
به الرسول من الأمر بعبادة اللّه وحده، وهذا المجادل على غير بصيرة، فليس
جداله عن علم، فيترك وشأنه، ويسمح له في الكلام
{ وَلَا هُدًى }
يقتدي به بالمهتدين {
وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ }
[غير مبين للحق فلا معقول ولا منقول ولا
اقتداء بالمهتدين] وإنما جداله في اللّه مبني على تقليد آباء غير
مهتدين، بل ضالين مضلين.




ولهذا قال: { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا
مَا أَنْزَلَ اللَّهُ }
على أيدي رسله، فإنه الحق، وبينت لهم
أدلته الظاهرة { قَالُوا } معارضين ذلك:
{ بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ
آبَاءَنَا }
فلا نترك ما وجدنا عليه آباءنا لقول أحد كائنا من
كان.




قال تعالى في الرد عليهم وعلى آبائهم: {
أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ }

فاستجاب له آباؤهم، ومشوا خلفه، وصاروا من تلاميذ الشيطان، واستولت عليهم
الحيرة.




فهل هذا موجب لاتباعهم لهم ومشيهم على طريقتهم، أم ذلك يرهبهم من سلوك
سبيلهم، وينادي على ضلالهم، وضلال من اتبعهم.




وليس دعوة الشيطان لآبائهم ولهم، محبة لهم ومودة، وإنما ذلك عداوة لهم
ومكر بهم، وبالحقيقة أتباعه من أعدائه، الذين تمكن منهم وظفر بهم، وقرت
عينه باستحقاقهم عذاب السعير، بقبول دعوته.





{ 22 - 24 } { وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى
اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى
وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ * وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ
كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ
اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ
نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ }




{ وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ }

أي: يخضع له وينقاد له بفعل الشرائع مخلصا له دينه.
{ وَهُوَ مُحْسِنٌ } في ذلك الإسلام بأن
كان عمله مشروعا، قد اتبع فيه الرسول صلى الله عليه وسلم.




أو: ومن يسلم وجهه إلى اللّه، بفعل جميع العبادات، وهو محسن فيها، بأن
يعبد اللّه كأنه يراه، فإن لم يكن يراه، فإنه يراه.




أو ومن يسلم وجهه إلى اللّه، بالقيام بحقوقه، وهو محسن إلى عباد اللّه،
قائم بحقوقهم.




والمعاني متلازمة، لا فرق بينها إلا من جهة [اختلاف] مورد اللفظتين،
وإلا فكلها متفقة على القيام بجميع شرائع الدين، على وجه تقبل به وتكمل،
فمن فعل ذلك فقد أسلم و { اسْتَمْسَكَ
بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى }
أي: بالعروة التي من تمسك بها، توثق
ونجا، وسلم من الهلاك، وفاز بكل خير.




ومن لم يسلم وجهه للّه، أو لم يحسن لم يستمسك بالعروة الوثقى، وإذا لم
يستمسك بالعروة الوثقى لم يكن ثَمَّ إلا الهلاك والبوار.
{ وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ }
أي: رجوعها وموئلها ومنتهاها، فيحكم في عباده، ويجازيهم بما آلت إليه
أعمالهم، ووصلت إليه عواقبهم، فليستعدوا لذلك الأمر.




{ وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ }

لأنك أديت ما عليك، من الدعوة والبلاغ، فإذا لم يهتد، فقد وجب أجرك على
اللّه، ولم يبق للحزن موضع على عدم اهتدائه، لأنه لو كان فيه خير، لهداه
اللّه.




ولا تحزن أيضا، على كونهم تجرأوا عليك بالعداوة، ونابذوك المحاربة،
واستمروا على غيهم وكفرهم، ولا تتحرق عليهم، بسبب أنهم ما بودروا
بالعذاب.




فإن { إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ
بِمَا عَمِلُوا }
من كفرهم وعداوتهم، وسعيهم في إطفاء نور اللّه
وأذى رسله.




{ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ }

التي ما نطق بها الناطقون، فكيف بما ظهر، وكان شهادة؟"




{ نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا }

في الدنيا، ليزداد إثمهم، ويتوفر عذابهم، {
ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ }
أي: [نلجئهم] {
إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ }
أي: انتهى في عظمه وكبره، وفظاعته،
وألمه، وشدته.





{ 25 - 28 } { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ
لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ * لِلَّهِ مَا فِي
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ *
وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ
يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ
اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * مَا خَلْقُكُمْ وَلَا
بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ }




أي: ولئن سألت هؤلاء المشركين المكذبين بالحق {
مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ }
لعلموا أن أصنامهم، ما
خلقت شيئا من ذلك ولبادروا بقولهم الله الذي خلقهما وحده.




فـ { قُلِ } لهم ملزما لهم، ومحتجا
عليهم بما أقروا به، على ما أنكروا: {
الْحَمْدُ لِلَّهِ }
الذي بيَّن النور، وأظهر الاستدلال عليكم من
أنفسكم، فلو كانوا يعلمون، لجزموا أن المنفرد بالخلق والتدبير، هو الذي
يفرد بالعبادة والتوحيد.




ولكن { أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ }
فلذلك أشركوا به غيره، ورضوا بتناقض ما ذهبوا إليه، على وجه الحيرة
والشك، لا على وجه البصيرة، ثم ذكر في هاتين الآيتين نموذجا من سعة
أوصافه، ليدعو عباده إلى معرفته، ومحبته، وإخلاص الدين له.




فذكر عموم ملكه، وأن جميع ما في السماوات والأرض - وهذا شامل لجميع
العالم العلوي والسفلي - أنه ملكه، يتصرف فيهم بأحكام الملك القدرية،
وأحكامه الأمرية، وأحكامه الجزائية، فكلهم عييد مماليك، مدبرون مسخرون،
ليس لهم من الملك شيء، وأنه واسع الغنى، فلا يحتاج إلى ما يحتاج إليه أحد
من الخلق. { مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ
وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ }




وأن أعمال النبيين والصديقين، والشهداء والصالحين، لا تنفع اللّه شيئا
وإنما تنفع عامليها، واللّه غني عنهم، وعن أعمالهم، ومن غناه، أن أغناهم
وأقناهم في دنياهم وأخراهم.




ثم أخبر تعالى عن سعة حمده، وأن حمده من لوازم ذاته، فلا يكون إلا حميدا
من جميع الوجوه، فهو حميد في ذاته، وهو حميد في صفاته، فكل صفة من صفاته،
يستحق عليها أكمل حمد وأتمه، لكونها صفات عظمة وكمال، وجميع ما فعله
وخلقه يحمد عليه، وجميع ما أمر به ونهى عنه يحمد عليه، وجميع ما حكم به
في العباد وبين العباد، في الدنيا والآخرة، يحمد عليه.




ثم أخبر عن سعة كلامه وعظمة قوله، بشرح يبلغ من القلوب كل مبلغ، وتنبهر
له العقول، وتحير فيه الأفئدة، وتسيح في معرفته أولو الألباب والبصائر،
فقال: { وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ
شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ }
يكتب بها {
وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ }
مدادا
يستمد بها، لتكسرت تلك الأقلام ولفني ذلك المداد، و لم تنفد
{ كَلِمَاتُ اللَّهِ } تعالى، وهذا ليس
مبالغة لا حقيقة له، بل لما علم تبارك وتعالى، أن العقول تتقاصر عن
الإحاطة ببعض صفاته، وعلم تعالى أن معرفته لعباده، أفضل نعمة، أنعم بها
عليهم، وأجل منقبة حصلوها، وهي لا تمكن على وجهها، ولكن ما لا يدرك كله،
لا يترك كله، فنبههم تعالى تنبيها تستنير به قلوبهم، وتنشرح له صدورهم،
ويستدلون بما وصلوا إليه إلى ما لم يصلوا إليه، ويقولون كما قال أفضلهم
وأعلمهم بربه: "لا نحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك" وإلا، فالأمر
أجل من ذلك وأعظم.




وهذا التمثيل من باب تقريب المعنى، الذي لا يطاق الوصول إليه إلى الأفهام
والأذهان، وإلا فالأشجار، وإن تضاعفت على ما ذكر، أضعافا كثيرة، والبحور
لو امتدت بأضعاف مضاعفة، فإنه يتصور نفادها وانقضاؤها، لكونها مخلوقة.




وأما كلام اللّه تعالى، فلا يتصور نفاده، بل دلنا الدليل الشرعي والعقلي،
على أنه لا نفاد له ولا منتهى، وكل شيء ينتهي إلا الباري وصفاته
{ وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى }




وإذا تصور العقل حقيقة أوليته تعالى وآخريته، وأنه كل ما فرضه الذهن من
الأزمان السابقة، مهما تسلسل الفرض والتقدير، فهو تعالى قبل ذلك إلى غير
نهاية، وأنه مهما فرضه الذهن والعقل، من الأزمان المتأخرة، وتسلسل الفرض
والتقدير، وساعد على ذلك من ساعد، بقلبه ولسانه، فاللّه تعالى بعد ذلك
إلى غير غاية ولا نهاية.




واللّه في جميع الأوقات يحكم، ويتكلم، ويقول، ويفعل كيف أراد، وإذا أراد
لا مانع له من شيء من أقواله وأفعاله، فإذا تصور العقل ذلك، عرف أن المثل
الذي ضربه اللّه لكلامه، ليدرك العباد شيئا منه، وإلا، فالأمر أعظم وأجل.




ثم ذكر جلالة عزته وكمال حكمته فقال: { إِنَّ
اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }
أي: له العزة جميعا، الذي ما في العالم
العلوي والسفلي من القوة إلا منه، أعطاها للخلق، فلا حول ولا قوة إلا به،
وبعزته قهر الخلق كلهم، وتصرف فيهم، ودبرهم، وبحكمته خلق الخلق، وابتدأه
بالحكمة، وجعل غايته والمقصود منه الحكمة، وكذلك الأمر والنهي وجد
بالحكمة، وكانت غايته المقصودة الحكمة، فهو الحكيم في خلقه وأمره.




ثم ذكر عظمة قدرته وكمالها وأنه لا يمكن أن يتصورها العقل فقال:
{ مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا
كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ }
وهذا شيء يحير العقول، إن خلق جميع الخلق -
على كثرتهم وبعثهم بعد موتهم، بعد تفرقهم في لمحة واحدة - كخلقه نفسا
واحدة، فلا وجه لاستبعاد البعث والنشور، والجزاء على الأعمال، إلا الجهل
بعظمة اللّه وقوة قدرته.




ثم ذكر عموم سمعه لجميع المسموعات، وبصره لجميع المبصرات فقال:
{ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ }




{ 29 - 30 } { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي
النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ
وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا
تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا
يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ
الْكَبِيرُ }




وهذا فيه أيضا، انفراده بالتصرف والتدبير، وسعة تصرفه بإيلاج الليل في
النهار، وإيلاج النهار في الليل، أي: إدخال أحدهما على الآخر، فإذا دخل
أحدهما، ذهب الآخر.




وتسخيره للشمس والقمر، يجريان بتدبير ونظام، لم يختل منذ خلقهما، ليقيم
بذلك من مصالح العباد ومنافعهم، في دينهم ودنياهم، ما به يعتبرون
وينتفعون.




و { كُلّ } منهما
{ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى } إذا
جاء ذلك الأجل، انقطع جريانهما، وتعطل سلطانهما، وذلك في يوم القيامة،
حين تكور الشمس، ويخسف القمر، وتنتهي دار الدنيا، وتبتدئ الدار الآخرة.




{ وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ }

من خير وشر { خَبِيرٌ } لا يخفى عليه
شيء من ذلك، وسيجازيكم على تلك الأعمال، بالثواب للمطيعين، والعقاب
للعاصين.




و { ذَلِكَ } الذي بين لكم من عظمته
وصفاته، ما بيَّن { بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ
الْحَقُّ }
في ذاته وفي صفاته، ودينه حق، ورسله حق، ووعده حق،
ووعيده حق، وعبادته هي الحق.




{ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ }

في ذاته وصفاته، فلولا إيجاد اللّه له لما وجد، ولولا إمداده لَمَا
بَقِيَ، فإذا كان باطلا، كانت عبادته أبطل وأبطل.




{ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ }

بذاته، فوق جميع مخلوقاته، الذي علت صفاته، أن يقاس بها صفات أحد من
الخلق، وعلا على الخلق فقهرهم { الْكَبِيرُ }
الذي له الكبرياء في ذاته وصفاته، وله الكبرياء في قلوب أهل السماء
والأرض.





{ 31 - 32 } { أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ
تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ * وَإِذَا
غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ
الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ
وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ }





أي: ألم تر من آثار قدرته ورحمته، وعنايته بعباده، أن سخر البحر، تجري
فيه الفلك، بأمره القدري انه، [color=red]{
لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ }
ففيها الانتفاع والاعتبار]





{ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ }

فهم المنتفعون بالآيات، صبار على الضراء، شكور على السراء، صبار على طاعة
اللّه وعن معصيته، وعلى أقداره، شكور للّه، على نعمه الدينية والدنيوية.




وذكر تعالى حال الناس، عند ركوبهم البحر، وغشيان الأمواج كالظل فوقهم،
أنهم يخلصون الدعاء [للّه] والعبادة: {
فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ }
انقسموا فريقين:




فرقة مقتصدة، أي: لم تقم بشكر اللّه على وجه الكمال، بل هم مذنبون ظالمون
لأنفسهم.




وفرقة كافرة بنعمة اللّه، جاحدة لها، ولهذا قال:
{ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ
خَتَّارٍ }
أي غدار، ومن غدره، أنه عاهد ربه، لئن أنجيتنا من
البحر وشدته، لنكونن من الشاكرين، فغدر ولم يف بذلك،
{ كَفُور } بنعم اللّه. فهل يليق بمن
نجاهم اللّه من هذه الشدة، إلا القيام التام بشكر نعم اللّه؟





{ 33 } { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا
رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا
مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ
فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ
بِاللَّهِ الْغَرُورُ }




يأمر تعالى الناس بتقواه، التي هي امتثال أوامره، وترك زواجره

descriptionتفسيرالقران - صفحة 5 Emptyرد: تفسيرالقران

more_horiz
-

تفسير
سورة
ا
لروم
عدد آياتها 60

(



آية


1-29

)

وهي مكية






{ 1 - 7 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ
الرَّحِيمِ الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ
بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ
مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ *
بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ *
وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ
النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ }



كانت الفرس والروم في ذلك الوقت من أقوى دول الأرض، وكان يكون بينهما من
الحروب والقتال ما يكون بين الدول المتوازنة.




وكانت الفرس مشركين يعبدون النار، وكانت الروم أهل كتاب ينتسبون إلى
التوراة والإنجيل وهم أقرب إلى المسلمين من الفرس فكان المؤمنون يحبون
غلبتهم وظهورهم على الفرس، وكان المشركون -لاشتراكهم والفرس في الشرك-
يحبون ظهور الفرس على الروم.




فظهر الفرس على الروم فغلبوهم غلبا لم يحط بملكهم بل بأدنى أرضهم، ففرح
بذلك مشركو مكة وحزن المسلمون، فأخبرهم اللّه ووعدهم أن الروم ستغلب
الفرس.




{ فِي بِضْعِ سِنِينَ }

تسع أو ثمان ونحو ذلك مما لا يزيد على العشر، ولا ينقص عن الثلاث، وأن
غلبة الفرس للروم ثم غلبة الروم للفرس كل ذلك بمشيئته وقدره ولهذا قال:
{ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ
}
فليس الغلبة والنصر لمجرد وجود الأسباب، وإنما هي لا بد أن
يقترن بها القضاء والقدر.




{ وَيَوْمَئِذٍ }

أي: يوم يغلب الروم الفرس ويقهرونهم { يَفْرَحُ
الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ }
أي:
يفرحون بانتصارهم على الفرس وإن كان الجميع كفارا ولكن بعض الشر أهون من
بعض ويحزن يومئذ المشركون.




{ وَهُوَ الْعَزِيزُ }

الذي له العزة التي قهر بها الخلائق أجمعين يؤتي الملك من يشاء وينزع
الملك ممن يشاء ويعز من يشاء ويذل من يشاء. {
الرَّحيم }
بعباده المؤمنين حيث قيض لهم من الأسباب التي تسعدهم
وتنصرهم ما لا يدخل في الحساب.




{ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ }

فتيقنوا ذلك واجزموا به واعلموا أنه لا بد من وقوعه.




فلما نزلت هذه الآيات التي فيها هذا الوعد صدق بها المسلمون، وكفر بها
المشركون حتى تراهن بعض المسلمين وبعض المشركين على مدة سنين عينوها،
فلما جاء الأجل الذي ضربه اللّه انتصر الروم على الفرس وأجلوهم من بلادهم
التي أخذوها منهم وتحقق وعد اللّه.




وهذا من الأمور الغيبية التي أخبر بها اللّه قبل وقوعها ووجدت في زمان من
أخبرهم اللّه بها من المسلمين والمشركين. {
وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ }
أن ما وعد اللّه
به حق فلذلك يوجد فريق منهم يكذبون بوعد الله، ويكذبون آياته.




وهؤلاء الذين لا يعلمون أي: لا يعلمون بواطن الأشياء وعواقبها. وإنما
{ يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا }
فينظرون إلى الأسباب ويجزمون بوقوع الأمر الذي في
رأيهم انعقدت أسباب وجوده ويتيقنون عدم الأمر الذي لم يشاهدوا له من
الأسباب المقتضية لوجوده شيئا، فهم واقفون مع الأسباب غير ناظرين إلى
مسببها المتصرف فيها.




{ وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ }

قد توجهت قلوبهم وأهواؤهم وإراداتهم إلى الدنيا وشهواتها وحطامها فعملت
لها وسعت وأقبلت بها وأدبرت وغفلت عن الآخرة، فلا الجنة تشتاق إليها ولا
النار تخافها وتخشاها ولا المقام بين يدي اللّه ولقائه يروعها ويزعجها
وهذا علامة الشقاء وعنوان الغفلة عن الآخرة.




ومن العجب أن هذا القسم من الناس قد بلغت بكثير منهم الفطنة والذكاء في
ظاهر الدنيا إلى أمر يحير العقول ويدهش الألباب.




وأظهروا من العجائب الذرية والكهربائية والمراكب البرية والبحرية
والهوائية ما فاقوا به وبرزوا وأعجبوا بعقولهم ورأوا غيرهم عاجزا عما
أقدرهم اللّه عليه، فنظروا إليهم بعين الاحتقار والازدراء وهم مع ذلك
أبلد الناس في أمر دينهم وأشدهم غفلة عن آخرتهم وأقلهم معرفة بالعواقب،
قد رآهم أهل البصائر النافذة في جهلهم يتخبطون وفي ضلالهم يعمهون وفي
باطلهم يترددون نسوا اللّه فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون.




ثم نظروا إلى ما أعطاهم اللّه وأقدرهم عليه من الأفكار الدقيقة في الدنيا
وظاهرها و[ما] حرموا من العقل العالي فعرفوا أن الأمر للّه والحكم له في
عباده وإن هو إلا توفيقه وخذلانه فخافوا ربهم وسألوه أن يتم لهم ما وهبهم
من نور العقول والإيمان حتى يصلوا إليه، ويحلوا بساحته [وهذه الأمور لو
قارنها الإيمان وبنيت عليه لأثمرت الرُّقِيَّ العالي والحياة الطيبة،
ولكنها لما بني كثير منها على الإلحاد لم تثمر إلا هبوط الأخلاق وأسباب
الفناء والتدمير]





{ 8 - 10 } { أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي
أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا
بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ
النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ * أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي
الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ
وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ
بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا
أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ * ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا
السُّوءَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا
يَسْتَهْزِئُونَ }




أي: أفلم يتفكر هؤلاء المكذبون لرسل اللّه ولقائه
{ فِي أَنْفُسِهِمْ } فإن في أنفسهم
آيات يعرفون بها أن الذي أوجدهم من العدم سيعيدهم بعد ذلك وأن الذي نقلهم
أطوارا من نطفة إلى علقة إلى مضغة إلى آدمي قد نفخ فيه الروح إلى طفل إلى
شاب إلى شيخ إلى هرم، غير لائق أن يتركهم سدى مهملين لا ينهون ولا يؤمرون
ولا يثابون ولا يعاقبون. { مَا خَلَقَ اللَّهُ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ }

[أي] ليبلوكم أيكم أحسن عملا. { وَأَجَلٌ
مُسَمًّى }
أي: مؤقت بقاؤهما إلى أجل تنقضي به الدنيا وتجيء به
القيامة وتبدل الأرض غير الأرض والسماوات.




{ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ }

فلذلك لم يستعدوا للقائه ولم يصدقوا رسله التي أخبرت به وهذا الكفر عن
غير دليل، بل الأدلة القاطعة قد دلت على البعث والجزاء، ولهذا نبههم على
السير في الأرض والنظر في عاقبة الذين كذبوا رسلهم وخالفوا أمرهم ممن هم
أشد من هؤلاء قوة وأكثر آثارا في الأرض من بناء قصور ومصانع ومن غرس
أشجار ومن زرع وإجراء أنهار، فلم تغن عنهم قوتهم ولا نفعتهم آثارهم حين
كذبوا رسلهم الذين جاءوهم بالبينات الدالات على الحق وصحة ما جاءوهم به،
فإنهم حين ينظرون في آثار أولئك لم يجدوا إلا أمما بائدة وخلقا مهلكين
ومنازل بعدهم موحشة وذم من الخلق عليهم متتابع. وهذا جزاء معجل نموذج
للجزاء الأخروي ومبتدأ له.




وكل هذه الأمم المهلكة لم يظلمهم اللّه بذلك الإهلاك وإنما ظلموا أنفسهم
وتسببوا في هلاكها.




{ ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السوأى }

أي: الحالة السيئة الشنيعة، وصار ذلك داعيا لهم لأن
{ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا
يَسْتَهْزِئُونَ }
فهذا عقوبة لسوئهم وذنوبهم.




ثم ذلك الاستهزاء والتكذيب يكون سببا لأعظم العقوبات وأعضل المثلات.





{ 11 - 16 } { اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ
ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَيَوْمَ تَقُومُ
السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ
شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ *
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ * فَأَمَّا
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ
يُحْبَرُونَ *وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا
وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ }





يخبر تعالى أنه المتفرد بإبداء المخلوقات ثم يعيدهم ثم إليه يرجعون بعد
إعادتهم ليجازيهم بأعمالهم، ولهذا ذكر جزاء أهل الشر ثم جزاء أهل الخير
فقال:




{ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ }

أي: يقوم الناس لرب العالمين ويردون القيامة عيانا، يومئذ
{ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ } أي: ييأسون
من كل خير. وذلك أنهم ما قدموا لذلك اليوم إلا الإجرام وهي الذنوب، من
كفر وشرك ومعاصي، فلما قدموا أسباب العقاب ولم يخلطوها بشيء من أسباب
الثواب، أيسوا وأبلسوا وأفلسوا وضل عنهم ما كانوا يفترونه، من نفع
شركائهم وأنهم يشفعون لهم، ولهذا قال: { وَلَمْ
يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ }
التي عبدوها مع اللّه
{ شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ
كَافِرِينَ }
تبرأ المشركون ممن أشركوهم مع اللّه وتبرأ المعبودون
وقالوا: { تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا
إِيَّانَا يَعْبُدُونَ }
والتعنوا وابتعدوا، وفي ذلك اليوم يفترق
أهل الخير والشر كما افترقت أعمالهم في الدنيا.




{ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ }

آمنوا بقلوبهم وصدقوا ذلك بالأعمال الصالحة {
فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ }
فيها سائر أنواع النبات وأصناف المشتهيات،
{ يُحْبَرُونَ } أي: يسرون وينعمون
بالمآكل اللذيذة والأشربة والحور الحسان والخدم والولدان والأصوات
المطربات والسماع المشجي والمناظر العجيبة والروائح الطيبة والفرح
والسرور واللذة والحبور مما لا يقدر أحد أن يصفه.




(16) { وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا }
وجحدوا نعمه وقابلوها بالكفر { وَكَذَّبُوا
بِآيَاتِنَا }
التي جاءتهم بها رسلنا {
فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ }
فيه، قد أحاطت بهم جهنم
من جميع جهاتهم واطَّلع العذاب الأليم على أفئدتهم وشوى الحميم وجوههم
وقطَّع أمعاءهم، فأين الفرق بين الفريقين وأين التساوي بين المنعمين
والمعذبين؟"





{ 17 - 19 } { فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ
تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ * وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ * يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ
الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ
بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ }




هذا إخبار عن تنزهه عن السوء والنقص وتقدسه عن أن يماثله أحد من الخلق
وأمر للعباد أن يسبحوه حين يمسون وحين يصبحون ووقت العشي ووقت الظهيرة.




فهذه الأوقات الخمسة أوقات الصلوات الخمس أمر اللّه عباده بالتسبيح فيها
والحمد، ويدخل في ذلك الواجب منه كالمشتملة عليه الصلوات الخمس، والمستحب
كأذكار الصباح والمساء وأدبار الصلوات وما يقترن بها من النوافل، لأن هذه
الأوقات التي اختارها اللّه [لأوقات المفروضات هي] أفضل من غيرها
[فالتسبيح والتحميد فيها والعبادة فيها أفضل من غيرها] بل العبادة وإن لم
تشتمل على قول "سبحان اللّه" فإن الإخلاص فيها تنزيه للّه بالفعل أن يكون
له شريك في العبادة أو أن يستحق أحد من الخلق ما يستحقه من الإخلاص
والإنابة.




{ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ }

كما يخرج النبات من الأرض الميتة والسنبلة من الحبة والشجرة من النواة
والفرخ من البيضة والمؤمن من الكافر، ونحو ذلك.




{ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ }

بعكس المذكور { وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ
مَوْتِهَا }
فينزل عليها المطر وهي ميتة هامدة فإذا أنزل عليها
الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج {
وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ }
من قبوركم.




فهذا دليل قاطع وبرهان ساطع أن الذي أحيا الأرض بعد موتها فإنه يحيي
الأموات، فلا فرق في نظر العقل بين الأمرين ولا موجب لاستبعاد أحدهما مع
مشاهدة الآخر.





{ 20 - 21 } { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ
مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ * وَمِنْ
آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا
إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ
لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ }




هذا شروع في تعداد آياته الدالة على انفراده بالإلهية وكمال عظمته، ونفوذ
مشيئته وقوة اقتداره وجميل صنعه وسعة رحمته وإحسانه فقال:
{ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ
تُرَابٍ }
وذلك بخلق أصل النسل آدم عليه السلام
{ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ }
[أي: الذي خلقكم من أصل واحد ومادة واحدة] وبثكم في أقطار الأرض
[وأرجائها ففي ذلك آيات على أن الذي أنشأكم من هذا الأصل وبثكم في أقطار
الأرض] هو الرب المعبود الملك المحمود والرحيم الودود الذي سيعيدكم
بالبعث بعد الموت.




{ وَمِنْ آيَاتِهِ }

الدالة على رحمته وعنايته بعباده وحكمته العظيمة وعلمه المحيط،
{ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ
أَزْوَاجًا }
تناسبكم وتناسبونهن وتشاكلكم وتشاكلونهن
{ لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ
مَوَدَّةً وَرَحْمَةً }
بما رتب على الزواج من الأسباب الجالبة
للمودة والرحمة.




فحصل بالزوجة الاستمتاع واللذة والمنفعة بوجود الأولاد وتربيتهم، والسكون
إليها، فلا تجد بين أحد في الغالب مثل ما بين الزوجين من المودة والرحمة،
{ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ
يَتَفَكَّرُونَ }
يُعملون أفكارهم ويتدبرون آيات اللّه وينتقلون
من شيء إلى شيء.





{ 22 } { وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي
ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ }




والعَالِمُون هم أهل العلم الذين يفهمون العبر ويتدبرون الآيات. والآيات
في ذلك كثيرة: فمن آيات خلق السماوات والأرض وما فيهما، أن ذلك دال على
عظمة سلطان اللّه وكمال اقتداره الذي أوجد هذه المخلوقات العظيمة، وكمال
حكمته لما فيها من الإتقان وسعة علمه، لأن الخالق لا بد أن يعلم ما خلقه
{ أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ } وعموم
رحمته وفضله لما في ذلك من المنافع الجليلة، وأنه المريد الذي يختار ما
يشاء لما فيها من التخصيصات والمزايا، وأنه وحده الذي يستحق أن يعبد
ويوحد لأنه المنفرد بالخلق فيجب أن يفرد بالعبادة، فكل هذه أدلة عقلية
نبه اللّه العقول إليها وأمرها بالتفكر واستخراج العبرة منها.




{ و }

كذلك في { اخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ
وَأَلْوَانِكُمْ }
على كثرتكم وتباينكم مع أن الأصل واحد ومخارج
الحروف واحدة، ومع ذلك لا تجد صوتين متفقين من كل وجه ولا لونين متشابهين
من كل وجه إلا وتجد من الفرق بين ذلك ما به يحصل التمييز. وهذا دال على
كمال قدرته، ونفوذ مشيئته.




و [من] عنايته بعباده ورحمته بهم أن قدر ذلك الاختلاف لئلا يقع التشابه
فيحصل الاضطراب ويفوت كثير من المقاصد والمطالب.





{ 23 } { وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ
بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي
ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ }




أي: سماع تدبر وتعقل للمعاني والآيات في ذلك.




إن ذلك دليل على رحمة اللّه تعالى كما قال: {
وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا
فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }

وعلى تمام حكمته إذ حكمته اقتضت سكون الخلق في وقت ليستريحوا به ويستجموا
وانتشارهم في وقت، لمصالحهم الدينية والدنيوية ولا يتم ذلك إلا بتعاقب
الليل والنهار عليهم، والمنفرد بذلك هو المستحق للعبادة.





{ 24 } { وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ
خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ
الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ
يَعْقِلُونَ }




أي: ومن آياته أن ينزل عليكم المطر الذي تحيا به البلاد والعباد ويريكم
قبل نزوله مقدماته من الرعد والبرق الذي يُخَاف ويُطْمَع فيه.




{ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ }

[دالة] على عموم إحسانه وسعة علمه وكمال إتقانه، وعظيم حكمته وأنه يحيي
الموتى كما أحيا الأرض بعد موتها.




{ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ }

أي: لهم عقول تعقل بها ما تسمعه وتراه وتحفظه، وتستدل به عل ما جعل دليلا
عليه.




{ 25 - 27 } { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ
بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا
أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ * وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ
لَهُ قَانِتُونَ * وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ
وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }




أي: ومن آياته العظيمة أن قامت السماوات والأرض واستقرتا وثبتتا بأمره
فلم تتزلزلا ولم تسقط السماء على الأرض، فقدرته العظيمة التي بها أمسك
السماوات والأرض أن تزولا، يقدر بها أنه إذا دعا الخلق دعوة من الأرض إذا
هم يخرجون { لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ }




{ وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ }

الكل خلقه ومماليكه المتصرف فيهم من غير منازع ولا معاون ولا معارض وكلهم
قانتون لجلاله خاضعون لكماله.




{ وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ }

أي: الإعادة للخلق بعد موتهم { أَهْوَنُ
عَلَيْهِ }
من ابتداء خلقهم وهذا بالنسبة إلى الأذهان والعقول،
فإذا كان قادرا على الابتداء الذي تقرون به كانت قدرته على الإعادة التي
أهون أولى وأولى.




ولما ذكر من الآيات العظيمة ما به يعتبر المعتبرون ويتذكر المؤمنون
ويتبصر المهتدون ذكر الأمر العظيم والمطلب الكبير فقال:
{ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ }
وهو كل صفة كمال، والكمال من تلك
الصفة والمحبة والإنابة التامة الكاملة في قلوب عباده المخلصين والذكر
الجليل والعبادة منهم. فالمثل الأعلى هو وصفه الأعلى وما ترتب عليه.




ولهذا كان أهل العلم يستعملون في حق الباري قياس الأولى، فيقولون: كل صفة
كمال في المخلوقات فخالقها أحق بالاتصاف بها على وجه لا يشاركه فيها أحد،
وكل نقص في المخلوق ينزه عنه فتنزيه الخالق عنه من باب أولى وأحرى.




{ وَهُوَ الْعَزِيزُ الحكيم }

أي: له العزة الكاملة والحكمة الواسعة، فعزته أوجد بها المخلوقات وأظهر
المأمورات، وحكمته أتقن بها ما صنعه وأحسن فيها ما شرعه.





{ 28 - 29 } { ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ
أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ
شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ
تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ
لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ
بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ
نَاصِرِينَ }




هذا مثل ضربه اللّه تعالى لقبح الشرك وتهجينه مثلا من أنفسكم لا يحتاج
إلى حل وترحال وإعمال الجمال.




{ هَلْ لَكُمْ ممَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِيمَا
رَزَقْنَاكُمْ }

أي: هل أحد من عبيدكم وإمائكم الأرقاء يشارككم في رزقكم وترون أنكم وهم
فيه على حد سواء.




{ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ }

أي: كالأحرار الشركاء في الحقيقة الذين يخاف من قسمه واختصاص كل شيء
بحاله؟




ليس الأمر كذلك فإنه ليس أحد مما ملكت أيمانكم شريكا لكم فيما رزقكم
اللّه تعالى.




هذا، ولستم الذين خلقتموهم ورزقتموهم وهم أيضا مماليك مثلكم، فكيف ترضون
أن تجعلوا للّه شريكا من خلقه وتجعلونه بمنزلته، وعديلا له في العبادة
وأنتم لا ترضون مساواة مماليككم لكم؟




هذا من أعجب الأشياء ومن أدل شيء على [سفه] من اتخذ شريكا مع اللّه وأن
ما اتخذه باطل مضمحل ليس مساويا للّه ولا له من العبادة شيء.




{ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ }

بتوضيحها بأمثلتها { لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ }
الحقائق ويعرفون، وأما من لا يعقل فلو فُصِّلَت له الآيات وبينت له
البينات لم يكن له عقل يبصر به ما تبين ولا لُبٌّ يعقل به ما توضح، فأهل
العقول والألباب هم الذين يساق إليهم الكلام ويوجه الخطاب.




وإذا علم من هذا المثال أن من اتخذ من دون اللّه شريكا يعبده ويتوكل عليه
في أموره، فإنه ليس معه من الحق شيء فما الذي أوجب له الإقدام على أمر
باطل توضح له بطلانه وظهر برهانه؟ [لقد] أوجب لهم ذلك اتباع الهوى فلهذا
قال: { بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا
أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ }
هويت أنفسهم الناقصة التي ظهر من
نقصانها ما تعلق به هواها، أمرا يجزم العقل بفساده والفطر برده بغير علم
دلهم عليه ولا برهان قادهم إليه.




{ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ }

أي: لا تعجبوا من عدم هدايتهم فإن اللّه تعالى أضلهم بظلمهم ولا طريق
لهداية من أضل اللّه لأنه ليس أحد معارضا للّه أو منازعا له في ملكه.




{ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ }

ينصرونهم حين تحق عليهم كلمة العذاب، وتنقطع بهم الوصل والأسباب.

descriptionتفسيرالقران - صفحة 5 Emptyرد: تفسيرالقران

more_horiz
تابع
-


تفسير
سورة
ا
لروم
عدد آياتها 60

(
آية
30-60

)

وهي مكية






{ 30 - 32 } { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ
الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ
ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ
* مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا
تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ
وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ }





يأمر تعالى بالإخلاص له في جميع الأحوال وإقامة دينه فقال:
{ فَأَقِمْ وَجْهَكَ } أي: انصبه ووجهه
إلى الدين الذي هو الإسلام والإيمان والإحسان بأن تتوجه بقلبك وقصدك
وبدنك إلى إقامة شرائع الدين الظاهرة كالصلاة والزكاة والصوم والحج
ونحوها. وشرائعه الباطنة كالمحبة والخوف والرجاء والإنابة، والإحسان في
الشرائع الظاهرة والباطنة بأن تعبد اللّه فيها كأنك تراه فإن لم تكن تراه
فإنه يراك.




وخص اللّه إقامة الوجه لأن إقبال الوجه تبع لإقبال القلب ويترتب على
الأمرين سَعْيُ البدن ولهذا قال: { حَنِيفًا }
أي: مقبلا على اللّه في ذلك معرضا عما سواه.




وهذا الأمر الذي أمرناك به هو { فِطْرَةَ
اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا }
ووضع في عقولهم
حسنها واستقباح غيرها، فإن جميع أحكام الشرع الظاهرة والباطنة قد وضع
اللّه في قلوب الخلق كلهم، الميل إليها، فوضع في قلوبهم محبة الحق وإيثار
الحق وهذا حقيقة الفطرة.




ومن خرج عن هذا الأصل فلعارض عرض لفطرته أفسدها كما قال النبي صلى اللّه
عليه وسلم: "كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو
يمجسانه"




{ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ }

أي: لا أحد يبدل خلق اللّه فيجعل المخلوق على غير الوضع الذي وضعه اللّه،
{ ذَلِكَ } الذي أمرنا به
{ الدِّينُ الْقَيِّمُ } أي: الطريق
المستقيم الموصل إلى اللّه وإلى كرامته، فإن من أقام وجهه للدين حنيفا
فإنه سالك الصراط المستقيم في جميع شرائعه وطرقه،
{ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ
}
فلا يتعرفون الدين القيم وإن عرفوه لم يسلكوه.




{ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ }

وهذا تفسير لإقامة الوجه للدين، فإن الإنابة إنابة القلب وانجذاب دواعيه
لمراضي اللّه تعالى.




ويلزم من ذلك حمل البدن بمقتضى ما في القلب فشمل ذلك العبادات الظاهرة
والباطنة، ولا يتم ذلك إلا بترك المعاصي الظاهرة والباطنة فلذلك قال:
{ وَاتَّقُوهُ } فهذا يشمل فعل
المأمورات وترك المنهيات.




وخص من المأمورات الصلاة لكونها تدعو إلى الإنابة والتقوى لقوله تعالى:
{ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ
تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ }
فهذا إعانتها على
التقوى.




ثم قال: { وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ }
فهذا حثها على الإنابة. وخص من المنهيات أصلها والذي لا يقبل معه عمل وهو
الشرك فقال: { وَلَا تَكُونُوا مِنَ
الْمُشْرِكِينَ }
لكون الشرك مضادا للإنابة التي روحها الإخلاص من
كل وجه.




ثم ذكر حالة المشركين مهجنا لها ومقبحا فقال: {
مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ }
مع أن الدين واحد وهو إخلاص
العبادة للّه وحده وهؤلاء المشركون فرقوه، منهم من يعبد الأوثان
والأصنام. ومنهم من يعبد الشمس والقمر، ومنهم من يعبد الأولياء والصالحين
ومنهم يهود ومنهم نصارى.




ولهذا قال: { وَكَانُوا شِيَعًا } أي:
كل فرقة من فرق الشرك تألفت وتعصبت على نصر ما معها من الباطل ومنابذة
غيرهم ومحاربتهم.




{ كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ }

من العلوم المخالفة لعلوم الرسل { فَرِحُونَ }
به يحكمون لأنفسهم بأنه الحق وأن غيرهم على باطل، وفي هذا تحذير للمسلمين
من تشتتهم وتفرقهم فرقا كل فريق يتعصب لما معه من حق وباطل، فيكونون
مشابهين بذلك للمشركين في التفرق بل الدين واحد والرسول واحد والإله
واحد.




وأكثر الأمور الدينية وقع فيها الإجماع بين العلماء والأئمة، والأخوة
الإيمانية قد عقدها اللّه وربطها أتم ربط، فما بال ذلك كله يُلْغَى
ويُبْنَى التفرق والشقاق بين المسلمين على مسائل خفية أو فروع خلافية
يضلل بها بعضهم بعضا، ويتميز بها بعضهم عن بعض؟




فهل هذا إلا من أكبر نزغات الشيطان وأعظم مقاصده التي كاد بها للمسلمين؟




وهل السعي في جمع كلمتهم وإزالة ما بينهم من الشقاق المبني على ذلك الأصل
الباطل، إلا من أفضل الجهاد في سبيل اللّه وأفضل الأعمال المقربة إلى
اللّه؟




ولما أمر تعالى بالإنابة إليه -وكان المأمور بها هي الإنابة الاختيارية،
التي تكون في حَالَي العسر واليسر والسعة والضيق- ذكر الإنابة الاضطرارية
التي لا تكون مع الإنسان إلا عند ضيقه وكربه، فإذا زال عنه الضيق نبذها
وراء ظهره وهذه غير نافعة فقال:




{ 33 - 35 } { وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ
مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا
فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ * لِيَكْفُرُوا بِمَا
آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ * أَمْ أَنْزَلْنَا
عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ
يُشْرِكُونَ }




{ وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ }

مرض أو خوف من هلاك ونحوه. { دَعَوْا رَبَّهُمْ
مُنِيبِينَ إِلَيْهِ }
ونسوا ما كانوا به يشركون في تلك الحال
لعلمهم أنه لا يكشف الضر إلا اللّه.




{ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً }

شفاهم من مرضهم وآمنهم من خوفهم، { إِذَا
فَرِيقٌ مِنْهُمْ }
ينقضون تلك الإنابة التي صدرت منهم ويشركون به
من لا دفع عنهم ولا أغنى، ولا أفقر ولا أغنى، وكل هذا كفر بما آتاهم
اللّه ومَنَّ به عليهم حيث أنجاهم، وأنقذهم من الشدة وأزال عنهم المشقة،
فهلا قابلوا هذه النعمة الجليلة بالشكر والدوام على الإخلاص له في جميع
الأحوال؟.




{ أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا }

أي: حجة ظاهرة { فَهُوَ } أي: ذلك
السلطان، { يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ
يُشْرِكُونَ }
ويقول لهم: اثبتوا على شرككم واستمروا على شككم فإن
ما أنتم عليه هو الحق وما دعتكم الرسل إليه باطل.




فهل ذلك السلطان موجود عندهم حتى يوجب لهم شدة التمسك بالشرك؟ أم
البراهين العقلية والسمعية والكتب السماوية والرسل الكرام وسادات الأنام،
قد نهوا أشد النهي عن ذلك وحذروا من سلوك طرقه الموصلة إليه وحكموا بفساد
عقل ودين من ارتكبه؟.




فشرك هؤلاء بغير حجة ولا برهان وإنما هو أهواء النفوس، ونزغات الشيطان.




{ 36 - 37 } { وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا
وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ
يَقْنَطُونَ * أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ
يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ }




يخبر تعالى عن طبيعة أكثر الناس في حالي الرخاء والشدة أنهم إذا أذاقهم
اللّه منه رحمة من صحة وغنى ونصر ونحو ذلك فرحوا بذلك فرح بطر، لا فرح
شكر وتبجح بنعمة اللّه.




{ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ }

أي:: حال تسوؤهم وذلك { بِمَا قَدَّمَتْ
أَيْدِيهِمْ }
من المعاصي. { إِذَا هُمْ
يَقْنَطُونَ }
ييأسون من زوال ذلك الفقر والمرض ونحوه. وهذا جهل
منهم وعدم معرفة.




{ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ
وَيَقْدِرُ }

فالقنوط بعد ما علم أن الخير والشر من اللّه والرزق سعته وضيقه من تقديره
ضائع ليس له محل. فلا تنظر أيها العاقل لمجرد الأسباب بل اجعل نظرك
لمسببها ولهذا قال: { إِنَّ فِي ذَلِكَ
لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ }
فهم الذين يعتبرون بسط اللّه لمن
يشاء وقبضه، ويعرفون بذلك حكمة اللّه ورحمته وجوده وجذب القلوب لسؤاله في
جميع مطالب الرزق.





{ 38 - 39 } { فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ
وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ
وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ
رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ
وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ
هُمُ الْمُضْعِفُونَ }




أي: فأعط القريب منك -على حسب قربه وحاجته- حقه الذي أوجبه الشارع أو حض
عليه من النفقة الواجبة والصدقة والهدية والبر والسلام والإكرام والعفو
عن زلته والمسامحة عن هفوته. وكذلك [آت] المسكين الذي أسكنه الفقر
والحاجة ما تزيل به حاجته وتدفع به ضرورته من إطعامه وسقيه وكسوته.




{ وَابْنَ السَّبِيلِ }

الغريب المنقطع به في غير بلده الذي في مظنة شدة الحاجة، لأنه لا مال معه
ولا كسب قد دبر نفسه به [في] سفره، بخلاف الذي في بلده، فإنه وإن لم يكن
له مال ولكن لا بد -في الغالب- أن يكون في حرفة أو صناعة ونحوها تسد
حاجته، ولهذا جعل اللّه في الزكاة حصة للمسكين وابن السبيل.
{ ذَلِكَ } أي: إيتاء ذي القربى
والمسكين وابن السبيل { خَيْرٌ لِلَّذِينَ
يُرِيدُونَ }
بذلك العمل { وَجْه
اللَّهِ }
أي: خير غزير وثواب كثير لأنه من أفضل الأعمال الصالحة
والنفع المتعدي الذي وافق محله المقرون به الإخلاص.




فإن لم يرد به وجه اللّه لم يكن خيرا لِلْمُعْطِي وإن كان خيرا ونفعا
لِلْمُعْطي كما قال تعالى: { لَا خَيْرَ فِي
كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ
أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ }
مفهومها أن هذه المثبتات خير
لنفعها المتعدي ولكن من يفعل ذلك ابتغاء مرضاة اللّه فسوف نؤتيه أجرا
عظيما.




وقوله: { وَأُولَئِكَ } الذين عملوا هذه
الأعمال وغيرها لوجه اللّه { هُمُ
الْمُفْلِحُونَ }
الفائزون بثواب اللّه الناجون من عقابه.




ولما ذكر العمل الذي يقصد به وجهه [من النفقات] ذكر العمل الذي يقصد به
مقصد دنيوي فقال: { وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا
لِيَرْبُو فِي أَمْوَالِ النَّاسِ }
أي: ما أعطيتم من أموالكم
الزائدة عن حوائجكم وقصدكم بذلك أن يربو أي: يزيد في أموالكم بأن تعطوها
لمن تطمعون أن يعاوضكم عنها بأكثر منها، فهذا العمل لا يربو أجره عند
اللّه لكونه معدوم الشرط الذي هو الإخلاص. ومثل ذلك العمل الذي يراد به
الزيادة في الجاه والرياء عند الناس فهذا كله لا يربو عند اللّه.




{ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ }

أي: مال يطهركم من الأخلاق الرذيلة ويطهر أموالكم من البخل بها ويزيد في
دفع حاجة الْمُعْطَى. { تُرِيدُونَ }
بذلك { وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ
الْمُضْعِفُونَ }
أي: المضاعف لهم الأجر الذين تربو نفقاتهم عند
اللّه ويربيها اللّه لهم حتى تكون شيئا كثيرا.




ودل قوله: { وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ }
أن الصدقة مع اضطرار من يتعلق بالمنفق أو مع دَيْنٍ عليه لم يقضه ويقدم
عليه الصدقة أن ذلك ليس بزكاة يؤجر عليه العبد ويرد تصرفه شرعا كما قال
تعالى في الذي يمدح: { الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ
يَتَزَكَّى }
فليس مجرد إيتاء المال خيرا حتى يكون بهذه الصفة
وهو: أن يكون على وجه يتزكى به المؤتي.





{ 40 } { اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ
رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ
مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا
يُشْرِكُونَ }




يخبر تعالى أنه وحده المنفرد بخلقكم ورزقكم وإماتتكم وإحيائكم، وأنه ليس
أحد من الشركاء التي يدعوهم المشركون من يشارك اللّه في شيء من هذه
الأشياء.




فكيف يشركون بمن انفرد بهذه الأمور من ليس له تصرف فيها بوجه من الوجوه؟!




فسبحانه وتعالى وتقدس وتنزه وعلا عن شركهم، فلا يضره ذلك وإنما وبالهم
عليهم.




{ 41 } { ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ
أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ
يَرْجِعُونَ }




أي: استعلن الفساد في البر والبحر أي: فساد معايشهم ونقصها وحلول الآفات
بها، وفي أنفسهم من الأمراض والوباء وغير ذلك، وذلك بسبب ما قدمت أيديهم
من الأعمال الفاسدة المفسدة بطبعها.




هذه المذكورة { لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي
عَمِلُوا }
أي: ليعلموا أنه المجازي على الأعمال فعجل لهم نموذجا
من جزاء أعمالهم في الدنيا { لَعَلَّهُمْ
يَرْجِعُونَ }
عن أعمالهم التي أثرت لهم من الفساد ما أثرت، فتصلح
أحوالهم ويستقيم أمرهم. فسبحان من أنعم ببلائه وتفضل بعقوبته وإلا فلو
أذاقهم جميع ما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة.




{ 42 } { قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ
الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ }




والأمر بالسير في الأرض يدخل فيه السير بالأبدان والسير في القلوب للنظر
والتأمل بعواقب المتقدمين.




{ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ }

تجدون عاقبتهم شر العواقب ومآلهم شر مآل، عذاب استأصلهم وذم ولعن من خلق
اللّه يتبعهم وخزي متواصل، فاحذروا أن تفعلوا فعالهم يُحْذَى بكم حذوهم
فإن عدل اللّه وحكمته في كل زمان ومكان.





{ 43 - 45 } { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ
الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ
اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ * مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ
وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ * لِيَجْزِيَ
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا
يُحِبُّ الْكَافِرِينَ }




أي: أقبل بقلبك وتوجه بوجهك واسع ببدنك لإقامة الدين القيم المستقيم،
فنفذ أوامره ونواهيه بجد واجتهاد وقم بوظائفه الظاهرة والباطنة. وبادر
زمانك وحياتك وشبابك، { مِنْ قَبْلِ أَنْ
يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ }
وهو يوم القيامة
الذي إذا جاء لا يمكن رده ولا يرجأ العاملون أن يستأنفوا العمل بل فرغ من
الأعمال لم يبق إلا جزاء العمال. { يَوْمَئِذٍ
يَصَّدَّعُونَ }
أي: يتفرقون عن ذلك اليوم ويصدرون أشتاتا
متفاوتين لِيُرَوْا أعمالهم.




{ مَنْ كَفَرَ }

منهم { فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ } ويعاقب هو
بنفسه لا تزر وازرة وزر أخرى، { وَمَنْ عَمِلَ
صَالِحًا }
من الحقوق التي للّه أو التي للعباد الواجبة
والمستحبة، { فَلِأَنْفُسِهِمْ } لا
لغيرهم { يَمْهَدُونَ } أي: يهيئون
ولأنفسهم يعمرون آخرتهم ويستعدون للفوز بمنازلها وغرفاتها، ومع ذلك
جزاؤهم ليس مقصورا على أعمالهم بل يجزيهم اللّه من فضله الممدود وكرمه
غير المحدود ما لا تبلغه أعمالهم. وذلك لأنه أحبهم وإذا أحب اللّه عبدا
صب عليه الإحسان صبا، وأجزل له العطايا الفاخرة وأنعم عليه بالنعم
الظاهرة والباطنة.




وهذا بخلاف الكافرين فإن اللّه لما أبغضهم ومقتهم عاقبهم وعذبهم ولم
يزدهم كما زاد من قبلهم فلهذا قال: { إِنَّهُ
لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ }





{ 46 } { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ
الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ
الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ
تَشْكُرُونَ }




أي: ومن الأدلة الدالة على رحمته وبعثه الموتى وأنه الإله المعبود والملك
المحمود، { أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ }
أمام المطر { مُبَشِّرَاتٍ } بإثارتها
للسحاب ثم جمعها فتبشر بذلك النفوس قبل نزوله.




{ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ }

فينزل عليكم من رحمته مطرا تحيا به البلاد والعباد، وتذوقون من رحمته ما
تعرفون أن رحمته هي المنقذة للعباد والجالبة لأرزاقهم، فتشتاقون إلى
الإكثار من الأعمال الصالحة الفاتحة لخزائن الرحمة.




{ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ }

في البحر { بِأَمْرِهِ } القدري
{ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ }
بالتصرف في معايشكم ومصالحكم.




{ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }

من سخر لكم الأسباب وسير لكم الأمور. فهذا المقصود من النعم أن تقابل
بشكر اللّه تعالى ليزيدكم اللّه منها ويبقيها عليكم.




وأما مقابلة النعم بالكفر والمعاصي فهذه حال من بدَّل نعمة اللّه كفرا
ونعمته محنة وهو معرض لها للزوال والانتقال منه إلى غيره.





{ 47 } { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ
رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا
مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ
الْمُؤْمِنِينَ }




أي: { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ }
في الأمم السابقين { رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ
}
حين جحدوا توحيد اللّه وكذبوا بالحق فجاءتهم رسلهم يدعونهم إلى
التوحيد والإخلاص والتصديق بالحق وبطلان ما هم عليه من الكفر والضلال،
وجاءوهم بالبينات والأدلة على ذلك فلم يؤمنوا ولم يزولوا عن غيهم،
{ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا }
ونصرنا المؤمنين أتباع الرسل. { وَكَانَ حَقًّا
عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ }
أي: أوجبنا ذلك على أنفسنا
وجعلناه من جملة الحقوق المتعينة ووعدناهم به فلا بد من وقوعه.




فأنتم أيها المكذبون لمحمد صلى اللّه عليه وسلم إن بقيتم على تكذيبكم
حلَّت بكم العقوبة ونصرناه عليكم.





{ 48 - 50 } { اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ
الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ
يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ
فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ
يَسْتَبْشِرُونَ * وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ
مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ * فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ
كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي
الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }




يخبر تعالى عن كمال قدرته وتمام نعمته أنه {
يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا }
من الأرض،
{ فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ } أي:
يمده ويوسعه { كَيْفَ يَشَاءُ } أي: على
أي حالة أرادها من ذلك ثم { يَجْعَلُهُ }
أي: ذلك السحاب الواسع { كِسَفًا } أي:
سحابا ثخينا قد طبق بعضه فوق بعض.




{ فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ }

أي: السحاب نقطا صغارا متفرقة، لا تنزل جميعا فتفسد ما أتت عليه.




{ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ }

بذلك المطر { مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ
إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ }
يبشر بعضهم بعضا بنزوله وذلك لشدة
حاجتهم وضرورتهم إليه فلهذا قال: { وَإِنْ
كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ
لَمُبْلِسِينَ }
أي: آيسين قانطين لتأخر وقت مجيئه، أي: فلما نزل
في تلك الحال صار له موقع عظيم [عندهم] وفرح واستبشار.




{ فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ
بَعْدَ مَوْتِهَا }

فاهتزت وربت وأنبتت من كل زوج كريم.




{ إِنَّ ذَلِكَ }

الذي أحيا الأرض بعد موتها { لَمُحْيِي
الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }
فقدرته تعالى لا
يتعاصى عليها شيء وإن تعاصى على قدر خلقه ودق عن أفهامهم وحارت فيه
عقولهم.





{ 51 - 53 } { وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا
لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ * فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ
الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا
مُدْبِرِينَ * وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ
تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ }





يخبر تعالى عن حالة الخلق وأنهم مع هذه النعم عليهم بإحياء الأرض بعد
موتها ونشر رحمة اللّه تعالى لو أرسلنا على هذا النبات الناشئ عن المطر
وعلى زروعهم ريحا مضرة متلفة أو منقصة، {
فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا }
قد تداعى إلى التلف
{ لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ }
فينسون النعم الماضية ويبادرون إلى الكفر.




وهؤلاء لا ينفع فيهم وعظ ولا زجر { فَإِنَّكَ
لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ }

وبالأولى { إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ }
فإن الموانع قد توفرت فيهم عن الانقياد والسماع النافع كتوفر هذه الموانع
المذكورة عن سماع الصوت الحسي.




{ وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ }

لأنهم لا يقبلون الإبصار بسبب عماهم فليس منهم قابلية له.




{ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ }

فهؤلاء الذين ينفع فيهم إسماع الهدى المؤمنون بآياتنا بقلوبهم المنقادون
لأوامرنا المسلمون لنا، لأن معهم الداعي القوي لقبول النصائح والمواعظ
وهو استعدادهم للإيمان بكل آية من آيات اللّه واستعدادهم لتنفيذ ما
يقدرون عليه من أوامر اللّه ونواهيه.





{ 54 } { اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ
ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ
بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ
الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ }




يخبر تعالى عن سعة علمه وعظيم اقتداره وكمال حكمته، ابتدأ خلق الآدميين
من ضعف وهو الأطوار الأول من خلقه من نطفة إلى علقة إلى مضغة إلى أن صار
حيوانا في الأرحام إلى أن ولد، وهو في سن الطفولية وهو إذ ذاك في غاية
الضعف وعدم القوة والقدرة. ثم ما زال اللّه يزيد في قوته شيئا فشيئا حتى
بلغ سن الشباب واستوت قوته وكملت قواه الظاهرة والباطنة، ثم انتقل من هذا
الطور ورجع إلى الضعف والشيبة والهرم.




{ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ }

بحسب حكمته. ومن حكمته أن يري العبد ضعفه وأن قوته محفوفة بضعفين وأنه
ليس له من نفسه إلا النقص، ولولا تقوية اللّه له لما وصل إلى قوة وقدرة
ولو استمرت قوته في الزيادة لطغى وبغى وعتا.




وليعلم العباد كمال قدرة اللّه التي لا تزال مستمرة يخلق بها الأشياء،
ويدبر بها الأمور ولا يلحقها إعياء ولا ضعف ولا نقص بوجه من الوجوه.





{ 55 - 57 } { وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ
يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا
يُؤْفَكُونَ * وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ
لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ
الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ * فَيَوْمَئِذٍ لَا
يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ
}




يخبر تعالى عن يوم القيامة وسرعة مجيئه وأنه إذا قامت الساعة
{ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ } باللّه
أنهم { مَا لَبِثُوا } في الدنيا إلَا
{ سَاعَة } وذلك اعتذار منهم لعله
ينفعهم العذر واستقصار لمدة الدنيا.




ولما كان قولهم كذبا لا حقيقة له قال تعالى: {
كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ }
أي: ما زالوا -وهم في الدنيا-
يؤفكون عن الحقائق ويأتفكون الكذب، ففي الدنيا كذَّبوا الحق الذي جاءتهم
به المرسلون، وفي الآخرة أنكروا الأمر المحسوس وهو اللبث الطويل في
الدنيا، فهذا خلقهم القبيح والعبد يبعث على ما مات عليه.




{ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ }

أي: مَنَّ اللّه عليهم بهما وصارا وصفا لهم العلم بالحق والإيمان
المستلزم إيثار الحق، وإذا كانوا عالمين بالحق مؤثرين له لزم أن يكون
قولهم مطابقا للواقع مناسبا لأحوالهم.




فلهذا قالوا الحق: { لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي
كِتَابِ اللَّهِ }
أي: في قضائه وقدره، الذي كتبه اللّه عليكم وفي
حكمه { إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ } أي:
عمرتم عُمْرًا يتذكر فيه المتذكر ويتدبر فيه المتدبر ويعتبر فيه المعتبر
حتى صار البعث ووصلتم إلى هذه الحال.




{ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ }

فلذلك أنكرتموه في الدنيا وأنكرتم إقامتكم في الدنيا وقتا تتمكنون فيه من
الإنابة والتوبة، فلم يزل الجهل شعاركم وآثاره من التكذيب والخسار
دثاركم.




{ فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ }

فإن كذبوا وزعموا أنهم ما قامت عليهم الحجة أو ما تمكنوا من الإيمان ظهر
كذبهم بشهادة أهل العلم والإيمان، وشهادة جلودهم وأيديهم وأرجلهم، وإن
طلبوا الإعذار وأنهم يردون ولا يعودون لما نُهوا عنه لم يُمَكَّنُوا فإنه
فات وقت الإعذار فلا تقبل معذرتهم، { وَلَا
هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ }
أي: يزال عتبهم والعتاب عنهم.





{ 58 - 60 } { وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ
فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ
لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ *
كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ *
فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ
لَا يُوقِنُونَ }




أي: { وَلَقَدْ ضَرَبْنَا } لأجل
عنايتنا ورحمتنا ولطفنا وحسن تعليمنا {
لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ }
تتضح به
الحقائق وتعرف به الأمور وتنقطع به الحجة. وهذا عام في الأمثال التي
يضربها اللّه في تقريب الأمور المعقولة بالمحسوسة. وفي الإخبار بما سيكون
وجلاء حقيقته [حتى] كأنه وقع.




ومنه في هذا الموضع ذكر اللّه تعالى ما يكون يوم القيامة وحالة المجرمين
فيه وشدة أسفهم وأنه لا يقبل منهم عذر ولا عتاب.




ولكن أبى الظالمون الكافرون إلا معاندة الحق الواضح ولهذا قال:
{ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ } أي: أي
آية تدل على صحة ما جئت به { لَيَقُولَنَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ }
أي: قالوا
للحق: إنه باطل. وهذا من كفرهم وجراءتهم وطَبْعِ اللّه على قلوبهم وجهلهم
المفرط ولهذا قال: { كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ
عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ }
فلا يدخلها خير ولا
تدرك الأشياء على حقيقتها بل ترى الحق باطلا والباطل حقا.




{ فَاصْبِرْ }

على ما أمرت به وعلى دعوتهم إلى اللّه، ولو رأيت منهم إعراضا فلا يصدنك
ذلك.




{ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ }

أي: لا شك فيه وهذا مما يعين على الصبر فإن العبد إذا علم أن عمله غير
ضائع بل سيجده كاملا هان عليه ما يلقاه من المكاره ويسر عليه كل عسير
واستقل من عمله كل كثير.




{ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ }

أي: قد ضعف إيمانهم وقل يقينهم فخفت لذلك أحلامهم وقل صبرهم، فإياك أن
يستخفك هؤلاء فإنك إن لم تجعلهم منك على بال وتحذر منهم وإلا استخفوك
وحملوك على عدم الثبات على الأوامر والنواهي، والنفس تساعدهم على هذا
وتطلب التشبه والموافقة وهذا مما يدل على أن كل مؤمن موقن رزين العقل
يسهل عليه الصبر، وكل ضعيف اليقين ضعيف [العقل] خفيفه.




فالأول بمنزلة اللب والآخر بمنزلة القشور فاللّه المستعان.

descriptionتفسيرالقران - صفحة 5 Emptyرد: تفسيرالقران

more_horiz
-
تفسير سورة العنكبوت عدد آياتها 69

(



آية


1-37
)

وهي مكية






{ 1-3 } {
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ
يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ
فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ
صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ
}




يخبر تعالى عن [تمام] حكمته وأن حكمته لا تقتضي أن كل من قال " إنه مؤمن
" وادعى لنفسه الإيمان، أن يبقوا في حالة يسلمون فيها من الفتن والمحن،
ولا يعرض لهم ما يشوش عليهم إيمانهم وفروعه، فإنهم لو كان الأمر كذلك، لم
يتميز الصادق من الكاذب، والمحق من المبطل، ولكن سنته وعادته في الأولين
وفي هذه الأمة، أن يبتليهم بالسراء والضراء، والعسر واليسر، والمنشط
والمكره، والغنى والفقر، وإدالة الأعداء عليهم في بعض الأحيان، ومجاهدة
الأعداء بالقول والعمل ونحو ذلك من الفتن، التي ترجع كلها إلى فتنة
الشبهات المعارضة للعقيدة، والشهوات المعارضة للإرادة، فمن كان عند ورود
الشبهات يثبت إيمانه ولا يتزلزل، ويدفعها بما معه من الحق وعند ورود
الشهوات الموجبة والداعية إلى المعاصي والذنوب، أو الصارفة عن ما أمر
اللّه به ورسوله، يعمل بمقتضى الإيمان، ويجاهد شهوته، دل ذلك على صدق
إيمانه وصحته.




ومن كان عند ورود الشبهات تؤثر في قلبه شكا وريبا، وعند اعتراض الشهوات
تصرفه إلى المعاصي أو تصدفه عن الواجبات، دلَّ ذلك على عدم صحة إيمانه
وصدقه.




والناس في هذا المقام درجات لا يحصيها إلا اللّه، فمستقل ومستكثر، فنسأل
اللّه تعالى أن يثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، وأن
يثبت قلوبنا على دينه، فالابتلاء والامتحان للنفوس بمنزلة الكير، يخرج
خبثها وطيبها.





{ 4 } { أَمْ
حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا
يَحْكُمُونَ
}




أي: أحسب الذين همهم فعل السيئات وارتكاب الجنايات، أن أعمالهم ستهمل،
وأن اللّه سيغفل عنهم، أو يفوتونه، فلذلك أقدموا عليها، وسهل عليهم
عملها؟ { سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ } أي:
ساء حكمهم، فإنه حكم جائر، لتضمنه إنكار قدرة اللّه وحكمته، وأن لديهم
قدرة يمتنعون بها من عقاب اللّه، وهم أضعف شيء وأعجزه.





{ 5-6 } {
مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ
السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ
إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ
}




يعني: يا أيها المحب لربه، المشتاق لقربه ولقائه، المسارع في مرضاته،
أبشر بقرب لقاء الحبيب، فإنه آت، وكل آت إنما هو قريب، فتزود للقائه، وسر
نحوه، مستصحبا الرجاء، مؤملا الوصول إليه، ولكن، ما كل من يَدَّعِي
يُعْطَى بدعواه، ولا كل من تمنى يعطى ما تمناه، فإن اللّه سميع للأصوات،
عليم بالنيات، فمن كان صادقا في ذلك أناله ما يرجو، ومن كان كاذبا لم
تنفعه دعواه، وهو العليم بمن يصلح لحبه ومن لا يصلح.




{ وَمَنْ جَاهَدَ } نفسه وشيطانه، وعدوه
الكافر، { فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ
} لأن نفعه راجع إليه، وثمرته عائدة إليه، والله غني عن العالمين،
لم يأمرهم بما أمرهم به لينتفع به، ولا نهاهم عما نهاهم عنه بُخْلًا
عليهم.




وقد علم أن الأوامر والنواهي يحتاج المكلف فيها إلى جهاد، لأن نفسه
تتثاقل بطبعها عن الخير، وشيطانه ينهاه عنه، وعدوه الكافر يمنعه من إقامة
دينه، كما ينبغي، وكل هذا معارضات تحتاج إلى مجاهدات وسعي شديد.




{ 7 } {
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ
سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا
يَعْمَلُونَ
}




يعني أن الذين منَّ اللّه عليهم بالإيمان والعمل الصالح، سيكفر اللّه
عنهم سيئاتهم، لأن الحسنات يذهبن السيئات، {
وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ
} وهي
أعمال الخير، من واجبات ومستحبات، فهي أحسن ما يعمل العبد، لأنه يعمل
المباحات أيضا، وغيرها.





{ 8 } {
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ
لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ
مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ
}








أي: وأمرنا الإنسان، ووصيناه بوالديه حسنا، أي: ببرهما والإحسان إليهما،
بالقول والعمل، وأن يحافظ على ذلك، ولا يعقهما ويسيء إليهما في قوله
وعمله.




{ وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ
لَكَ بِهِ عِلْمٌ
} وليس لأحد علم بصحة الشرك باللّه، وهذا تعظيم
لأمر الشرك، { فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ
مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ
}
فأجازيكم بأعمالكم، فبروا والديكم وقدموا طاعتهما، إلا على طاعة اللّه
ورسوله، فإنها مقدمة على كل شيء.





{ 9 } {
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي
الصَّالِحِينَ
}




أي: من آمن باللّه وعمل صالحا، فإن اللّه وعده أن يدخله الجنة في جملة
عباده الصالحين، من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، كل على حسب
درجته ومرتبته عند اللّه، فالإيمان الصحيح والعمل الصالح عنوان على سعادة
صاحبه، وأنه من أهل الرحمن، والصالحين من عباد اللّه تعالى.





{ 10-11 } {
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي
اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ
نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ
اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ * وَلَيَعْلَمَنَّ
اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ
}








لما ذكر تعالى أنه لا بد أن يمتحن من ادَّعى الإيمان، ليظهر الصادق من
الكاذب، بيَّن تعالى أن من الناس فريقا لا صبر لهم على المحن، ولا ثبات
لهم على بعض الزلازل فقال: { وَمِنَ النَّاسِ
مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ
}
بضرب، أو أخذ مال، أو تعيير، ليرتد عن دينه، وليراجع الباطل، {
جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ
} أي: يجعلها صادَّة
له عن الإيمان والثبات عليه، كما أن العذاب صادٌّ عما هو سببه.




{ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ
لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ
} لأنه موافق للهوى، فهذا
الصنف من الناس من الذين قال اللّه فيهم: {
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ
خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى
وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ
الْمُبِينُ
}




{ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي
صُدُورِ الْعَالَمِينَ
} حيث أخبركم بهذا الفريق، الذي حاله كما
وصف لكم، فتعرفون بذلك كمال علمه وسعة حكمته.




{ وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا
وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ
} أي: فلذلك قَدَّرَ مِحَنًا
وابتلاء، ليظهر علمه فيهم، فيجازيهم بما ظهر منهم، لا بما يعلمه بمجرده،
لأنهم قد يحتجون على اللّه، أنهم لو ابتُلُوا لَثَبَتُوا.





{ 12-13 } {
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا
وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ
مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ
وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ
}








يخبر تعالى عن افتراء الكفار ودعوتهم للمؤمنين إلى دينهم، وفي ضمن ذلك،
تحذير المؤمنين من الاغترار بهم والوقوع في مكرهم، فقال: {
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا
} فاتركوا دينكم أو بعضه واتبعونا في ديننا، فإننا نضمن لكم الأمر
{ وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ } وهذا
الأمر ليس بأيديهم، فلهذا قال: { وَمَا هُمْ
بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ
} لا قليل ولا كثير.
فهذا التحمل، ولو رضي به صاحبه، فإنه لا يفيد شيئا، فإن الحق للّه،
واللّه تعالى لم يمكن العبد من التصرف في حقه إلا بأمره وحكمه، وحكمه {
أن لَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى
}




ولما كان قوله: { وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ
خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ
} قد يتوهم منه أيضا، أن الكفار الداعين
إلى كفرهم -ونحوهم ممن دعا إلى باطله- ليس عليهم إلا ذنبهم الذي ارتكبوه،
دون الذنب الذي فعله غيرهم، ولو كانوا متسببين فيه، قال: [مخبرا عن هذا
الوهم]




{ وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ } أي:
أثقال ذنوبهم التي عملوها { وَأَثْقَالًا مَعَ
أَثْقَالِهِمْ
} وهي الذنوب التي بسببهم ومن جرائهم، فالذنب الذي
فعله التابع [لكل من التابع]، والمتبوع حصته منه، هذا لأنه فعله وباشره،
والمتبوع [لأنه] تسبب في فعله ودعا إليه، كما أن الحسنة إذا فعلها التابع
له أجرها بالمباشرة، وللداعي أجره بالتسبب. {
وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ

} من الشر وتزيينه، [وقولهم] { وَلْنَحْمِلْ
خَطَايَاكُمْ
}





{ 14-15 } {
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ
سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ
ظَالِمُونَ *
فَأَنْجَيْنَاهُ
وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ
}




يخبر تعالى عن حكمه وحكمته في عقوبة الأمم المكذبة، وأن اللّه أرسل عبده
ورسوله نوحا عليه الصلاة السلام إلى قومه، يدعوهم إلى التوحيد وإفراد
اللّه بالعبادة، والنهي عن الأنداد والأصنام، {
فَلَبِثَ فِيهِمْ
} نبيا داعيا { أَلْفَ
سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا
} وهو لا يَنِي بدعوتهم، ولا يفتر
في نصحهم، يدعوهم ليلا ونهارا وسرا وجهارا، فلم يرشدوا ولم يهتدوا، بل
استمروا على كفرهم وطغيانهم، حتى دعا عليهم نبيهم نوح عليه الصلاة
والسلام، مع شدة صبره وحلمه واحتماله، فقال: {
رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا
}
{ فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ } أي: الماء
الذي نزل من السماء بكثرة، ونبع من الأرض بشدة {
وَهُمْ ظَالِمُونَ
} مستحقون للعذاب.




{ فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ
} الذين ركبوا معه، أهله ومن آمن به. {
وَجَعَلْنَاهَا
} أي: السفينة، أو قصة نوح {
آيَةً لِلْعَالَمِينَ
} يعتبرون بها، على أن من كذب الرسل، آخر
أمره الهلاك، وأن المؤمنين سيجعل اللّه لهم من كل هم فرجا، ومن كل ضيق
مخرجا.




وجعل اللّه أيضا السفينة، أي: جنسها آية للعالمين، يعتبرون بها رحمة
ربهم، الذي قيض لهم أسبابها، ويسر لهم أمرها، وجعلها تحملهم وتحمل متاعهم
من محل إلى محل ومن قُطرٍ إلى قُطرٍ.





{ 16-22 } {
وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ
ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * إِنَّمَا
تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ
الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ
رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا
لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ
مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ *
أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ
إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ
فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ
الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * يُعَذِّبُ مَنْ
يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ * وَمَا
أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ
مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ
}








يذكر تعالى أنه أرسل خليله إبراهيم عليه الصلاة والسلام إلى قومه، يدعوهم
إلى الله، فقال [لهم]: { اعْبُدُوا اللَّهَ
} أي: وحِّدوه، وأخلصوا له العبادة، وامتثلوا ما أمركم به، {
وَاتَّقُوهُ
} أن يغضب عليكم، فيعذبكم، وذلك بترك ما يغضبه من
المعاصي، { ذَلِكُمْ } أي: عبادة الله
وتقواه { خَيْرٌ لَكُمْ } من ترك ذلك،
وهذا من باب إطلاق { أفعل التفضيل } بما
ليس في الطرف الآخر منه شيء، فإن ترك عبادة الله، وترك تقواه، لا خير فيه
بوجه، وإنما كانت عبادة الله وتقواه خيرا للناس، لأنه لا سبيل إلى نيل
كرامته في الدنيا والآخرة إلا بذلك، وكل خير يوجد في الدنيا والآخرة،
فإنه من آثار عبادة الله وتقواه.




{ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } ذلك،
فاعلموا الأمور وانظروا ما هو أولى بالإيثار، فلما أمرهم بعبادة الله
وتقواه، نهاهم عن عبادة الأصنام، وبيَّن لهم نقصها وعدم استحقاقها
للعبودية، فقال: { إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ
دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا
} تنحتونها
وتخلقونها بأيديكم، وتخلقون لها أسماء الآلهة، وتختلقون الكذب بالأمر
بعبادتها والتمسك بذلك، { إِنَّ الَّذِينَ
تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ
} في نقصه، وأنه ليس فيه ما يدعو
إلى عبادته، { لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا
} فكأنه قيل: قد بان لنا أن هذه الأوثان مخلوقة ناقصة، لا تملك
نفعا ولا ضرا، ولا موتا ولا حياة ولا نشورا، وأن من هذا وصفه، لا يستحق
أدنى أدنى أدنى مثقال مثقال مثقال ذرة من العبادة والتأله، والقلوب لا بد
أن تطلب معبودا تألهه وتسأله حوائجها، فقال -حاثا لهم على من يستحق
العبادة- { فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ
الرِّزْقَ
} فإنه هو الميسر له، المقدر، المجيب لدعوة من دعاه في
أمر دينه ودنياه { وَاعْبُدُوهُ } وحده
لا شريك له، لكونه الكامل النافع الضار، المتفرد بالتدبير، {
وَاشْكُرُوا لَهُ
} وحده، لكون جميع ما وصل ويصل إلى الخلق من
النعم فمنه، وجميع ما اندفع ويندفع من النقم عنهم فهو الدافع لها. {
إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ
} يجازيكم على ما عملتم، وينبئكم بما أسررتم
وأعلنتم، فاحذروا القدوم عليه وأنتم على شرككم، وارغبوا فيما يقربكم
إليه، ويثيبكم -عند القدوم- عليه.




{ أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ
الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ
} يوم القيامة {
إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ
} كما قال تعالى: {
وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ
عَلَيْهِ
}




{ قُلْ } لهم، إن حصل معهم ريب وشك في
الابتداء: { سِيرُوا فِي الْأَرْضِ }
بأبدانكم وقلوبكم { فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ
الْخَلْقَ
} فإنكم ستجدون أمما من الآدميين والحيوانات، لا تزال
توجد شيئا فشيئا، وتجدون النبات والأشجار، كيف تحدث وقتا بعد وقت، وتجدون
السحاب والرياح ونحوها، مستمرة في تجددها، بل الخلق دائما في بدء وإعادة،
فانظر إليهم وقت موتتهم الصغرى -النوم- وقد هجم عليهم الليل بظلامه،
فسكنت منهم الحركات، وانقطعت منهم الأصوات، وصاروا في فرشهم ومأواهم
كالكس ام احمد عماد، ثم إنهم لم يزالوا على ذلك طول ليلهم، حتى انفلق الإصباح،
فانتبهوا من رقدتهم، وبعثوا من موتتهم، قائلين: " الحمد للّه الذي أحيانا
بعد ما أماتنا وإليه النشور "




ولهذا قال: { ثُمَّ اللَّهُ } بعد
الإعادة { يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ
} وهي النشأة التي لا تقبل موتا ولا نوما، وإنما هو الخلود
والدوام في إحدى الدارين. { إِنَّ اللَّهَ
عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
} فقدرته تعالى لا يعجزها شيء وكما
قدر بها على ابتداء الخلق، فقدرته على الإعادة من باب أولى وأحرى.




{ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ
يَشَاءُ
} أي: هو المنفرد بالحكم الجزائي، وهو إثابة الطائعين
ورحمتهم، وتعذيب العاصين والتنكيل بهم. {
وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ
} أي: ترجعون إلى الدار، التي بها تجري
عليكم أحكام عذابه ورحمته، فاكتسبوا في هذه الدار، ما هو من أسباب رحمته
من الطاعات، وابتعدوا من أسباب عذابه، وهي المعاصي.




{ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ
وَلَا فِي السَّمَاءِ
} أي: يا هؤلاء المكذبون، المتجرؤن على
المعاصي، لا تحسبوا أنه مغفول عنكم، أو معجزون للّه في الأرض ولا في
السماء، فلا تغرنكم قدرتكم وما زينت لكم أنفسكم وخدعتكم، من النجاة من
عذاب الله، فلستم بمعجزين الله في جميع أقطار العالم.




{ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ
وَلِيٍّ
} يتولاكم، فيحصل لكم مصالح دينكم ودنياكم، {
وَلَا نَصِيرٍ
} ينصركم، فيدفع عنكم المكاره.





{ 23 } {
وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا
مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
}








يخبر تعالى من هم الذين زال عنهم الخير، وحصل لهم الشر، وأنهم الذين
كفروا به وبرسله، وبما جاءوهم به، وكذبوا بلقاء اللّه، فليس عندهم إلا
الدنيا، فلذلك قدموا على ما أقدموا عليه من الشرك والمعاصي، لأنه ليس في
قلوبهم ما يخوفهم من عاقبة ذلك، ولهذا قال تعالى: {
أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي
} أي: فلذلك لم يعلموا سببا
واحدا يحصلون به الرحمة، وإلا لو طمعوا في رحمته، لعملوا لذلك أعمالا،
والإياس من رحمة اللّه من أعظم المحاذير، وهو نوعان: إياس الكفار منها،
وتركهم جميع سبب يقربهم منها، وإياس العصاة، بسبب كثرة جناياتهم أوحشتهم،
فملكت قلوبهم، فأحدث لها الإياس، { وَأُولَئِكَ
لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
} أي: مؤلم موجع. وكأن هذه الآيات معترضات
بين كلام إبراهيم عليه السلام لقومه، وردهم عليه، واللّه أعلم بذلك.




{ 24-25 } {
فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ
حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ
لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ
اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ
بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ
}




أي: فما كان مجاوبة قوم إبراهيم إبراهيم حين دعاهم إلى ربه قبول دعوته،
والاهتداء بنصحه، ورؤية نعمة اللّه عليهم بإرساله إليهم، وإنما كان
مجاوبتهم له شر مجاوبة.




{ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ }
أشنع القتلات، وهم أناس مقتدرون، لهم السلطان، فألقوه في النار {
فَأَنْجَاهُ اللَّهُ
} منها.




{ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ
يُؤْمِنُونَ
} فيعلمون صحة ما جاءت به الرسل، وبِرَّهُمْ ونصحهم،
وبطلان قول من خالفهم وناقضهم، وأن المعارضين للرسل كأنهم تواصوا وحث
بعضهم بعضا على التكذيب.




{ وَقَالَ } لهم إبراهيم في جملة ما
قاله من نصحه: { إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ
دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا
} أي: غاية ذلك، مودة في الدنيا ستنقطع وتضمحل، {
ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ
بَعْضُكُمْ بَعْضًا
} أي: يتبرأ كل من العابدين والمعبودين من
الآخر { وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا
لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ
} فكيف
تتعلقون بمن يعلم أنه سيتبرأ من عابديه ويلعنهم؟ " و " أن مأوى الجميع،
العابدين والمعبودين " النَّار " وليس أحد ينصرهم من عذاب اللّه، ولا
يدفع عنهم عقابه.




{ 26-27 } {
فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ
وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ
أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ
}




أي: لم يزل إبراهيم عليه الصلاة والسلام يدعو قومه، وهم مستمرون على
عنادهم، إلا أنه آمن له بدعوته لوط، الذي نبأه اللّه، وأرسله إلى قومه
كما سيأتي ذكره.




{ وَقَالَ } إبراهيم حين رأى أن دعوة
قومه لا تفيدهم شيئا: { إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى
رَبِّي
} أي: هاجر أرض السوء، ومهاجر إلى الأرض المباركة، وهي
الشام، { إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ } أي:
الذي له القوة، وهو يقدر على هدايتكم، ولكنه حَكِيمٌ ما اقتضت حكمته ذلك،
ولما اعتزلهم وفارقهم، وهم بحالهم، لم يذكر اللّه عنهم أنه أهلكهم بعذاب،
بل ذكر اعتزاله إياهم، وهجرته من بين أظهرهم.




فأما ما يذكر في الإسرائيليات، أن اللّه تعالى فتح على قومه باب البعوض،
فشرب دماءهم، وأكل لحومهم، وأتلفهم عن آخرهم، فهذا يتوقف الجزم به على
الدليل الشرعي، ولم يوجد، فلو كان اللّه استأصلهم بالعذاب لذكره كما ذكر
إهلاك الأمم المكذبة، ولكن لعل من أسرار ذلك، أن الخليل عليه السلام من
أرحم الخلق وأفضلهم [وأحلمهم] وأجلهم، فلم يدع على قومه كما دعا غيره،
ولم يكن اللّه ليجري بسببه عذابا عاما.




ومما يدل على ذلك، أنه راجع الملائكة في إهلاك قوم لوط، وجادلهم، ودافع
عنهم، وهم ليسوا قومه، واللّه أعلم بالحال.




{ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ
} أي: بعد ما هاجر إلى الشام {
وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ
} فلم
يأت بعده نبي إلا من ذريته، ولا نزل كتاب إلا على ذريته، حتى ختموا
بالنبي محمد صلى اللّه عليه وسلم وعليهم أجمعين.




وهذا [من] أعظم المناقب والمفاخر، أن تكون مواد الهداية والرحمة والسعادة
والفلاح في ذريَّته، وعلى أيديهم اهتدى المهتدون، وآمن المؤمنون، وصلح
الصالحون. { وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي
الدُّنْيَا
} من الزوجة الجميلة فائقة الجمال، والرزق الواسع،
والأولاد، الذين بهم قرت عينه، ومعرفة اللّه ومحبته، والإنابة إليه.




{ وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ
الصَّالِحِينَ
} بل هو ومحمد صلى اللّه عليهما وسلم أفضل الصالحين
على الإطلاق، وأعلاهم منزلة، فجمع اللّه له بين سعادة الدنيا والآخرة.





{ 28-35 } {
وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا
سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ * أَئِنَّكُمْ
لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي
نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ
قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ *
قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ
} إلى آخر
القصة




تقدم أن لوطا عليه السلام آمن لإبراهيم، وصار من المهتدين به، وقد ذكروا
أنه ليس من ذرية إبراهيم، وإنما هو ابن أخي إبراهيم.




فقوله تعالى: { وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ
النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ
} وإن كان عاما، فلا يناقض كون لوط
نبيا رسولا وهو ليس من ذريته، لأن الآية جيء بها لسياق المدح والثناء على
الخليل، وقد أخبر أن لوطا اهتدى على يديه، ومن اهتدى على يديه أكمل ممن
اهتدى من ذريته بالنسبة إلى فضيلة الهادي، واللّه أعلم.




فأرسل اللّه لوطا إلى قومه، وكانوا مع شركهم، قد جمعوا بين فعل الفاحشة
في الذكور، وتقطيع السبيل، وفشو المنكرات في مجالسهم، فنصحهم لوط عن هذه
الأمور، وبيَّن لهم قبائحها في نفسها، وما تئول إليه من العقوبة البليغة،
فلم يرعووا ولم يذكروا. { فَمَا كَانَ جَوَابَ
قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ
مِنَ الصَّادِقِينَ
}




فأيس منهم نبيهم، وعلم استحقاقهم العذاب، وجزع من شدة تكذيبهم له، فدعا
عليهم و{ قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى
الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ
} فاستجاب اللّه دعاءه، فأرسل الملائكة
لإهلاكهم، فمروا بإبراهيم قبل، وبشروه بإسحاق، ومن وراء إسحاق يعقوب، ثم
سألهم إبراهيم أين يريدون؟ فأخبروه أنهم يريدون إهلاك قوم لوط، فجعل
يراجعهم ويقول: { إِنَّ فِيهَا لُوطًا }
فقالوا له: { لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ
إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ
} ثم مضوا حتى
أتوا لوطا، فساءه مجيئهم، وضاق بهم ذرعا، بحيث إنه لم يعرفهم، وظن أنهم
من جملة أبناء السبيل الضيوف، فخاف عليهم من قومه، فقالوا له: {
لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ
} وأخبروه أنهم رسل اللّه.




{ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا
امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ
هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا
} أي: عذابا {
مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ
} فأمروه أن يسري
بأهله ليلا، فلما أصبحوا، قلب اللّه عليهم ديارهم، فجعل عاليها سافلها،
وأمطر عليهم حجارة من سجيل متتابعة حتى أبادتهم وأهلكتهم، فصاروا سَمَرًا
من الأسمار، وعبرة من العِبر.




{ وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً
لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ
} أي: تركنا من ديار قوم لوط، آثارا بينة
لقوم يعقلون العِبر بقلوبهم، [فينتفعون بها]، كما قال تعالى: {
وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا
تَعْقِلُونَ
}




{ 36-37 } {
وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا
اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ
مُفْسِدِينَ * فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي
دَارِهِمْ جَاثِمِينَ
}




أي { و } أرسلنا {
إِلَى مَدْيَنَ
} القبيلة المعروفة المشهورة {
شُعَيْبًا
} فأمرهم بعبادة اللّه وحده لا شريك له، والإيمان
بالبعث ورجائه، والعمل له، ونهاهم عن الإفساد في الأرض، ببخس المكاييل
والموازين، والسعي بقطع الطرق، فكذبوه فأخذهم عذاب اللّه {
فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ
}
.

descriptionتفسيرالقران - صفحة 5 Emptyرد: تفسيرالقران

more_horiz
تابع
-
تفسير سورة العنكبوت عدد آياتها 69

(
آية
38-69

)

وهي مكية






{ 38-40 } {
وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ
وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ
السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ * وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ
وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا
فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ * فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ
فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ
أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ
وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ
وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ }




أي: وكذلك ما فعلنا بعاد وثمود، وقد علمتم قصصهم، وتبين لكم بشيء
تشاهدونه بأبصاركم من مساكنهم وآثارهم التي بانوا عنها، وقد جاءتهم رسلهم
بالآيات البينات، المفيدة للبصيرة، فكذبوهم وجادلوهم.
{ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ
}
حتى ظنوا أنها أفضل مما جاءتهم به الرسل.




وكذلك قارون، وفرعون، وهامان، حين بعث اللّه إليهم موسى بن عمران،
بالآيات البينات، والبراهين الساطعات، فلم ينقادوا، واستكبروا في الأرض،
[على عباد اللّه فأذلوهم، وعلى الحق فردوه فلم يقدروا على النجاء حين
نزلت بهم العقوبة] { وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ
}
اللّه، ولا فائتين، بل سلموا واستسلموا.




{ فَكُلا }

من هؤلاء الأمم المكذبة { أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ
}
على قدره، وبعقوبة مناسبة له، {
فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا }
أي: عذابا
يحصبهم، كقوم عاد، حين أرسل اللّه عليهم الريح العقيم، و
{ سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ
وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى
كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ }




{ وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ }

كقوم صالح، { وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ
الْأَرْضَ }
كقارون، { وَمِنْهُمْ مَنْ
أَغْرَقْنَا }
كفرعون وهامان وجنودهما.




{ وَمَا كَانَ اللَّهُ }

أي: ما ينبغي ولا يليق به تعالى أن يظلمهم لكمال عدله، وغناه التام عن
جميع الخلق. { وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ
يَظْلِمُونَ }
منعوها حقها التي هي بصدده، فإنها مخلوقة لعبادة
اللّه وحده، فهؤلاء وضعوها في غير موضعها، وأشغلوها بالشهوات والمعاصي،
فضروها غاية الضرر، من حيث ظنوا أنهم ينفعونها.





{ 41 - 43 } { مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا
مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ
بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ
كَانُوا يَعْلَمُونَ * إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ
دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَتِلْكَ
الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا
الْعَالِمُونَ }




هذا مثل ضربه اللّه لمن عبد معه غيره، يقصد به التعزز والتَّقَوِّي
والنفع، وأن الأمر بخلاف مقصوده، فإن مثله كمثل العنكبوت، اتخذت بيتا
يقيها من الحر والبرد والآفات، { وَإِنَّ
أَوْهَنَ الْبُيُوتِ }
أضعفها وأوهاها {
لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ }
فالعنكبوت من الحيوانات الضعيفة،
وبيتها من أضعف البيوت، فما ازدادت باتخاذه إلا ضعفا، كذلك هؤلاء الذين
يتخذون من دونه أولياء، فقراء عاجزون من جميع الوجوه، وحين اتخذوا
الأولياء من دونه يتعززون بهم ويستنصرونهم، ازدادوا ضعفا إلى ضعفهم،
ووهنا إلى وهنهم.




فإنهم اتكلوا عليهم في كثير من مصالحهم، وألقوها عليهم، وتخلوا هم عنها،
على أن أولئك سيقومون بها، فخذلوهم، فلم يحصلوا منهم على طائل، ولا
أنالوهم من معونتهم أقل نائل.




فلو كانوا يعلمون حقيقة العلم، حالهم وحال من اتخذوهم، لم يتخذوهم،
ولتبرأوا منهم، ولتولوا الرب القادر الرحيم، الذي إذا تولاه عبده وتوكل
عليه، كفاه مئونة دينه ودنياه، وازداد قوة إلى قوته، في قلبه وفي بدنه
وحاله وأعماله.




ولما بين نهاية ضعف آلهة المشركين، ارتقى من هذا إلى ما هو أبلغ منه،
وأنها ليست بشيء، بل هي مجرد أسماء سموها، وظنون اعتقدوها، وعند التحقيق،
يتبين للعاقل بطلانها وعدمها، ولهذا قال: {
إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ }

أي: إنه تعالى يعلم -وهو عالم الغيب والشهادة- أنهم ما يدعون من دون
اللّه شيئا موجودا، ولا إلها له حقيقة، كقوله تعالى:
{ إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا
أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ }

وقوله: { وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ
مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وإن هم
إلا يخرصون }




{ وَهُوَ الْعَزِيزُ الحكيم }

الذي له القوة جميعا، التي قهر بها جميع المخلوقات،
{ الْحَكِيمُ } الذي يضع الأشياء
مواضعها، الذي أحسن كل شيء خلقه، وأتقن ما أمره.




{ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ }

أي: لأجلهم ولانتفاعهم وتعليمهم، لكونها من الطرق الموضحة للعلوم، ولأنها
تقرب الأمور المعقولة بالأمور المحسوسة، فيتضح المعنى المطلوب بسببها،
فهي مصلحة لعموم الناس.




{ و }

لكن { مَا يَعْقِلُهَا } بفهمها
وتدبرها، وتطبيقها على ما ضربت له، وعقلها في القلب
{ إِلَّا الْعَالِمُونَ } أي: أهل العلم
الحقيقي، الذين وصل العلم إلى قلوبهم.




وهذا مدح للأمثال التي يضربها، وحثٌّ على تدبرها وتعقلها، ومدح لمن
يعقلها، وأنه عنوان على أنه من أهل العلم، فعلم أن من لم يعقلها ليس من
العالمين.




والسبب في ذلك، أن الأمثال التي يضربها اللّه في القرآن، إنما هي للأمور
الكبار، والمطالب العالية، والمسائل الجليلة، فأهل العلم يعرفون أنها أهم
من غيرها، لاعتناء اللّه بها، وحثه عباده على تعقلها وتدبرها، فيبذلون
جهدهم في معرفتها.




وأما من لم يعقلها، مع أهميتها، فإن ذلك دليل على أنه ليس من أهل العلم،
لأنه إذا لم يعرف المسائل المهمة، فعدم معرفته غيرها من باب أولى وأحرى.
ولهذا، أكثر ما يضرب اللّه الأمثال في أصول الدين ونحوها.





{ 44 } { خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ }




أي: هو تعالى المنفرد بخلق السماوات، على علوها وارتفاعها وسعتها وحسنها
وما فيها من الشمس والقمر والكواكب والملائكة، والأرض وما فيها من الجبال
والبحار والبراري والقفار والأشجار ونحوها، وكل ذلك خلقه بالحق، أي: لم
يخلقها عبثا ولا سدى، ولا لغير فائدة، وإنما خلقها، ليقوم أمره وشرعه،
ولتتم نعمته على عباده، وليروا من حكمته وقهره وتدبيره، ما يدلهم على أنه
وحده معبودهم ومحبوبهم وإلههم. { إِنَّ فِي
ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ }
على كثير من المطالب الإيمانية،
إذا تدبرها المؤمن رأى ذلك فيها عيانا.





{ 45 } { اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ
الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ
الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ
يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ }




يأمر تعالى بتلاوة وحيه وتنزيله، وهو هذا الكتاب العظيم، ومعنى تلاوته
اتباعه، بامتثال ما يأمر به، واجتناب ما ينهى عنه، والاهتداء بهداه،
وتصديق أخباره، وتدبر معانيه، وتلاوة ألفاظه، فصار تلاوة لفظه جزء المعنى
وبعضه، وإذا كان هذا معنى تلاوة الكتاب، علم أن إقامة الدين كله، داخلة
في تلاوة الكتاب. فيكون قوله: { وَأَقِمِ
الصَّلَاةَ }
من باب عطف الخاص على العام، لفضل الصلاة وشرفها،
وآثارها الجميلة، وهي { إِنَّ الصَّلَاةَ
تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ }




والفحشاء: كل ما استعظم واستفحش من المعاصي التي تشتهيها النفوس.




والمنكر: كل معصية تنكرها العقول والفطر.




ووجه كون الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، أن العبد المقيم لها، المتمم
لأركانها وشروطها وخشوعها، يستنير قلبه، ويتطهر فؤاده، ويزداد إيمانه،
وتقوى رغبته في الخير، وتقل أو تعدم رغبته في الشر، فبالضرورة، مداومتها
والمحافظة عليها على هذا الوجه، تنهى عن الفحشاء والمنكر، فهذا من أعظم
مقاصدها وثمراتها. وثَمَّ في الصلاة مقصود أعظم من هذا وأكبر، وهو ما
اشتملت عليه من ذكر اللّه، بالقلب واللسان والبدن. فإن اللّه تعالى، إنما
خلق الخلق لعبادته، وأفضل عبادة تقع منهم الصلاة، وفيها من عبوديات
الجوارح كلها، ما ليس في غيرها، ولهذا قال: {
وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ }




ويحتمل أنه لما أمر بالصلاة ومدحها، أخبر أن ذكره تعالى خارج الصلاة أكبر
من الصلاة، كما هو قول جمهور المفسرين، لكن الأول أولى، لأن الصلاة أفضل
من الذكر خارجها، ولأنها -كما تقدم- بنفسها من أكبر الذكر.




{ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ }

من خير وشر، فيجازيكم على ذلك أكمل الجزاء وأوفاه.




تفسير الجزء الحادي والعشرون



{ 46 } { وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ
أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا
بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا
وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ }




ينهى تعالى عن مجادلة أهل الكتاب، إذا كانت من غير بصيرة من المجادل، أو
بغير قاعدة مرضية، وأن لا يجادلوا إلا بالتي هي أحسن، بحسن خلق ولطف ولين
كلام، ودعوة إلى الحق وتحسينه، ورد عن الباطل وتهجينه، بأقرب طريق موصل
لذلك، وأن لا يكون القصد منها مجرد المجادلة والمغالبة وحب العلو، بل
يكون القصد بيان الحق وهداية الخلق، إلا من ظلم من أهل الكتاب، بأن ظهر
من قصده وحاله، أنه لا إرادة له في الحق، وإنما يجادل على وجه المشاغبة
والمغالبة، فهذا لا فائدة في جداله، لأن المقصود منها ضائع.




{ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ
وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ }

أي: ولتكن مجادلتكم لأهل الكتاب مبنية على الإيمان بما أنزل إليكم وأنزل
إليهم، وعلى الإيمان برسولكم ورسولهم، وعلى أن الإله واحد، ولا تكن
مناظرتكم إياهم [على وجه] يحصل به القدح في شيء من الكتب الإلهية، أو
بأحد من الرسل، كما يفعله الجاهل عند مناظرة الخصوم، يقدح بجميع ما معهم،
من حق وباطل، فهذا ظلم، وخروج عن الواجب وآداب النظر، فإن الواجب، أن يرد
ما مع الخصم من الباطل، ويقبل ما معه من الحق، ولا يرد الحق لأجل قوله،
ولو كان كافرا. وأيضا، فإن بناء مناظرة أهل الكتاب، على هذا الطريق، فيه
إلزام لهم بالإقرار بالقرآن، وبالرسول الذي جاء به، فإنه إذا تكلم في
الأصول الدينية التي اتفقت عليها الأنبياء والكتب، وتقررت عند
المتناظرين، وثبتت حقائقها عندهما، وكانت الكتب السابقة والمرسلون مع
القرآن ومحمد صلى اللّه عليه وسلم قد بينتها ودلت عليها وأخبرت بها، فإنه
يلزم التصديق بالكتب كلها، والرسل كلهم، وهذا من خصائص الإسلام.




فأما أن يقال: نؤمن بما دل عليه الكتاب الفلاني، دون الكتاب الفلاني وهو
الحق الذي صدق ما قبله، فهذا ظلم وجور، وهو يرجع إلى قوله بالتكذيب، لأنه
إذا كذب القرآن الدال عليها، المصدق لما بين يديه من التوراة، فإنه مكذب
لما زعم أنه به مؤمن.




وأيضا، فإن كل طريق تثبت به نبوة أي: نبي كان، فإن مثلها وأعظم منها،
دالة على نبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم، وكل شبهة يقدح بها في نبوة محمد
صلى اللّه عليه وسلم، فإن مثلها أو أعظم منها، يمكن توجيهها إلى نبوة
غيره، فإذا ثبت بطلانها في غيره، فثبوت بطلانها في حقه صلى اللّه عليه
وسلم أظهر وأظهر.




وقوله: { وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ }
أي: منقادون مستسلمون لأمره. ومن آمن به، واتخذه إلها، وآمن بجميع كتبه
ورسله، وانقاد للّه واتبع رسله، فهو السعيد، ومن انحرف عن هذا الطريق،
فهو الشقي.





{ 47 - 48 } { وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ
الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ
هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا
الْكَافِرُونَ * وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا
تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ }





أي: { وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ }
يا محمد، هذا { الْكِتَاب } الكريم،
المبين كل نبأ عظيم، الداعي إلى كل خلق فاضل، وأمر كامل، المصدق للكتب
السابقة، المخبر به الأنبياء الأقدمون.




{ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ }

فعرفوه حق معرفته، ولم يداخلهم حسد وهوى.




{ يُؤْمِنُونَ بِهِ }

لأنهم تيقنوا صدقه، بما لديهم من الموافقات، وبما عندهم من البشارات،
وبما تميزوا به من معرفة الحسن والقبيح، والصدق والكذب.




{ وَمِنْ هَؤُلَاءِ }

الموجودين { مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ }
إيمانا عن بصيرة، لا عن رغبته ولا رهبته. {
وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ }
الذين دأبهم
الجحود للحق والعناد له. وهذا حصر لمن كفر به، أنه لا يكون من أحد قصده
متابعة الحق، وإلا، فكل من له قصد صحيح، فإنه لا بد أن يؤمن به، لما
اشتمل عليه من البينات، لكل من له عقل، أو ألقى السمع وهو شهيد.




ومما يدل على صحته، أنه جاء به هذا النبي الأمين، الذي عرف قومه صدقه
وأمانته ومدخله ومخرجه وسائر أحواله، وهو لا يكتب بيده خطا، ولا يقرأ خطا
مكتوبا، فإتيانه به في هذه الحال، من أظهر البينات القاطعة، التي لا تقبل
الارتياب، أنه من عند اللّه العزيز الحميد، ولهذا قال:
{ وَمَا كُنْتَ تَتْلُو } أي: تقرأ
{ مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ
بِيَمِينِكَ إِذًا }
لو كنت بهذه الحال
{ لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ }
فقالوا: تعلمه من الكتب السابقة،
أو استنسخه منها، فأما وقد نزل على قلبك، كتابا جليلا، تحديت به الفصحاء
والبلغاء، الأعداء الألداء، أن يأتوا بمثله، أو بسورة من مثله، فعجزوا
غاية العجز، بل ولا حدثتهم أنفسهم بالمعارضة، لعلمهم ببلاغته وفصاحته،
وأن كلام أحد من البشر، لا يبلغ أن يكون مجاريا له أو على منواله، ولهذا
قال:





{ 49 } { بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي
صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا
الظَّالِمُونَ }




أي: { بَلْ } هذا القرآن
{ آيَات بَيِّنَات } لا خفيات،
{ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ }
وهم سادة الخلق، وعقلاؤهم، وأولو الألباب منهم، والكمل منهم.




فإذا كان آيات بينات في صدور أمثال هؤلاء، كانوا حجة على غيرهم، وإنكار
غيرهم لا يضر، ولا يكون ذلك إلا ظلما، ولهذا قال:
{ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا
الظَّالِمُونَ }
لأنه لا يجحدها إلا جاهل تكلم بغير علم، ولم يقتد
بأهل العلم، وهو متمكن من معرفته على حقيقته، وإما متجاهل عرف أنه حق
فعانده، وعرف صدقه فخالفه.





{ 50 - 52 } { وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ
عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ
وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ * أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا
أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ
لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * قُلْ كَفَى بِاللَّهِ
بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ
أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ }




أي: واعترض هؤلاء الظالمون المكذبون للرسول ولما جاء به، واقترحوا عليه
نزول آيات عينوها، كقولهم: { وَقَالُوا لَنْ
نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا }

الآيات. فتعيين الآيات ليس عندهم، ولا عند الرسول صلى اللّه عليه وسلم،
فإن في ذلك تدبيرا مع اللّه، وأنه لو كان كذلك، وينبغي أن يكون كذلك،
وليس لأحد من الأمر شيء.




ولهذا قال: { قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ
اللَّهِ }
إن شاء أنزلها أو منعها {
وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ }
وليس لي مرتبة فوق هذه
المرتبة.




وإذا كان القصد بيان الحق من الباطل، فإذا حصل المقصود -بأي: طريق- كان
اقتراح الآيات المعينات على ذلك ظلما وجورا، وتكبرا على اللّه وعلى الحق.




بل لو قدر أن تنزل تلك الآيات، ويكون في قلوبهم أنهم لا يؤمنون بالحق إلا
بها، كان ذلك ليس بإيمان، وإنما ذلك شيء وافق أهواءهم، فآمنوا، لا لأنه
حق، بل لتلك الآيات. فأي فائدة حصلت في إنزالها على التقدير الفرضي؟




ولما كان المقصود بيان الحق، ذكر تعالى طريقه، فقال:
{ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ } في علمهم بصدقك
وصدق ما جئت به { أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ
الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ }
وهذا كلام مختصر جامع، فيه من
الآيات البينات، والدلالات الباهرات، شيء كثير، فإنه كما تقدم إتيان
الرسول به بمجرده وهو أمي، من أكبر الآيات على صدقه.




ثم عجزهم عن معارضته، وتحديه إياهم آية أخرى، ثم ظهوره، وبروزه جهرا
علانية، يتلى عليهم، ويقال: هو من عند اللّه، قد أظهره الرسول، وهو في
وقت قلَّ فيه أنصاره، وكثر مخالفوه وأعداؤه، فلم يخفه، ولم يثن ذلك عزمه،
بل صرح به على رءوس الأشهاد، ونادى به بين الحاضر والباد، بأن هذا كلام
ربي، فهل أحد يقدر على معارضته، أو ينطق بمباراته أو يستطيع مجاراته؟.




ثم إخباره عن قصص الأولين، وأنباء السابقين والغيوب المتقدمة والمتأخرة،
مع مطابقته للواقع.




ثم هيمنته على الكتب المتقدمة، وتصحيحه للصحيح، ونَفْيُ ما أدخل فيها من
التحريف والتبديل، ثم هدايته لسواء السبيل، في أمره ونهيه، فما أمر بشيء
فقال العقل "ليته لم يأمر به" ولا نهى عن شيء فقال العقل: "ليته لم ينه
عنه" بل هو مطابق للعدل والميزان، والحكمة المعقولة لذوي البصائر والعقول
[ثم مسايرة إرشاداته وهدايته وأحكامه لكل حال وكل زمان بحيث لا تصلح
الأمور إلا به]




فجميع ذلك يكفي من أراد تصديق الحق، وعمل على طلب الحق، فلا كفى اللّه من
لم يكفه القرآن، ولا شفى اللّه من لم يشفه الفرقان، ومن اهتدى به واكتفى،
فإنه خير له فلذلك قال: { إِنَّ فِي ذَلِكَ
لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ }
وذلك لما يحصلون فيه
من العلم الكثير، والخير الغزير، وتزكية القلوب والأرواح، وتطهير
العقائد، وتكميل الأخلاق، والفتوحات الإلهية، والأسرار الربانية.




{ قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا }

فأنا قد استشهدته، فإن كنت كاذبا، أَحَلَّ بي ما به تعتبرون، وإن كان
إنما يؤيدني وينصرني وييسر لي الأمور، فلتكفكم هذه الشهادة الجليلة من
اللّه، فإن وقع في قلوبكم أن شهادته -وأنتم لم تسمعوه ولم تروه- لا تكفي
دليلا، فإنه { يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ }




ومن جملة معلوماته حالي وحالكم، ومقالي لكم فلو كنت متقولا عليه، مع علمه
بذلك، وقدرته على عقوبتي، لكان [قدحا في علمه وقدرته وحكمته] كما قال
تعالى: { وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ
الْأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ
الْوَتِينَ }




{ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ
الْخَاسِرُونَ }

حيث هم خسروا الإيمان باللّه وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وحيث
فاتهم النعيم المقيم، وحيث حصل لهم في مقابلة الحق الصحيح كل باطل قبيح،
وفي مقابلة النعيم كل عذاب أليم، فخسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة.





{ 53 - 55 } { وَيَسْتَعْجِلُونَكَ
بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ
وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ *
يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ
بِالْكَافِرِينَ * يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ
تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ }




يخبر تعالى عن جهل المكذبين للرسول وما جاء به، وأنهم يقولون -استعجالا
للعذاب، وزيادة تكذيب- { مَتَى هَذَا الْوَعْدُ
إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ }
؟




يقول تعالى: { وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى }
مضروب لنزوله، ولم يأت بعد، { لَجَاءَهُمُ
الْعَذَابُ }
بسبب تعجيزهم لنا وتكذيبهم الحق، فلو آخذناهم
بجهلهم، لكان كلامهم أسرع لبلائهم وعقوبتهم، ولكن -مع ذلك- فلا يستبطئون
نزوله، فإنه سيأتيهم { بَغْتَةً وَهُمْ لَا
يَشْعُرُونَ }




فوقع كما أخبر اللّه تعالى، لما قدموا لـ "بدر" بطرين مفاخرين، ظانين




أنهم قادرون على مقصودهم، فأهانهم اللّه، وقتل كبارهم، واستوعب جملة
أشرارهم، ولم يبق فيهم بيت إلا أصابته تلك المصيبة، فأتاهم العذاب من حيث
لم يحتسبوا، ونزل بهم وهم لا يشعرون.




هذا، وإن لم ينزل عليهم العذاب الدنيوي، فإن أمامهم العذاب الأخروي، الذي
لا يخلص منهم أحد منه، سواء عوجل بعذاب الدنيا أو أمهل.
{ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ
بِالْكَافِرِينَ }
ليس لهم عنها معدل ولا متصرف، قد أحاطت بهم من
كل جانب، كما أحاطت بهم ذنوبهم وسيئاتهم وكفرهم، وذلك العذاب، هو العذاب
الشديد.




{ يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ
أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ }

فإن أعمالكم انقلبت عليكم عذابا، وشملكم العذاب كما شملكم الكفر والذنوب.





{ 56 - 59 } { يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا
إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ * كُلُّ نَفْسٍ
ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ * وَالَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ
الْعَامِلِينَ * الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ }




يقول تعالى: { يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا
}
بي وصدقوا رسولي { إِنَّ أَرْضِي
وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ }
فإذا تعذرت عليكم عبادة ربكم
في أرض، فارتحلوا منها إلى أرض أخرى، حيث كانت العبادة للّه وحده، فأماكن
العبادة ومواضعها، واسعة، والمعبود واحد، والموت لا بد أن ينزل بكم ثم
ترجعون إلى ربكم، فيجازي من أحسن عبادته وجمع بين الإيمان والعمل الصالح
بإنزاله الغرف العالية، والمنازل الأنيقة الجامعة لما تشتهيه الأنفس،
وتلذ الأعين، وأنتم فيها خالدون.




فـ { نعم } تلك المنازل، في جنات النعيم
{ أَجْرُ الْعَامِلِينَ } للّه.




{ الَّذِينَ صَبَرُوا }

على عبادة اللّه { وَعَلَى رَبِّهِمْ
يَتَوَكَّلُونَ }
في ذلك. فصبرهم على عبادة اللّه، يقتضي بذل
الجهد والطاقة في ذلك، والمحاربة العظيمة للشيطان، الذي يدعوهم إلى
الإخلال بشيء من ذلك، وتوكلهم، يقتضي شدة اعتمادهم على اللّه، وحسن ظنهم
به، أن يحقق ما عزموا عليه من الأعمال ويكملها، ونص على التوكل، وإن كان
داخلا في الصبر، لأنه يحتاج إليه في كل فعل وترك مأمور به، ولا يتم إلا
به.





{ 60 } { وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا
تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ
الْعَلِيمُ }




أي: الباري تبارك وتعالى، قد تكفل بأرزاق الخلائق كلهم، قويهم وعاجزهم،
فكم { مِنْ دَابَّةٍ } في الأرض، ضعيفة
القوى، ضعيفة العقل. { لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا
}
ولا تدخره، بل لم تزل، لا شيء معها من الرزق، ولا يزال اللّه
يسخر لها الرزق، في كل وقت بوقته.




{ اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ }

فكلكم عيال اللّه، القائم برزقكم، كما قام بخلقكم وتدبيركم،
{ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } فلا
يخفى عليه خافية، ولا تهلك دابة من عدم الرزق بسبب أنها خافية عليه.




كما قال تعالى: { وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي
الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا
وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ }





{ 61 - 63 } { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ
لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ * اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ
لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ
شَيْءٍ عَلِيمٌ * وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ
مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ
اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ }




هذا استدلال على المشركين المكذبين بتوحيد الإلهية والعبادة، وإلزام لهم
بما أثبتوه من توحيد الربوبية، فأنت لو سألتهم من خلق السماوات والأرض،
ومن نزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها، ومن بيده تدبير جميع
الأشياء؟ { لَيَقُولُنَّ اللَّهُ }
وحده، ولَاعْتَرَفُوا بعجز الأوثان ومن عبدوه مع اللّه على شيء من ذلك.




فاعجب لإفكهم وكذبهم، وعدولهم إلى من أقروا بعجزه، وأنه لا يستحق أن يدبر
شيئا، وسَجِّلْ عليهم بعدم العقل، وأنهم السفهاء، ضعفاء الأحلام، فهل تجد
أضعف عقلا، وأقل بصيرة، ممن أتى إلى حجر، أو قبر ونحوه، وهو يدري أنه لا
ينفع ولا يضر، ولا يخلق ولا يرزق، ثم صرف له خالص الإخلاص، وصافي
العبودية، وأشركه مع الرب، الخالق الرازق، النافع الضار. وقل: الحمد لله
الذي بين الهدى من الضلال، وأوضح بطلان ما عليه المشركون، ليحذره
الموفقون.




وقل: الحمد لله، الذي خلق العالم العلوي والسفلي، وقام بتدبيرهم ورزقهم،
وبسط الرزق على من يشاء، وضيقه على من يشاء، حكمة منه، ولعلمه بما يصلح
عباده وما ينبغي لهم.




{ 64 - 69 } { وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ
وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا
يَعْلَمُونَ * فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ
مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا
هُمْ يُشْرِكُونَ * لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا
فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ * أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا
آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ
يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ * وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ
افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ
أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ * وَالَّذِينَ جَاهَدُوا
فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ
الْمُحْسِنِينَ }




يخبر تعالى عن حالة الدنيا والآخرة، وفي ضمن ذلك، التزهيد في الدنيا
والتشويق للأخرى، فقال: { وَمَا هَذِهِ
الْحَيَاةُ الدُّنْيَا }
في الحقيقة {
إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ }
تلهو بها القلوب، وتلعب بها الأبدان،
بسبب ما جعل اللّه فيها من الزينة واللذات، والشهوات الخالبة للقلوب
المعرضة، الباهجة للعيون الغافلة، المفرحة للنفوس المبطلة الباطلة، ثم
تزول سريعا، وتنقضي جميعا، ولم يحصل منها محبها إلا على الندم والحسرة
والخسران.




وأما الدار الآخرة، فإنها دار { الحيوان }
أي: الحياة الكاملة، التي من لوازمها، أن تكون أبدان أهلها في غاية
القوة، وقواهم في غاية الشدة، لأنها أبدان وقوى خلقت للحياة، وأن يكون
موجودا فيها كل ما تكمل به الحياة، وتتم به اللذات، من مفرحات القلوب،
وشهوات الأبدان، من المآكل، والمشارب، والمناكح، وغير ذلك، مما لا عين
رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. {
لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ }
لما آثروا الدنيا على الآخرة، ولو
كانوا يعقلون لما رغبوا عن دار الحيوان، ورغبوا في دار اللهو واللعب، فدل
ذلك على أن الذين يعلمون، لا بد أن يؤثروا الآخرة على الدنيا، لما
يعلمونه من حالة الدارين.




ثم ألزم تعالى المشركين بإخلاصهم للّه تعالى، في حالة الشدة، عند ركوب
البحر وتلاطم أمواجه وخوفهم الهلاك، يتركون إذا أندادهم، ويخلصون الدعاء
للّه وحده لا شريك له، فلما زالت عنهم الشدة، ونجى من أخلصوا له الدعاء
إلى البر، أشركوا به من لا نجاهم من شدة، ولا أزال عنهم مشقة.




فهلا أخلصوا للّه الدعاء في حال الرخاء والشدة، واليسر والعسر، ليكونوا
مؤمنين به حقا، مستحقين ثوابه، مندفعا عنهم عقابه.




ولكن شركهم هذا بعد نعمتنا عليهم، بالنجاة من البحر، ليكون عاقبته كفر ما
آتيناهم، ومقابلة النعمة بالإساءة، وليكملوا تمتعهم في الدنيا، الذي هو
كتمتع الأنعام، ليس لهم همٌّ إلا بطونهم وفروجهم.




{ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ }

حين ينتقلون من الدنيا إلى الآخرة، شدة الأسف وأليم العقوبة.




ثم امتن عليهم بحرمه الآمن، وأنهم أهله في أمن وسعة ورزق، والناس من
حولهم يتخطفون ويخافون، أفلا يعبدون الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف.




{ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ }

وهو ما هم عليه من الشرك، والأقوال، والأفعال الباطلة.
{ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ } هم
{ يَكْفُرُونَ } فأين ذهبت عقولهم،
وانسلخت أحلامهم حيث آثروا الضلال على الهدى، والباطل على الحق، والشقاء
على السعادة، وحيث كانوا أظلم الخلق.




{ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا }

فنسب ما هو عليه من الضلال والباطل إلى اللّه،
{ أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ }
على يد رسوله محمد
صلى اللّه عليه وسلم.




ولكن هذا الظالم العنيد، أمامه جهنم { أَلَيْسَ
فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ }
يؤخذ بها منهم الحق،
ويخزون بها، وتكون منزلهم الدائم، الذين لا يخرجون منه.




{ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا }

وهم الذين هاجروا في سبيل اللّه، وجاهدوا أعداءهم، وبذلوا مجهودهم في
اتباع مرضاته، { لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا }
أي: الطرق الموصلة إلينا، وذلك لأنهم محسنون.




{ وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ }

بالعون والنصر والهداية. دل هذا، على أن أحرى الناس بموافقة الصواب أهل
الجهاد، وعلى أن من أحسن فيما أمر به أعانه اللّه ويسر له أسباب الهداية،
وعلى أن من جد واجتهد في طلب العلم الشرعي، فإنه يحصل له من الهداية
والمعونة على تحصيل مطلوبه أمور إلهية، خارجة عن مدرك اجتهاده، وتيسر له
أمر العلم، فإن طلب العلم الشرعي من الجهاد في سبيل اللّه، بل هو أحد
نَوْعَي الجهاد، الذي لا يقوم به إلا خواص الخلق، وهو الجهاد بالقول
واللسان، للكفار والمنافقين، والجهاد على تعليم أمور الدين، وعلى رد نزاع
المخالفين للحق، ولو كانوا من المسلمين.




تم تفسير سورة العنكبوت بحمد اللّه وعونه.

descriptionتفسيرالقران - صفحة 5 Emptyرد: تفسيرالقران

more_horiz
-

تفسير سورة القصص



عدد آياتها 88


(



آية



1-51

)

وهي مكية






{ 1-51 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ
الرَّحِيمِ طسم * تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ * نَتْلُوا
عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ
يُؤْمِنُونَ }
إلى آخر القصة



{ تِلْكَ } الآيات المستحقة للتعظيم
والتفخيم { آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ
} لكل أمر يحتاج إليه العباد، من معرفة ربهم، ومعرفة حقوقه،
ومعرفة أوليائه وأعدائه، ومعرفة وقائعه وأيامه، ومعرفة ثواب الأعمال،
وجزاء العمال، فهذا القرآن قد بينها غاية التبيين، وجلَّاها للعباد،
ووضحها.




ومن جملة ما أبان، قصة موسى وفرعون، فإنه أبداها، وأعادها في عدة مواضع،
وبسطها في هذا الموضع فقال: { نَتْلُوا
عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ
} فإن
نبأهما غريب، وخبرهما عجيب.




{ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } فإليهم يساق
الخطاب، ويوجه الكلام، حيث إن معهم من الإيمان، ما يقبلون به على تدبُّر
ذلك، وتلقِّيه بالقبول والاهتداء بمواقع العبر، ويزدادون به إيمانا
ويقينا، وخيرا إلى خيرهم، وأما من عداهم، فلا يستفيدون منه إلا إقامة
الحجة عليهم، وصانه اللّه عنهم، وجعل بينهم وبينه حجابا أن يفقهوه.




فأول هذه القصة { إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي
الْأَرْضِ
} في ملكه وسلطانه وجنوده وجبروته، فصار من أهل العلو
فيها، لا من الأعلين فيها.




{ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا } أي:
طوائف متفرقة، يتصرف فيهم بشهوته، وينفذ فيهم ما أراد من قهره، وسطوته.




{ يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ }
وتلك الطائفة، هم بنو إسرائيل، الذين فضلهم اللّه على العالمين، الذين
ينبغي له أن يكرمهم ويجلهم، ولكنه استضعفهم، بحيث إنه رأى أنهم لا منعة
لهم تمنعهم مما أراده فيهم، فصار لا يبالي بهم، ولا يهتم بشأنهم، وبلغت
به الحال إلى أنه { يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ
وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ
} خوفا من أن يكثروا، فيغمروه في
بلاده، ويصير لهم الملك.




{ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ }
الذين لا قصد لهم في إصلاح الدين، ولا إصلاح الدنيا، وهذا من إفساده في
الأرض.




{ وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ
اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ
} بأن نزيل عنهم مواد الاستضعاف،
ونهلك من قاومهم، ونخذل من ناوأهم. {
وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً
} في الدين، وذلك لا يحصل مع استضعاف،
بل لا بد من تمكين في الأرض، وقدرة تامة، {
وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ
} للأرض، الذين لهم العاقبة في
الدنيا قبل الآخرة.




{ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ }
فهذه الأمور كلها، قد تعلقت بها إرادة اللّه، وجرت بها مشيئته، {
و
} كذلك نريد أن { نُرِيَ فِرْعَوْنَ
وَهَامَانَ
} وزيره { وَجُنُودَهُمَا
} التي بها صالوا وجالوا، وعلوا وبغوا {
مِنْهُمْ
} أي: من هذه الطائفة المستضعفة. {
مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ
} من إخراجهم من ديارهم، ولذلك كانوا
يسعون في قمعهم، وكسر شوكتهم، وتقتيل أبنائهم، الذين هم محل ذلك، فكل هذا
قد أراده اللّه، وإذا أراد أمرا سهل أسبابه، ونهج طرقه، وهذا الأمر كذلك،
فإنه قدر وأجرى من الأسباب -التي لم يشعر بها لا أولياؤه ولا أعداؤه- ما
هو سبب موصل إلى هذا المقصود.




فأول ذلك، لما أوجد اللّه رسوله موسى، الذي جعل استنقاذ هذا الشعب
الإسرائيلي على يديه وبسببه، وكان في وقت تلك المخافة العظيمة، التي
يذبحون بها الأبناء، أوحى إلى أمه أن ترضعه، ويمكث عندها.




{ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ } بأن أحسست
أحدا تخافين عليه منه أن يوصله إليهم، {
فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ
} أي نيل مصر، في وسط تابوت مغلق، {
وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ
مِنَ الْمُرْسَلِينَ
} فبشرها بأنه سيرده عليها، وأنه سيكبر ويسلم
من كيدهم، ويجعله اللّه رسولا.




وهذا من أعظم البشائر الجليلة، وتقديم هذه البشارة لأم موسى، ليطمئن
قلبها، ويسكن روعها، فإنها خافت عليه، وفعلت ما أمرت به، ألقته في اليم،
فساقه اللّه تعالى.




{ فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ } فصار
من لقطهم، وهم الذين باشروا وجدانه، {
لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا
} أي: لتكون العاقبة والمآل
من هذا الالتقاط، أن يكون عدوا لهم وحزنا يحزنهم، بسبب أن الحذر لا ينفع
من القدر، وأن الذي خافوا منه من بني إسرائيل، قيض اللّه أن يكون زعيمهم،
يتربى تحت أيديهم، وعلى نظرهم، وبكفالتهم.




وعند التدبر والتأمل، تجد في طي ذلك من المصالح لبني إسرائيل، ودفع كثير
من الأمور الفادحة بهم، ومنع كثير من التعديات قبل رسالته، بحيث إنه صار
من كبار المملكة.




وبالطبع، إنه لا بد أن يحصل منه مدافعة عن حقوق شعبه هذا، وهو هو ذو
الهمة العالية والغيرة المتوقدة، ولهذا وصلت الحال بذلك الشعب المستضعف
-الذي بلغ بهم الذل والإهانة إلى ما قص اللّه علينا بعضه - أن صار بعض
أفراده، ينازع ذلك الشعب القاهر العالي في الأرض، كما سيأتي بيانه.




وهذا مقدمة للظهور، فإن اللّه تعالى من سنته الجارية، أن جعل الأمور تمشي
على التدريج شيئا فشيئا، ولا تأتي دفعة واحدة.




وقوله: { إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ
وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ
} أي: فأردنا أن نعاقبهم على
خطئهم ونكيد هم، جزاء على مكرهم وكيدهم.




فلما التقطه آل فرعون، حنَّن اللّه عليه امرأة فرعون الفاضلة الجليلة
المؤمنة " آسية " بنت مزاحم " وَقَالَتِ " هذا الولد {
قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ
} أي: أبقه لنا،
لِتقرَّ به أعيننا، ونستر به في حياتنا.




{ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ
وَلَدًا
} أي: لا يخلو، إما أن يكون بمنزلة الخدم، الذين يسعون في
نفعنا وخدمتنا، أو نرقيه منزلة أعلى من ذلك، نجعله ولدا لنا، ونكرمه،
ونجله.




فقدَّر اللّه تعالى، أنه نفع امرأة فرعون، التي قالت تلك المقالة، فإنه
لما صار قرة عين لها، وأحبته حبا شديدا، فلم يزل لها بمنزلة الولد الشفيق
حتى كبر ونبأه اللّه وأرسله، فبادرت إلى الإسلام والإيمان به، رضي اللّه
عنها وأرضاها.




قال اللّه تعالى هذه المراجعات [والمقاولات] في شأن موسى: {
وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ
} ما جرى به القلم، ومضى به القدر، من
وصوله إلى ما وصل إليه، وهذا من لطفه تعالى، فإنهم لو شعروا، لكان لهم
وله، شأن آخر.




ولما فقدت موسى أمه، حزنت حزنا شديدا، وأصبح فؤادها فارغا من القلق الذي
أزعجها، على مقتضى الحالة البشرية، مع أن اللّه تعالى نهاها عن الحزن
والخوف، ووعدها برده.




{ إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ } أي:
بما في قلبها { لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى
قَلْبِهَا
} فثبتناها، فصبرت، ولم تبد به. {
لِتَكُونَ
} بذلك الصبر والثبات { مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ
} فإن العبد إذا أصابته مصيبة فصبر وثبت، ازداد
بذلك إيمانه، ودل ذلك، على أن استمرار الجزع مع العبد، دليل على ضعف
إيمانه.




{ وَقَالَتِ } أم موسى {
لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ
} أي: اذهبي [فقصي الأثر عن أخيك وابحثي عنه
من غير أن يحس بك أحد أو يشعروا بمقصودك فذهبت تقصه] {
فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ
} أي: أبصرته
على وجه، كأنها مارة لا قصد لها فيه.




وهذا من تمام الحزم والحذر، فإنها لو أبصرته، وجاءت إليهم قاصدة، لظنوا
بها أنها هي التي ألقته، فربما عزموا على ذبحه، عقوبة لأهله.




ومن لطف اللّه بموسى وأمه، أن منعه من قبول ثدي امرأة، فأخرجوه إلى السوق
رحمة به، ولعل أحدا يطلبه، فجاءت أخته، وهو بتلك الحال {
فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ
وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ
}




وهذا جُلُّ غرضهم، فإنهم أحبوه حبا شديدا، وقد منعه اللّه من المراضع
فخافوا أن يموت، فلما قالت لهم أخته تلك المقالة، المشتملة على الترغيب،
في أهل هذا البيت، بتمام حفظه وكفالته والنصح له، بادروا إلى إجابتها،
فأعلمتهم ودلتهم على أهل هذا البيت.




{ فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ } كما
وعدناها بذلك { كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا
تَحْزَنَ
} بحيث إنه تربى عندها على وجه تكون فيه آمنة مطمئنة،
تفرح به، وتأخذ الأجرة الكثيرة على ذلك، {
وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ
} فأريناها بعض ما
وعدناها به عيانا، ليطمئن بذلك قلبها، ويزداد إيمانها، ولتعلم أنه سيحصل
وعد اللّه في حفظه ورسالته، { وَلَكِنَّ
أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ
} فإذا رأوا السبب متشوشا، شوش ذلك
إيمانهم، لعدم علمهم الكامل، أن اللّه تعالى يجعل المحن الشاقة والعقبات
الشاقة، بين يدي الأمور العالية والمطالب الفاضلة، فاستمر موسى عليه
الصلاة والسلام عند آل فرعون، يتربى في سلطانهم، ويركب مراكبهم، ويلبس
ملابسهم، وأمه بذلك مطمئنة، قد استقر أنها أمه من الرضاع، ولم يستنكر
ملازمته إياها وحنوها عليها.




وتأمل هذا اللطف، وصيانة نبيه موسى من الكذب في منطقه، وتيسير الأمر،
الذي صار به التعلق بينه وبينها، الذي بان للناس أنه هو الرضاع، الذي
بسببه يسميها أُمَّا، فكان الكلام الكثير منه ومن غيره في ذلك كله، صدقا
وحقا.




{ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ } من القوة
والعقل واللب، وذلك نحو أربعين سنة في الغالب، {
وَاسْتَوَى
} كملت فيه تلك الأمور {
آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا
} أي: حكما يعرف به الأحكام
الشرعية، ويحكم به بين الناس، وعلما كثيرا.




{ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ }
في عبادة اللّه المحسنين لخلق اللّه، نعطيهم علما وحكما بحسب إحسانهم،
ودل هذا على كمال إحسان موسى عليه السلام.




{ وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ
مِنْ أَهْلِهَا
} إما وقت القائلة، أو غير ذلك من الأوقات التي
بها يغفلون عن الانتشار. { فَوَجَدَ فِيهَا
رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ
} أي: يتخاصمان ويتضاربان {
هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ
} أي: من بني إسرائيل {
وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ
} القبط.




{ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى
الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ
} لأنه قد اشتهر، وعلم الناس أنه من بني
إسرائيل، واستغاثته لموسى، دليل على أنه بلغ موسى عليه السلام مبلغا يخاف
منه، ويرجى من بيت المملكة والسلطان.




{ فَوَكَزَهُ مُوسَى } أي: وكز الذي من
عدوه، استجابة لاستغاثة الإسرائيلي، { فَقَضَى
عَلَيْهِ
} أي: أماته من تلك الوكزة، لشدتها وقوة موسى.




فندم موسى عليه السلام على ما جرى منه، و {
قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ
} أي: من تزيينه ووسوسته، {
إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ
} فلذلك أجريت ما أجريت بسبب
عداوته البينة، وحرصه على الإضلال.




ثم استغفر ربه { قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ
نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ
} خصوصا للمخبتين، المبادرين للإنابة والتوبة، كما جرى من موسى
عليه السلام.




فـ { قَالَ } موسى {
رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ
} بالتوبة والمغفرة، والنعم
الكثيرة، { فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا }
أي: معينا ومساعدا { لِلْمُجْرِمِينَ }
أي: لا أعين أحدا على معصية، وهذا وعد من موسى عليه السلام، بسبب منة
اللّه عليه، أن لا يعين مجرما، كما فعل في قتل القبطي. وهذا يفيد أن
النعم تقتضي من العبد فعل الخير، وترك الشر.




{ فـ } لما جرى منه قتل الذي هو من عدوه
{ أَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا
يَتَرَقَّبُ
} هل يشعر به آل فرعون، أم لا؟ وإنما خاف، لأنه قد
علم، أنه لا يتجرأ أحد على مثل هذه الحال سوى موسى من بني إسرائيل.




فبينما هو على تلك الحال { فَإِذَا الَّذِي
اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ
} على عدوه {
يَسْتَصْرِخُهُ
} على قبطي آخر. { قَالَ
لَهُ مُوسَى
} موبخا له على حاله {
إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ
} أي: بين الغواية، ظاهر الجراءة.




{ فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ
} موسى { بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا
} أي: له وللمخاصم المستصرخ، أي: لم يزل اللجاج بين القبطي
والإسرائيلي، وهو يستغيث بموسى، فأخذته الحمية، حتى هم أن يبطش بالقبطي،
{ قَالَ } له القبطي زاجرا له عن قتله:
{ أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ
نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي
الْأَرْضِ
} لأن من أعظم آثار الجبار في الأرض، قتل النفس بغير
حق.




{ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ
الْمُصْلِحِينَ
} وإلا، فلو أردت الإصلاح لحلت بيني وبينه من غير
قتل أحد، فانكف موسى عن قتله، وارعوى لوعظه وزجره، وشاع الخبر بما جرى من
موسى في هاتين القضيتين، حتى تراود ملأ فرعون، وفرعون على قتله، وتشاوروا
على ذلك.




وقيض اللّه ذلك الرجل الناصح، وبادرهم إلى الإخبار لموسى بما اجتمع عليه
رَأْيُ ملئهم. فقال: { وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ
أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى
} أي: ركضا على قدميه من نصحه
لموسى، وخوفه أن يوقعوا به، قبل أن يشعر، فـ {
قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُون
} أي: يتشاورون
فيك { لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ } عن
المدينة { إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ
} فامتثل نصحه.




{ فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ
} أن يوقع به القتل، ودعا اللّه، و {
قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ
} فإنه قد تاب
من ذنبه وفعله غضبا من غير قصد منه للقتل، فَتَوعُّدُهُمْ له ظلم منهم
وجراءة.




{ وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ
} أي: قاصدا بوجهه مدين، وهو جنوبي فلسطين، حيث لا ملك لفرعون، {
قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ
} أي:
وسط الطريق المختصر، الموصل إليها بسهولة ورفق، فهداه اللّه سواء السبيل،
فوصل إلى مدين.




{ وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ
عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ
} مواشيهم، وكانوا أهل
ماشية كثيرة { وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ
} أي: دون تلك الأمة { امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ
} غنمهما عن حياض الناس، لعجزهما عن مزاحمة الرجال وبخلهم، وعدم
مروءتهم عن السقي لهما.




{ قَالَ } لهما موسى {
مَا خَطْبُكُمَا
} أي: ما شأنكما بهذه الحالة، {
قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ
} أي: قد جرت
العادة أنه لا يحصل لنا سقي حتى يصدر الرعاء مواشيهم، فإذا خلا لنا الجو
سقينا، { وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ }
أي: لا قوة له على السقي، فليس فينا قوة، نقتدر بها، ولا لنا رجال
يزاحمون الرعاء.




فرق لهما موسى عليه السلام ورحمهما { فَسَقَى
لَهُمَا
} غير طالب منهما الأجرة، ولا له قصد غير وجه اللّه
تعالى، فلما سقى لهما، وكان ذلك وقت شدة حر، وسط النهار، بدليل قوله: {
ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ
} مستريحا لذلك الظلال بعد التعب.




{ فَقَالَ } في تلك الحالة، مسترزقا ربه
{ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ
خَيْرٍ فَقِيرٌ
} أي: إني مفتقر للخير الذي تسوقه إليَّ وتيسره
لي. وهذا سؤال منه بحاله، والسؤال بالحال أبلغ من السؤال بلسان المقال،
فلم يزل في هذه الحالة داعيا ربه متملقا. وأما المرأتان، فذهبتا إلى
أبيهما، وأخبرتاه بما جرى.




فأرسل أبوهما إحداهما إلى موسى، فجاءته {
تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ
} وهذا يدل على كرم عنصرها، وخلقها
الحسن، فإن الحياء من الأخلاق الفاضلة، وخصوصا في النساء.




ويدل على أن موسى عليه السلام، لم يكن فيما فعله من السقي بمنزلة الأجير
والخادم الذي لا يستحى منه عادة، وإنما هو عزيز النفس، رأت من حسن خلقه
ومكارم أخلاقه، ما أوجب لها الحياء منه، فـ {
قَالَتِ
} له: { إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ
لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا
} أي: لا لِيمُنَّ عليك،
بل أنت الذي ابتدأتنا بالإحسان، وإنما قصده أن يكافئك على إحسانك،
فأجابها موسى.




{ فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ
} من ابتداء السبب الموجب لهربه، إلى أن وصل إليه {
قَالَ
} مسكنا روعه، جابرا قلبه: { لَا
تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ
} أي: ليذهب خوفك
وروعك، فإن اللّه نجاك منهم، حيث وصلت إلى هذا المحل، الذي ليس لهم عليه
سلطان.




{ قَالَتْ إِحْدَاهُمَا } أي: إحدى
ابنتيه { يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ }
أي: اجعله أجيرا عندك، يرعى الغنم ويسقيها، {
إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ
} أي: إن
موسى أولى من استؤجر، فإنه جمع القوة والأمانة، وخير أجير استؤجر، من
جمعهما، أي: القوة والقدرة على ما استؤجر عليه، والأمانة فيه بعدم
الخيانة، وهذان الوصفان، ينبغي اعتبارهما في كل من يتولى للإنسان عملا،
بإجارة أو غيرها.




فإن الخلل لا يكون إلا بفقدهما أو فقد إحداهما، وأما باجتماعهما، فإن
العمل يتم ويكمل، وإنما قالت ذلك، لأنها شاهدت من قوة موسى عند السقي
لهما ونشاطه، ما عرفت به قوته، وشاهدت من أمانته وديانته، وأنه رحمهما في
حالة لا يرجى نفعهما، وإنما قصده [بذلك] وجه اللّه تعالى.




{ قَالَ } صاحب مدين لموسى {
إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ
تَأْجُرَنِي
} أي تصير أجيرا عندي {
ثَمَانِيَ حِجَجٍ
} أي: ثماني سنين. {
فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ
} تبرع منك، لا شيء
واجب عليك. { وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ
عَلَيْكَ
} فأحتم عشر السنين، أو ما أريد أن أستأجرك لأكلفك
أعمالا شاقة، وإنما استأجرك لعمل سهل يسير لا مشقة فيه {
سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ
} فرغبه في
سهولة العمل، وفي حسن المعاملة، وهذا يدل على أن الرجل الصالح، ينبغي له
أن يحسن خلقه مهما أمكنه، وأن الذي يطلب منه، أبلغ من غيره.




فـ { قَالَ } موسى عليه السلام -مجيبا
له فيما طلبه منه-: { ذَلِكَ بَيْنِي
وَبَيْنَكَ
} أي: هذا الشرط، الذي أنت ذكرت، رضيت به، وقد تم فيما
بيني وبينك. { أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ
فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ
} سواء قضيت الثماني الواجبة، أم تبرعت
بالزائد عليها { وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ
وَكِيلٌ
} حافظ يراقبنا، ويعلم ما تعاقدنا عليه.




وهذا الرجل، أبو المرأتين، صاحب مدين، ليس بشعيب النبي المعروف، كما
اشتهر عند كثير من الناس، فإن هذا، قول لم يدل عليه دليل، وغاية ما يكون،
أن شعيبا عليه السلام، قد كانت بلده مدين، وهذه القضية جرت في مدين، فأين
الملازمة بين الأمرين؟




وأيضا، فإنه غير معلوم أن موسى أدرك زمان شعيب، فكيف بشخصه؟" ولو كان ذلك
الرجل شعيبا، لذكره اللّه تعالى، ولسمته المرأتان، وأيضا فإن شعيبا عليه
الصلاة والسلام، قد أهلك اللّه قومه بتكذيبهم إياه، ولم يبق إلا من آمن
به، وقد أعاذ اللّه المؤمنين أن يرضوا لبنتي نبيهم، بمنعهما عن الماء،
وصد ماشيتهما، حتى يأتيهما رجل غريب، فيحسن إليهما، ويسقي ماشيتهما، وما
كان شعيب، ليرضى أن يرعى موسى عنده ويكون خادما له، وهو أفضل منه وأعلى
درجة، والله أعلم، [إلا أن يقال: هذا قبل نبوة موسى فلا منافاة وعلى كل
حال لا يعتمد على أنه شعيب النبي بغير نقل صحيح عن النبي صلى اللّه عليه
وسلم]




{ فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ }
يحتمل أنه قضى الأجل الواجب، أو الزائد عليه، كما هو الظن بموسى ووفائه،
اشتاق إلى الوصول إلى أهله ووالدته وعشيرته، ووطنه، وعلم من طول المدة،
أنهم قد تناسوا ما صدر منه. { سَارَ بِأَهْلِهِ
} قاصدا مصر، { آنَسَ } أي: أبصر
{ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ
لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا
بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ
}
وكان قد أصابهم البرد، وتاهوا الطريق.




{ 30 } فلما أتاها نودي {
يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ
} فأخبر
بألوهيته وربوبيته، ويلزم من ذلك، أن يأمره بعبادته، وتألهه، كما صرح به
في الآية الأخرى { فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ
الصَّلَاةَ لِذِكْرِي
}




{ وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ } فألقاها {
فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ
} تسعى سعيا شديدا، ولها سورة مُهِيلة
{ كَأَنَّهَا جَانٌّ } ذَكَرُ الحيات
العظيم، { وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ
} أي: يرجع، لاستيلاء الروع على قلبه، فقال اللّه له: {
يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ
}
وهذا أبلغ ما يكون في التأمين، وعدم الخوف.




فإن قوله: { أَقْبِلْ } يقتضي الأمر
بإقباله، ويجب عليه الامتثال، ولكن قد يكون إقباله، وهو لم يزل في الأمر
المخوف، فقال: { وَلَا تَخَفْ } أمر له
بشيئين، إقباله، وأن لا يكون في قلبه خوف، ولكن يبقى احتمال، وهو أنه قد
يقبل وهو غير خائف، ولكن لا تحصل له الوقاية والأمن من المكروه، فقال : {
إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ
} فحينئذ اندفع المحذور من جميع الوجوه،
فأقبل موسى عليه السلام غير خائف ولا مرعوب، بل مطمئنا، واثقا بخبر ربه،
قد ازداد إيمانه، وتم يقينه، فهذه آية، أراه اللّه إياها قبل ذهابه إلى
فرعون، ليكون على يقين تام، فيكون أجرأ له، وأقوى وأصلب.




ثم أراه الآية الأخرى فقال: { اسْلُكْ يَدَكَ
} أي: أدخلها { فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ
بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ
} فسلكها وأخرجها، كما ذكر اللّه
تعالى.




{ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ
} أي ضم جناحك وهو عضدك إلى جنبك يزول عنك الرهب والخوف. {
فَذَانِكَ
} انقلاب العصا حية، وخروج اليد بيضاء من غير سوء {
بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ
} أي: حجتان قاطعتان من اللّه، {
إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ
} فلا يكفيهم مجرد الإنذار وأمر الرسول إياهم، بل لا بد من الآيات
الباهرة، إن نفعت.




فـ { قَالَ } موسى عليه السلام.




معتذرا من ربه، وسائلا له المعونة على ما حمله، وذاكرا له الموانع التي
فيه، ليزيل ربه ما يحذره منها. { رَبِّ إِنِّي
قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا
} أي: {
فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ * وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي
لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءًا
} أي: معاونا ومساعدا {
يُصَدِّقُنِي
} فإنه مع تضافر الأخبار يقوى الحق فأجابه اللّه إلى
سؤاله فقال: { سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ
} أي: نعاونك به ونقويك.




ثم أزال عنه محذور القتل، فقال: { وَنَجْعَلُ
لَكُمَا سُلْطَانًا
} أي: تسلطا، وتمكنا من الدعوة، بالحجة،
والهيبة الإلهية من عدوهما لهما، { فَلَا
يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا
} وذلك بسبب آياتنا، وما دلت عليه من الحق،
وما أزعجت به من باشرها ونظر إليها، فهي التي بها حصل لكما السلطان،
واندفع بها عنكم، كيد عدوكم وصارت لكم أبلغ من الجنود، أولي الْعَدَدِ
والْعُدَدِ.




{ أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا
الْغَالِبُونَ
} وهذا وعد لموسى في ذلك الوقت، وهو وحده فريد، وقد
رجع إلى بلده، بعد ما كان شريدا، فلم تزل الأحوال تتطور، والأمور تنتقل،
حتى أنجز الله له موعوده، ومكنه من العباد والبلاد، وصار له ولأتباعه،
الغلبة والظهور.




فذهب موسى برسالة ربه { فَلَمَّا جَاءَهُمْ
مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ
} واضحات الدلالة على ما قال لهم،
ليس فيها قصور ولا خفاء. { قَالُوا }
على وجه الظلم والعلو والعناد { مَا هَذَا
إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى
} كما قال فرعون في تلك الحالة التي ظهر
فيها الحق، واستعل على الباطل، واضمحل الباطل، وخضع له الرؤساء العارفون
حقائق الأمور { إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي
عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ
} هذا، وهو الذكي غير الزكي الذي بلغ من
المكر والخداع والكيد ما قصه اللّه علينا وقد علم {
مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
}
ولكن الشقاء غالب.




{ وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا
الْأَوَّلِينَ
} وقد كذبوا في ذلك، فإن اللّه أرسل يوسف عليه
السلام قبل موسى، كما قال تعالى { وَلَقَدْ
جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ
مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ
اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ
مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ
}




{ وَقَالَ مُوسَى } حين زعموا أن الذي
جاءهم به سحر وضلال، وأن ما هم عليه هو الهدى: {
رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ
لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ
} أي: إذا لم تفد المقابلة معكم، وتبيين
الآيات البينات، وأبيتم إلا التمادي في غيكم واللجاج على كفركم، فاللّه
تعالى العالم بالمهتدي وغيره، ومن تكون له عاقبة الدار، نحن أم أنتم {
إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ
} فصار عاقبة الدار لموسى
وأتباعه، والفلاح والفوز، وصار لأولئك، الخسار وسوء العاقبة والهلاك.




{ وَقَالَ فِرْعَوْنُ } متجرئا على ربه،
ومموها على قومه السفهاء، أخفاء العقول: { يَا
أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي
}
أي: أنا وحدي، إلهكم ومعبودكم، ولو كان ثَمَّ إله غيري، لعلمته، فانظر
إلى هذا الورع التام من فرعون!، حيث لم يقل " ما لكم من إله غيري " بل
تورع وقال: { مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ
غَيْرِي
} وهذا، لأنه عندهم، العالم الفاضل، الذي مهما قال فهو
الحق، ومهما أمر أطاعوه.




فلما قال هذه المقالة، التي قد تحتمل أن ثَمَّ إلها غيره، أراد أن يحقق
النفي، الذي جعل فيه ذلك الاحتمال، فقال لـ " هامان " {
فَأَوْقِدْ لِي يَاهَامَانُ عَلَى الطِّينِ
} ليجعل له لبنا من
فخار. { فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا } أي:
بناء { لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى
وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ
} ولكن سنحقق هذا الظن،
ونريكم كذب موسى. فانظر هذه الجراءة العظيمة على اللّه، التي ما بلغها
آدمي، كذب موسى، وادَّعى أنه إله، ونفى أن يكون له علم بالإله الحق، وفعل
الأسباب، ليتوصل إلى إله موسى، وكل هذا ترويج، ولكن العجب من هؤلاء
الملأ، الذين يزعمون أنهم كبار المملكة، المدبرون لشئونها، كيف لعب هذا
الرجل بعقولهم، واستخف أحلامهم، وهذا لفسقهم الذي صار صفة راسخة فيهم.




فسد دينهم، ثم تبع ذلك فساد عقولهم، فنسألك اللهم الثبات على الإيمان،
وأن لا تزيغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، وتهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت
الوهاب.




قال تعالى: { وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ
فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ
} استكبروا على عباد اللّه،
وساموهم سوء العذاب، واستكبروا على رسل اللّه، وما جاءوهم به من الآيات،
فكذبوها، وزعموا أن ما هم عليه أعلى منها وأفضل.




{ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا
يُرْجَعُونَ
} فلذلك تجرأوا، وإلا فلو علموا، أو ظنوا أنهم يرجعون
إلى اللّه، لما كان منهم ما كان.




{ فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ } عندما
استمر عنادهم وبغيهم { فَنَبَذْنَاهُمْ فِي
الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ
} كانت
شر العواقب وأخسرها عاقبة أعقبتها العقوبة الدنيوية المستمرة، المتصلة
بالعقوبة الأخروية.




{ وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى
النَّارِ
} أي جعلنا فرعون وملأه من الأئمة الذين يقتدي بهم ويمشي
خلفهم إلى دار الخزي والشقاء. { وَيَوْمَ
الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ
} من عذاب اللّه، فهم أضعف شيء، عن
دفعه عن أنفسهم، وليس لهم من دون اللّه، من ولي ولا نصير.




{ وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا
لَعْنَةً
} أي: وأتبعناهم، زيادة في عقوبتهم وخزيهم، في الدنيا
لعنة، يلعنون، ولهم عند الخلق الثناء القبيح والمقت والذم، وهذا أمر
مشاهد، فهم أئمة الملعونين في الدنيا ومقدمتهم، {
وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ
} المبعدين،
المستقذرة أفعالهم. الذين اجتمع عليهم مقت اللّه، ومقت خلقه، ومقت
أنفسهم.




{ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ
} وهو التوراة { مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا
الْقُرُونَ الْأُولَى
} الذين كان خاتمتهم في الإهلاك العام،
فرعون وجنوده. وهذا دليل على أنه بعد نزول التوراة، انقطع الهلاك العام،
وشرع جهاد الكفار بالسيف.




{ بَصَائِرَ لِلنَّاسِ } أي: كتاب
اللّه، الذي أنزله على موسى، فيه بصائر للناس، أي: أمور يبصرون بها ما
ينفعهم، وما يضرهم، فتقوم الحجة على العاصي، وينتفع بها المؤمن، فتكون
رحمة في حقه، وهداية له إلى الصراط المستقيم، ولهذا قال: {
وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ
}




ولما قص اللّه على رسوله ما قص من هذه الأخبار الغيبية، نبه العباد على
أن هذا خبر إلهي محض، ليس للرسول، طريق إلى علمه إلا من جهة الوحي، ولهذا
قال: { وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ
}




أي: بجانب الطور الغربي وقت قضائنا لموسى الأمر {
وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ
} على ذلك، حتى يقال: إنه وصل
إليك من هذا الطريق.




{ وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ
عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ
} فاندرس العلم، ونسيت آياته، فبعثناك في
وقت اشتدت الحاجة إليك وإلى ما علمناك وأوحينا إليك. {
وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا
} أي: مقيما {
فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا
} أي: تعلمهم
وتتعلم منهم، حتى أخبرت بما أخبرت من شأن موسى في مدين، {
وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ
} أي: ولكن ذلك الخبر الذي جئت به
عن موسى، أثر من آثار إرسالنا إياك، وَوَحْيٌ لا سبيل لك إلى علمه، بدون
إرسالنا.




{ وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ
نَادَيْنَا
} موسى، وَأمرناه أن يأتي القوم الظالمين، ويبلغهم
رسالتنا، ويريهم من آياتنا وعجائبنا ما قصصنا عليك. والمقصود: أن
الماجريات، التي جرت لموسى عليه الصلاة والسلام في هذه الأماكن، فقصصتها
كما هي، من غير زيادة ولا نقص، لا يخلو من أحد أمرين.




إما أن تكون حضرتها وشاهدتها، أو ذهبت إلى محالِّها فتعلمتها من أهلها،
فحينئذ قد لا يدل ذلك على أنك رسول اللّه، إذ الأمور التي يخبر بها عن
شهادة ودراسة، من الأمور المشتركة غير المختصة بالأنبياء، ولكن هذا قد
عُلِمَ وتُيُقِّن أنه ما كان وما صار، فأولياؤك وأعداؤك يعلمون عدم ذلك.




فتعين الأمر الثاني، وهو: أن هذا جاءك من قِبَلِ اللّه ووحيه وإرساله،
فثبت بالدليل القطعي، صحة رسالتك، ورحمة اللّه بك للعباد، ولهذا قال: {
وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ
نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ
} أي: العرب، وقريش، فإن الرسالة [عندهم]
لا تعرف وقت إرسال الرسول وقبله بأزمان متطاولة، {
لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ
} تفصيل الخير فيفعلونه، والشر
فيتركونه، فإذا كنت بهذه المنزلة، كان الواجب عليهم، المبادرة إلى
الإيمان بك، وشكر هذه النعمة، التي لا يقادر قدرها، ولا يدرك شكرها.




وإنذاره للعرب لا ينفي أن يكون مرسلا لغيرهم، فإنه عربي، والقرآن الذي
أنزل عليه عربي، وأول من باشر بدعوته العرب، فكانت رسالته إليهم أصلا،
ولغيرهم تبعا، كما قال تعالى { أَكَانَ
لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ
النَّاسَ
} { قُلْ يَا أَيُّهَا
النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا
}





{ وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا
قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ
} من الكفر والمعاصي {
فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ
آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
} أي: فأرسلناك يا محمد،
لدفع حجتهم، وقطع مقالتهم.




{ فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ } الذي
لا شك فيه { مِنْ عِنْدِنَا } وهو
القرآن، الذي أوحيناه إليك { قَالُوا }
مكذبين له، ومعترضين بما ليس يعترض به: {
لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى
} أي: أنزل عليه كتاب
من السماء جملة واحدة. أي: فأما ما دام ينزل متفرقا، فإنه ليس من عند
اللّه. وأي: دليل في هذا؟ وأي: شبهة أنه ليس من عند اللّه، حين نزل
مفرقا؟




بل من كمال هذا القرآن، واعتناء اللّه بمن أنزل عليه، أن نزل متفرقا،
ليثبت اللّه به فؤاد رسوله، ويحصل زيادة الإيمان للمؤمنين {
وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ
تَفْسِيرًا
} وأيضا، فإن قياسهم على كتاب موسى، قياس قد نقضوه،
فكيف يقيسونه على كتاب كفروا به ولم يؤمنوا؟ ولهذا قال {
أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ
تَظَاهَرَا
} أي: القرآن والتوراة، تعاونا في سحرهما، وإضلال
الناس { وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ
} فثبت بهذا أن القوم يريدون إبطال الحق بما ليس ببرهان، وينقضونه
بما لا ينقض، ويقولون الأقوال المتناقضة المختلفة، وهذا شأن كل كافر.
ولهذا صرح أنهم كفروا بالكتابين والرسولين، ولكن هل كفرهم بهما كان طلبا
للحق، واتباعا لأمر عندهم خير منهما، أم مجرد هوى؟.




قال تعالى ملزما لهم بذلك: { فَأْتُوا
بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا
} أي: من
التوراة والقرآن { أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ
صَادِقِينَ
} ولا سبيل لهم ولا لغيرهم أن يأتوا بمثلهما، فإنه ما
طرق العالم منذ خلقه اللّه، مثل هذين الكتابين، علما وهدى، وبيانا، ورحمة
للخلق، وهذا من كمال الإنصاف من الداعي أن قال: أنا مقصودي الحق

descriptionتفسيرالقران - صفحة 5 Emptyرد: تفسيرالقران

more_horiz
تابع
-


تفسير سورة القصص



عدد آياتها 88


(
آية
52-88

)

وهي مكية






{ 52-55 } {
الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ
* وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ
مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ * أُولَئِكَ
يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ
بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ *
وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا
أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي
الْجَاهِلِينَ
}




يذكر تعالى عظمة القرآن وصدقه وحقه، وأن أهل العلم بالحقيقة يعرفونه
ويؤمنون به ويقرون بأنه الحق، { الَّذِينَ
آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ
} وهم أهل التوراة،
والإنجيل، الذين لم يغيروا ولم يبدلوا { هُمْ
بِهِ
} أي: بهذا القرآن ومن جاء به {
يُؤْمِنُونَ
}




{ وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ } استمعوا
له وأذعنوا و { قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ
الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا
} لموافقته ما جاءت به الرسل، ومطابقته
لما ذكر في الكتب، واشتماله على الأخبار الصادقة، والأوامر والنواهي
الموافقة، لغاية الحكمة.




وهؤلاء الذين تفيد شهادتهم، وينفع قولهم، لأنهم لا يقولون ما يقولون إلا
عن علم وبصيرة، لأنهم أهل الصنف تفسيرالقران - صفحة 5 Image001وأهل
الكتب، وغيرهم لا يدل ردهم ومعارضتهم للحق على شبهة، فضلا عن الحجة،
لأنهم ما بين جاهل فيه أو متجاهل معاند للحق.




قال تعالي: { قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا
تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا
يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا
} الآيات.




وقوله: { إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ
مُسْلِمِينَ
} فلذلك ثبتنا على ما مَنَّ اللّه به علينا من
الإيمان، فصدقنا بهذا القرآن، آمنا بالكتاب الأول والكتاب الآخر، وغيرنا
ينقض تكذيبه بهذا الكتاب، إيمانه بالكتاب الأول.




{ أُولَئِكَ } الذين آمنوا بالكتابين {
يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ
} أجرا على الإيمان الأول،
وأجرا على الإيمان الثاني، { بِمَا صَبَرُوا
} على الإيمان، وثبتوا على العمل، فلم تزعزعهم عن ذلك شبهة، ولا
ثناهم عن الإيمان رياسة ولا شهوة.




و من خصالهم الفاضلة، التي من آثار إيمانهم الصحيح، أنهم {
وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ
} أي: دأبهم وطريقتهم
الإحسان لكل أحد، حتى للمسيء إليهم بالقول والفعل، يقابلونه بالقول
الحميد والفعل الجميل، لعلمهم بفضيلة هذا الخلق العظيم، وأنه لا يوفق له
إلا ذو حظ عظيم.




{ وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ } من جاهل
خاطبهم به، { قَالُوا } مقالة عباد
الرحمن أولي الألباب: { لَنَا أَعْمَالُنَا
وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ
} أي: كُلٌّ سَيُجازَى بعمله الذي عمله
وحده، ليس عليه من وزر غيره شيء. ولزم من ذلك، أنهم يتبرءون مما عليه
الجاهلون، من اللغو والباطل، والكلام الذي لا فائدة فيه.




{ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ } أي لا تسمعون
منا إلا الخير، ولا نخاطبكم بمقتضى جهلكم، فإنكم وإن رضيتم لأنفسكم هذا
المرتع اللئيم، فإننا ننزه أنفسنا عنه، ونصونها عن الخوض فيه، {
لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ
} من كل وجه.




{ 56 } {
إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ
يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ
}








يخبر تعالى أنك يا محمد -وغيرك من باب أولى- لا تقدر على هداية أحد، ولو
كان من أحب الناس إليك، فإن هذا أمر غير مقدور للخلق هداية للتوفيق، وخلق
الإيمان في القلب، وإنما ذلك بيد اللّه سبحانه تعالى، يهدي من يشاء، وهو
أعلم بمن يصلح للهداية فيهديه، ممن لا يصلح لها فيبقيه على ضلاله.




وأما إثبات الهداية للرسول في قوله تعالى: {
وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ
} فتلك هداية
البيان والإرشاد، فالرسول يبين الصراط المستقيم، ويرغب فيه، ويبذل جهده
في سلوك الخلق له، وأما كونه يخلق في قلوبهم الإيمان، ويوفقهم بالفعل،
فحاشا وكلا.




ولهذا، لو كان قادرا عليها، لهدى من وصل إليه إحسانه، ونصره ومنعه من
قومه، عمه أبا طالب، ولكنه أوصل إليه من الإحسان بالدعوة للدين والنصح
التام، ما هو أعظم مما فعله معه عمه، ولكن الهداية بيد اللّه تعالى.




{ 57-59 } {
وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا
أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ
كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا
يَعْلَمُونَ * وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا
فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا
وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ * وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى
حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا
وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ
}








يخبر تعالى أن المكذبين من قريش وأهل مكة، يقولون للرسول صلى اللّه عليه
وسلم: { إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ
نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا
} بالقتل والأسر ونهب الأموال، فإن
الناس قد عادوك وخالفوك، فلو تابعناك لتعرضنا لمعاداة الناس كلهم، ولم
يكن لنا بهم طاقة.




وهذا الكلام منهم، يدل على سوء الظن باللّه تعالى، وأنه لا ينصر دينه،
ولا يعلي كلمته، بل يمكن الناس من أهل دينه، فيسومونهم سوء العذاب، وظنوا
أن الباطل سيعلو على الحق.




قال اللّه مبينا لهم حالة هم بها دون الناس وأن اللّه اختصهم بها، فقال:
{ أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا
يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا
}
أي: أولم نجعلهم متمكنين [ممكنين] في حرم يكثره المنتابون ويقصده
الزائرون، قد احترمه البعيد والقريب، فلا يهاج أهله، ولا ينتقصون بقليل
[ولا كثير].




والحال أن كل ما حولهم من الأماكن، قد حف بها الخوف من كل جانب، وأهلها
غير آمنين ولا مطمئنين، فَلْيَحْمَدُوا ربهم على هذا الأمن التام، الذي
ليس فيه غيرهم، وعلى الرزق الكثير، الذي يجيء إليهم من كل مكان، من
الثمرات والأطعمة والبضائع، ما به يرتزقون ويتوسعون. ولْيَتَّبِعُوا هذا
الرسول الكريم، ليتم لهم الأمن والرغد.




وإياهم وتكذيبه، والبطر بنعمة الله، فيبدلوا من بعد أمنهم خوفا، وبعد
عزهم ذلا، وبعد غناهم فقرا، ولهذا توعدهم بما فعل بالأمم قبلهم، فقال:




{ وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ
مَعِيشَتَهَا
} أي: فخرت بها، وألهتها، واشتغلت بها عن الإيمان
بالرسل، فأهلكهم اللّه، وأزال عنهم النعمة، وأحل بهم النقمة. {
فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا
} لتوالي الهلاك والتلف عليهم، وإيحاشها من بعدهم.




{ وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ }
للعباد، نميتهم، ثم يرجع إلينا جميع ما متعناهم به من النعم، ثم نعيدهم
إلينا، فنجازيهم بأعمالهم.




ومن حكمته ورحمته أن لا يعذب الأمم بمجرد كفرهم قبل إقامة الحجة عليهم،
بإرسال الرسل إليهم، ولهذا قال: { وَمَا كَانَ
رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى
} أي: بكفرهم وظلمهم {
حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا
} أي: في القرية والمدينة التي
إليها يرجعون، ونحوها يترددون، وكل ما حولها ينتجعها، ولا تخفى عليه
أخبارها.




{ رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا
} الدالة على صحة ما جاء به، وصدق ما دعاهم إليه، فيبلغ قوله
قاصيهم ودانيهم، بخلاف بعث الرسل في القرى البعيدة، والأطراف النائية،
فإن ذلك مظنة الخفاء والجفاء، والمدن الأمهات مظنة الظهور والانتشار، وفي
الغالب أنهم أقل جفاء من غيرهم.




{ وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا
وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ
} بالكفر والمعاصي، مستحقون للعقوبة.
والحاصل: أن اللّه لا يعذب أحدا إلا بظلمه، وإقامة الحجة عليه.




{ 60-61 } {
وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ
* أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ
مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ
}




هذا حض من الله لعباده على الزهد في الدنيا وعدم الاغترار بها، وعلى
الرغبة في الأخرى، وجعلها مقصود العبد ومطلوبه، ويخبرهم أن جميع ما أوتيه
الخلق، من الذهب، والفضة، والحيوانات والأمتعة، والنساء، والبنين،
والمآكل، والمشارب، واللذات، كلها متاع الحياة [الدنيا] وزينتها، أي:
يتمتع به وقتا قصيرا، متاعا قاصرا، محشوا بالمنغصات، ممزوجا بالغصص.




ويزين به زمانا يسيرا، للفخر والرياء، ثم يزول ذلك سريعا، وينقضي جميعا،
ولم يستفد صاحبه منه إلا الحسرة والندم، والخيبة والحرمان.




{ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ } من النعيم
المقيم، والعيش السليم { خَيْرٌ وَأَبْقَى
} أي: أفضل في وصفه وكميته، وهو دائم أبدا، ومستمر سرمدا.




{ أَفَلَا تَعْقِلُونَ } أي: أفلا يكون
لكم عقول، بها تزنون أي: الأمور أولى بالإيثار، وأي: الدارين أحق للعمل
لها فدل ذلك أنه بحسب عقل العبد، يؤثر الأخرى على الدنيا، وأنه ما آثر
أحد الدنيا إلا لنقص في عقله، ولهذا نبه العقول على الموازنة بين عاقبة
مؤثر الدنيا ومؤثر الآخرة، فقال: { أَفَمَنْ
وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ
}




أي: هل يستوي مؤمن ساع للآخرة سعيها، قد عمل على وعد ربه له، بالثواب
الحسن، الذي هو الجنة، وما فيها من النعيم العظيم، فهو لاقيه من غير شك
ولا ارتياب، لأنه وعد من كريم صادق الوعد، لا يخلف الميعاد، لعبد قام
بمرضاته وجانب سخطه، { كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ
مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
} فهو يأخذ فيها ويعطي، ويأكل
ويشرب، ويتمتع كما تتمتع البهائم، قد اشتغل بدنياه عن آخرته، ولم يرفع
بهدى الله رأسا، ولم ينقد للمرسلين، فهو لا يزال كذلك، لا يتزود من دنياه
إلا الخسار والهلاك.




{ ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ
الْمُحْضَرِينَ
} للحساب، وقد علم أنه لم يقدم خيرا لنفسه، وإنما
قدم جميع ما يضره، وانتقل إلى دار الجزاء بالأعمال، فما ظنكم إلى ما يصير
إليه؟ وما تحسبون ما يصنع به؟ فليختر العاقل لنفسه، ما هو أولى
بالاختيار، وأحق الأمرين بالإيثار.




{ 62-66 } {
وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ
تَزْعُمُونَ * قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا
هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا
تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ * وَقِيلَ
ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ
وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ * وَيَوْمَ
يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ * فَعَمِيَتْ
عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ
}




هذا إخبار من اللّه تعالى، عما يسأل عنه الخلائق يوم القيامة، وأنه
يسألهم عن أصول الأشياء، وعن عبادة اللّه وإجابة رسله، فقال: {
وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ
} أي: ينادي من أشركوا به شركاء يعبدونهم،
ويرجون نفعهم، ودفع الضرر عنهم، فيناديهم، ليبين لهم عجزها وضلالهم، {
فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ
} وليس للّه شريك، ولكن ذلك بحسب
زعمهم وافترائهم، ولهذا قال: { الَّذِينَ
كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ
} فأين هم، بذواتهم، وأين نفعهم وأين دفعهم؟




ومن المعلوم أنه يتبين لهم في تلك الحال، أن الذي عبدوه، ورجوه باطل،
مضمحل في ذاته، وما رجوا منه، فيقرون على أنفسهم بالضلالة والغواية.




ولهذا { قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ
الْقَوْلُ
} الرؤساء والقادة، في الكفر والشر، مقرين بغوايتهم
وإغوائهم: { رَبَّنَا هَؤُلَاءِ }
التابعون { الَّذِينَ أَغْوَيْنَا
أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا
} أي: كلنا قد اشترك في الغواية،
وحق عليه كلمة العذاب.




{ تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ } من عبادتهم،
أي: نحن برآء منهم ومن عملهم. { مَا كَانُوا
إِيَّانَا يَعْبُدُونَ
} وإنما كانوا يعبدون الشياطين.




{ وَقِيلَ } لهم: {
ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ
} على ما أملتم فيهم من النفع فأمروا
بدعائهم في ذلك الوقت الحرج، الذي يضطر فيه العابد إلى من عبده.




{ فَدَعَوْهُمْ } لينفعوهم، أو يدفعوا
عنهم من عذاب اللّه من شيء. { فَلَمْ
يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ
} فعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين
مستحقين للعقوبة، { وَرَأَوُا الْعَذَابَ
} الذي سيحل بهم عيانا، بأبصارهم بعد ما كانوا مكذبين به، منكرين
له.




{ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ }
أي: لما حصل عليهم ما حصل، ولهدوا إلى صراط الجنة، كما اهتدوا في الدنيا،
ولكن لم يهتدوا، فلم يهتدوا.




{ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا
أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ
} هل صدقتموهم، [واتبعتموهم] أم
كذبتموهم وخالفتموهم؟




{ فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ
يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ
} أي: لم يحيروا عن هذا
السؤال جوابا، ولم يهتدوا إلى الصواب.




ومن المعلوم أنه لا ينجى في هذا الموضع إلا التصريح بالجواب الصحيح،
المطابق لأحوالهم، من أننا أجبناهم بالإيمان والانقياد، ولكن لما علموا
تكذيبهم لهم وعنادهم لأمرهم، لم ينطقوا بشيء، ولا يمكن أن يتساءلوا
ويتراجعوا بينهم في ماذا يجيبون به، ولو كان كذبا.




{ 67 } {
فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ
مِنَ الْمُفْلِحِينَ
}




لما ذكر تعالى سؤال الخلق عن معبودهم وعن رسلهم، ذكر الطريق الذي ينجو به
العبد من عقاب اللّه تعالى، وأنه لا نجاة إلا لمن اتصف بالتوبة من الشرك
والمعاصي، وآمن باللّه فعبده، وآمن برسله فصدقهم، وعمل صالحا متبعا فيه
للرسل، { فَعَسَى أَنْ يَكُونَ } من جمع
هذه الخصال { مِنَ الْمُفْلِحِينَ }
الناجحين بالمطلوب، الناجين من المرهوب، فلا سبيل إلى الفلاح بدون هذه
الأمور.




{ 68-70 } {
وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ
الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ *
وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ * وَهُوَ
اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى
وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ
}





هذه الآيات، فيها عموم خلقه لسائر المخلوقات، ونفوذ مشيئته بجميع
البريات، وانفراده باختيار من يختاره ويختصه، من الأشخاص، والأوامر
[والأزمان] والأماكن، وأن أحدا ليس له من الأمر والاختيار شيء، وأنه
تعالى منزه عن كل ما يشركون به، من الشريك، والظهير، والعوين، والولد،
والصاحبة، ونحو ذلك، مما أشرك به المشركون، وأنه العالم بما أكنته الصدور
وما أعلنوه، وأنه وحده المعبود المحمود في الدنيا والآخرة، على ماله من
صفات الجلال والجمال، وعلى ما أسداه إلى خلقه من الإحسان والإفضال.




وأنه هو الحاكم في الدارين، في الدنيا، بالحكم القدري، الذي أثره جميع ما
خلق وذرأ، والحكم الديني، الذي أثره جميع الشرائع، والأوامر والنواهي.




وفي الآخرة يحكم بحكمه القدري والجزائي، ولهذا قال: {
وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ
}




فيجازي كلا منكم بعمله، من خير وشر.




{ 71-73 } {
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا
إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ
بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ
عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ
غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا
تُبْصِرُونَ * وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ
لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ
تَشْكُرُونَ
}




هذا امتنان من اللّه على عباده، يدعوهم به إلى شكره، والقيام بعبوديته
وحقه، أنه جعل لهم من رحمته النهار ليبتغوا من فضل اللّه، وينتشروا لطلب
أرزاقهم ومعايشهم في ضيائه، والليل ليهدأوا فيه ويسكنوا، وتستريح أبدانهم
وأنفسهم من تعب التصرف في النهار، فهذا من فضله ورحمته بعباده.




فهل أحد يقدر على شيء من ذلك؟ فلو جعل {
عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ
غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ
}
مواعظ اللّه وآياته سماع فهم وقبول وانقياد، ولو جعل {
عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ
غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا
تُبْصِرُونَ
} مواقع العبر، ومواضع الآيات، فتستنير بصائركم،
وتسلكوا الطريق المستقيم.




وقال في الليل { أَفَلَا تَسْمَعُونَ }
وفي النهار { أَفَلَا تُبْصِرُونَ } لأن
سلطان السمع أبلغ في الليل من سلطان البصر، وعكسه النهار. وفي هذه
الآيات، تنبيه إلى أن العبد ينبغي له أن يتدبر نعم اللّه عليه، ويستبصر
فيها، ويقيسها بحال عدمها، فإنه إذا وازن بين حالة وجودها، وبين حالة
عدمها، تنبه عقله لموضع المنة، بخلاف من جرى مع العوائد، ورأى أن هذا أمر
لم يزل مستمرا، ولا يزال. وعمي قلبه عن الثناء على اللّه، بنعمه، ورؤية
افتقاره إليها في كل وقت، فإن هذا لا يحدث له فكرة شكر ولا ذكر.





{ 74-75 } {
وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ
تَزْعُمُونَ * وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا
هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ
عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ
}




أي: ويوم ينادي اللّه المشركين به، العادلين به غيره، الذين يزعمون أن له
شركاء، يستحقون أن يعبدوا، وينفعون ويضرون، فإذا كان يوم القيامة، أراد
اللّه أن يظهر جراءتهم وكذبهم في زعمهم وتكذيبهم لأنفسهم فـ {
يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ
تَزْعُمُونَ
} أي: بزعهم، لا بنفس الأمر، كما قال: {
وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ
يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وإن هم إلا يخرصون
}




فإذا حضروا وإياهم، نزع { مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ
} من الأمم المكذبة { شَهِيدًا }
يشهد على ما جرى في الدنيا، من شركهم واعتقادهم، وهؤلاء بمنزلة
المنتخبين.




أي: انتخبنا من رؤساء المكذبين من يتصدى للخصومة عنهم، والمجادلة عن
إخوانهم، ومن هم وإياهم على طريق واحد، فإذا برزوا للمحاكمة {
فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ
} حجتكم ودليلكم على صحة شرككم،
هل أمرناكم بذلك؟ هل أمرتكم رسلي؟ هل وجدتم ذلك في شيء من كتبي؟ هل فيهم
أحد يستحق شيئا من الإلهية؟ هل ينفعونكم، أو يدفعون عنكم من عذاب اللّه
أو يغنون عنكم؟ فليفعلوا إذا [إن] كان فيهم أهلية وليروكم إن كان لهم
قدرة، { فَعَلِمُوا } حينئذ بطلان قولهم
وفساده، و { أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ }
تعالى، قد توجهت عليهم الخصومة، وانقطعت حجتهم، وأفلجت حجة اللّه، {
وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ
} من الكذب والإفك،
واضمحل وتلاشى وعدم، وعلموا أن اللّه قد عدل فيهم، حيث لم يضع العقوبة
إلا بمن استحقها واستأهلها.





{ 76-82 } {
إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ
}
إلى آخر القصة




يخبر تعالى عن حالة قارون وما [فعل] وفُعِلَ به ونُصِحَ ووُعِظَ، فقال: {
إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى
} أي: من بني إسرائيل،
الذين فُضِّلوا على العالمين، وفاقوهم في زمانهم، وامتن اللّه عليهم بما
امتن به، فكانت حالهم مناسبة للاستقامة، ولكن قارون هذا، بغى على قومه
وطغى، بما أوتيه من الأموال العظيمة المطغية {
وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ
} أي: كنوز الأموال شيئا كثيرا، {
مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ [أُولِي الْقُوَّةِ
} والعصبة]، من العشرة إلى التسعة إلى السبعة، ونحو ذلك. أي: حتى
أن مفاتح خزائن أمواله لتثقل الجماعة القوية عن حملها، هذه المفاتيح، فما
ظنك بالخزائن؟ { إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ
} ناصحين له محذرين له عن الطغيان: {
لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ
} أي: لا
تفرح بهذه الدنيا العظيمة، وتفتخر بها، وتلهيك عن الآخرة، فإن اللّه لا
يحب الفرحين بها، المنكبين على محبتها.




{ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ
الْآخِرَةَ
} أي: قد حصل عندك من وسائل الآخرة ما ليس عند غيرك من
الأموال، فابتغ بها ما عند اللّه، وتصدق ولا تقتصر على مجرد نيل الشهوات،
وتحصيل اللذات، { وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ
الدُّنْيَا
} أي: لا نأمرك أن تتصدق بجميع مالك وتبقى ضائعا، بل
أنفق لآخرتك، واستمتع بدنياك استمتاعا لا يثلم دينك، ولا يضر بآخرتك، {
وَأَحْسَنُ
} إلى عباد اللّه { كَمَا
أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ
} بهذه الأموال، {
وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ
} بالتكبر والعمل بمعاصي
اللّه والاشتغال بالنعم عن المنعم، { إِنَّ
اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ
} بل يعاقبهم على ذلك، أشد
العقوبة.




فـ { قَالَ } قارون -رادا لنصيحتهم،
كافرا بنعمة ربه-: { إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى
عِلْمٍ عِنْدِي
}




أي: إنما أدركت هذه الأموال بكسبي ومعرفتي بوجوه المكاسب، وحذقي، أو على
علم من اللّه بحالي، يعلم أني أهل لذلك، فلم تنصحوني على ما أعطاني للّه
تعالى؟ قال تعالى مبينا أن عطاءه، ليس دليلا على حسن حالة المعطي: {
أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ
الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا

} فما المانع من إهلاك قارون، مع مُضِيِّ عادتنا وسنتنا بإهلاك من هو
مثله وأعظم، إذ فعل ما يوجب الهلاك؟.




{ وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ
الْمُجْرِمُونَ
} بل يعاقبهم اللّه، ويعذبهم على ما يعلمه منهم،
فهم، وإن أثبتوا لأنفسهم حالة حسنة، وشهدوا لها بالنجاة، فليس قولهم
مقبولا، وليس ذلك دافعا عنهم من العذاب شيئا، لأن ذنوبهم غير خفية،
فإنكارهم لا محل له، فلم يزل قارون مستمرا على عناده وبغيه، وعدم قبول
نصيحة قومه، فرحا بطرا قد أعجبته نفسه، وغره ما أوتيه من الأموال.




{ فَخَرَجَ } ذات يوم {
فِي زِينَتِهِ
} أي: بحالة أرفع ما يكون من أحوال دنياه، قد كان
له من الأموال ما كان، وقد استعد وتجمل بأعظم ما يمكنه، وتلك الزينة في
العادة من مثله تكون هائلة، جمعت زينة الدنيا وزهرتها وبهجتها وغضارتها
وفخرها، فرمقته في تلك الحالة العيون، وملأت بِزَّتُهُ القلوب، واختلبت
زينته النفوس، فانقسم فيه الناظرون قسمين، كل تكلم بحسب ما عنده من الهمة
والرغبة.




فـ { قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ
الدُّنْيَا
} أي: الذين تعلقت إرادتهم فيها، وصارت منتهى رغبتهم،
ليس لهم إرادة في سواها، { يَا لَيْتَ لَنَا
مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ
} من الدنيا ومتاعها وزهرتها {
إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ
} وصدقوا إنه لذو حظ عظيم، لو كان
الأمر منتهيا إلى رغباتهم، وأنه ليس وراء الدنيا، دار أخرى، فإنه قد أعطي
منها ما به غاية التنعم بنعيم الدنيا، واقتدر بذلك على جميع مطالبه،
فصار هذا الحظ العظيم، بحسب همتهم، وإن همة جعلت هذا غاية مرادها ومنتهى
مطلبها، لَمِنْ أدنى الهمم وأسفلها وأدناها، وليس لها أدنى صعود إلى
المرادات العالية والمطالب الغالية.




{ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ
} الذين عرفوا حقائق الأشياء، ونظروا إلى باطن الدنيا، حين نظر أولئك
إلى ظاهرها: { وَيْلَكُمْ } متوجعين مما
تمنوا لأنفسهم، راثين لحالهم، منكرين لمقالهم: {
ثَوَابُ اللَّهِ
} العاجل، من لذة العبادة ومحبته، والإنابة إليه،
والإقبال عليه. والآجل من الجنة وما فيها، مما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين
{ خَيْرٌ } من هذا الذي تمنيتم ورغبتم
فيه، فهذه حقيقة الأمر، ولكن ما كل من يعلم ذلك يؤثر الأعلى على الأدنى،
فما يُلَقَّى ذلك ويوفق له { إِلَّا
الصَّابِرُونَ
} الذين حبسوا أنفسهم على طاعة اللّه، وعن معصيته،
وعلى أقداره المؤلمة، وصبروا على جواذب الدنيا وشهواتها، أن تشغلهم عن
ربهم، وأن تحول بينهم وبين ما خلقوا له، فهؤلاء الذين يؤثرون ثواب اللّه
على الدنيا الفانية.




فلما انتهت بقارون حالة البغي والفخر، وازَّيَّنَتْت الدنيا عنده، وكثر
بها إعجابه، بغته العذاب { فَخَسَفْنَا بِهِ
وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ
} جزاء من جنس عمله، فكما رفع نفسه على
عباد اللّه، أنزله اللّه أسفل سافلين، هو وما اغتر به، من داره وأثاثه،
ومتاعه.




{ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ } أي:
جماعة، وعصبة، وخدم، وجنود { يَنْصُرُونَهُ
مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ
} أي: جاءه
العذاب، فما نصر ولا انتصر.




{ وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ
بِالْأَمْسِ
} أي: الذين يريدون الحياة الدنيا، الذين قالوا: {
يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ
} {
يَقُولُونَ
} متوجعين ومعتبرين، وخائفين من وقوع العذاب بهم: {
وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ
وَيَقْدِرُ
} أي: يضيق الرزق على من يشاء، فعلمنا حينئذ أن بسطه
لقارون، ليس دليلا على خير فيه، وأننا غالطون في قولنا: {
إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ
} و {
لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا
} فلم يعاقبنا على ما قلنا،
فلولا فضله ومنته { لَخَسَفَ بِنَا }
فصار هلاك قارون عقوبة له، وعبرة وموعظة لغيره، حتى إن الذين غبطوه، سمعت
كيف ندموا، وتغير فكرهم الأول.




{ وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ
} أي: لا في الدنيا ولا في الآخرة.





{ 83 } {
تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ
عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ
}








لما ذكر تعالى، قارون وما أوتيه من الدنيا، وما صار إليه عاقبة أمره، وأن
أهل العلم قالوا: { ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ
لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا
} رغب تعالى في الدار الآخرة،
وأخبر بالسبب الموصل إليها فقال: { تِلْكَ
الدَّارُ الْآخِرَةُ
} التي أخبر اللّه بها في كتبه وأخبرت [بها]
رسله، التي [قد] جمعت كل نعيم، واندفع عنها كل مكدر ومنغص، {
نَجْعَلُهَا
} دارا وقرارا { لِلَّذِينَ
لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا
} أي: ليس
لهم إرادة، فكيف العمل للعلو في الأرض على عباد اللّه، والتكبر عليهم
وعلى الحق { وَلَا فَسَادًا } وهذا شامل
لجميع المعاصي، فإذا كانوا لا إرادة لهم في العلو في الأرض والإفساد، لزم
من ذلك، أن تكون إرادتهم مصروفة إلى اللّه، وقصدهم الدار الآخرة، وحالهم
التواضع لعباد اللّه، والانقياد للحق والعمل الصالح.




وهؤلاء هم المتقون الذين لهم العاقبة، ولهذا قال: {
وَالْعَاقِبَةُ
} أي حالة الفلاح والنجاح، التي تستقر وتستمر، لمن
اتقى اللّه تعالى، وغيرهم -وإن حصل لها بعض الظهور والراحة- فإنه لا يطول
وقته، ويزول عن قريب. وعلم من هذا الحصر في الآية الكريمة، أن الذين
يريدون العلو في الأرض، أو الفساد، ليس لهم في الدار الآخرة، نصيب، ولا
لهم منها نصيب





{ 84 } { مَنْ
جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ
فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا
يَعْمَلُونَ
}




يخبر تعالى عن مضاعفة فضله، وتمام عدله فقال: {
مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ
} شرط فيها أن يأتي بها العامل، لأنه قد
يعملها، ولكن يقترن بها ما لا تقبل منه أو يبطلها، فهذا لم يجيء بالحسنة،
والحسنة: اسم جنس يشمل جميع ما أمر اللّه به ورسوله، من الأقوال والأعمال
الظاهرة والباطنة، المتعلقة بحق الله تعالى وحق عباده، {
فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا
} أجل، وفي الآية الأخرى {[color=red]
فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا
} ]




هذا التضعيف للحسنة، لا بد منه، وقد يقترن بذلك من الأسباب ما تزيد به
المضاعفة، كما قال تعالى: { وَاللَّهُ
يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ
} بحسب حال
العامل وعمله، ونفعه ومحله ومكانه، { وَمَنْ
جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ
} وهي كل ما نهى الشارع عنه، نَهْيَ تحريم.
{ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا
السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ
} كقوله تعالى: {
مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ
بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ
}




{ 85-88 } {
إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ
رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ
* وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا
رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ * وَلَا
يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ
وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * وَلَا
تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ
هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ
}




يقول تعالى { إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ
الْقُرْآنَ
} أي: أنزله، وفرض فيه الأحكام، وبين فيه الحلال
والحرام، وأمرك بتبليغه للعالمين، والدعوة لأحكام جميع المكلفين، لا يليق
بحكمته أن تكون الحياة هي الحياة الدنيا فقط، من غير أن يثاب العباد
ويعاقبوا، بل لا بد أن يردك إلى معاد، يجازي فيه المحسنون بإحسانهم،
والمسيئون بمعصيتهم.




وقد بينت لهم الهدى، وأوضحت لهم المنهج، فإن تبعوك، فذلك حظهم وسعادتهم،
وإن أبوا إلا عصيانك والقدح بما جئت به من الهدى، وتفضيل ما معهم من
الباطل على الحق، فلم يبق للمجادلة محل، ولم يبق إلا المجازاة على
الأعمال من العالم بالغيب والشهادة، والحق والمبطل. ولهذا قال: {
قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ
مُبِينٍ
} وقد علم أن رسوله هو المهتدي الهادي، وأن أعداءه هم
الضالون المضلون.




{ وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ
الْكِتَابُ
} أي: لم تكن متحريا لنزول هذا الكتاب عليك، ولا
مستعدا له، ولا متصديا. { إِلَّا رَحْمَةً مِنْ
رَبِّكَ
} بك وبالعباد، فأرسلك بهذا الكتاب، الذي رحم به
العالمين، وعلمهم ما لم يكونوا يعلمون، وزكاهم وعلمهم الكتاب والحكمة،
وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين، فإذا علمت أنه أنزل إليك رحمة منه،
[علمت] أن جميع ما أمر به ونهى عنه، فإنه رحمة وفضل من اللّه، فلا يكن في
صدرك حرج من شيء منه، وتظن أن مخالفه أصلح وأنفع.




{ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ
} أي: معينا لهم على ما هو من شعب كفرهم، ومن جملة مظاهرتهم، أن
يقال في شيء منه، إنه خلاف الحكمة والمصلحة والمنفعة.




{ وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ
بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ
} بل أبلغها وأنفذها، ولا تبال
بمكرهم ولا يخدعنك عنها، ولا تتبع أهواءهم.




{ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ } أي اجعل
الدعوة إلى ربك منتهى قصدك وغاية عملك، فكل ما خالف ذلك فارفضه، من رياء،
أو سمعة، أو موافقة أغراض أهل الباطل، فإن ذلك داع إلى الكون معهم،
ومساعدتهم على أمرهم، ولهذا قال: { وَلَا
تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ
} لا في شركهم، ولا في فروعه
وشعبه، التي هي جميع المعاصي.




{ وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ
} بل أخلص للّه عبادتك، فإنه { لَا
إِلَهَ إِلَّا هُوَ
} فلا أحد يستحق أن يؤله ويحب ويعبد، إلا
اللّه الكامل الباقي الذي { كُلُّ شَيْءٍ
هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ
} وإذا كان كل شيء هالكا مضمحلا، سواه
فعبادة الهالك الباطل باطلة ببطلان غايتها، وفساد نهايتها. {
لَهُ الْحُكْمُ
} في الدنيا والآخرة {
وَإِلَيْهِ
} لا إلى غيره { تُرْجَعُونَ
} فإذا كان ما سوى اللّه باطلا هالكا، واللّه هو الباقي، الذي لا
إله إلا هو، وله الحكم في الدنيا والآخرة، وإليه مرجع الخلائق كلهم،
ليجازيهم بأعمالهم، تعيَّن على من له عقل، أن يعبد اللّه وحده لا شريك
له، ويعمل لما يقربه ويدنيه، ويحذر من سخطه وعقابه، وأن يقدم على ربه غير
تائب، ولا مقلع عن خطئه وذنوبه.




تم تفسير سورة القصص -وللّه الحمد والثناء والمجد دائما أبدا-.

descriptionتفسيرالقران - صفحة 5 Emptyرد: تفسيرالقران

more_horiz
-

تفسير
سورة
النمل

عدد آياتها 93

(



آية




1-25
)
وهي مكية







" طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ
وَكِتَابٍ مُبِينٍ "(1)
"طس" سبق الكلام على الحروف المقطَّعة في أول سورة البقرة. هذه آيات
القرآن، وهي آيات الكتاب العزيز، بينة المعنى, واضحة الدلالة, على ما فيه
من العلوم والحكم والشرائع. فالقرآن هو الكتاب، جمع الله له بين الاسمين.


" هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ
"(2)

" الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ
وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ "(3)
وهي آيات ترشد إلى طريق الفوز في الدنيا والآخرة, وتبشر بحسن الثواب
للمؤمنين الذين صَدَّقوا بها, واهتدَوْا بهديها, الذين يقيمون الصلوات
الخمس كاملة الأركان, مسوفية الشروط, ويؤدون الزكاة المفروضة لمستحقيها,
وهم يوقنون بالحياة الآخرة, وما فيها مِن ثواب وعقاب.


" إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ
بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ "(4)

" أُولَئِكَ
الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ
الْأَخْسَرُونَ "(5)

إن الذين لا يُصَدِّقون بالدار الآخرة, ولا يعملون لها حسَّنَّا لهم
أعمالهم السيئة, فرأوها حسنة, فهم يترددون فيها متحيِّرين. أولئك الذين
لهم العذاب السيِّئ في الدنيا قتلًا وأَسْرَا وذلًا وهزيمةً, وهم في
الآخرة أشد الناس خسرانًا.


" وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ
مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ "(6)
وإنك -أيها الرسول- لتتلقى القرآن من عند الله, الحكيم في خلقه وتدبيره
الذي أحاط بكل شيء علمًا.


" إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ
إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ
بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ "(7)
اذكر قصة موسى حين قال لأهله في مسيره من "مدين" إلى "مصر": إني أبصَرْتُ
نارًا سآتيكم منها بخبر يدلنا على الطريق, أو آتيكم بشعلة نار; كي
تستدفئوا بها من البرد.


" فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ
بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ
الْعَالَمِينَ "(Cool

" يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ "(9)

" وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا
تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا
مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ "(10)

" إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ
حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ "(11)

" وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ
تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى
فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ "(12)
فلما جاء موسى النارَ ناداه الله وأخبره أن هذا مكانٌ قدَّسه الله وباركه
فجعله موضعًا لتكليم موسى وإرساله, وأن الله بارك مَن في النار ومَن
حولها مِنَ الملائكة, وتنزيهًا لله رب الخلائق عما لا يليق به. يا موسى
إنه أنا الله المستحق للعبادة وحدي, العزيز الغالب في انتقامي من أعدائي,
الحكيم في تدبير خلقي. وألق عصاك فألقاها فصارت حية, فلما رأها تتحرك في
خفة تَحَرُّكَ الحية السريعة ولَّى هاربًا ولم يرجع إليها, فطمأنه الله
بقوله: يا موسى لا تَخَفْ, إني لا يخاف لديَّ من أرسلتهم برسالتي, لكن
مَن تجاوز الحدَّ بذنب, ثم تاب فبدَّل حُسْن التوبة بعد قبح الذنب, فإني
غفور له رحيم به, فلا ييئس أحدٌ من رحمة الله ومغفرته. وأدخل يدك في جيبك
تخرج بيضاء كالثلج من غير بَرَص في جملة تسع معجزات، وهي مع اليد: العصا،
والسنون، ونقص الثمرات، والطوفان، والجراد، والقُمَّل، والضفادع، والدم؛
لتأييدك في رسالتك إلى فرعون وقومه, إنهم كانوا قومًا خارجين عن أمر الله
كافرين به.


" فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا
مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ "(13)
فلما جاءتهم هذه المعجزات ظاهرة بيِّنة يبصر بها مَن نظر إليها حقيقةَ ما
دلت عليه, قالوا: هذا سحرٌ واضحٌ بيِّن.





" وَجَحَدُوا
بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ
كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ "(14)
وكذَّبوا بالمعجزات التسع الواضحة الدلالة على صدق موسى في نبوته وصدق
دعوته, وأنكروا بألسنتهم أن تكون من عند الله, وقد استيقنوها في قلوبهم
اعتداءً على الحق وتكبرًا على الاعتراف به, فانظر -أيها الرسول- كيف كان
مصير الذين كفروا بآيات الله وأفسدوا في الأرض, إذ أغرقهم الله في البحر؟
وفي ذلك عبرة لمن يعتبر.



" وَلَقَدْ
آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ
الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ "(15)
ولقد آتينا داود وسليمان علمًا فعملا به, وقالا: الحمد لله الذي فضَّلنا
بهذا على كثير من عباده المؤمنين. وفي الآية دليل على شرف العلم, وارتفاع
أهله.



" وَوَرِثَ
سُلَيْمَانُ دَاوُدَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ
الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ
الْمُبِينُ "(16)
وورث سليمان أباه داود في النبوة والعلم والملك, وقال سليمان لقومه: يا
أيها الناس عُلِّمنا وفُهِّمنا كلام الطير, وأُعطينا مِن كل شيء تدعو
إليه الحاجة, إن هذا الذي أعطانا الله تعالى إياه لهو الفضل الواضح الذي
يُمَيِّزنا على مَن سوانا.



" وَحُشِرَ
لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ
يُوزَعُونَ "(17)
وجُمِع لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير في مسيرة لهم, فهم على
كثرتهم لم يكونوا مهمَلين, بل كان على كل جنس من يَرُدُّ أولهم على
آخرهم; كي يقفوا جميعًا منتظمين.



" حَتَّى إِذَا
أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ
ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ
وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ "(18)


" فَتَبَسَّمَ
ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ
نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ
أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ
الصَّالِحِينَ "(19)
حتى إذا بلغوا وادي النمل قالت نملة: يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا
يهلكنَّكم سليمان وجنوده, وهم لا يعلمون بذلك. فتبسم ضاحكًا من قول هذه
النملة لفهمها واهتدائها إلى تحذير النمل, واستشعر نعمة الله عليه,
فتوجَّه إليه داعيًا: ربِّ ألْهِمْني, ووفقني, أن أشكر نعمتك التي أنعمت
عليَّ وعلى والديَّ, وأن أعمل عملًا صالحًا ترضاه مني, وأدخلني برحمتك في
نعيم جنتك مع عبادك الصالحين الذين ارتضيت أعمالهم.



" وَتَفَقَّدَ
الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ
الْغَائِبِينَ "(20)


"
لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ
لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ "(21)
وتفقد سليمان حال الطير المسخرة له وحال ما غاب منها, وكان عنده هدهد
متميز معروف فلم يجده, فقال: ما لي لا أرى الهدهد الذي أعهده؟ أسَتَره
ساتر عني, أم أنه كان من الغائبين عني, فلم أره لغيبته؟ فلما ظهر أنه
غائب قال: لأعذبنَّ هذا الهدهد عذابًا شديدًا لغيابه تأديبًا له, أو
لأذبحنَّه عقوبة على ما فعل حيث أخل بما سخر له, أو ليأتينِّي بحجة
ظاهرة, فيها عذر لغيبته.



" فَمَكَثَ غَيْرَ
بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ
بِنَبَإٍ يَقِينٍ "(22)
فمكث الهدهد زمنًا غير بعيد ثم حضر فعاتبه سليمان على مغيبه وتخلُّفه,
فقال له الهدهد: علمت ما لم تعلمه من الأمر على وجه الإحاطة, وجئتك من
مدينة "سبأ" بـ "اليمن" بخبر خطير الشأن, وأنا على يقين منه.





" إِنِّي وَجَدْتُ
امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ
عَظِيمٌ "(23)
إني وجدت امرأةً تحكم أهل "سبأ", وأوتيت من كل شيء من أسباب الدنيا, ولها
سرير عظيم القدر, تجلس عليه لإدارة ملكها.



" وَجَدْتُهَا
وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ
الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا
يَهْتَدُونَ "(24)
وجدتُها هي وقومها يعبدون الشمس معرضين عن عبادة الله, وحسَّن لهم
الشيطان أعمالهم السيئة التي كانوا يعملونها, فصرفهم عن الإيمان بالله
وتوحيده, فهم لا يهتدون إلى الله وتوحيده وعبادته وحده.



" أَلَّا
يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ "(25)

descriptionتفسيرالقران - صفحة 5 Emptyرد: تفسيرالقران

more_horiz
تابع
-


تفسير
سورة
النمل

عدد آياتها 93


(

آية
26-50

)

وهي مكية








" اللَّهُ لَا
إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ "(26)
حسَّن لهم الشيطان ذلك; لئلا يسجدوا لله الذي يُخرج المخبوء المستور في
السموات والأرض من المطر والنبات وغير ذلك, ويعلم ما تُسرُّون وما
تظهرون. الله الذي لا معبود يستحق العبادة سواه, رب العرش العظيم.



" قَالَ
سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ "(27)


" اذْهَبْ
بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ
فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ "(28)
قال سليمان للهدهد: سنتأمل فيما جئتنا به من الخبر أصدقت في ذلك أم كنت
من الكاذبين فيه؟ اذهب بكتابي هذا إلى أهل "سبأ" فأعطهم إياه, ثم تنحَّ
عنهم قريبًا منهم بحيث تسمع كلامهم, فتأمل ما يتردد بينهم من الكلام.



" قَالَتْ يَا
أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ "(29)
ذهب الهدهد وألقى الكتاب إلى الملكة فقرأته, فجمعت أشراف قومها, وسمعها
تقول لهم: إني وصل إليَّ كتاب جليل المقدار من شخص عظيم الشأن.



" إِنَّهُ مِنْ
سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ "(30)


" أَلَّا تَعْلُوا
عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ "(31)
ثم بيَّنت ما فيه فقالت: إنه من سليمان, وإنه مفتتح بـ "بسم الله الرحمن
الرحيم" ألا تتكبروا ولا تتعاظموا عما دعوتكم إليه, وأقْبِلوا إليَّ
منقادين لله بالوحدانية والطاعة مسلمين له.



" قَالَتْ يَا
أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا
حَتَّى تَشْهَدُونِ "(32)
قالت: يا أيها الأشراف أشيروا عليَّ في هذا الأمر, ما كنت لأفصل في أمر
إلا بمحضركم ومشورتكم.



" قَالُوا نَحْنُ
أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي
مَاذَا تَأْمُرِينَ "(33)
قالوا مجيبين لها: نحن أصحاب قوة في العدد والعُدَّة وأصحاب النجدة
والشجاعة في شدة الحرب, والأمر موكول إليكِ, وأنتِ صاحبة الرأي, فتأملي
ماذا تأمريننا به؟ فنحن سامعون لأمرك مطيعون لك.



" قَالَتْ إِنَّ
الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ
أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ "(34)


" وَإِنِّي
مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ
الْمُرْسَلُونَ "(35)
قالت محذرةً لهم من مواجهة سليمان بالعداوة, ومبيِّنة لهم سوء مغبَّة
القتال: إن الملوك إذا دخلوا بجيوشهم قريةً عنوةً وقهرًا خرَّبوها
وصيَّروا أعزَّة أهلها أذلة, وقتلوا وأسروا, وهذه عادتهم المستمرة
الثابتة لحمل الناس على أن يهابوهم. وإني مرسلة إلى سليمان وقومه بهديَّة
مشتملة على نفائس الأموال أصانعه بها, ومنتظرة ما يرجع به الرسل.




" فَلَمَّا جَاءَ
سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِي بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ
خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ "(36)
فلمَّا جاء رسول الملكة بالهديَّة إلى سليمان, قال مستنكرًا ذلك متحدثًا
بأَنْعُمِ الله عليه: أتمدونني بمالٍ تَرْضيةً لي؟ فما أعطاني الله من
النبوة والملك والأموال الكثيرة خير وأفضل مما أعطاكم، بل أنتم الذين
تفرحون بالهدية التي تُهدى إليكم; لأنكم أهل مفاخرة بالدنيا ومكاثرة بها.



" ارْجِعْ
إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا
وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ "(37)
وقال سليمان عليه السلام لرسول أهل "سبأ": ارجع إليهم, فوالله لنأتينَّهم
بجنود لا طاقة لهم بمقاومتها ومقابلتها, ولنخرجنَّهم مِن أرضهم أذلة,هم
صاغرون مهانون, إن لم ينقادوا لدين الله وحده, ويتركوا عبادة من سواه.



" قَالَ يَا
أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ
يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ "(38)
قال سليمان مخاطبًا من سَخَّرهم الله له من الجن والإنس: أيُّكم يأتيني
بسرير ملكها العظيم قبل أن يأتوني منقادين طائعين؟



" قَالَ عِفْريتٌ
مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ
وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ "(39)
قال مارد قويُّ شديد من الجن: أنا آتيك به قبل أن تقوم من مجلسك هذا,
وإني لقويٌّ على حَمْله, أمين على ما فيه, آتي به كما هو لا أُنقِص منه
شيئًا ولا أبدله.



" قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ
قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا
عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي




لِيَبْلُوَنِي
أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ
وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ "(40)




قال الذي عنده علم من الكتاب: أنا آتيك بهذا العرش قبل ارتداد أجفانك إذا
تحرَّكَتْ للنظر في شيء. فأذن له سليمان فدعا الله, فأتى بالعرش. فلما
رآه سليمان حاضرًا لديه ثابتًا عنده قال: هذا مِن فضل ربي الذي خلقني
وخلق الكون كله؛ ليختبرني: أأشكر بذلك اعترافًا بنعمته تعالى عليَّ أم
أكفر بترك الشكر؟ ومن شكر لله على نعمه فإنَّ نَفْعَ ذلك يرجع إليه, ومن
جحد النعمة وترك الشكر فإن ربي غني عن شكره, كريم يعم بخيره في الدنيا
الشاكر والكافر, ثم يحاسبهم ويجازيهم في الآخرة.



" قَالَ نَكِّرُوا
لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا
يَهْتَدُونَ "(41)
قال سليمان لمن عنده: غيِّروا سرير ملكها الذي تجلس عليه إلى حال تنكره
إذا رأته; لنرى أتهتدي إلى معرفته أم تكون من الذين لا يهتدون؟



" فَلَمَّا
جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا
الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ "(42)
فلما جاءت ملكة "سبأ" إلى سليمان في مجلسه قيل لها: أهكذا عرشك؟ قالت:
إنه يشبهه. فظهر لسليمان أنها أصابت في جوابها, وقد علمت قدرة الله وصحة
نبوة سليمان عليه السلام, فقال: وأوتينا العلم بالله وبقدرته مِن قبلها,
وكنا منقادين لأمر الله متبعين لدين الاسلام.



" وَصَدَّهَا مَا
كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ
كَافِرِينَ "(43)
ومَنَعَها عن عبادة الله وحده ما كانت تعبده مِن دون الله تعالى, إنها
كانت كافرة ونشأت بين قوم كافرين, واستمرت على دينهم, وإلا فلها من
الذكاء والفطنة ما تعرف به الحق من الباطل, ولكن العقائد الباطلة تُذهب
بصيرة القلب.



" قِيلَ لَهَا
ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ
عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ
رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ
رَبِّ الْعَالَمِينَ "(44)
قيل لها: ادخلي القصر, وكان صحنه مِن زجاج تحته ماء, فلما رأته ظنته ماء
تتردد أمواجه, وكشفت عن ساقيها لتخوض الماء, فقال لها سليمان: إنه صحن
أملس من زجاج صاف والماء تحته. فأدركت عظمة ملك سليمان, وقالت: رب إني
ظلمت نفسي بما كنت عليه من الشرك, وانقدت متابعة لسليمان داخلة في دين رب
العالمين أجمعين.




" وَلَقَدْ
أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ
فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ "(45)
ولقد أرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحًا: أن وحِّدوا الله, ولا تجعلوا معه
إلهًا آخر, فلما أتاهم صالحٌ داعيًا إلى توحيد الله وعبادته وحده صار
قومه فريقين: أحدهما مؤمن به, والآخر كافر بدعوته, وكل منهم يزعم أن الحق
معه.



" قَالَ يَا
قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا
تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ "(46)
قال صالح للفريق الكافر: لِمَ تبادرون الكفر وعمل السيئات الذي يجلب لكم
العذاب, وتؤخرون الإيمان وفِعْل الحسنات الذي يجلب لكم الثواب؟ هلا
تطلبون المغفرة من الله ابتداء, وتتوبون إليه؛ رجاء أن ترحموا.



" قَالُوا
اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ
بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ "(47)
قال قوم صالح له: تَشاءَمْنا بك وبمن معك ممن دخل في دينك, قال لهم صالح:
ما أصابكم الله مِن خير أو شر فهو مقدِّره عليكم ومجازيكم به, بل أنتم
قوم تُخْتَبرون بالسراء والضراء والخير والشر.



" وَكَانَ فِي
الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا
يُصْلِحُونَ "(48)
وكان في مدينة صالح -وهي "الحِجْر" الواقعة في شمال غرب جزيرة العرب-
تسعة رجال, شأنهم الإفساد في الأرض, الذي لا يخالطه شيء من الصلاح.



" قَالُوا
تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ
لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ
"(49)
قال هؤلاء التسعة بعضهم لبعض: تقاسموا بالله بأن يحلف كل واحد للآخرين:
لنأتينَّ صالحًا بغتة في الليل فنقتله ونقتل أهله, ثم لنقولَنَّ لوليِّ
الدم مِن قرابته: ما حضرنا قتلهم, وإنا لصادقون فيما قلناه.



" وَمَكَرُوا
مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ "(50)
ودبَّروا هذه الحيلة لإهلاك صالح وأهله مكرًا منهم, فنصرنا نبينا صالحًا
عليه السلام, وأخذناهم بالعقوبة على غِرَّة, وهم لا يتوقعون كيدنا لهم
جزاءً على كيدهم.

descriptionتفسيرالقران - صفحة 5 Emptyرد: تفسيرالقران

more_horiz
تابع
-


تفسير
سورة
النمل

عدد آياتها 93

(


آية

51-75
)
وهي مكية








" فَانْظُرْ
كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ
أَجْمَعِينَ "(51)
فانظر -أيها الرسول- نظرة اعتبار إلى عاقبة غَدْر هؤلاء الرهط بنبيهم
صالح؟ أنا أهلكناهم وقومهم أجمعين.



" فَتِلْكَ
بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ
يَعْلَمُونَ "(52)
فتلك مساكنهم خالية ليس فيها منهم أحد, أهلكهم الله; بسبب ظلمهم لأنفسهم
بالشرك, وتكذيب نبيهم. إن في ذلك التدمير والإهلاك لَعظة لقوم يعلمون ما
فعلناه بهم, وهذه سنتنا فيمن يكذب المرسلين.



" وَأَنْجَيْنَا
الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ "(53)
وأنجينا مما حلَّ بثمود من الهلاك صالحًا والمؤمنين به, الذين كانوا
يتقون بإيمانهم عذاب الله.



" وَلُوطًا إِذْ
قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ "(54)


" أَئِنَّكُمْ
لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ
قَوْمٌ تَجْهَلُونَ "(55)
واذكر لوطًا إذ قال لقومه: أتأتون الفعلة المتناهية في القبح, وأنتم
تعلمون قبحها؟ أإنكم لتأتون الرجال في أدبارهم للشهوة عوضًا عن النساء؟
بل أنتم قوم تجهلون حقَّ الله عليكم, فخالفتم بذلك أمره, وعَصيْتُم رسوله
بفعلتكم القبيحة التي لم يسبقكم بها أحد من العالمين.



تفسير الجزء العشرون




{ 54 - 58 ْ} { وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ
وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ ْ}


إلى آخر القصة.




أي: واذكر عبدنا ورسولنا لوطا ونبأه الفاضل حين قال لقومه -داعيا إلى
الله وناصحا-: { أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ ْ}
أي: الفعلة الشنعاء التي تستفحشها العقول والفطر وتستقبحها الشرائع
{ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ ْ} ذلك
وتعلمون قبحه فعاندتم وارتكبتم ذلك ظلما منكم وجرأة على الله.




ثم فسر تلك الفاحشة فقال: { أَئِنَّكُمْ
لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ ْ}
أي:
كيف توصلتم إلى هذه الحال، صارت شهوتكم للرجال، وأدبارهم محل الغائط
والنجو والخبث، وتركتم ما خلق الله لكم من النساء من المحال الطيبة التي
جبلت النفوس إلى الميل إليها وأنتم انقلب عليكم الأمر فاستحسنتم القبيح
واستقبحتم الحسن { بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ
تَجْهَلُونَ ْ}
متجاوزون لحدود الله متجرئون على محارمه.




{ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ ْ}

قبول ولا انزجار ولا تذكر وادكار، إنما كان جوابهم المعارضة والمناقضة
والتوعد لنبيهم الناصح ورسولهم الأمين بالإجلاء عن وطنه والتشريد عن
بلده. فما كان جواب قومه { إِلَّا أَنْ قَالُوا
أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ ْ}




فكأنه قيل: ما نقمتم منهم وما ذنبهم الذي أوجب لهم الإخراج، فقالوا:
{ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ ْ}
أي: يتنزهون عن اللواط وأدبار الذكور. فقبحهم الله جعلوا أفضل الحسنات
بمنزلة أقبح السيئات، ولم يكتفوا بمعصيتهم لنبيهم فيما وعظهم به حتى
وصلوا إلى إخراجه، والبلاء موكل بالمنطق فهم قالوا:
{ أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ
أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ ْ}




ومفهوم هذا الكلام: " وأنتم متلوثون بالخبث والقذارة المقتضي لنزول
العقوبة بقريتكم ونجاة من خرج منها "




ولهذا قال تعالى: { فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ
إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ ْ}
وذلك لما
جاءته الملائكة في صورة أضياف وسمع بهم قومه فجاءوا إليه يريدونهم بالشر
وأغلق الباب دونهم واشتد الأمر عليه، ثم أخبرته الملائكة عن جلية الحال
وأنهم جاءوا لاستنقاذه وإخراجه من بين أظهرهم وأنهم يريدون إهلاكهم وأن
موعدهم الصبح، وأمروه أن يسري بأهله ليلا إلا امرأته فإنه سيصيبها ما
أصابهم فخرج بأهله ليلا فنجوا وصبحهم العذاب، فقلب الله عليهم ديارهم
وجعل أعلاها أسفلها وأمطر عليهم حجارة من سجيل منضود مسومة عند ربك.




ولهذا قال هنا: { وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ
مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ ْ}
أي: بئس المطر مطرهم
وبئس العذاب عذابهم لأنهم أنذروا وخوفوا فلم ينزجروا ولم يرتدعوا فأحل
الله بهم عقابه الشديد.





{ 59 ْ} { قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ
عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ
ْ}








أي: قل الحمد لله الذي يستحق كمال الحمد والمدح والثناء لكمال أوصافه
وجميل معروفه وهباته وعدله وحكمته في عقوبته المكذبين وتعذيب الظالمين،
وسلم أيضا على عباده الذين تخيرهم واصطفاهم على العالمين من الأنبياء
والمرسلين وصفوة الله من العالمين، وذلك لرفع ذكرهم وتنويها بقدرهم
وسلامتهم من الشر والأدناس، وسلامة ما قالوه في ربهم من النقائص والعيوب.




{ آللَّهُ خَيْرٌ أمَا يُشْرِكُونَ ْ}

وهذا استفهام قد تقرر وعرف، أي: الله الرب العظيم كامل الأوصاف عظيم
الألطاف خير أم الأصنام والأوثان التي عبدوها معه، وهي ناقصة من كل وجه،
لا تنفع ولا تضر ولا تملك لأنفسها ولا لعابديها مثقال ذرة من الخير فالله
خير مما يشركون.




ثم ذكر تفاصيل ما به يعرف ويتعين أنه الإله المعبود وأن عبادته هي الحق
وعبادة [ما] سواه هي الباطل فقال:





{ 60 ْ} { أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ
حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا
أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ ْ}





أي: أمن خلق السماوات وما فيها من الشمس والقمر والنجوم والملائكة والأرض
وما فيها من جبال وبحار وأنهار وأشجار وغير ذلك.




{ وَأَنْزَلَ لَكُمْ ْ}

أي: لأجلكم { مِنَ السَّمَاءِ مَاءً
فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ْ}
أي: بساتين
{ ذَاتَ بَهْجَةٍ } أي: حسن منظر من
كثرة أشجارها وتنوعها وحسن ثمارها، { مَا كَانَ
لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا ْ}
لولا منة الله عليكم بإنزال
المطر. { أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ ْ} فعل
هذه الأفعال حتى يعبد معه ويشرك به؟ { بَلْ
هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ ْ}
به غيره ويسوون به سواه مع علمهم أنه
وحده خالق العالم العلوي والسفلي ومنزل الرزق.





{ 61 ْ} { أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا
أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ
حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ْ}








أي: هل الأصنام والأوثان الناقصة من كل وجه التي لا فعل منها ولا رزق ولا
نفع خير؟ أم الله الذي { جَعَلَ الْأَرْضَ
قَرَارًا ْ}
يستقر عليها العباد ويتمكنون من السكنى والحرث
والبناء والذهاب والإياب. { وَجَعَلَ
خِلَالَهَا أَنْهَارًا }
أي: جعل في خلال الأرض أنهارا ينتفع بها
العباد في زروعهم وأشجارهم، وشربهم وشرب مواشيهم.




{ وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ }

أي: جبالا ترسيها وتثبتها لئلا تميد وتكون أوتادا لها لئلا تضطرب.
{ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ }
البحر المالح والبحر العذب
{ حَاجِزًا } يمنع من اختلاطهما فتفوت
المنفعة المقصودة من كل منهما بل جعل بينهما حاجزا من الأرض، جعل مجرى
الأنهار في الأرض مبعدة عن البحار فيحصل منها مقاصدها ومصالحها،
{ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ ْ} فعل ذلك حتى
يعدل به الله ويشرك به معه. { بَلْ
أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ْ}
فيشركون بالله تقليدا لرؤسائهم
وإلا فلو علموا حق العلم لم يشركوا به شيئا.





{ 62 ْ} { أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا
دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ
أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ ْ}








أي: هل يجيب المضطرب الذي أقلقته الكروب وتعسر عليه المطلوب واضطر للخلاص
مما هو فيه إلا الله وحده؟ ومن يكشف السوء أي: البلاء والشر والنقمة إلا
الله وحده؟ ومن يجعلكم خلفاء الأرض يمكنكم منها ويمد لكم بالرزق ويوصل
إليكم نعمه وتكونون خلفاء من قبلكم كما أنه سيميتكم ويأتي بقوم بعدكم
أإله مع الله يفعل هذه الأفعال؟ لا أحد يفعل مع الله شيئا من ذلك حتى
بإقراركم أيها المشركون، ولهذا كانوا إذا مسهم الضر دعوا الله مخلصين له
الدين لعلمهم أنه وحده المقتدر على دفعه وإزالته،
{ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ ْ} أي:
قليل تذكركم وتدبركم للأمور التي إذا تذكرتموها ادَّكرتم ورجعتم إلى
الهدى، ولكن الغفلة والإعراض شامل لكم فلذلك ما أرعويتم ولا اهتديتم.




{ 63 } { أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ
يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ
اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ }




أي: من هو الذي يهديكم حين تكونون في ظلمات البر والبحر، حيث لا دليل ولا
معلم يرى ولا وسيلة إلى النجاة إلا هدايته لكم، وتيسيره الطريق وجعل ما
جعل لكم من الأسباب التي تهتدون بها، { وَمَنْ
يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ }
أي: بين
يدي المطر، فيرسلها فتثير السحاب ثم تؤلفه ثم تجمعه ثم تلقحه ثم تدره،
فيستبشر بذلك العباد قبل نزول المطر. {
أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ }
فعل ذلك؟ أم هو وحده الذي انفرد به؟ فلم
أشركتم معه غيره وعبدتم سواه؟ { تَعَالَى
اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ }
تعاظم وتنزه وتقدس عن شركهم
وتسويتهم به غيره.





{ 64 } { أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ
يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ
مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ }








أي: من هو الذي يبدأ الخلق وينشئ المخلوقات ويبتدئ خلقها، ثم يعيد الخلق
يوم البعث والنشور؟ ومن يرزقكم من السماء والأرض بالمطر والنبات؟.




{ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ }

يفعل ذلك ويقدر عليه؟ { قُلْ هَاتُوا
بُرْهَانَكُمْ }
أي: حجتكم ودليلكم على ما قلتم
{ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } وإلا
فبتقدير أنكم تقولون: إن الأصنام لها مشاركة له في شيء من ذلك فذلك مجرد
دعوى صدقوها بالبرهان، وإلا فاعرفوا أنكم مبطلون لا حجة لكم، فارجعوا إلى
الأدلة اليقينية والبراهين القطعية الدالة على أن الله هو المتفرد بجميع
التصرفات وأنه المستحق أن تصرف له جميع أنواع العبادات.





{ 65 - 68 } { قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ
أَيَّانَ يُبْعَثُونَ * بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ
هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ * وَقَالَ الَّذِينَ
كَفَرُوا أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ *
لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا
إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ * قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ
فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ }








يخبر تعالى أنه المنفرد بعلم غيب السماوات والأرض كقوله تعالى:
{ وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا
يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا
تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ
الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ }

وكقوله: { إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ
السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ }

إلى آخر السورة.




فهذه الغيوب ونحوها اختص الله بعلمها فلم يعلمها ملك مقرب ولا نبي مرسل،
وإذا كان هو المنفرد بعلم ذلك المحيط علمه بالسرائر والبواطن والخفايا
فهو الذي لا تنبغي العبادة إلا له، ثم أخبر تعالى عن ضعف علم المكذبين
بالآخرة منتقلا من شيء إلى ما هو أبلغ منه فقال:
{ وَمَا يَشْعُرُونَ } أي: وما يدرون
{ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ } أي: متى البعث
والنشور والقيام من القبور أي: فلذلك لم يستعدوا.




{ بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ }

أي: بل ضعف، وقل ولم يكن يقينا، ولا علما واصلا إلى القلب وهذا أقل وأدنى
درجة للعلم ضعفه ووهاؤه، بل ليس عندهم علم قوي ولا ضعيف وإنما
{ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا } أي: من
الآخرة، والشك زال به العلم لأن العلم بجميع مراتبه لا يجامع الشك،
{ بَلْ هُمْ مِنْهَا } أي: من الآخرة
{ عَمُونَ } قد عميت عنها بصائرهم، ولم
يكن في قلوبهم من وقوعها ولا احتمال بل أنكروها واستبعدوها، ولهذا قال:
{ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَئِذَا كُنَّا
تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ }
أي: هذا بعيد غير
ممكن قاسوا قدرة كامل القدرة بقدرهم الضعيفة.




{ لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا }

أي: البعث { نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ }
أي: فلم يجئنا ولا رأينا منه شيئا. { إِنْ
هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ }
أي: قصصهم وأخبارهم التي
تقطع بها الأوقات وليس لها أصل ولا صدق فيها.




فانتقل في الإخبار عن أحوال المكذبين بالإخبار أنهم لا يدرون متى وقت
الآخرة ثم الإخبار بضعف علمهم فيها ثم الإخبار بأنه شك ثم الإخبار بأنه
عمى ثم الإخبار بإنكارهم لذلك واستبعادهم وقوعه. أي: وبسبب هذه الأحوال
ترحل خوف الآخرة من قلوبهم فأقدموا على معاصي الله وسهل عليهم تكذيب الحق
والتصديق بالباطل واستحلوا الشهوات على القيام بالعبادات فخسروا دنياهم
وأخراهم.




(69) ثم نبههم على صدق ما أخبرت به الرسل فقال:
{ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ
الْمُجْرِمِينَ }
فلا تجدون
مجرما قد استمر على إجرامه، إلا وعاقبته شر عاقبة وقد أحل الله به من
الشر والعقوبة ما يليق بحاله.





{ 70 - 72 } { وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا
يَمْكُرُونَ * وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ
صَادِقِينَ * قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي
تَسْتَعْجِلُونَ }








أي: لا تحزن يا محمد على هؤلاء المكذبين وعدم إيمانهم، فإنك لو علمت ما
فيهم من الشر وأنهم لا يصلحون للخير، لم تأس ولم تحزن، ولا يضق صدرك ولا
تقلق نفسك بمكرهم فإن مكرهم سيعود عاقبته عليهم،
{ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ
خَيْرُ الْمَاكِرِينَ }
ويقول المكذبون بالمعاد وبالحق الذي جاء
به الرسول مستعجلين للعذاب: { مَتَى هَذَا
الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ }




وهذا من سفاهة رأيهم وجهلهم فإن وقوعه ووقته قد أجله الله بأجله وقدره
بقدر، فلا يدل عدم استعجاله على بعض مطلوبهم.




ولكن -مع هذا- قال تعالى محذرا لهم وقوع ما استعجلوه: {
قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ }
أي: قرب منكم وأوشك أن
يقع بكم { بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ }
من العذاب.





{ 73 - 75 } { وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ
عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ * وَإِنَّ
رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ * وَمَا
مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ }








ينبه عباده على سعة جوده وكثرة أفضاله ويحثهم على شكرها، ومع هذا فأكثر
الناس قد أعرضوا عن الشكر واشتغلوا بالنعم عن المنعم.




{ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ }

أي: تنطوي عليه { صُدُورُهُمْ وَمَا
يُعْلِنُونَ }
فليحذروا من عالم السرائر والظواهر وليراقبوه.




{ وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ }

أي: خفية وسر من أسرار العالم العلوي والسفلي {
إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ }
قد أحاط ذلك الكتاب بجميع ما كان
ويكون إلى أن تقوم الساعة، فكل حادث يحدث جلي أو خفي إلا وهو مطابق لما
كتب في اللوح المحفوظ.

descriptionتفسيرالقران - صفحة 5 Emptyرد: تفسيرالقران

more_horiz
تابع
-


تفسير
سورة
النمل

عدد آياتها 93


(



آية 76-93

)

وهي مكية






{ 76 - 77 } { إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ
أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ * وَإِنَّهُ لَهُدًى
وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ }





وهذا خبر عن هيمنة القرآن على الكتب السابقة وتفصيله وتوضيحه، لما كان
فيها قد وقع فيه اشتباه واختلاف عند بني إسرائيل فقصه هذا القرآن قصا زال
به الإشكال وبين به الصواب من المسائل المختلف فيها. وإذا كان بهذه
المثابة من الجلالة والوضوح وإزالة كل خلاف وفصل كل مشكل كان أعظم نعم
الله على العباد ولكن ما كل أحد يقابل النعمة بالشكر. ولهذا بين أن نفعه
ونوره وهداه مختص بالمؤمنين فقال: { وَإِنَّهُ
لَهُدًى }




من الضلالة والغي والشبه { وَرَحْمَةٌ }
تنثلج له صدورهم وتستقيم به أمورهم الدينية والدنيوية
{ لِلْمُؤْمِنِينَ } به المصدقين له
المتلقين له بالقبول المقبلين على تدبره المتفكرين في معانيه، فهؤلاء
تحصل لهم به الهداية إلى الصراط المستقيم والرحمة المتضمنة للسعادة
والفوز والفلاح.





{ 78 } { إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ
بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ }








أي: إن الله تعالى سيفصل بين المختصين وسيحكم بين المختلفين بحكمه العدل
وقضائه القسط، فالأمور وإن حصل فيها اشتباه في الدنيا بين المختلفين
لخفاء الدليل أو لبعض المقاصد فإنه سيبين فيها الحق المطابق للواقع حين
يحكم الله فيها، { وَهُوَ الْعَزِيزُ }
الذي قهر الخلائق فأذعنوا له، { الْعَلِيمُ }
بجميع الأشياء { الْعَلِيمُ } بأقوال
المختلفين وعن ماذا صدرت وعن غاياتها ومقاصدها وسيجازي كلا بما علمه فيه.





{ 79 - 81 } { فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ
إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ * إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى
وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ * وَمَا
أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ
يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ }








أي: اعتمد على ربك في جلب المصالح ودفع المضار وفي تبليغ الرسالة وإقامة
الدين وجهاد الأعداء. { إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ
الْمُبِينِ }
الواضح والذي على الحق يدعو إليه، ويقوم بنصرته أحق
من غيره بالتوكل فإنه يسعى في أمر مجزوم به معلوم صدقه لا شك فيه ولا
مرية. وأيضا فهو حق في غاية البيان لا خفاء به ولا اشتباه، وإذا قمت بما
حملت وتوكلت على الله في ذلك فلا يضرك ضلال من ضل وليس عليك هداهم فلهذا
قال: { إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا
تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ }




أي: حين تدعوهم وتناديهم، وخصوصا { إِذَا
وَلَّوْا مُدْبِرِينَ }
فإنه يكون أبلغ في عدم إسماعهم.




{ وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ }

كما قال تعالى: { إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ
أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ }

{ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ
بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ }
أي: هؤلاء الذين ينقادون لك،
الذين يؤمنون بآيات الله وينقادون لها بأعمالهم واستسلامهم كما قال
تعالى: { إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ
يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ
يُرْجَعُونَ }





{ 82 } { وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ
أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ
النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ }








أي: إذا وقع على الناس القول الذي حتمه الله وفرض وقته.
{ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً } خارجة
{ مِنَ الْأَرْضِ } أو دابة من دواب
الأرض ليست من السماء. وهذه الدابة {
تُكَلِّمُهُمْ }
أي: تكلم العباد أن الناس كانوا بآياتنا لا
يوقنون، أي: لأجل أن الناس ضعف علمهم ويقينهم بآيات الله، فإظهار الله
هذه الدابة من آيات الله العجيبة ليبين للناس ما كانوا فيه يمترون.




وهذه الدابة هي الدابة المشهورة التي تخرج في آخر الزمان وتكون من أشراط
الساعة كما تكاثرت بذلك الأحاديث [ولم يأت دليل يدل على كيفيتها ولا من
أي: نوع هي وإنما دلت الآية الكريمة على أن الله يخرجها للناس وأن هذا
التكليم منها خارق للعوائد المألوفة وأنه من الأدلة على صدق ما أخبر الله
به في كتابه والله أعلم]





{ 83 - 85 } { وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ
أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ *
حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا
بِهَا عِلْمًا أَمْ مَاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * وَوَقَعَ الْقَوْلُ
عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ }








يخبر تعالى عن حالة المكذبين في موقف القيامة وأن الله يجمعهم، ويحشر من
كل أمة من الأمم فوجا وطائفة { مِمَّنْ
يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ }
يجمع أولهم على آخرهم
وآخرهم على أولهم ليعمهم السؤال والتوبيخ واللوم.




{ حَتَّى إِذَا جَاءُوا }

وحضروا قال لهم موبخا ومقرعا: { أَكَذَّبْتُمْ
بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا }
العلم أي: الواجب عليكم
التوقف حتى ينكشف لكم الحق وأن لا تتكلموا إلا بعلم، فكيف كذبتم بأمر لم
تحيطوا به علما؟ { أَمْ مَاذَا كُنْتُمْ
تَعْمَلُونَ }
أي: يسألهم عن علمهم وعن عملهم فيجد عليهم تكذيبا
بالحق، وعملهم لغير الله أو على غير سنة رسولهم.




{ وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا }

أي: حقت عليهم كلمة العذاب بسبب ظلمهم الذي استمروا عليه وتوجهت عليهم
الحجة، { فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ } لأنه
لا حجة لهم.





{ 86 } { أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا
اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ
لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ }








أي: ألم يشاهدوا هذه الآية العظيمة والنعمة الجسيمة وهو تسخير الله لهم
الليل والنهار، هذا بظلمته ليسكنوا فيه ويستريحوا من التعب ويستعدوا
للعمل، وهذا بضيائه لينتشروا فيه في معاشهم وتصرفاتهم.
{ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ
يُؤْمِنُونَ }
على كمال وحدانية الله وسبوغ نعمته.





{ 87 - 90 } { وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ
فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ
اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ * وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا
جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي
أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ * مَنْ جَاءَ
بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ
آمِنُونَ * وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي
النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ }





يخوف تعالى عباده ما أمامهم من يوم القيامة وما فيه من المحن والكروب،
ومزعجات القلوب فقال: { وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي
الصُّورِ فَفَزِعَ }
بسبب النفخ فيه {
مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ }
أي: انزعجوا
وارتاعوا وماج بعضهم ببعض خوفا مما هو مقدمة له.
{ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ } ممن
أكرمه الله وثبته وحفظه من الفزع. { وَكُلٌّ }
من الخلق عند النفخ في الصور { أَتَوْهُ
دَاخِرِينَ }
صاغرين ذليلين، كما قال تعالى:
{ إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا }
ففي ذلك اليوم
يتساوى الرؤساء والمرءوسون في الذل والخضوع لمالك الملك.




ومن هوله أنك { ترى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا
جَامِدَةً }
لا تفقد [شيئا] منها وتظنها باقية على الحال المعهودة
وهي قد بلغت منها الشدائد والأهوال كل مبلغ وقد تفتت ثم تضمحل وتكون هباء
منبثا. ولهذا قال: { وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ
السَّحَابِ }
من خفتها وشدة ذلك الخوف وذلك
{ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ
شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ }
فيجازيكم بأعمالكم.




ثم بين كيفية جزائه فقال: { مَنْ جَاءَ
بِالْحَسَنَةِ }
اسم جنس يشمل كل حسنة قولية أو فعلية أو قلبية
{ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا } هذا أقل
التفضيل




{ وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ }

أي: من الأمر الذي فزع الخلق لأجله آمنون وإن كانوا يفزعون معهم.




{ وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ }

اسم جنس يشمل كل سيئة { فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ
فِي النَّارِ }
أي: ألقوا في النار على وجوههم ويقال لهم:
{ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ
تَعْمَلُونَ }





{ 91-93 } { إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ
رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ
وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ * وَأَنْ أَتْلُوَ
الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ
ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ * وَقُلِ الْحَمْدُ
لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ
عَمَّا تَعْمَلُونَ }




أي: قل لهم يا محمد { إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ
أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ }
أي: مكة المكرمة التي حرمها
وأنعم على أهلها فيجب أن يقابلوا ذلك بالشكر والقبول.
{ وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ } من العلويات
والسفليات أتى به لئلا يتوهم اختصاص ربوبيته بالبيت وحده.
{ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ
}
أي: أبادر إلى الإسلام، وقد فعل صلى الله عليه وسلم فإنه أول
هذه الأمة إسلاما وأعظمها استسلاما.




{ و }

أمرت أيضا { أن أَتْلُوَ } عليكم
{ الْقُرْآنُ } لتهتدوا به وتقتدوا
وتعلموا ألفاظه ومعانيه فهذا الذي علي وقد أديته،
{ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي
لِنَفْسِهِ }
نفعه يعود عليه وثمرته عائدة إليه
{ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ
الْمُنْذِرِينَ }
وليس بيدي من الهداية شيء.




{ وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ }

الذي له الحمد في الأولى والآخرة ومن جميع الخلق، خصوصا أهل الاختصاص
والصفوة من عباده، فإن الذي ينبغي أن يقع منهم من الحمد والثناء على ربهم
أعظم مما يقع من غيرهم لرفعة درجاتهم وكمال قربهم منه وكثرة خيراته
عليهم.




{ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا }

معرفة تدلكم على الحق والباطل، فلا بد أن يريكم من آياته ما تستنيرون به
في الظلمات. { لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ
بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ }




{ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ }

بل قد علم ما أنتم عليه من الأعمال والأحوال وعلم مقدار جزاء تلك الأعمال
وسيحكم بينكم حكما تحمدونه عليه ولا يكون لكم حجة بوجه من الوجوه عليه.




تم تفسير سورة النمل بفضل الله وإعانته وتيسيره.




ونسأله تعالى أن لا تزال ألطافه ومعونته مستمرة علينا وواصلة منه إلينا،
فهو أكرم الأكرمين وخير الراحمين وموصل المنقطعين ومجيب السائلين.




ميسر الأمور العسيرة وفاتح أبواب بركاته والمجزل في جميع الأوقات هباته،
ميسر القرآن للمتذكرين ومسهل طرقه وأبوابه للمقبلين وممد مائدة خيراته
ومبراته للمتفكرين والحمد لله رب العالمين. وصلى الله على محمد وآله
وصحبه وسلم.




على يد جامعه وممليه عبد الرحمن بن ناصر بن عبد الله السعدي غفر الله له
ولوالديه ولجميع المسلمين، وذلك في 22 رمضان سنة 1343.



المجلد السادس من تفسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، من منن الله
على الفقير إلى المعيد المبدي: عبده وابن عبده وابن أمته: عبد الرحمن بن
ناصر بن عبد الله بن سعدي غفر الله له آمين.

descriptionتفسيرالقران - صفحة 5 Emptyرد: تفسيرالقران

more_horiz
- تفسيرسورة الشعراء
عدد آياتها 227

(



آية


1-25
)







" طسم "(1)
(طسم) سبق الكلام على الحروف المقطعة في أول سورة البقرة.


" تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ
الْمُبِينِ "(2)
هذه آيات القرآن الموضِّح لكل شيء الفاصل بين الهدى والضلال.


" لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ
أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ "(3)
لعلك - أيها الرسول - من شدة حرصك على هدايتهم مُهْلِك نفسك ؛ لأنهم لم
يصدِّقوا بك ولم يعملوا بهديك ، فلا تفعل ذلك.


" إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ
مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ "(4)
إن نشأ ننزل على المكذبين من قومك من الماء معجزة مخوِّفة لهم تلجئهم إلى
الإيمان ، فتصير أعناقهم خاضعة ذليلة ، ولكننا لم نشأ ذلك; فإن الإيمان
النافع هو الإيمان بالغيب اختيارًا.


" وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ
مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ "(5)
وما يجيء هؤلاء المشركين المكذبين مِن ذِكْرٍ من الرحمن مُحْدَث إنزاله ،
شيئًا بعد شيء ، يأمرهم وينهاهم ، ويذكرهم بالدين الحق إلا أعرضوا عنه,
ولم يقبلوه.


" فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ
أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ "(6)
فقد كذَّبوا بالقرآن واستهزؤوا به, فسيأتيهم أخبار الأمر الذي كانوا
يستهزئون به ويسخرون منه, وسيحلُّ بهم العذاب جزاء تمردهم على ربهم.



" أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ
كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ "(7)


" إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا
كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ "(Cool


" وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ
الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ "(9)
أكذبوا ولم ينظروا إلى الأرض التي أنبتنا فيها من كل نوع حسن نافع من
النبات, لا يقدر على إنباته إلا رب العالمين؟ إن في إخراج النبات من
الأرض لَدلالة واضحة على كمال قدرة الله, وما كان أكثر القوم مؤمنين. وإن
ربك لهو العزيز على كل مخلوق, الرحيم الذي وسعت رحمته كل شيء.



" وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى
أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ "(10)


" قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا
يَتَّقُونَ "(11)
واذكر - أيها الرسول - لقومك إذ نادى ربك موسى: أن ائت القوم الظالمين,
قوم فرعون , وقل لهم: ألا يخافون عقاب الله تعالى , ويتركون ما هم عليه
من الكفر والضلال؟



" قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ
يُكَذِّبُونِ "(12)


" وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا
يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ "(13)


" وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ
فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ "(14)
قال موسى: رب إني أخاف أن يكذبوني في الرسالة, ويملأ صدري الغمُّ
لتكذيبهم إياي , ولا ينطلق لساني بالدعوة فأرسِلْ جبريل بالوحي إلى أخي
هارون ؛ ليعاونني. ولهم علي ذنب في قتل رجل منهم, وهو القبطي, فأخاف أن
يقتلوني به.


" قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا
بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ "(15)


" فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا
إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ "(16)


" أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي
إِسْرَائِيلَ "(17)
قال الله لموسى: كلَّا لن يقتلوك, وقد أجبت طلبك في هارون, فاذهبا
بالمعجزات الدالة على صدقكما , إنا معكم بالعلم والحفظ والنصرة مستمعون.
فأتِيَا فرعون فقولا له: إنا مرسَلان إليك وإلى قومك من رب العالمين: أن
اترك بني إسرائيل ؛ ليذهبوا معنا.


" قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا
وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ "(18)


" وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي
فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ "(19)
قال فرعون لموسى ممتنًا عليه: ألم نُرَبِّك في منازلنا صغيرًا , ومكثت في
رعايتنا سنين من عُمُرك وارتكبت جنايةً بقتلك رجلًا من قومي حين ضربته
ودفعته, وأنت من الجاحدين نعمتي المنكرين ربوبيتي؟





" قَالَ
فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ "(20)


" فَفَرَرْتُ
مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي
مِنَ الْمُرْسَلِينَ "(21)


" وَتِلْكَ
نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ "(22)
قال موسى مجيبًا لفرعون: فعلتُ ما ذكرتَ قبل أن يوحي الله إلي , ويبعثني
رسولًا , فخرجت من بينكم فارًّا إلى "مدين" , لمَّا خفت أن تقتلوني بما
فعلتُ من غير عَمْد , فوهب لي ربي تفضلًا منه النبوة والعلم, وجعلني من
المرسلين. وتلك التربية في بيتك تَعُدُّها نعمة منك عليَّ , وقد جعلت بني
إسرائيل عبيدًا تذبح أبناءهم وتستحيي نساءهم؟



" قَالَ
فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ "(23)
قال فرعون لموسى: وما رب العالمين الذي تدَّعي أنك رسوله؟



" قَالَ رَبُّ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ
"(24)
قال موسى: هو مالك ومدبر السموات والأرض وما بينهما , إن كنتم موقنين
بذلك , فآمِنوا.



" قَالَ لِمَنْ
حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ "(25)
قال فرعون لمن حوله مِن أشراف قومه: ألا تسمعون مقالة موسى العجيبة بوجود
رب سواي؟

descriptionتفسيرالقران - صفحة 5 Emptyرد: تفسيرالقران

more_horiz
تابع
- تفسيرسورة الشعراء
عدد آياتها 227

(
آية
26-50

)







<table dir="rtl" style="font-weight: normal; font-size: 10pt; color: #ffffff; font-family: Tahoma,Arial; border-collapse: collapse; border: 0px solid" cellpadding="0" cellspacing="0" width="100%">
<tr>
<td style="vertical-align: top; width: 100%; text-align: center; background-image: url('none'); background-repeat: repeat; background-attachment: scroll; background-position: 0% 0%" dir="rtl"> <table id="AutoNumber1" dir="rtl" style="BORDER-COLLAPSE: collapse" border="0" cellspacing="1" width="100%">
<tr>
<td dir="rtl" width="100%">



" قَالَ
رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ "(26)
قال موسى: الرب الذي أدعوكم إليه هو الذي خلقكم وخلق أباءكم
الأولين, فكيف تعبدون مَن هو مخلوق مثلكم, وله آباء قد فنوا
كآبائكم؟



" قَالَ
إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ
"(27)
قال فرعون لخاصته يستثير غضبهم ؛ لتكذيب موسى إياه: إن رسولكم
الذي أرسل إليكم لمجنون, يتكلم كلامًا لا يُعْقَل!



" قَالَ
رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ
كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ "(28)
قال موسى: رب المشرق والمغرب وما بينهما وما يكون فيهما من نور
وظلمة, وهذا يستوجب الإيمان به وحده إن كنتم من أهل العقل
والتدبر!



" قَالَ
لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ
الْمَسْجُونِينَ "(29)
قال فرعون لموسى مهددًا له: لئن اتخذت إلهًا غيري لأسجننك مع
مَن سجنت.



" قَالَ
أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ "(30)
قال موسى: أتجعلني من المسجونين, ولو جئتك ببرهان قاطع يتبين
منه صدقي؟



" قَالَ
فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ "(31)
قال فرعون: فأت به إن كنت من الصادقين في دعواك.



"
فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ "(32)


"
وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ "(33)
فألقى موسى عصاه فتحولت ثعبانًا حقيقيًا, ليس تمويهًا كما يفعل
السحرة, وأخرج يده مِن جيبه فإذا هي بيضاء كالثلج من غير برص ,
تَبْهَر الناظرين.



" قَالَ
لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ "(34)


"
يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ
فَمَاذَا تَأْمُرُونَ "(35)
قال فرعون لأشراف قومه خشية أن يؤمنوا: إن موسى لَساحر ماهر ,
يريد أن يخرجكم بسحره من أرضكم , فأي شيء تشيرون به في شأنه
أتبع رأيكم فيه؟



"
قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ
حَاشِرِينَ "(36)


"
يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ "(37)
قال له قومه: أخِّر أمر موسى وهارون, وأرسِلْ في المدائن جندًا
جامعين للسحرة, يأتوك بكلِّ مَن أجاد السحر , وتفوَّق في
معرفته.



"
فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ "(38)


"
وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ "(39)
فَجُمع السحرة , وحُدِّد لهم وقت معلوم , هو وقت الضحى من يوم
الزينة الذي يتفرغون فيه من أشغالهم , ويجتمعون ويتزيَّنون؛
وذلك للاجتماع بموسى. وحُثَّ الناس على الاجتماع; أملًا في أن
تكون الغلبة للسحرة.





"
لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ
الْغَالِبِينَ "(40)
إننا نطمع أن تكون الغلبة للسحرة , فنثبت على ديننا.



"
فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ
لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ "(41)
فلما جاء السحرة فرعون قالوا له: أإن لنا لأجرًا مِن مال أو
جاه , إنْ كنا نحن الغالبين لموسى؟



" قَالَ
نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ "(42)
قال فرعون: نعم لكم عندي ما طلبتم مِن أجر , وإنكم حينئذ لمن
المقربين لديَّ.



" قَالَ
لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ "(43)
قال موسى للسحرة مريدًا إبطال سحرهم وإظهار أن ما جاء به ليس
سحرًا: ألقوا ما تريدون إلقاءه من السحر.



"
فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ
فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ "(44)
فألقَوا حبالهم وعصيَّهم, وخُيِّل للناس أنها حيَّات تسعى,
وأقسموا بعزة فرعون قائلين: إننا لنحن الغالبون.



"
فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا
يَأْفِكُونَ "(45)
فألقى موسى عصاه, فإذا هي حية عظيمة, تبتلع ما صدر منهم من إفك
وتزوير.



"
فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ "(46)


"
قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ "(47)


" رَبِّ
مُوسَى وَهَارُونَ "(48)
فلما شاهدوا ذلك , وعلموا أنه ليس من تمويه السحرة, آمنوا
بالله وسجدوا له , وقالوا: آمنَّا برب العالمين رب موسى
وهارون.



" قَالَ
آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ
لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ
تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ
خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ "(49)
قال فرعون للسحرة مستنكرًا: آمنتم لموسى بغير إذن مني , وقال
موهمًا أنَّ فِعْل موسى سحر: إنه لكبيركم الذي علَّمكم السحر ,
فلسوف تعلمون ما ينزل بكم من عقاب: لأقطعنَّ أيديكم وأرجلكم من
خلاف: بقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى أو عكس ذلك ,
ولأصلبنَّكم أجمعين.



"
قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ "(50)

</td>
</tr>
</table>
</td>
</tr>
</table>




privacy_tip صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى