هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

دخول

تفسيرالقران

descriptionتفسيرالقران - صفحة 2 Emptyتفسيرالقران

more_horiz
تذكير بمساهمة فاتح الموضوع :

السسلام عليكم ورحمه الله وبركاته
هاذا موضوع مخصص لتفسير القراان كامل

وباذن الله بضع التفسيرات كامله

وجزاكم الله خير




عدل سابقا من قبل PriNcE A7MeD في الأربعاء 3 أكتوبر 2012 - 12:26 عدل 1 مرات

descriptionتفسيرالقران - صفحة 2 Emptyرد: تفسيرالقران

more_horiz
-
تفسير
سورة
الليل
عدد آياتها
21

(



آية


1-21 )
وهي مكية






{
1 - 21 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَاللَّيْلِ إِذَا
يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى * وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ
وَالْأُنْثَى * إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى * فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى
وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى *
وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى *
فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى * وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا
تَرَدَّى * إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى * وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ
وَالْأُولَى * فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى *







لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى * الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى *
وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى *
وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ
وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى }





هذا قسم من الله بالزمان الذي تقع فيه أفعال العباد على تفاوت أحوالهم،
فقال:


{ وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى }

[أي: يعم] الخلق بظلامه، فيسكن كل إلى مأواه ومسكنه، ويستريح العباد من
الكد والتعب.




{ وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى }

للخلق، فاستضاءوا بنوره، وانتشروا في مصالحهم.




{ وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى }

إن كانت " ما " موصولة، كان إقسامًا بنفسه الكريمة الموصوفة، بأنه خالق
الذكور والإناث، وإن كانت مصدرية، كان قسمًا بخلقه للذكر والأنثى، وكمال
حكمته في ذلك أن خلق من كل صنف من الحيوانات التي يريد بقاءها ذكرًا
وأنثى، ليبقى النوع ولا يضمحل، وقاد كلا منهما إلى الآخر بسلسلة الشهوة،
وجعل كلًا منهما مناسبًا للآخر، فتبارك الله أحسن الخالقين.




وقوله:


{ إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى }

هذا [هو] المقسم عليه أي: إن سعيكم أيها المكلفون لمتفاوت تفاوتا كثيًرا،
وذلك بحسب تفاوت نفس الأعمال ومقدارها والنشاط فيها، وبحسب الغاية
المقصودة بتلك الأعمال، هل هو وجه الله الأعلى الباقي؟ فيبقى السعي له
ببقائه، وينتفع به صاحبه، أم هي غاية مضمحلة فانية، فيبطل السعي
ببطلانها، ويضمحل باضمحلالها؟




وهذا كل عمل يقصد به غير وجه الله تعالى، بهذا الوصف، ولهذا فصل الله
تعالى العاملين، ووصف أعمالهم، فقال:


{ فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى }

[أي] ما أمر به من العبادات المالية، كالزكوات، والكفارات والنفقات،
والصدقات، والإنفاق في وجوه الخير، والعبادات البدنية كالصلاة، والصوم
ونحوهما.




والمركبة منهما، كالحج والعمرة [ونحوهما]


{ وَاتَّقَى }

ما نهي عنه، من المحرمات والمعاصي، على اختلاف أجناسها.




{ وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى }

أي: صدق بـ " لا إله إلا الله " وما دلت عليه، من جميع العقائد الدينية،
وما ترتب عليها من الجزاء الأخروي.




{ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى }

أي: نسهل عليه أمره، ونجعله ميسرا له كل خير، ميسرًا له ترك كل شر، لأنه
أتى بأسباب التيسير، فيسر الله له ذلك.




{ وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ }

بما أمر به، فترك الإنفاق الواجب والمستحب، ولم تسمح نفسه بأداء ما وجب
لله،


{ وَاسْتَغْنَى }

عن الله، فترك عبوديته جانبًا، ولم ير نفسه مفتقرة غاية الافتقار إلى
ربها، الذي لا نجاة لها ولا فوز ولا فلاح، إلا بأن يكون هو محبوبها
ومعبودها، الذي تقصده وتتوجه إليه.




{ وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى }

أي: بما أوجب الله على العباد التصديق به من العقائد الحسنة.




{ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى }

أي: للحالة العسرة، والخصال الذميمة، بأن يكون ميسرًا للشر أينما كان،
ومقيضًا له أفعال المعاصي، نسأل الله العافية.




{ وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ }

الذي أطغاه واستغنى به، وبخل به إذا هلك ومات، فإنه لا يصحبه إلا عمله
الصالح .




وأما ماله [الذي لم يخرج منه الواجب] فإنه يكون وبالًا عليه، إذ لم يقدم
منه لآخرته شيئًا.




{ إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى }

أي: إن الهدى المستقيم طريقه، يوصل إلى الله، ويدني من رضاه، وأما
الضلال، فطرق مسدودة عن الله، لا توصل صاحبها إلا للعذاب الشديد.




{ وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى }

ملكًا وتصرفًا، ليس له فيهما مشارك، فليرغب الراغبون إليه في الطلب،
ولينقطع رجاؤهم عن المخلوقين.




{ فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى }

أي: تستعر وتتوقد.




{ لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى الَّذِي كَذَّبَ }

بالخبر


{ وَتَوَلَّى }

عن الأمر.




{ وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى }

بأن يكون قصده به تزكية نفسه، وتطهيرها من الذنوب والعيوب ، قاصدًا به
وجه الله تعالى، فدل هذا على أنه إذا تضمن الإنفاق المستحب ترك واجب،
كدين ونفقة ونحوهما، فإنه غير مشروع، بل تكون عطيته مردودة عند كثير من
العلماء، لأنه لا يتزكى بفعل مستحب يفوت عليه الواجب.




{ وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى }

أي: ليس لأحد من الخلق على هذا الأتقى نعمة تجزى إلا وقد كافأه بها،
وربما بقي له الفضل والمنة على الناس، فتمحض عبدًا لله، لأنه رقيق إحسانه
وحده، وأما من بقي عليه نعمة للناس لم يجزها ويكافئها، فإنه لا بد أن
يترك للناس، ويفعل لهم ما ينقص [إخلاصه].




وهذه الآية، وإن كانت متناولة لأبي بكر الصديق رضي الله عنه، بل قد قيل
إنها نزلت في سببه، فإنه -رضي الله عنه- ما لأحد عنده من نعمة تجزى، حتى
ولا رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا نعمة الرسول التي لا يمكن جزاؤها،
وهي [نعمة] الدعوة إلى دين الإسلام، وتعليم الهدى ودين الحق، فإن لله
ورسوله المنة على كل أحد، منة لا يمكن لها جزاء ولا مقابلة، فإنها
متناولة لكل من اتصف بهذا الوصف الفاضل، فلم يبق لأحد عليه من الخلق نعمة
تجزى، فبقيت أعماله خالصة لوجه الله تعالى.




ولهذا قال:


{ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى وَلَسَوْفَ يَرْضَى }

هذا الأتقى بما يعطيه الله من أنواع الكرامات والمثوبات، والحمد لله رب
العالمين.



عدل سابقا من قبل PriNcE A7MeD في الأربعاء 3 أكتوبر 2012 - 12:24 عدل 1 مرات

descriptionتفسيرالقران - صفحة 2 Emptyرد: تفسيرالقران

more_horiz
-
تفسير
سورة
الشمس
عدد آياتها
15

(



آية


1-15 )
وهي مكية






{
1 - 15 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَالشَّمْسِ
وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا
* وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا *
وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا
فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ
مَنْ دَسَّاهَا * كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا * إِذِ انْبَعَثَ
أَشْقَاهَا * فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ
وَسُقْيَاهَا * فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ
رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا * وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا }





أقسم تعالى بهذه الآيات العظيمة، على النفس المفلحة، وغيرها من النفوس
الفاجرة، فقال:




{ وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا }

أي: نورها، ونفعها الصادر منها.




{ وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا }

أي: تبعها في المنازل والنور.




{ وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا }

أي: جلى ما على وجه الأرض وأوضحه.




{ وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا }

أي: يغشى وجه الأرض، فيكون ما عليها مظلمًا.




فتعاقب الظلمة والضياء، والشمس والقمر، على هذا العالم، بانتظام وإتقان،
وقيام لمصالح العباد، أكبر دليل على أن الله بكل شيء عليم، وعلى كل شيء
قدير، وأنه المعبود وحده، الذي كل معبود سواه فباطل.




{ وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا }

يحتمل أن " ما " موصولة، فيكون الإقسام بالسماء وبانيها، الذي هو الله
تبارك وتعالى، ويحتمل أنها مصدرية، فيكون الإقسام بالسماء وبنيانها، الذي
هو غاية ما يقدر من الإحكام والإتقان والإحسان، ونحو ذلك قوله:


{ وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا }

أي: مدها ووسعها، فتمكن الخلق حينئذ من الانتفاع بها، بجميع وجوه
الانتفاع.




{ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا }

يحتمل أن المراد نفس سائر المخلوقات الحيوانية، كما يؤيد هذا العموم،
ويحتمل أن المراد بالإقسام بنفس الإنسان المكلف، بدليل ما يأتي بعده.




وعلى كل، فالنفس آية كبيرة من آياته التي حقيقة بالإقسام بها فإنها في
غاية اللطف والخفة، سريعة التنقل [والحركة] والتغير والتأثر والانفعالات
النفسية، من الهم، والإرادة، والقصد، والحب، والبغض، وهي التي لولاها
لكان البدن مجرد تمثال لا فائدة فيه، وتسويتها على هذا الوجه آية من
آيات الله العظيمة.




وقوله:


{ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا }

أي: طهر نفسه من الذنوب، ونقاها من العيوب، ورقاها بطاعة الله، وعلاها
بالعلم النافع والعمل الصالح.




{ وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا }

أي: أخفى نفسه الكريمة، التي ليست حقيقة بقمعها وإخفائها، بالتدنس
بالرذائل، والدنو من العيوب، والاقتراف للذنوب، وترك ما يكملها وينميها،
واستعمال ما يشينها ويدسيها.




{ كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا }

أي: بسبب طغيانها وترفعها عن الحق، وعتوها على رسل الله




{ إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا }

أي: أشقى القبيلة، [وهو] " قدار بن سالف " لعقرها حين اتفقوا على ذلك،
وأمروه فأتمر لهم.




{ فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ }

صالح عليه السلام محذرًا:


{ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا }

أي: احذروا عقر ناقة الله، التي جعلها لكم آية عظيمة، ولا تقابلوا نعمة
الله عليكم بسقي لبنها أن تعقروها، فكذبوا نبيهم صالحًا.




{ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ }

أي: دمر عليهم وعمهم بعقابه، وأرسل عليهم الصيحة من فوقهم، والرجفة من
تحتهم، فأصبحوا جاثمين على ركبهم، لا تجد منهم داعيًا ولا مجيبا.




{ فَسَوَّاهَا }

عليهم أي: سوى بينهم بالعقوبة




{ وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا }

أي: تبعتها.




وكيف يخاف من هو قاهر، لا يخرج عن قهره وتصرفه مخلوق، الحكيم في كل ما
قضاه وشرعه؟




تمت ولله الحمد

descriptionتفسيرالقران - صفحة 2 Emptyرد: تفسيرالقران

more_horiz
-
تفسير
سورة
البلد
عدد آياتها
20

(



آية


1-20 )
وهي مكية






{
1 - 20 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ لَا أُقْسِمُ بِهَذَا
الْبَلَدِ * وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ
* لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ * أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ
يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ * يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا *
أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ * أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ *
وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ * فَلَا
اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ
رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيمًا ذَا
مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ * ثُمَّ كَانَ مِنَ
الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا
بِالْمَرْحَمَةِ * أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ * وَالَّذِينَ
كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ * عَلَيْهِمْ نَارٌ
مُؤْصَدَةٌ }




يقسم تعالى


{ بِهَذَا الْبَلَدِ }

الأمين، الذي هو مكة المكرمة، أفضل البلدان على الإطلاق، خصوصًا وقت حلول
الرسول صلى الله عليه وسلم فيها،


{ وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ }

أي: آدم وذريته.




والمقسم عليه قوله:


{ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ }

يحتمل أن المراد بذلك ما يكابده ويقاسيه من الشدائد في الدنيا، وفي
البرزخ، ويوم يقوم الأشهاد، وأنه ينبغي له أن يسعى في عمل يريحه من هذه
الشدائد، ويوجب له الفرح والسرور الدائم.




وإن لم يفعل، فإنه لا يزال يكابد العذاب الشديد أبد الآباد.




ويحتمل أن المعنى: لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم، وأقوم خلقة، مقدر
على التصرف والأعمال الشديدة، ومع ذلك، [فإنه] لم يشكر الله على هذه
النعمة [العظيمة]، بل بطر بالعافية وتجبر على خالقه، فحسب بجهله وظلمه أن
هذه الحال ستدوم له، وأن سلطان تصرفه لا ينعزل، ولهذا قال تعالى:


{ أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ }

ويطغى ويفتخر بما أنفق من الأموال على شهوات نفسه. فـ


{ يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا }

أي: كثيًرا، بعضه فوق بعض.




وسمى الله تعالى الإنفاق في الشهوات والمعاصي إهلاكًا، لأنه لا ينتفع
المنفق بما أنفق، ولا يعود عليه من إنفاقه إلا الندم والخسار والتعب
والقلة، لا كمن أنفق في مرضاة الله في سبيل الخير، فإن هذا قد تاجر مع
الله، وربح أضعاف أضعاف ما أنفق.




قال الله متوعدًا هذا الذي يفتخر بما أنفق في الشهوات:


{ أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ }

أي: أيحسب في فعله هذا، أن الله لا يراه ويحاسبه على الصغير والكبير؟




بل قد رآه الله، وحفظ عليه أعماله، ووكل به الكرام الكاتبين، لكل ما عمله
من خير وشر.




ثم قرره بنعمه، فقال:


{ أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ }

للجمال والبصر والنطق، وغير ذلك من المنافع الضرورية فيها، فهذه نعم
الدنيا، ثم قال في نعم الدين:


{ وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْن }

أي: طريقي الخير والشر، بينا له الهدى من الضلال، والرشد من الغي.




فهذه المنن الجزيلة، تقتضي من العبد أن يقوم بحقوق الله، ويشكر الله على
نعمه، وأن لا يستعين بها على معاصيه ، ولكن هذا الإنسان لم يفعل ذلك.




{ فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ }

أي: لم يقتحمها ويعبر عليها، لأنه متبع لشهواته .




وهذه العقبة شديدة عليه، ثم فسر [هذه] العقبة


{ فَكُّ رَقَبَةٍ }

أي: فكها من الرق، بعتقها أو مساعدتها على أداء كتابتها، ومن باب أولى
فكاك الأسير المسلم عند الكفار.




{ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ }

أي: مجاعة شديدة، بأن يطعم وقت الحاجة أشد الناس حاجة.




{ يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ }

أي: جامعًا بين كونه يتيمًا، فقيرًا ذا قرابة.




{ أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ }

أي: قد لزق بالتراب من الحاجة والضرورة.




{ ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا }

أي: آمنوا بقلوبهم بما يجب الإيمان به، وعملوا الصالحات بجوارحهم. من كل
قول وفعل واجب أو مستحب.


{ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ }

على طاعة الله وعن معصيته، وعلى أقدار المؤلمة بأن يحث بعضهم بعضًا على
الانقياد لذلك، والإتيان به كاملًا منشرحًا به الصدر، مطمئنة به النفس.




{ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ }

للخلق، من إعطاء محتاجهم، وتعليم جاهلهم، والقيام بما يحتاجون إليه من
جميع الوجوه، ومساعدتهم على المصالح الدينية والدنيوية، وأن يحب لهم ما
يحب لنفسه، ويكره لهم ما يكره لنفسه، أولئك الذين قاموا بهذه الأوصاف،
الذين وفقهم الله لاقتحام هذه العقبة


{ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ }

لأنهم أدوا ما أمر الله به من حقوقه وحقوق عباده، وتركوا ما نهوا عنه،
وهذا عنوان السعادة وعلامتها.



{ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا }

بأن نبذوا هذه الأمور وراء ظهورهم، فلم يصدقوا بالله، [ولا آمنوا به]،
ولا عملوا صالحًا، ولا رحموا عباد الله، {
والذين كفروا بآياتنا همْ أَصْحَابُ الْمَشْئَمَة عَلَيْهِمْ نَارٌ
مُؤْصَدَةٌ }
أي: مغلقة، في عمد ممددة، قد مدت من ورائها، لئلا
تنفتح أبوابها، حتى يكونوا في ضيق وهم وشدة [والحمد لله].

descriptionتفسيرالقران - صفحة 2 Emptyرد: تفسيرالقران

more_horiz
-
تفسير
سورة
الفجر
عدد آياتها
30

(



آية


1-30 )
وهي مكية






{ 1 - 5 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَالْفَجْرِ *
وَلَيَالٍ عَشْرٍ * وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ * وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ
* هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ }




الظاهر أن المقسم به، هو المقسم عليه، وذلك جائز مستعمل، إذا كان أمرًا
ظاهرًا مهمًا، وهو كذلك في هذا الموضع.




فأقسم تعالى بالفجر، الذي هو آخر الليل ومقدمة النهار، لما في إدبار
الليل وإقبال النهار، من الآيات الدالة على كمال قدرة الله تعالى، وأنه
وحده المدبر لجميع الأمور، الذي لا تنبغي العبادة إلا له، ويقع في الفجر
صلاة فاضلة معظمة، يحسن أن يقسم الله بها، ولهذا أقسم بعده بالليالي
العشر، وهي على الصحيح: ليالي عشر رمضان، أو [عشر] ذي الحجة، فإنها ليال
مشتملة على أيام فاضلة، ويقع فيها من العبادات والقربات ما لا يقع في
غيرها.




وفي ليالي عشر رمضان ليلة القدر، التي هي خير من ألف شهر، وفي نهارها،
صيام آخر رمضان الذي هو ركن من أركان الإسلام.




وفي أيام عشر ذي الحجة، الوقوف بعرفة، الذي يغفر الله فيه لعباده مغفرة
يحزن لها الشيطان، فما رئي الشيطان أحقر ولا أدحر منه في يوم عرفة، لما
يرى من تنزل الأملاك والرحمة من الله لعباده، ويقع فيها كثير من أفعال
الحج والعمرة، وهذه أشياء معظمة، مستحقة لأن يقسم الله بها.




{ وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ }

أي: وقت سريانه وإرخائه ظلامه على العباد، فيسكنون ويستريحون ويطمئنون،
رحمة منه تعالى وحكمة.




{ هَلْ فِي ذَلِكَ }

المذكور


{ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ }

أي: [لذي] عقل؟ نعم، بعض ذلك يكفي، لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو
شهيد.







{ 6 - 14 } { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ
الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ *
وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِي
الْأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا
الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ
لَبِالْمِرْصَادِ }




يقول تعالى:


{ أَلَمْ تَرَ }

بقلبك وبصيرتك كيف فعل بهذه الأمم الطاغية، وهي


{ إِرَمَ }

القبيلة المعروفة في اليمن


{ ذَاتِ الْعِمَادِ }

أي: القوة الشديدة، والعتو والتجبر.




{ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا }

أي: مثل عاد


{ فِي الْبِلَادِ }

أي: في جميع البلدان [في القوة والشدة]، كما قال لهم نبيهم هود عليه
السلام:


{ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ
وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ
لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }

.




{ وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ }

أي: وادي القرى، نحتوا بقوتهم الصخور، فاتخذوها مساكن،


{ وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَاد }

أي: [ذي] الجنود الذين ثبتوا ملكه، كما تثبت الأوتاد ما يراد إمساكه بها،


{ الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ }

هذا الوصف عائد إلى عاد وثمود وفرعون ومن تبعهم، فإنهم طغوا في بلاد
الله، وآذوا عباد الله، في دينهم ودنياهم، ولهذا قال:




{ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ }

وهو العمل بالكفر وشعبه، من جميع أجناس المعاصي، وسعوا في محاربة الرسل
وصد الناس عن سبيل الله، فلما بلغوا من العتو ما هو موجب لهلاكهم، أرسل
الله عليهم من عذابه ذنوبًا وسوط عذاب،


{ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ }

لمن عصاه يمهله قليلًا، ثم يأخذه أخذ عزيز مقتدر.







{ 15 - 20 } { فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ
فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا
مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِي
* كَلَّا بَل لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ * وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى
طَعَامِ الْمِسْكِينِ * وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا *
وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا }




يخبر تعالى عن طبيعة الإنسان من حيث هو، وأنه جاهل ظالم، لا علم له
بالعواقب، يظن الحالة التي تقع فيه تستمر ولا تزول، ويظن أن إكرام الله
في الدنيا وإنعامه عليه يدل على كرامته عنده وقربه منه، وأنه إذا


{ قدر عَلَيْهِ رِزْقُهُ }

أي: ضيقه، فصار يقدر قوته لا يفضل منه، أن هذا إهانة من الله له، فرد
الله عليه هذا الحسبان: بقوله


{ كَلَّا }

أي: ليس كل من نعمته في الدنيا فهو كريم علي، ولا كل من قدرت عليه رزقه
فهو مهان لدي، وإنما الغنى والفقر، والسعة والضيق، ابتلاء من الله،
وامتحان يمتحن به العباد، ليرى من يقوم له بالشكر والصبر، فيثيبه على ذلك
الثواب الجزيل، ممن ليس كذلك فينقله إلى العذاب الوبيل.




وأيضًا، فإن وقوف همة العبد عند مراد نفسه فقط، من ضعف الهمة، ولهذا
لامهم الله على عدم اهتمامهم بأحوال الخلق المحتاجين، فقال:


{ كَلَّا بَل لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ }

الذي فقد أباه وكاسبه، واحتاج إلى جبر خاطره والإحسان إليه.




فأنتم لا تكرمونه بل تهينونه، وهذا يدل على عدم الرحمة في قلوبكم، وعدم
الرغبة في الخير.




{ وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِين }

أي: لا يحض بعضكم بعضًا على إطعام المحاويج من المساكين والفقراء، وذلك
لأجل الشح على الدنيا ومحبتها الشديدة المتمكنة من القلوب، ولهذا قال:


{ وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ }

أي: المال المخلف


{ أَكْلًا لَمًّا }

أي: ذريعًا، لا تبقون على شيء منه.




{ وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا }

أي: كثيرًا شديدًا، وهذا كقوله تعالى:


{ بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى
}



{ كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ }

.







{ 21 - 30 } { كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا * وَجَاءَ
رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا * وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ
يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى * يَقُولُ
يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي * فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ
عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ * يَا أَيَّتُهَا
النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً
مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي }





{ كَلَّا }

أي: ليس [كل] ما أحببتم من الأموال، وتنافستم فيه من اللذات، بباق لكم،
بل أمامكم يوم عظيم، وهول جسيم، تدك فيه الأرض والجبال وما عليها حتى
تجعل قاعًا صفصفًا لا عوج فيه ولا أمت.




ويجيء الله تعالى لفصل القضاء بين عباده في ظلل من الغمام، وتجيء
الملائكة الكرام، أهل السماوات كلهم، صفًا صفا أي: صفًا بعد صف، كل سماء
يجيء ملائكتها صفا، يحيطون بمن دونهم من الخلق، وهذه الصفوف صفوف خضوع
وذل للملك الجبار.




{ وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ }

تقودها الملائكة بالسلاسل.




فإذا وقعت هذه الأمور فـ


{ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ }

ما قدمه من خير وشر.




{ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى }

فقد فات أوانها، وذهب زمانها، يقول متحسرًا على ما فرط في جنب الله:


{ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي }

الدائمة الباقية، عملًا صالحًا، كما قال تعالى:


{ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا يَا
وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا }

.




وفي الآية دليل على أن الحياة التي ينبغي السعي في أصلها وكمالها ، وفي
تتميم لذاتها، هي الحياة في دار القرار، فإنها دار الخلد والبقاء.




{ فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ }

لمن أهمل ذلك اليوم ونسي العمل له.




{ وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ }

فإنهم يقرنون بسلاسل من نار، ويسحبون على وجوههم في الحميم، ثم في النار
يسجرون، فهذا جزاء المجرمين، وأما من اطمأن إلى الله وآمن به وصدق رسله،
فيقال له:


{ يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ }

إلى ذكر الله، الساكنة [إلى] حبه، التي قرت عينها بالله.




{ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ }

الذي رباك بنعمته، وأسدى عليك من إحسانه ما صرت به من أوليائه وأحبابه


{ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً }

أي: راضية عن الله، وعن ما أكرمها به من الثواب، والله قد رضي عنها.




{ فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي }

وهذا تخاطب به الروح يوم القيامة، وتخاطب به حال الموت [والحمد لله رب
العالمين].

descriptionتفسيرالقران - صفحة 2 Emptyرد: تفسيرالقران

more_horiz
-
تفسير
سورة
الغاشية
عدد آياتها
26

(



آية




1-26
)
وهي مكية






{ 1 - 16 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هَلْ أَتَاكَ
حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ * وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ
نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً * تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ *
لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ * لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي
مِنْ جُوعٍ * وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ * لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ *
فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً * فِيهَا عَيْنٌ
جَارِيَةٌ * فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ * وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ *
وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ * وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ }




يذكر تعالى أحوال يوم القيامة وما فيها من الأهوال الطامة، وأنها تغشى
الخلائق بشدائدها، فيجازون بأعمالهم، ويتميزون [إلى] فريقين: فريقًا في
الجنة، وفريقًا في السعير.




فأخبر عن وصف كلا الفريقين، فقال في [وصف] أهل النار:


{ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ }

أي: يوم القيامة


{ خَاشِعَة }

من الذل، والفضيحة والخزي.




{ عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ }

أي: تاعبة في العذاب، تجر على وجوهها، وتغشى وجوههم النار.




ويحتمل أن المراد [بقوله:]


{ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ }

في الدنيا لكونهم في الدنيا أهل عبادات وعمل، ولكنه لما عدم شرطه وهو
الإيمان، صار يوم القيامة هباء منثورا، وهذا الاحتمال وإن كان صحيحًا من
حيث المعنى، فلا يدل عليه سياق الكلام، بل الصواب المقطوع به هو الاحتمال
الأول، لأنه قيده بالظرف، وهو يوم القيامة، ولأن المقصود هنا بيان وصف
أهل النار عمومًا، وذلك الاحتمال جزء قليل من أهل النار بالنسبة إلى
أهلها ؛ ولأن الكلام في بيان حال الناس عند غشيان الغاشية، فليس فيه
تعرض لأحوالهم في الدنيا.




وقوله:


{ تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً }

أي: شديدًا حرها، تحيط بهم من كل مكان،


{ تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ }

أي: حارة شديدة الحرارة


{ وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي
الْوُجُوهَ }

فهذا شرابهم.




وأما طعامهم فـ


{ لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي
مِنْ جُوعٍ }

وذلك أن المقصود من الطعام أحد أمرين: إما أن يسد جوع صاحبه ويزيل عنه
ألمه، وإما أن يسمن بدنه من الهزال، وهذا الطعام ليس فيه شيء من هذين
الأمرين، بل هو طعام في غاية المرارة والنتن والخسة نسأل الله العافية.




وأما أهل الخير، فوجوههم يوم القيامة


{ نَاعِمَةٌ }

أي: قد جرت عليهم نضرة النعيم، فنضرت أبدانهم، واستنارت وجوههم، وسروا
غاية السرور.




{ لِسَعْيِهَا }

الذي قدمته في الدنيا من الأعمال الصالحة، والإحسان إلى عباد الله،


{ رَاضِيَةٍ }

إذ وجدت ثوابه مدخرًا مضاعفًا، فحمدت عقباه، وحصل لها كل ما تتمناه، وذلك
أنها


{ فِي جَنَّةٍ }

جامعة لأنواع النعيم كلها،


{ عَالِيَةٍ }

في محلها ومنازلها، فمحلها في أعلى عليين، ومنازلها مساكن عالية، لها غرف
ومن فوق الغرف غرف مبنية يشرفون منها على ما أعد الله لهم من الكرامة.




{ قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ }

أي: كثيرة الفواكه اللذيذة، المثمرة بالثمار الحسنة، السهلة التناول،
بحيث ينالونها على أي: حال كانوا، لا يحتاجون أن يصعدوا شجرة، أو يستعصي
عليهم منها ثمرة.




{ لَا تَسْمَعُ فِيهَا }

أي: الجنة


{ لَاغِيَةً }

أي: كلمة لغو وباطل، فضلًا عن الكلام المحرم، بل كلامهم كلام حسن [نافع]
مشتمل على ذكر الله تعالى، وذكر نعمه المتواترة عليهم، و[على] الآداب
المستحسنة بين المتعاشرين، الذي يسر القلوب، ويشرح الصدور.




{ فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ }

وهذا اسم جنس أي: فيها العيون الجارية التي يفجرونها ويصرفونها كيف
شاءوا، وأنى أرادوا.




{ فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ }

و " السرر " جمع " سرير " وهي المجالس المرتفعة في ذاتها، وبما عليها من
الفرش اللينة الوطيئة.




{ وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ }

أي: أوان ممتلئة من أنواع الأشربة اللذيذة، قد وضعت بين أيديهم، وأعدت
لهم، وصارت تحت طلبهم واختيارهم، يطوف بها عليهم الولدان المخلدون.




{ وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ }

أي: وسائد من الحرير والاستبرق وغيرهما مما لا يعلمه إلا الله، قد صفت
للجلوس والاتكاء عليها، وقد أريحوا عن أن يضعوها، و يصفوها بأنفسهم.




{ وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ }

والزرابي [هي:] البسط الحسان، مبثوثة أي: مملوءة بها مجالسهم من كل جانب.







{ 17 - 26 } { أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ *
وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ
نُصِبَتْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ * فَذَكِّرْ إِنَّمَا
أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ * إِلَّا مَنْ
تَوَلَّى وَكَفَرَ * فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ *
إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ }




يقول تعالى حثًا للذين لا يصدقون الرسول صلى الله عليه وسلم، ولغيرهم من
الناس، أن يتفكروا في مخلوقات الله الدالة على توحيده:


{ أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ }

أي: [ألا] ينظرون إلى خلقها البديع، وكيف سخرها الله للعباد، وذللها
لمنافعهم الكثيرة التي يضطرون إليها.




{ وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ }

بهيئة باهرة، حصل بها استقرار الأرض وثباتها عن الاضطراب، وأودع فيها من
المنافع [الجليلة] ما أودع.




{ وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ }

أي: مدت مدًا واسعًا، وسهلت غاية التسهيل، ليستقر الخلائق على ظهرها،
ويتمكنوا من حرثها وغراسها، والبنيان فيها، وسلوك الطرق الموصلة إلى
أنواع المقاصد فيها.




واعلم أن تسطيحها لا ينافي أنها كرة مستديرة، قد أحاطت الأفلاك فيها من
جميع جوانبها، كما دل على ذلك النقل والعقل والحس والمشاهدة، كما هو
مذكور معروف عند أكثر الناس، خصوصًا في هذه الأزمنة، التي وقف الناس على
أكثر أرجائها بما أعطاهم الله من الأسباب المقربة للبعيد، فإن التسطيح
إنما ينافي كروية الجسم الصغير جدًا، الذي لو سطح لم يبق له استدارة
تذكر.




وأما جسم الأرض الذي هو في غاية الكبر والسعة ، فيكون كرويًا مسطحًا،
ولا يتنافى الأمران، كما يعرف ذلك أرباب الخبرة.




{ فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ }

أي: ذكر الناس وعظهم، وأنذرهم وبشرهم، فإنك مبعوث لدعوة الخلق إلى الله
وتذكيرهم، ولم تبعث مسيطرًا عليهم، مسلطًا موكلًا بأعمالهم، فإذا قمت بما
عليك، فلا عليك بعد ذلك لوم، كقوله تعالى:


{ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ
يَخَافُ وَعِيدِ }

.




وقوله:


{ إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ }

أي: لكن من تولى عن الطاعة وكفر بالله


{ فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ }

أي: الشديد الدائم،


{ إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ }

أي: رجوع الخليقة وجمعهم في يوم القيامة.




{ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ }

فنحاسبهم على ما عملوا من خير وشر.




آخر تفسير سورة الغاشية، والحمد لله رب العالمين


descriptionتفسيرالقران - صفحة 2 Emptyرد: تفسيرالقران

more_horiz
-
تفسير
سورة
الأعلى
عدد آياتها 19

(



آية



1-
19 )
وهي مكية






{ 1 - 19 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سَبِّحِ اسْمَ
رَبِّكَ الْأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ
فَهَدَى * وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى * فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى *
سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى * إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ
الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى * وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى * فَذَكِّرْ إِنْ
نَفَعَتِ الذِّكْرَى * سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى * وَيَتَجَنَّبُهَا
الْأَشْقَى * الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى * ثُمَّ لَا يَمُوتُ
فِيهَا وَلَا يَحْيَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ
رَبِّهِ فَصَلَّى *بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا *
وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى * إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى
* صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى }





يأمر تعالى بتسبيحه المتضمن لذكره وعبادته، والخضوع لجلاله، والاستكانة
لعظمته، وأن يكون تسبيحا، يليق بعظمة الله تعالى، بأن تذكر أسماؤه الحسنى
العالية على كل اسم بمعناها الحسن العظيم ، وتذكر أفعاله التي منها أنه
خلق المخلوقات فسواها، أي: أتقنها وأحسن خلقها،


{ وَالَّذِي قَدَّرَ }

تقديرًا، تتبعه جميع المقدرات


{ فَهَدَى }

إلى ذلك جميع المخلوقات.




وهذه الهداية العامة، التي مضمونها أنه هدى كل مخلوق لمصلحته، وتذكر فيها
نعمه الدنيوية، ولهذا قال فيها:


{ وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى }

أي: أنزل من السماء ماء فأنبت به أنواع النبات والعشب الكثير، فرتع فيها
الناس والبهائم وكل حيوان ، ثم بعد أن استكمل ما قدر له من الشباب، ألوى
نباته، وصوح عشبه،


{ فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى }

أي: أسود أي: جعله هشيمًا رميمًا، ويذكر فيها نعمه الدينية، ولهذا امتن
الله بأصلها ومنشئها ، وهو القرآن، فقال:


{ سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى }

أي: سنحفظ ما أوحينا إليك من الكتاب، ونوعيه قلبك، فلا تنسى منه شيئًا،
وهذه بشارة كبيرة من الله لعبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، أن الله
سيعلمه علمًا لا ينساه.




{ إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ }

مما اقتضت حكمته أن ينسيكه لمصلحة بالغة،


{ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى }

ومن ذلك أنه يعلم ما يصلح عباده أي: فلذلك يشرع ما أراد، ويحكم بما يريد
،


{ وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى }

وهذه أيضًا بشارة كبيرة ، أن الله ييسر رسوله صلى الله عليه وسلم لليسرى
في جميع أموره، ويجعل شرعه ودينه يسرا .




{ فَذَكِّرْ }

بشرع الله وآياته


{ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى }

أي: ما دامت الذكرى مقبولة، والموعظة مسموعة، سواء حصل من الذكرى جميع
المقصود أو بعضه.




ومفهوم الآية أنه إن لم تنفع الذكرى، بأن كان التذكير يزيد في الشر، أو
ينقص من الخير، لم تكن الذكرى مأمورًا بها، بل منهيًا عنها، فالذكرى
ينقسم الناس فيها قسمين: منتفعون وغير منتفعين.




فأما المنتفعون، فقد ذكرهم بقوله:


{ سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى }

الله تعالى، فإن خشية الله تعالى، وعلمه بأن سيجازيه على أعماله ، توجب
للعبد الانكفاف عن المعاصي والسعي في الخيرات.




وأما غير المنتفعين، فذكرهم بقوله:


{ وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى }

وهي النار الموقدة، التي تطلع على الأفئدة.




{ ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا }

أي: يعذب عذابًا أليمًا، من غير راحة ولا استراحة، حتى إنهم يتمنون الموت
فلا يحصل لهم، كما قال تعالى:


{ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ
عَذَابِهَا }

.




{ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى }

أي: قد فاز وربح من طهر نفسه ونقاها من الشرك والظلم ومساوئ الأخلاق،


{ وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى }

أي: اتصف بذكر الله، وانصبغ به قلبه، فأوجب له ذلك العمل بما يرضي الله،
خصوصًا الصلاة، التي هي ميزان الإيمان، فهذا معنى الآية الكريمة، وأما من
فسر قوله


{ تزكى }

بمعني أخرج زكاة الفطر، وذكر اسم ربه فصلى، أنه صلاة العيد، فإنه وإن كان
داخلًا في اللفظ وبعض جزئياته، فليس هو المعنى وحده.




{ بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا }

أي: تقدمونها على الآخرة، وتختارون نعيمها المنغص المكدر الزائل على
الآخرة.




{ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى }

وللآخرة خير من الدنيا في كل وصف مطلوب، وأبقى لكونها دار خلد وبقاء
وصفاء، والدنيا دار فناء، فالمؤمن العاقل لا يختار الأردأ على الأجود،
ولا يبيع لذة ساعة، بترحة الأبد، فحب الدنيا وإيثارها على الآخرة رأس كل
خطيئة.




{ إِنَّ هَذَا }

المذكور لكم في هذه السورة المباركة، من الأوامر الحسنة، والأخبار
المستحسنة


{ لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى }

اللذين هما أشرف المرسلين، سوى النبي محمد صلى الله وسلم عليه وسلم.




فهذه أوامر في كل شريعة، لكونها عائدة إلى مصالح الدارين، وهي مصالح في
كل زمان ومكان.




تم تفسير سورة الأعلى، ولله الحمد

descriptionتفسيرالقران - صفحة 2 Emptyرد: تفسيرالقران

more_horiz
-
تفسير
سورة
الطارق
عدد آياتها
17

(



آية



1-
17 )
وهي مكية






{ 1 - 17 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَالسَّمَاءِ
وَالطَّارِقِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ * النَّجْمُ الثَّاقِبُ *
إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ * فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ
مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ * يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ
الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ * إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ * يَوْمَ
تُبْلَى السَّرَائِرُ * فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ *
وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ * وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ * إِنَّهُ
لَقَوْلٌ فَصْلٌ * وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ * إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ
كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا * فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ
رُوَيْدًا }



يقول [الله] تعالى:


{ وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ }





ثم فسر الطارق بقوله:


{ النَّجْمُ الثَّاقِبُ }





أي: المضيء، الذي يثقب نوره، فيخرق السماوات [فينفذ حتى يرى في الأرض]،
والصحيح أنه اسم جنس يشمل سائر النجوم الثواقب.




وقد قيل: إنه " زحل " الذي يخرق السماوات السبع وينفذ فيها فيرى منها.
وسمي طارقًا، لأنه يطرق ليلًا.




والمقسم عليه قوله:


{ إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ }

يحفظ عليها أعمالها الصالحة والسيئة، وستجازى بعملها المحفوظ عليها.




{ فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ }

أي: فليتدبر خلقته ومبدأه، فإنه مخلوق


{ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ }

وهو: المني الذي


{ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ }

يحتمل أنه من بين صلب الرجل وترائب المرأة، وهي ثدياها.




ويحتمل أن المراد المني الدافق، وهو مني الرجل، وأن محله الذي يخرج منه
ما بين صلبه وترائبه، ولعل هذا أولى، فإنه إنما وصف الله به الماء
الدافق، والذي يحس [به] ويشاهد دفقه، هو مني الرجل، وكذلك لفظ الترائب
فإنها تستعمل في الرجل، فإن الترائب للرجل، بمنزلة الثديين للأنثى، فلو
أريدت الأنثى لقال: " من بين الصلب والثديين " ونحو ذلك، والله أعلم.




فالذي أوجد الإنسان من ماء دافق، يخرج من هذا الموضع الصعب، قادر على
رجعه في الآخرة، وإعادته للبعث، والنشور [والجزاء] ، وقد قيل: إن معناه،
أن الله على رجع الماء المدفوق في الصلب لقادر، وهذا - وإن كان المعنى
صحيحًا - فليس هو المراد من الآية، ولهذا قال بعده:


{ يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ }

أي: تختبر سرائر الصدور، ويظهر ما كان في القلوب من خير وشر على صفحات
الوجوه قال تعالى:


{ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ }

ففي الدنيا، تنكتم كثير من الأمور، ولا تظهر عيانًا للناس، وأما في
القيامة، فيظهر بر الأبرار، وفجور الفجار، وتصير الأمور علانية.





{ فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ }

يدفع بها عن نفسه


{ وَلَا نَاصِرٍ }

خارجي ينتصر به، فهذا القسم على حالة العاملين وقت عملهم وعند جزائهم.




ثم أقسم قسمًا ثانيًا على صحة القرآن، فقال:


{ وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ }

أي: ترجع السماء بالمطر كل عام، وتنصدع الأرض للنبات، فيعيش بذلك
الآدميون والبهائم، وترجع السماء أيضًا بالأقدار والشئون الإلهية كل وقت،
وتنصدع الأرض عن الأموات،


{ إِنَّه }

أي: القرآن


{ لَقَوْلٌ فَصْلٌ }

أي: حق وصدق بين واضح.




{ وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ }

أي: جد ليس بالهزل، وهو القول الذي يفصل بين الطوائف والمقالات، وتنفصل
به الخصومات.




{ إِنَّهُمْ }

أي: المكذبين للرسول صلى الله عليه وسلم، وللقرآن


{ يَكِيدُونَ كَيْدًا }

ليدفعوا بكيدهم الحق، ويؤيدوا الباطل.




{ وَأَكِيدُ كَيْدًا }

لإظهار الحق، ولو كره الكافرون، ولدفع ما جاءوا به من الباطل، ويعلم بهذا
من الغالب، فإن الآدمي أضعف وأحقر من أن يغالب القوي العليم في كيده.




{ فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا }

أي: قليلًا، فسيعلمون عاقبة أمرهم، حين ينزل بهم العقاب.




تم تفسير سورة الطارق، والحمد لله رب العالمين.

descriptionتفسيرالقران - صفحة 2 Emptyرد: تفسيرالقران

more_horiz
-
تفسير
سورة
البروج
عدد آياتها
22

(



آية



1-2
2 )
وهي مكية






{ 1 - 22 }



{ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ
* وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ * وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ * قُتِلَ أَصْحَابُ
الْأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ
* وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ * وَمَا
نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ
الْحَمِيدِ * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ
عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ
وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ
وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ
ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ * إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ * إِنَّهُ
هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ * وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ * ذُو الْعَرْشِ
الْمَجِيدُ * فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ * هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ
* فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ * بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ *
وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ * بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي
لَوْحٍ مَحْفُوظٍ }





{ وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ }

أي: [ذات] المنازل المشتملة على منازل الشمس والقمر، والكواكب المنتظمة
في سيرها، على أكمل ترتيب ونظام دال على كمال قدرة الله تعالى ورحمته،
وسعة علمه وحكمته.




{ وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ }

وهو يوم القيامة، الذي وعد الله الخلق أن يجمعهم فيه، ويضم فيه أولهم
وآخرهم، وقاصيهم ودانيهم، الذي لا يمكن أن يتغير، ولا يخلف الله الميعاد.




{ وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ }

وشمل هذا كل من اتصف بهذا الوصف أي: مبصر ومبصر، وحاضر ومحضور، وراء
ومرئي.




والمقسم عليه، ما تضمنه هذا القسم من آيات الله الباهرة، وحكمه الظاهرة،
ورحمته الواسعة.




وقيل: إن المقسم عليه قوله


{ قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ }

وهذا دعاء عليهم بالهلاك.




و


{ الأخدود }

الحفر التي تحفر في الأرض.




وكان أصحاب الأخدود هؤلاء قومًا كافرين، ولديهم قوم مؤمنون، فراودوهم
للدخول في دينهم، فامتنع المؤمنون من ذلك، فشق الكافرون أخدودًا [في
الأرض]، وقذفوا فيها النار، وقعدوا حولها، وفتنوا المؤمنين، وعرضوهم
عليها، فمن استجاب لهم أطلقوه، ومن استمر على الإيمان قذفوه في النار،
وهذا في غاية المحاربة لله ولحزبه المؤمنين، ولهذا لعنهم الله وأهلكهم
وتوعدهم فقال:


{ قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ }

ثم فسر الأخدود بقوله:


{ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ وَهُمْ عَلَى
مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ }

وهذا من أعظم ما يكون من التجبر وقساوة القلب، لأنهم جمعوا بين الكفر
بآيات الله ومعاندتها، ومحاربة أهلها وتعذيبهم بهذا العذاب، الذي تنفطر
منه القلوب، وحضورهم إياهم عند إلقائهم فيها، والحال أنهم ما نقموا من
المؤمنين إلا خصلة يمدحون عليها، وبها سعادتهم، وهي أنهم كانوا يؤمنون
بالله العزيز الحميد أي: الذي له العزة التي قهر بها كل شيء، وهو حميد في
أقواله وأوصافه وأفعاله.




{ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ }

خلقًا وعبيدًا، يتصرف فيهم تصرف المالك بملكه ،


{ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ }

علمًا وسمعًا وبصرًا، أفلا خاف هؤلاء المتمردون على الله، أن يبطش بهم
العزيز المقتدر، أو ما علموا أنهم جميعهم مماليك لله ، ليس لأحد على أحد
سلطة، من دون إذن المالك؟ أو خفي عليهم أن الله محيط بأعمالهم، مجاز لهم
على فعالهم ؟ كلا إن الكافر في غرور، والظالم في جهل وعمى عن سواء
السبيل.




ثم وعدهم، وأوعدهم، وعرض عليهم التوبة، فقال:


{ إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ
يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ }

أي: العذاب الشديد المحرق.




قال الحسن رحمه الله: انظروا إلى هذا الكرم والجود، هم قتلوا أولياءه
وأهل طاعته، وهو يدعوهم إلى التوبة.




ولما ذكر عقوبة الظالمين، ذكر ثواب المؤمنين، فقال:


{ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا }

بقلوبهم


{ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ }

بجوارحهم


{ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ
الْكَبِيرُ }

الذي حصل به الفوز برضا الله ودار كرامته.




{ إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ }

أي: إن عقوبته لأهل الجرائم والذنوب العظام [لقوية] شديدة، وهو بالمرصاد
للظالمين كما قال الله تعالى:


{ وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ
إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ }





{ إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ }

أي: هو المنفرد بإبداء الخلق وإعادته، فلا مشارك له في ذلك ،


{ وَهُوَ الْغَفُورُ }

الذي يغفر الذنوب جميعها لمن تاب، ويعفو عن السيئات لمن استغفره وأناب.




{ الْوَدُودُ }

الذي يحبه أحبابه محبة لا يشبهها شيء فكما أنه لا يشابهه شيء في صفات
الجلال والجمال، والمعاني والأفعال، فمحبته في قلوب خواص خلقه، التابعة
لذلك، لا يشبهها شيء من أنواع المحاب، ولهذا كانت محبته أصل العبودية،
وهي المحبة التي تتقدم جميع المحاب وتغلبها، وإن لم يكن غيرها تبعًا لها،
كانت عذابًا على أهلها، وهو تعالى الودود، الواد لأحبابه، كما قال تعالى:


{ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ }

والمودة هي المحبة الصافية، وفي هذا سر لطيف، حيث قرن


{ الودود }

بالغفور، ليدل ذلك على أن أهل الذنوب إذا تابوا إلى الله وأنابوا، غفر
لهم ذنوبهم وأحبهم، فلا يقال: بل تغفر ذنوبهم، ولا يرجع إليهم الود، كما
قاله بعض الغالطين.




بل الله أفرح بتوبة عبده حين يتوب، من رجل له راحلة، عليها طعامه وشرابه
وما يصلحه، فأضلها في أرض فلاة مهلكة، فأيس منها، فاضطجع في ظل شجرة
ينتظر الموت، فبينما هو على تلك الحال، إذا راحلته على رأسه، فأخذ
بخطامها، فالله أعظم فرحًا بتوبة العبد من هذا براحلته، وهذا أعظم فرح
يقدر.




فلله الحمد والثناء، وصفو الوداد، ما أعظم بره، وأكثر خيره، وأغزر
إحسانه، وأوسع امتنانه"




{ ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ }

أي: صاحب العرش العظيم، الذي من عظمته، أنه وسع السماوات والأرض والكرسي،
فهي بالنسبة إلى العرش كحلقة ملقاة في فلاة، بالنسبة لسائر الأرض، وخص
الله العرش بالذكر، لعظمته، ولأنه أخص المخلوقات بالقرب منه تعالى، وهذا
على قراءة الجر، يكون


{ المجيد }

نعتا للعرش، وأما على قراءة الرفع، فإن المجيد نعت لله ، والمجد سعة
الأوصاف وعظمتها.




{ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ }

أي: مهما أراد شيئًا فعله، إذا أراد شيئًا قال له كن فيكون، وليس أحد
فعالًا لما يريد إلا الله.




فإن المخلوقات، ولو أرادت شيئًا، فإنه لا بد لإرادتها من معاون وممانع،
والله لا معاون لإرادته، ولا ممانع له مما أراد.




ثم ذكر من أفعاله الدالة على صدق ما جاءت به رسله، فقال:


{ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ فِرْعَوْنَ وَثَمُود }

وكيف كذبوا المرسلين، فجعلهم الله من المهلكين.




{ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ }

أي: لا يزالون مستمرين على التكذيب والعناد، لا تنفع فيهم الآيات، ولا
تجدي لديهم العظات.




{ وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ }

أي: قد أحاط بهم علمًا وقدرة، كقوله:


{ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ }

ففيه الوعيد الشديد للكافرين، من عقوبة من هم في قبضته، وتحت تدبيره.




{ بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ }

أي: وسيع المعاني عظيمها، كثير الخير والعلم.




{ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ }

من التغيير والزيادة والنقص، ومحفوظ من الشياطين، وهو: اللوح المحفوظ
الذي قد أثبت الله فيه كل شيء.




وهذا يدل على جلالة القرآن وجزالته، ورفعة قدره عند الله تعالى، والله
أعلم.




تم تفسير السورة.

descriptionتفسيرالقران - صفحة 2 Emptyرد: تفسيرالقران

more_horiz
-
تفسير
سورة
الانشقاق
عدد آياتها
25

(



آية


1-25 )
وهي مكية






{

1 - 15


} {

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ *
وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ * وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ *
وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ * وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ *
يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا
فَمُلَاقِيهِ * فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ
يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا * وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا *
وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو
ثُبُورًا * وَيَصْلَى سَعِيرًا * إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا
* إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ * بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ
بَصِيرًا


}




يقول تعالى مبينًا لما يكون في يوم القيامة من تغير الأجرام العظام: {

إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ


} أي: انفطرت وتمايز بعضها من بعض، وانتثرت نجومها، وخسف بشمسها وقمرها.




{

وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا


} أي: استمعت لأمره، وألقت سمعها، وأصاخت لخطابه، وحق لها ذلك، فإنها
مسخرة مدبرة تحت مسخر ملك عظيم، لا يعصى أمره، ولا يخالف حكمه.




{

وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ


} أي: رجفت وارتجت، ونسفت عليها جبالها، ودك ما عليها من بناء ومعلم،
فسويت، ومدها الله تعالى مد الأديم، حتى صارت واسعة جدًا، تسع أهل الموقف
على كثرتهم، فتصير قاعًا صفصفًا لا ترى فيها عوجًا ولا أمتا.




{

وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا


} من الأموات والكنوز.




{

وَتَخَلَّتْ


} منهم، فإنه ينفخ في الصور، فتخرج الأموات من الأجداث إلى وجه الأرض،
وتخرج الأرض كنوزها، حتى تكون كالأسطوان العظيم، يشاهده الخلق، ويتحسرون
على ما هم فيه يتنافسون، {

وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ يَا أَيُّهَاالْإِنْسَانُ إِنَّكَ
كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ


} أي: إنك ساع إلى الله، وعامل بأوامره ونواهيه، ومتقرب إليه إما بالخير
وإما بالشر، ثم تلاقي الله يوم القيامة، فلا تعدم منه جزاء بالفضل إن كنت
سعيدًا، أو بالعدل إن كنت شقيًا .




ولهذا ذكر تفضيل الجزاء، فقال: {

فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ


} وهم أهل السعادة.




{

فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا


} وهو العرض اليسير على الله، فيقرره الله بذنوبه، حتى إذا ظن العبد أنه
قد هلك، قال الله [تعالى] له: " إني قد سترتها عليك في الدنيا، فأنا
أسترها لك اليوم ".




{

وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ


} في الجنة {

مَسْرُورًا


} لأنه نجا من العذاب وفاز بالثواب، {

وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ


} أي: بشماله من خلفه.




{

فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا


} من الخزي والفضيحة، وما يجد في كتابه من الأعمال التي قدمها ولم يتب
منها، {

وَيَصْلَى سَعِيرًا


} أي: تحيط به السعير من كل جانب، ويقلب على عذابها، وذلك لأنه في الدنيا
{

كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا


} لا يخطر البعث على باله، وقد أساء، ولم يظن أنه راجع إلى ربه وموقوف
بين يديه.




{

بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا


} فلا يحسن أن يتركه سدى، لا يؤمر ولا ينهى، ولا يثاب ولا يعاقب.





{

16 - 25


} {

فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ * وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ * وَالْقَمَرِ
إِذَا اتَّسَقَ * لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ * فَمَا لَهُمْ لَا
يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ *
بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ * وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا
يُوعُونَ * فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ


}




أقسم في هذا الموضع بآيات الليل، فأقسم بالشفق الذي هو بقية نور الشمس،
الذي هو مفتتح الليل.




{

وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ


} أي: احتوى عليه من حيوانات وغيرها، {

وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ


} أي: امتلأ نورًا بإبداره، وذلك أحسن ما يكون وأكثر منافع، والمقسم عليه
قوله: {

لَتَرْكَبُنَّ


} [أي:] أيها الناس {

طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ


} أي: أطوارا متعددة وأحوالا متباينة، من النطفة إلى العلقة، إلى المضغة،
إلى نفخ الروح، ثم يكون وليدًا وطفلًا، ثم مميزًا، ثم يجري عليه قلم
التكليف، والأمر والنهي، ثم يموت بعد ذلك، ثم يبعث ويجازى بأعماله، فهذه
الطبقات المختلفة الجارية على العبد، دالة على أن الله وحده هو المعبود،
الموحد، المدبر لعباده بحكمته ورحمته، وأن العبد فقير عاجز، تحت تدبير
العزيز الرحيم، ومع هذا، فكثير من الناس لا يؤمنون.




{

وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ


} أي: لا يخضعون للقرآن، ولا ينقادون لأوامره ونواهيه، {

بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ


} أي: يعاندون الحق بعدما تبين، فلا يستغرب عدم إيمانهم وعدم انقيادهم
للقرآن، فإن المكذب بالحق عنادًا، لا حيلة فيه، {

وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ


} أي: بما يعملونه وينوونه سرًا، فالله يعلم سرهم وجهرهم، وسيجازيهم
بأعمالهم، ولهذا قال {

فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ


} وسميت البشارة بشارة، لأنها تؤثر في البشرة سرورًا أو غمًا.




فهذه حال أكثر الناس، التكذيب بالقرآن، وعدم الإيمان [به].




ومن الناس فريق هداهم الله، فآمنوا بالله، وقبلوا ما جاءتهم به الرسل،
فآمنوا وعملوا الصالحات.




فهؤلاء لهم أجر غير ممنون أي: غير مقطوع بل هو أجر دائم مما لا عين رأت،
ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.




تم تفسير السورة ولله الحمد.

descriptionتفسيرالقران - صفحة 2 Emptyرد: تفسيرالقران

more_horiz
-
تفسير
سورة
المطففين
عدد آياتها
36

(



آية



1-
36 )
وهي مكية






{

1 - 6


} {

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ *
الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا
كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ
أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ
لِرَبِّ الْعَالَمِينَ


}




{

وَيْلٌ


} كلمة عذاب، ووعيد {

لِلْمُطَفِّفِينَ


}




وفسر الله المطففين بقوله {

الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ


} أي: أخذوا منهم وفاء عما ثبت لهم قبلهم {

يَسْتَوْفُونَ


} يستوفونه كاملا من غير نقص.




{

وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ


} أي: إذا أعطوا الناس حقهم، الذي للناس عليهم بكيل أو وزن، {

يُخْسِرُونَ


} أي: ينقصونهم ذلك، إما بمكيال وميزان ناقصين، أو بعدم ملء المكيال
والميزان، أو نحو ذلك. فهذا سرقة [لأموال] الناس ، وعدم إنصاف [لهم]
منهم.




وإذا كان هذا الوعيد على الذين يبخسون الناس بالمكيال والميزان، فالذي
يأخذ أموالهم قهرًا أو سرقة، أولى بهذا الوعيد من المطففين.




ودلت الآية الكريمة، على أن الإنسان كما يأخذ من الناس الذي له، يجب عليه
أن يعطيهم كل ما لهم من الأموال والمعاملات، بل يدخل في [عموم هذا]
الحجج والمقالات، فإنه كما أن المتناظرين قد جرت العادة أن كل واحد
[منهما] يحرص على ماله من الحجج، فيجب عليه أيضًا أن يبين ما لخصمه من
الحجج [التي لا يعلمها]، وأن ينظر في أدلة خصمه كما ينظر في أدلته هو،
وفي هذا الموضع يعرف إنصاف الإنسان من تعصبه واعتسافه، وتواضعه من كبره،
وعقله من سفهه، نسأل الله التوفيق لكل خير.




ثم توعد تعالى المطففين، وتعجب من حالهم وإقامتهم على ما هم عليه، فقال:
{

أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ
يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ


} فالذي جرأهم على التطفيف عدم إيمانهم باليوم الآخر، وإلا فلو آمنوا به،
وعرفوا أنهم يقومون بين يدى الله، يحاسبهم على القليل والكثير، لأقلعوا
عن ذلك وتابوا منه.




{ 7 - 17 } { كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ * وَمَا
أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ * كِتَابٌ مَرْقُومٌ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ
لِلْمُكَذِّبِينَ * الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ * وَمَا
يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ
آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ * كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى
قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ
يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ * ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ *
ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ }




يقول تعالى:


{ كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ }

[وهذا شامل لكل فاجر] من أنواع الكفرة والمنافقين، والفاسقين


{ لَفِي سِجِّينٍ }





ثم فسر ذلك بقوله:


{ وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ كِتَابٌ مَرْقُومٌ }

أي: كتاب مذكور فيه أعمالهم الخبيثة، والسجين: المحل الضيق الضنك، و


{ سجين }

ضد


{ عليين }

الذي هو محل كتاب الأبرار، كما سيأتي.




وقد قيل: إن


{ سجين }

هو أسفل الأرض السابعة، مأوى الفجار ومستقرهم في معادهم.




{ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ }

ثم بين المكذبين بأنهم


{ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ }

أي: يوم الجزاء، يوم يدين الله فيه الناس بأعمالهم.




{ وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ }

على محارم الله، متعد من الحلال إلى الحرام.




{ أَثِيمٍ }

أي كثير الإثم، فهذا الذي يحمله عدوانه على التكذيب، ويحمله [عدوانه على
التكذيب ويوجب له] كبره رد الحق، ولهذا


{ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا }

الدالة على الحق، و[على] صدق ما جاءت به رسله، كذبها وعاندها، و


{ قَالَ }

هذه


{ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ }

أي: من ترهات المتقدمين، وأخبار الأمم الغابرين، ليس من عند الله تكبرا
وعنادا.




وأما من أنصف، وكان مقصوده الحق المبين، فإنه لا يكذب بيوم الدين، لأن
الله قد أقام عليه من الأدلة القاطعة، والبراهين الساطعة، ما يجعله حق
اليقين، وصار لقلوبهم مثل الشمس للأبصار ، بخلاف من ران على قلبه كسبه،
وغطته معاصيه، فإنه محجوب عن الحق، ولهذا جوزي على ذلك، بأن حجب عن الله،
كما حجب قلبه في الدنيا عن آيات الله،


{ ثُمَّ إِنَّهُمْ }

مع هذه العقوبة البليغة


{ لَصَالُوا الْجَحِيمِ }

ثم يقال لهم توبيخا وتقريعًا: هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ
} فذكر لهم ثلاثة أنواع من العذاب: عذاب الجحيم، وعذاب التوبيخ، واللوم.




وعذاب الحجاب من رب العالمين، المتضمن لسخطه وغضبه عليهم، وهو أعظم عليهم
من عذاب النار، ودل مفهوم الآية، على أن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة
وفي الجنة، ويتلذذون بالنظر إليه أعظم من سائر اللذات، ويبتهجون بخطابه،
ويفرحون بقربه، كما ذكر الله ذلك في عدة آيات من القرآن، وتواتر فيه
النقل عن رسول الله.




وفي هذه الآيات، التحذير من الذنوب، فإنها ترين على القلب وتغطيه شيئا
فشيئا، حتى ينطمس نوره، وتموت بصيرته، فتنقلب عليه الحقائق، فيرى الباطل
حقًا، والحق باطلًا، وهذا من بعض عقوبات الذنوب.







{ 18 - 27 } { كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ *
وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَابٌ مَرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ
الْمُقَرَّبُونَ * إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * عَلَى
الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ * تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ
النَّعِيمِ * يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ * خِتَامُهُ مِسْكٌ
وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ * وَمِزَاجُهُ مِنْ
تَسْنِيمٍ }




لما ذكر أن كتاب الفجار في أسفل الأمكنة وأضيقها، ذكر أن كتاب الأبرار في
أعلاها وأوسعها، وأفسحها وأن كتابهم المرقوم


{ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ }

من الملائكة الكرام، وأرواح الأنبياء، والصديقين والشهداء، وينوه الله
بذكرهم في الملأ الأعلى، و


{ عليون }

اسم لأعلى الجنة، فلما ذكر كتابهم، ذكر أنهم في نعيم، وهو اسم جامع لنعيم
القلب والروح والبدن،


{ عَلَى الْأَرَائِكِ }

أي: [على] السرر المزينة بالفرش الحسان.




{ يُنْظَرُونَ }

إلى ما أعد الله لهم من النعيم, وينظرون إلى وجه ربهم الكريم،


{ تَعْرِفُ }

أيها الناظر إليهم


{ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ }

أي: بهاء النعيم ونضارته ورونقه، فإن توالي اللذة والسرور يكسب الوجه
نورًا وحسنًا وبهجة.




{ يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ }

وهو من أطيب ما يكون من الأشربة وألذها،


{ مَخْتُومٍ }





ذلك الشراب


{ خِتَامُهُ مِسْكٌ }

يحتمل أن المراد مختوم عن أن يداخله شيء ينقص لذته، أو يفسد طعمه، وذلك
الختام، الذي ختم به, مسك.




ويحتمل أن المراد أنه [الذي] يكون في آخر الإناء، الذي يشربون منه الرحيق
حثالة، وهي المسك الأذفر، فهذا الكدر منه، الذي جرت العادة في الدنيا أنه
يراق, يكون في الجنة بهذه المثابة،


{ وَفِي ذَلِكَ }

النعيم المقيم، الذي لا يعلم حسنه ومقداره إلا الله،


{ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ }

أي: يتسابقوا في المبادرة إليه بالأعمال الموصلة إليه، فهذا أولى ما بذلت
فيه نفائس الأنفاس، وأحرى ما تزاحمت للوصول إليه فحول الرجال.





{ 27 - 28 }


ومزاج هذا الشراب من تسنيم، وهي عين


{ يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ }

صرفا، وهي أعلى أشربة الجنة على الإطلاق، فلذلك كانت خالصة للمقربين،
الذين هم أعلى الخلق منزلة، وممزوجة لأصحاب اليمين أي: مخلوطة بالرحيق
وغيره من الأشربة اللذيذة.








{ 29 - 36 } { إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ
آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا
انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ * وَإِذَا
رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ * وَمَا أُرْسِلُوا
عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ * فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ
يَضْحَكُونَ * عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ * هَلْ ثُوِّبَ
الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ


}




لما ذكر تعالى جزاء المجرمين وجزاء المؤمنين و [ذكر] ما بينهما من
التفاوت العظيم، أخبر أن المجرمين كانوا في الدنيا يسخرون بالمؤمنين،
ويستهزئون بهم، ويضحكون منهم، ويتغامزون بهم عند مرورهم عليهم، احتقارا
لهم وازدراء، ومع هذا تراهم مطمئنين، لا يخطر الخوف على بالهم، {

وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ


} صباحًا أو مساء {

انْقَلَبُوا فَكِهِينَ


} أي: مسرورين مغتبطين ، وهذا من أعظم ما يكون من الاغترار، أنهم جمعوا
بين غاية الإساءة والأمن في الدنيا، حتى كأنهم قد جاءهم كتاب من الله
وعهد، أنهم من أهل السعادة، وقد حكموا لأنفسهم أنهم أهل الهدى، وأن
المؤمنين ضالون، افتراء على الله، وتجرأوا على القول عليه بلا علم.




قال تعالى: {

وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ


} أي: وما أرسلوا وكلاء على المؤمنين ملزمين بحفظ أعمالهم، حتى يحرصوا
على رميهم بالضلال، وما هذا منهم إلا تعنت وعناد وتلاعب، ليس له مستند
ولا برهان، ولهذا كان جزاؤهم في الآخرة من جنس عملهم، قال تعالى: {

فَالْيَوْمَ


} أي: يوم القيامة، {

الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ


} حين يرونهم في غمرات العذاب يتقلبون، وقد ذهب عنهم ما كانوا يفترون،
والمؤمنون في غاية الراحة والطمأنينة {

عَلَى الْأَرَائِكِ


} وهي السرر المزينة، {

يُنْظَرُونَ


} إلى ما أعد الله لهم من النعيم، وينظرون إلى وجه ربهم الكريم.




{

هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ


} أي: هل جوزوا من جنس عملهم؟




فكما ضحكوا في الدنيا من المؤمنين ورموهم بالضلال، ضحك المؤمنون منهم في
الآخرة، ورأوهم في العذاب والنكال، الذي هو عقوبة الغي والضلال.




نعم، ثوبوا ما كانوا يفعلون، عدلًا من الله وحكمة، والله عليم حكيم.

descriptionتفسيرالقران - صفحة 2 Emptyرد: تفسيرالقران

more_horiz
-
تفسير
سورة
الإنفطار
عدد آياتها
19

(



آية


1-19 )
وهي مكية






{

1 - 5


} {

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ *
وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ *
وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ * عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ
وَأَخَّرَتْ


}




أي: إذا انشقت السماء وانفطرت، وانتثرت نجومها، وزال جمالها، وفجرت
البحار فصارت بحرا واحدا، وبعثرت القبور بأن أخرجت ما فيها من الأموات،
وحشروا للموقف بين يدي الله للجزاء على الأعمال. فحينئذ ينكشف الغطاء،
ويزول ما كان خفيا، وتعلم كل نفس ما معها من الأرباح والخسران، هنالك يعض
الظالم على يديه إذا رأى أعماله باطلة، وميزانه قد خف، والمظالم قد تداعت
إليه، والسيئات قد حضرت لديه، وأيقن بالشقاء الأبدي والعذاب السرمدي .




و [هنالك] يفوز المتقون المقدمون لصالح الأعمال بالفوز العظيم، والنعيم
المقيم والسلامة من عذاب الجحيم.





{

6 - 12


} {

يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي
خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ
* كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ * وَإِنَّ عَلَيْكُمْ
لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ


}




يقول تعالى معاتبا للإنسان المقصر في حق ربه، المتجرئ على مساخطه : {

يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ


} أتهاونا منك في حقوقه؟ أم احتقارا منك لعذابه؟ أم عدم إيمان منك
بجزائه؟




أليس هو {

الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ


} في أحسن تقويم؟ {

فَعَدَلَكَ


} وركبك تركيبا قويما معتدلا، في أحسن الأشكال، وأجمل الهيئات، فهل يليق
بك أن تكفر نعمة المنعم، أو تجحد إحسان المحسن؟




إن هذا إلا من جهلك وظلمك وعنادك وغشمك، فاحمد الله أن لم يجعل صورتك
صورة كلب أو حمار، أو نحوهما من الحيوانات؛ فلهذا قال تعالى: {

فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ


}




[وقوله:] {

كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ


} أي: مع هذا الوعظ والتذكير، لا تزالون مستمرين على التكذيب بالجزاء.




وأنتم لا بد أن تحاسبوا على ما عملتم، وقد أقام الله عليكم ملائكة كراما
يكتبون أقوالكم وأفعالكم ويعلمون أفعالكم، ودخل في هذا أفعال القلوب،
وأفعال الجوارح، فاللائق بكم أن تكرموهم وتجلوهم وتحترموهم.





{

13 - 19


} {

إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ *
يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ * وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ *
وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ
الدِّينِ * يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ
يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ


}




المراد بالأبرار، القائمون بحقوق الله وحقوق عباده، الملازمون للبر، في
أعمال القلوب وأعمال الجوارح، فهؤلاء جزاؤهم النعيم في القلب والروح
والبدن، في دار الدنيا [وفي دار] البرزخ و [في] دار القرار.




{

وَإِنَّ الْفُجَّارَ


} الذين قصروا في حقوق الله وحقوق عباده، الذين فجرت قلوبهم ففجرت
أعمالهم {

لَفِي جَحِيمٍ


} أي: عذاب أليم، في دار الدنيا و [دار] البرزخ وفي دار القرار.




{

يَصْلَوْنَهَا


} ويعذبون [بها] أشد العذاب {

يَوْمِ الدِّينِ


} أي: يوم الجزاء على الأعمال.




{

وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ


} أي: بل هم ملازمون لها، لا يخرجون منها.




{

وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ
الدِّينِ


} ففي هذا تهويل لذلك اليوم الشديد الذي يحير الأذهان.




{

يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا


} ولو كانت لها قريبة [أو حبيبة] مصافية، فكل مشتغل بنفسه لا يطلب الفكاك
لغيرها. {

وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ


} فهو الذي يفصل بين العباد، ويأخذ للمظلوم حقه من ظالمه [والله أعلم]
.

descriptionتفسيرالقران - صفحة 2 Emptyرد: تفسيرالقران

more_horiz
-
تفسير
سورة
التكوير
عدد آياتها
29

(



آية




1-29
)
وهي مكية






{

1 - 14


} {

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ *
وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ * وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ *
وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ * وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ * وَإِذَا
الْبِحَارُ سُجِّرَتْ * وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ * وَإِذَا
الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ * وَإِذَا الصُّحُفُ
نُشِرَتْ * وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ * وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ
* وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ * عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ


}




أي: إذا حصلت هذه الأمور الهائلة، تميز الخلق، وعلم كل أحد ما قدمه
لآخرته، وما أحضره فيها من خير وشر، وذلك إذا كان يوم القيامة تكور الشمس
أي: تجمع وتلف، ويخسف القمر، ويلقيان في النار.




{

وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ


} أي: تغيرت، وتساقطت من أفلاكها.




{

وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ


} أي:: صارت كثيبا مهيلا، ثم صارت كالعهن المنفوش، ثم تغيرت وصارت هباء
منبثا، وسيرت عن أماكنها، {

وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ


} أي: عطل الناس حينئذ نفائس أموالهم التي كانوا يهتمون لها ويراعونها في
جميع الأوقات، فجاءهم ما يذهلهم عنها، فنبه بالعشار، وهي النوق التي
تتبعها أولادها، وهي أنفس أموال العرب إذ ذاك عندهم، على ما هو في معناها
من كل نفيس.




{

وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ


} أي: جمعت ليوم القيامة، ليقتص الله من بعضها لبعض، ويرى العباد كمال
عدله، حتى إنه ليقتص من القرناء للجماء ثم يقول لها: كوني ترابا.




{

وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ


} أي: أوقدت فصارت -على عظمها- نارا تتوقد.




{

وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ


} أي: قرن كل صاحب عمل مع نظيره، فجمع الأبرار مع الأبرار، والفجار مع
الفجار، وزوج المؤمنون بالحور العين، والكافرون بالشياطين، وهذا كقوله
تعالى: {

وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا


} {

وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا


} {

احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ


} .




{

وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ


} وهو الذي كانت الجاهلية الجهلاء تفعله من دفن البنات وهن أحياء من غير
سبب، إلا خشية الفقر، فتسأل: {

بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ


} ومن المعلوم أنها ليس لها ذنب، ففي هذا توبيخ وتقريع لقاتليها . {

وَإِذَا الصُّحُفُ


} المشتملة على ما عمله العاملون من خير وشر {

نُشِرَتْ


} وفرقت على أهلها، فآخذ كتابه بيمينه، وآخذ كتابه بشماله، أو من وراء
ظهره.




{

وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ


} أي: أزيلت، كما قال تعالى: {

يَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ


} {

يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ


} {

وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ
مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ


} {

وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ


} أي: أوقد عليها فاستعرت، والتهبت التهابا لم يكن لها قبل ذلك، {

وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ


} أي: قربت للمتقين، {

عَلِمَتْ نَفْسٌ


} أي: كل نفس، لإتيانها في سياق الشرط.




{

مَا أَحْضَرَتْ


} أي: ما حضر لديها من الأعمال [التي قدمتها] كما قال تعالى: {

وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا


} وهذه الأوصاف التي وصف الله بها يوم القيامة، من الأوصاف التي تنزعج
لها القلوب، وتشتد من أجلها الكروب، وترتعد الفرائص وتعم المخاوف، وتحث
أولي الألباب للاستعداد لذلك اليوم، وتزجرهم عن كل ما يوجب اللوم، ولهذا
قال بعض السلف: من أراد أن ينظر ليوم القيامة كأنه رأي عين، فليتدبر سورة
{

إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ


}




{

15 - 29


} {

فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ * الْجَوَارِي الْكُنَّسِ * وَاللَّيْلِ
إِذَا عَسْعَسَ * وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ * إِنَّهُ لَقَوْلُ
رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ
ثَمَّ أَمِينٍ * وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ * وَلَقَدْ رَآهُ
بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ * وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ * وَمَا
هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ * فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ * إِنْ هُوَ
إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ * لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ
* وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ


}
أقسم تعالى {

بِالْخُنَّسِ


} وهي الكواكب التي تخنس أي: تتأخر عن سير الكواكب المعتاد إلى جهة
المشرق، وهي النجوم السبعة السيارة: " الشمس "، و " القمر "، و " الزهرة
"، و " المشترى "، و " المريخ "، و " زحل "، و " عطارد "، فهذه السبعة
لها سيران: سير إلى جهة المغرب مع باقي الكواكب والأفلاك ، وسير معاكس
لهذا من جهة المشرق تختص به هذه السبعة دون غيرها.




فأقسم الله بها في حال خنوسها أي: تأخرها، وفي حال جريانها، وفي حال
كنوسها أي: استتارها بالنهار، ويحتمل أن المراد بها جميع النجوم الكواكب
السيارة وغيرها.




{

وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ


} أي: أدبر وقيل: أقبل، {

وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ


} أي: بانت علائم الصبح، وانشق النور شيئا فشيئا حتى يستكمل وتطلع
الشمس، وهذه آيات عظام، أقسم الله بها على علو سند القرآن وجلالته،
وحفظه من كل شيطان رجيم فقال: {

إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ


} وهو: جبريل عليه السلام، نزل به من الله تعالى، كما قال تعالى: {

وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ
الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ


} ووصفه الله بالكريم لكرم أخلاقه، وكثره خصاله الحميدة، فإنه أفضل
الملائكة، وأعظمهم رتبة عند ربه، {

ذِي قُوَّةٍ


} على ما أمره الله به. ومن قوته أنه قلب ديار قوم لوط بهم فأهلكهم.




{

عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ


} أي: جبريل مقرب عند الله، له منزلة رفيعة، وخصيصة من الله اختصه بها، {

مَكِينٍ


} أي: له مكانة ومنزلة فوق منازل الملائكة كلهم.




{

مُطَاعٍ ثَمَّ


} أي: جبريل مطاع في الملأ الأعلى، لديه من الملائكة المقربين جنود،
نافذ فيهم أمره، مطاع رأيه، {

أَمِينٍ


} أي: ذو أمانة وقيام بما أمر به، لا يزيد ولا ينقص، ولا يتعدى ما حد له،
وهذا [كله] يدل على شرف القرآن عند الله تعالى، فإنه بعث به هذا الملك
الكريم، الموصوف بتلك الصفات الكاملة. والعادة أن الملوك لا ترسل الكريم
عليها إلا في أهم المهمات، وأشرف الرسائل.




ولما ذكر فضل الرسول الملكي الذي جاء بالقرآن، ذكر فضل الرسول البشري
الذي نزل عليه القرآن، ودعا إليه الناس فقال: {

وَمَا صَاحِبُكُمْ


} وهو محمد صلى الله عليه وسلم {

بِمَجْنُونٍ


} كما يقوله أعداؤه المكذبون برسالته، المتقولون عليه من الأقوال، التي
يريدون أن يطفئوا بها ما جاء به ما شاءوا وقدروا عليه، بل هو أكمل الناس
عقلا، وأجزلهم رأيا، وأصدقهم لهجة.




{

وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ


} أي: رأى محمد صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام بالأفق البين، الذي
هو أعلى ما يلوح للبصر.




{

وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ


} أي: وما هو على ما أوحاه الله إليه بمتهم يزيد فيه أو ينقص أو يكتم
بعضه، بل هو صلى الله عليه وسلم أمين أهل السماء وأهل الأرض، الذي بلغ
رسالات ربه البلاغ المبين، فلم يشح بشيء منه، عن غني ولا فقير، ولا رئيس
ولا مرءوس، ولا ذكر ولا أنثى، ولا حضري ولا بدوي، ولذلك بعثه الله في أمة
أمية، جاهلة جهلاء، فلم يمت صلى الله عليه وسلم حتى كانوا علماء ربانيين،
وأحبارا متفرسين، إليهم الغاية في العلوم، وإليهم المنتهى في استخراج
الدقائق والفهوم، وهم الأساتذة، وغيرهم قصاراه أن يكون من تلاميذهم.




{

وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ


} لما ذكر جلالة كتابه وفضله بذكر الرسولين الكريمين، اللذين وصل إلى
الناس على أيديهما، وأثنى الله عليهما بما أثنى، دفع عنه كل آفة ونقص مما
يقدح في صدقه، فقال: {

وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ


} أي: في غاية البعد عن الله وعن قربه، {

فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ


} أي: كيف يخطر هذا ببالكم، وأين عزبت عنكم أذهانكم؟ حتى جعلتم الحق الذي
هو في أعلى درجات الصدق بمنزلة الكذب، الذي هو أنزل ما يكون [وأرذل]
وأسفل الباطل؟ هل هذا إلا من انقلاب الحقائق. {

إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ


} يتذكرون به ربهم، وما له من صفات الكمال، وما ينزه عنه من النقائص
والرذائل [والأمثال]، ويتذكرون به الأوامر والنواهي وحكمها، ويتذكرون به
الأحكام القدرية والشرعية والجزائية، وبالجملة، يتذكرون به مصالح
الدارين، وينالون بالعمل به السعادتين.




{

لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ


} بعدما تبين الرشد من الغي، والهدى من الضلال. {

وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ


} أي: فمشيئته نافذة، لا يمكن أن تعارض أو تمانع. وفي هذه الآية وأمثالها
رد على فرقتي القدرية النفاة، والقدرية المجبرة كما تقدم مثلها [والله
أعلم والحمد لله].

descriptionتفسيرالقران - صفحة 2 Emptyرد: تفسيرالقران

more_horiz
-
تفسير
سورة

عبس

عدد آياتها
42

(



آية


1-42 )
وهي مكية






{ 1 - 10 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ عَبَسَ وَتَوَلَّى *
أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ
يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ
لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى * وَأَمَّا مَنْ
جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى }





وسبب نزول هذه الآيات الكريمات، أنه جاء رجل من المؤمنين أعمى يسأل النبي
صلى الله عليه ويتعلم منه.




وجاءه رجل من الأغنياء، وكان صلى الله عليه وسلم حريصا على هداية الخلق،
فمال صلى الله عليه وسلم [وأصغى] إلى الغني، وصد عن الأعمى الفقير، رجاء
لهداية ذلك الغني، وطمعا في تزكيته، فعاتبه الله بهذا العتاب اللطيف،
فقال:


{ عَبَسَ }

[أي:] في وجهه


{ وَتَوَلَّى }

في بدنه، لأجل مجيء الأعمى له، ثم ذكر الفائدة في الإقبال عليه، فقال:


{ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ }

أي: الأعمى


{ يَزَّكَّى }

أي: يتطهر عن الأخلاق الرذيلة، ويتصف بالأخلاق الجميلة؟




{ أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى }

أي: يتذكر ما ينفعه، فيعمل بتلك الذكرى.




وهذه فائدة كبيرة، هي المقصودة من بعثة الرسل، ووعظ الوعاظ، وتذكير
المذكرين، فإقبالك على من جاء بنفسه مفتقرا لذلك منك ، هو الأليق
الواجب، وأما تصديك وتعرضك للغني المستغني الذي لا يسأل ولا يستفتي لعدم
رغبته في الخير، مع تركك من هو أهم منه، فإنه لا ينبغي لك، فإنه ليس عليك
أن لا يزكى، فلو لم يتزك، فلست بمحاسب على ما عمله من الشر.




فدل هذا على القاعدة المشهورة، أنه: " لا يترك أمر معلوم لأمر موهوم، ولا
مصلحة متحققة لمصلحة متوهمة " وأنه ينبغي الإقبال على طالب العلم،
المفتقر إليه، الحريص عليه أزيد من غيره.







{ 11 - 32 } { كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ * فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ * فِي
صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ * مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ * بِأَيْدِي سَفَرَةٍ *
كِرَامٍ بَرَرَةٍ * قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ * مِنْ أَيِّ
شَيْءٍ خَلَقَهُ * مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ * ثُمَّ
السَّبِيلَ يَسَّرَهُ * ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ * ثُمَّ إِذَا
شَاءَ أَنْشَرَهُ * كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ * فَلْيَنْظُرِ
الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا *
ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا *
وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا * وَحَدَائِقَ غُلْبًا *
وَفَاكِهَةً وَأَبًّا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ }




يقول تعالى:


{ كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ }

أي: حقا إن هذه الموعظة تذكرة من الله، يذكر بها عباده، ويبين لهم في
كتابه ما يحتاجون إليه، ويبين الرشد من الغي، فإذا تبين ذلك


{ فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ }

أي: عمل به، كقوله تعالى:


{ وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ
شَاءَ فَلْيَكْفُرْ }





ثم ذكر محل هذه التذكرة وعظمها ورفع قدرها، فقال:


{ فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ مَرْفُوعَةٍ }

القدر والرتبة


{ مُطَهَّرَةٌ }

[من الآفاق و] عن أن تنالها أيدي الشياطين أو يسترقوها، بل هي


{ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ }

وهم الملائكة [الذين هم] السفراء بين الله وبين عباده،


{ كِرَامٍ }

أي: كثيري الخير والبركة،


{ بَرَرَةٍ }

قلوبهم وأعمالهم.




وذلك كله حفظ من الله لكتابه، أن جعل السفراء فيه إلى الرسل الملائكة
الكرام الأقوياء الأتقياء، ولم يجعل للشياطين عليه سبيلا، وهذا مما يوجب
الإيمان به وتلقيه بالقبول، ولكن مع هذا أبى الإنسان إلا كفورا، ولهذا
قال تعالى:


{ قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ }

لنعمة الله وما أشد معاندته للحق بعدما تبين، وهو ما هو؟ هو من أضعف
الأشياء، خلقه الله من ماء مهين، ثم قدر خلقه، وسواه بشرا سويا، وأتقن
قواه الظاهرة والباطنة.




{ ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ }

أي: يسر له الأسباب الدينية والدنيوية، وهداه السبيل، [وبينه] وامتحنه
بالأمر والنهي،


{ ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ }

أي: أكرمه بالدفن، ولم يجعله كسائر الحيوانات التي تكون جيفها على وجه
الأرض،


{ ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ }

أي: بعثه بعد موته للجزاء، فالله هو المنفرد بتدبير الإنسان وتصريفه بهذه
التصاريف، لم يشاركه فيه مشارك، وهو -مع هذا- لا يقوم بما أمره الله، ولم
يقض ما فرضه عليه، بل لا يزال مقصرا تحت الطلب.




ثم أرشده تعالى إلى النظر والتفكر في طعامه، وكيف وصل إليه بعدما تكررت
عليه طبقات عديدة، ويسره له فقال:


{ فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ
صَبًّا }

أي: أنزلنا المطر على الأرض بكثرة.




{ ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ }

للنبات


{ شَقًّا فَأَنْبَتْنَا فِيهَا }

أصنافا مصنفة من أنواع الأطعمة اللذيذة، والأقوات الشهية


{ حبًّا }

وهذا شامل لسائر الحبوب على اختلاف أصنافها،


{ وَعِنَبًا وَقَضْبًا }

وهو القت،


{ وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا }

وخص هذه الأربعة لكثرة فوائدها ومنافعها.




{ وَحَدَائِقَ غُلْبًا }

أي: بساتين فيها الأشجار الكثيرة الملتفة،


{ وَفَاكِهَةً وَأَبًّا }

الفاكهة: ما يتفكه فيه الإنسان، من تين وعنب وخوخ ورمان، وغير ذلك.




والأب: ما تأكله البهائم والأنعام، ولهذا قال:


{ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ }

التي خلقها الله وسخرها لكم، فمن نظر في هذه النعم أوجب له ذلك شكر ربه،
وبذل الجهد في الإنابة إليه، والإقبال على طاعته، والتصديق بأخباره.







{ 33 - 42 } { فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ * يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ
مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ
امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ * وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ
مُسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا
غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ * أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ
الْفَجَرَةُ }




أي: إذا جاءت صيحة القيامة، التي تصخ لهولها الأسماع، وتنزعج لها الأفئدة
يومئذ، مما يرى الناس من الأهوال وشدة الحاجة لسالف الأعمال.




{ يَفِرُّ الْمَرْءُ }

من أعز الناس إليه، وأشفقهم لديه،


{ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ }

أي: زوجته


{ وَبَنِيهِ }

وذلك لأنه


{ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ }

أي: قد شغلته نفسه، واهتم لفكاكها، ولم يكن له التفات إلى غيرها، فحينئذ
ينقسم الخلق إلى فريقين: سعداء وأشقياء، فأما السعداء، فـوجوههم [يومئذ]


{ مُسْفِرَةٌ }

أي: قد ظهر فيها السرور والبهجة، من ما عرفوا من نجاتهم، وفوزهم بالنعيم،


{ ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ وَوُجُوهٌ }

الأشقياء


{ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا }

أي: تغشاها


{ قَتَرَةٌ }

فهي سوداء مظلمة مدلهمة، قد أيست من كل خير، وعرفت شقاءها وهلاكها.




{ أُولَئِكَ }

الذين بهذا الوصف


{ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ }

أي: الذين كفروا بنعمة الله وكذبوا بآيات الله، وتجرأوا على محارمه.




نسأل الله العفو والعافية إنه جواد كريم [والحمد لله رب العالمين].

descriptionتفسيرالقران - صفحة 2 Emptyرد: تفسيرالقران

more_horiz
-
تفسير
سورة
النازعات
عدد آياتها
46

(



آية



1-
46 )
وهي مكية






{

1 - 14


} {

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا *
وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا * وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا * فَالسَّابِقَاتِ
سَبْقًا * فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا * يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ *
تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ * قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ * أَبْصَارُهَا
خَاشِعَةٌ * يَقُولُونَ أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ *
أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً * قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ
خَاسِرَةٌ * فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ * فَإِذَا هُمْ
بِالسَّاهِرَةِ


}




هذه الإقسامات بالملائكة الكرام، وأفعالهم الدالة على كمال انقيادهم لأمر
الله، وإسراعهم في تنفيذ أمره، يحتمل أن المقسم عليه، الجزاء والبعث،
بدليل الإتيان بأحوال القيامة بعد ذلك، ويحتمل أن المقسم عليه والمقسم به
متحدان، وأنه أقسم على الملائكة، لأن الإيمان بهم أحد أركان الإيمان
الستة، ولأن في ذكر أفعالهم هنا ما يتضمن الجزاء الذي تتولاه الملائكة
عند الموت وقبله وبعده، فقال: {

وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا


} وهم الملائكة التي تنزع الأرواح بقوة، وتغرق في نزعها حتى تخرج الروح،
فتجازى بعملها.




{

وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا


} وهم الملائكة أيضا، تجتذب الأرواح بقوة ونشاط، أو أن النزع يكون لأرواح
المؤمنين، والنشط لأرواح الكفار.




{

وَالسَّابِحَاتِ


} أي: المترددات في الهواء صعودا ونزولا {

سَبْحًا


}




{

فَالسَّابِقَاتِ


} لغيرها {

سَبْقًا


} فتبادر لأمر الله، وتسبق الشياطين في إيصال الوحي إلى رسل الله حتى لا
تسترقه .




{

فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا


} الملائكة، الذين وكلهم الله أن يدبروا كثيرا من أمور العالم العلوي
والسفلي، من الأمطار، والنبات، والأشجار، والرياح، والبحار، والأجنة،
والحيوانات، والجنة، والنار [وغير ذلك].




{

يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ


} وهي قيام الساعة، {

تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ


} أي: الرجفة الأخرى التي تردفها وتأتي تلوها، {

قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ


} أي: موجفة ومنزعجة من شدة ما ترى وتسمع.




{

أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ


} أي: ذليلة حقيرة، قد ملك قلوبهم الخوف، وأذهل أفئدتهم الفزع، وغلب
عليهم التأسف [واستولت عليهم] الحسرة.




يقولون أي: الكفار في الدنيا، على وجه التكذيب: {

أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً


} أي: بالية فتاتا.




{

قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ


} أي: استبعدوا أن يبعثهم الله ويعيدهم بعدما كانوا عظاما نخرة، جهلا
[منهم] بقدرة الله، وتجرؤا عليه.




قال الله في بيان سهولة هذا الأمر عليه: {

فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ


} ينفخ فيها في الصور.




فإذا الخلائق كلهم {

بِالسَّاهِرَةِ


} أي: على وجه الأرض، قيام ينظرون، فيجمعهم الله ويقضي بينهم بحكمه العدل
ويجازيهم.




{

15 - 26


} {

هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى * إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِي
الْمُقَدَّسِ طُوًى * اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُلْ
هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى * وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى *
فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى * فَكَذَّبَ وَعَصَى * ثُمَّ أَدْبَرَ
يَسْعَى * فَحَشَرَ فَنَادَى * فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى *
فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى * إِنَّ فِي ذَلِكَ
لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى


}




يقول [الله] تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {

هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى


} وهذا الاستفهام عن أمر عظيم متحقق وقوعه.




أي: هل أتاك حديثه {

إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى


} وهو المحل الذي كلمه الله فيه، وامتن عليه بالرسالة، واختصه بالوحي
والاجتباء فقال له {

اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى


} أي: فانهه عن طغيانه وشركه وعصيانه، بقول لين، وخطاب لطيف، لعله {

يتذكر أو يخشى


}




{

فَقُلْ


} له: {

هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى


} أي: هل لك في خصلة حميدة، ومحمدة جميلة، يتنافس فيها أولو الألباب، وهي
أن تزكي نفسك وتطهرها من دنس الكفر والطغيان، إلى الإيمان والعمل الصالح؟




{

وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ


} أي: أدلك عليه، وأبين لك مواقع رضاه، من مواقع سخطه. {

فَتَخْشَى


} الله إذا علمت الصراط المستقيم، فامتنع فرعون مما دعاه إليه موسى.




{

فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى


} أي: جنس الآية الكبرى، فلا ينافي تعددها {

فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ
فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ


}




{

فَكَذَّبَ


} بالحق {

وَعَصَى


} الأمر، {

ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى


} أي: يجتهد في مبارزة الحق ومحاربته، {

فَحَشَرَ


} جنوده أي: جمعهم {

فَنَادَى فَقَالَ


} لهم: {

أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى


} فأذعنوا له وأقروا بباطله حين استخفهم، {

فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى


} أي: صارت عقوبته دليلا وزاجرا، ومبينة لعقوبة الدنيا والآخرة، {

إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى


} فإن من يخشى الله هو الذي ينتفع بالآيات والعبر، فإذا رأى عقوبة فرعون،
عرف أن كل من تكبر وعصى، وبارز الملك الأعلى، عاقبه في الدنيا والآخرة،
وأما من ترحلت خشية الله من قلبه، فلو جاءته كل آية لم يؤمن [بها].




{

27 - 33


} {

أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا
فَسَوَّاهَا * وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا * وَالْأَرْضَ
بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا * أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا *
وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ


}




يقول تعالى مبينا دليلا واضحا لمنكري البعث ومستبعدي إعادة الله للأجساد:
{

أَأَنْتُمْ


} أيها البشر {

أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ


} ذات الجرم العظيم، والخلق القوي، والارتفاع الباهر {

بَنَاهَا


} الله.




{

رَفَعَ سَمْكَهَا


} أي: جرمها وصورتها، {

فَسَوَّاهَا


} بإحكام وإتقان يحير العقول، ويذهل الألباب، {

وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا


} أي: أظلمه، فعمت الظلمة [جميع] أرجاء السماء، فأظلم وجه الأرض، {

وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا


} أي: أظهر فيه النور العظيم، حين أتى بالشمس، فامتد الناس في مصالح
دينهم ودنياهم.




{

وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ


} أي: بعد خلق السماء {

دَحَاهَا


} أي: أودع فيها منافعها.




وفسر ذلك بقوله: {

أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا


} أي: ثبتها في الأرض. فدحى الأرض بعد خلق السماء، كما هو نص هذه الآيات
[الكريمة]. وأما خلق نفس الأرض، فمتقدم على خلق السماء كما قال تعالى: {

قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي
يَوْمَيْنِ


} إلى أن قال: {

ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وهي دخان فقال لها وللأرض ائتنا طوعا أو
كرها قالتا أتينا طائعين


} فالذي خلق السماوات العظام وما فيها من الأنوار والأجرام، والأرض
الكثيفة الغبراء، وما فيها من ضروريات الخلق ومنافعهم، لا بد أن يبعث
الخلق المكلفين، فيجازيهم على أعمالهم، فمن أحسن فله الحسنى ومن أساء فلا
يلومن إلا نفسه، ولهذا ذكر بعد هذا القيام الجزاء ، فقال:
{

34 - 41


} {

فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى * يَوْمَ يَتَذَكَّرُ
الْإِنْسَانُ مَا سَعَى * وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى *
فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ
الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ
وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى


}
أي: إذا جاءت القيامة الكبرى، والشدة العظمى، التي يهون عندها كل شدة،
فحينئذ يذهل الوالد عن ولده، والصاحب عن صاحبه [وكل محب عن حبيبه]. و {

يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى


} في الدنيا، من خير وشر، فيتمنى زيادة مثقال ذرة في حسناته، ويغمه ويحزن
لزيادة مثقال ذرة في سيئاته.




ويعلم إذ ذاك أن مادة ربحه وخسرانه ما سعاه في الدنيا، وينقطع كل سبب
ووصلة كانت في الدنيا سوى الأعمال.




{

وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى


} أي: جعلت في البراز، ظاهرة لكل أحد، قد برزت لأهلها، واستعدت لأخذهم،
منتظرة لأمر ربها.




{

فَأَمَّا مَنْ طَغَى


} أي: جاوز الحد، بأن تجرأ على المعاصي الكبار، ولم يقتصر على ما حده
الله.




{

وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا


} على الآخرة فصار سعيه لها، ووقته مستغرقا في حظوظها وشهواتها، ونسي
الآخرة وترك العمل لها. {

فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى


} [له] أي: المقر والمسكن لمن هذه حاله، {

وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ


} أي: خاف القيام عليه ومجازاته بالعدل، فأثر هذا الخوف في قلبه فنهى
نفسه عن هواها الذي يقيدها عن طاعة الله، وصار هواه تبعا لما جاء به
الرسول، وجاهد الهوى والشهوة الصادين عن الخير، {

فَإِنَّ الْجَنَّةَ


} [المشتملة على كل خير وسرور ونعيم] {

هِيَ الْمَأْوَى


} لمن هذا وصفه.




{

42 - 46


} {

يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا * فِيمَ أَنْتَ مِنْ
ذِكْرَاهَا * إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا * إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ
مَنْ يَخْشَاهَا * كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا
إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا


}




أي: يسألك المتعنتون المكذبون بالبعث {

عَنِ السَّاعَةِ


} متى وقوعها و {

أَيَّانَ مُرْسَاهَا


} فأجابهم الله بقوله: {

فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا


} أي: ما الفائدة لك ولهم في ذكرها ومعرفة وقت مجيئها؟ فليس تحت ذلك
نتيجة، ولهذا لما كان علم العباد للساعة ليس لهم فيه مصلحة دينية ولا
دنيوية، بل المصلحة في خفائه عليهم، طوى علم ذلك عن جميع الخلق، واستأثر
بعلمه فقال: {

إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا


} أي: إليه ينتهي علمها، كما قال في الآية الأخرى: {

يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا
عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثقلت
في السماوات والأرض لا تأتيكم إلا بغته يسألونك كأنك حفي عنها قل إنما
علمها عند الله ولكن أكثر الناس لا يعلمون


} . {

إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا


} أي: إنما نذارتك [نفعها] لمن يخشى مجيء الساعة، ويخاف الوقوف بين يديه،
فهم الذين لا يهمهم سوى الاستعداد لها والعمل لأجلها. وأما من لا يؤمن
بها، فلا يبالي به ولا بتعنته، لأنه تعنت مبني على العناد والتكذيب، وإذا
وصل إلى هذه الحال، كان الإجابة عنه عبثا، ينزه الحكيم عنه [تمت] والحمد
لله رب العالمين.


descriptionتفسيرالقران - صفحة 2 Emptyرد: تفسيرالقران

more_horiz
-
تفسير
سورة
النبأ
عدد آياتها
40

(



آية



1-
40 )
وهي مكية






{ 1 - 5 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ
* عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ * الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ *
كَلَّا سَيَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ }




أي: عن أي شيء يتساءل المكذبون بآيات الله؟ ثم بين ما يتساءلون عنه فقال:


{ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ }

أي: عن الخبر العظيم الذي طال فيه نزاعهم، وانتشر فيه خلافهم على وجه
التكذيب والاستبعاد، وهو النبأ الذي لا يقبل الشك ولا يدخله الريب، ولكن
المكذبون بلقاء ربهم لا يؤمنون، ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب
الأليم.




ولهذا قال:


{ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ }

أي: سيعلمون إذا نزل بهم العذاب ما كانوا به يكذبون، حين يدعون إلى نار
جهنم دعا، ويقال لهم:


{ هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ }





ثم بين تعالى النعم والأدلة الدالة على صدق ما أخبرت به الرسل فقال:







{ 6 - 16 } { أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا * وَالْجِبَالَ
أَوْتَادًا * وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا * وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ
سُبَاتًا * وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا * وَجَعَلْنَا النَّهَارَ
مَعَاشًا * وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا * وَجَعَلْنَا
سِرَاجًا وَهَّاجًا * وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا
* لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا * وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا }



أي: أما أنعمنا عليكم بنعم جليلة، فجعلنا لكم


{ الْأَرْضَ مِهَادًا }

أي: ممهدة مهيأة لكم ولمصالحكم، من الحروث والمساكن والسبل.




{ وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا }

تمسك الأرض لئلا تضطرب بكم وتميد.




{ وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا }

أي: ذكورا وإناثا من جنس واحد، ليسكن كل منهما إلى الآخر، فتكون المودة
والرحمة، وتنشأ عنهما الذرية، وفي ضمن هذا الامتنان، بلذة المنكح.




{ وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا }

أي: راحة لكم، وقطعا لأشغالكم، التي متى تمادت بكم أضرت بأبدانكم، فجعل
الله الليل والنوم يغشى الناس لتنقطع حركاتهم الضارة، وتحصل راحتهم
النافعة.




{ وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا }

أي: سبع سموات، في غاية القوة، والصلابة والشدة، وقد أمسكها الله بقدرته،
وجعلها سقفا للأرض، فيها عدة منافع لهم، ولهذا ذكر من منافعها الشمس
فقال:


{ وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا }

نبه بالسراج على النعمة بنورها، الذي صار كالضرورة للخلق، وبالوهاج الذي
فيه الحرارة على حرارتها وما فيها من المصالح




{ وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ }

أي: السحاب


{ مَاءً ثَجَّاجًا }

أي: كثيرا جدا.




{ لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا }

من بر وشعير وذرة وأرز، وغير ذلك مما يأكله الآدميون.




{ وَنَبَاتًا }

يشمل سائر النبات، الذي جعله الله قوتا لمواشيهم.




{ وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا }

أي: بساتين ملتفة، فيها من جميع أصناف الفواكه اللذيذة.




فالذي أنعم عليكم بهذه النعم العظيمة ، التي لا يقدر قدرها، ولا يحصى
عددها، كيف [تكفرون به و] تكذبون ما أخبركم به من البعث والنشور؟! أم كيف
تستعينون بنعمه على معاصيه وتجحدونها؟"




{ 17 - 30 } { إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا * يَوْمَ يُنْفَخُ
فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا * وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ
أَبْوَابًا * وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا * إِنَّ
جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا * لِلطَّاغِينَ مَآبًا * لَابِثِينَ فِيهَا
أَحْقَابًا * لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا * إِلَّا
حَمِيمًا وَغَسَّاقًا * جَزَاءً وِفَاقًا * إِنَّهُمْ كَانُوا لَا
يَرْجُونَ حِسَابًا * وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا * وَكُلَّ
شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا * فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا
عَذَابًا }




ذكر تعالى ما يكون في يوم القيامة الذي يتساءل عنه المكذبون، ويجحده
المعاندون، أنه يوم عظيم، وأن الله جعله


{ مِيقَاتًا }

للخلق.




{ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا }

ويجري فيه من الزعازع والقلاقل ما يشيب له الوليد، وتنزعج له القلوب،
فتسير الجبال، حتى تكون كالهباء المبثوث، وتشقق السماء حتى تكون أبوابا،
ويفصل الله بين الخلائق بحمكه الذي لا يجور، وتوقد نار جهنم التي أرصدها
الله وأعدها للطاغين، وجعلها مثوى لهم ومآبا، وأنهم يلبثون فيها أحقابا
كثيرة و


{ الحقب }

على ما قاله كثير من المفسرين: ثمانون سنة.




وهم إذا وردوها


{ لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا }

أي: لا ما يبرد جلودهم، ولا ما يدفع ظمأهم.




{ إِلَّا حَمِيمًا }

أي: ماء حارا، يشوي وجوههم، ويقطع أمعاءهم،


{ وَغَسَّاقًا }

وهو: صديد أهل النار، الذي هو في غاية النتن، وكراهة المذاق، وإنما
استحقوا هذه العقوبات الفظيعة جزاء لهم ووفاقا على ما عملوا من الأعمال
الموصلة إليها، لم يظلمهم الله، ولكن ظلموا أنفسهم، ولهذا ذكر أعمالهم،
التي استحقوا بها هذا الجزاء، فقال:


{ إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا }

أي: لا يؤمنون بالبعث، ولا أن الله يجازي الخلق بالخير والشر، فلذلك
أهملوا العمل للآخرة.




{ وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا }

أي: كذبوا بها تكذيبا واضحا صريحا وجاءتهم البينات فعاندوها.




{ وَكُلُّ شَيْءٍ }

من قليل وكثير، وخير وشر


{ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا }

أي: كتبناه في اللوح المحفوظ، فلا يخشى المجرمون أنا عذبناهم بذنوب لم
يعملوها، ولا يحسبوا أنه يضيع من أعمالهم شيء، أو ينسى منها مثقال ذرة،
كما قال تعالى:


{ وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ
وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ
صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا
حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا }





{ فَذُوقُوا }

أيها المكذبون هذا العذاب الأليم والخزي الدائم


{ فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا }

وكل وقت وحين يزداد عذابهم [وهذه الآية أشد الآيات في شدة عذاب أهل النار
أجارنا الله منها].




{

31 - 36


} {

إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا * حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا * وَكَوَاعِبَ
أَتْرَابًا * وَكَأْسًا دِهَاقًا * لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا
كِذَّابًا * جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا


}




لما ذكر حال المجرمين ذكر مآل المتقين فقال: {

إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا


} أي: الذين اتقوا سخط ربهم، بالتمسك بطاعته، والانكفاف عما يكرهه فلهم
مفاز ومنجي، وبعد عن النار. وفي ذلك المفاز لهم {

حَدَائِقَ


} وهي البساتين الجامعة لأصناف الأشجار الزاهية، في الثمار التي تتفجر
بين خلالها الأنهار، وخص الأعناب لشرفها وكثرتها في تلك الحدائق.




ولهم فيها زوجات على مطالب النفوس {

كَوَاعِبَ


} وهي: النواهد اللاتي لم تتكسر ثديهن من شبابهن، وقوتهن ونضارتهن .




{

والأَتْرَاب


} اللاتي على سن واحد متقارب، ومن عادة الأتراب أن يكن متآلفات متعاشرات،
وذلك السن الذي هن فيه ثلاث وثلاثون سنة، في أعدل سن الشباب .




{

وَكَأْسًا دِهَاقًا


} أي: مملوءة من رحيق، لذة للشاربين، {

لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا


} أي: كلاما لا فائدة فيه {

وَلَا كِذَّابًا


} أي: إثما.




كما قال تعالى: {

لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا إِلَّا قِيلًا سَلَامًا
سَلَامًا


}




وإنما أعطاهم الله هذا الثواب الجزيل [من فضله وإحسانه]. {

جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ


} لهم {

عَطَاءً حِسَابًا


} أي: بسبب أعمالهم التي وفقهم الله لها، وجعلها ثمنا لجنته ونعيمها .







{ 37 - 40 } { رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا
الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا * يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ
وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ
الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا * ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ
اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا * إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا
قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ
الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا }




أي: الذي أعطاهم هذه العطايا هو ربهم {

رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ


} الذي خلقها ودبرها {

الرَّحْمَنِ


} الذي رحمته وسعت كل شيء، فرباهم ورحمهم، ولطف بهم، حتى أدركوا ما
أدركوا.




ثم ذكر عظمته وملكه العظيم يوم القيامة، وأن جميع الخلق كلهم ذلك اليوم
ساكتون لا يتكلمون و {

لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا


} إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا، فلا يتكلم أحد إلا بهذين الشرطين: أن
يأذن الله له في الكلام، وأن يكون ما تكلم به صوابا، لأن {

ذَلِكَ الْيَوْمُ


} هو {

الْحَقُّ


} الذي لا يروج فيه الباطل، ولا ينفع فيه الكذب، وفي ذلك اليوم {

يَقُومُ الرُّوحُ


} وهو جبريل عليه السلام، الذي هو أشرف الملائكة {

وَالْمَلَائِكَةِ


} [أيضا يقوم الجميع] {

صَفًّا


} خاضعين لله {

لَا يَتَكَلَّمُونَ


} إلا بما أذن لهم الله به .




فلما رغب ورهب، وبشر وأنذر، قال: {

فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا


} أي: عملا، وقدم صدق يرجع إليه يوم القيامة.




{

إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا


} لأنه قد أزف مقبلا، وكل ما هو آت فهو قريب.




{

يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ


} أي: هذا الذي يهمه ويفزع إليه، فلينظر في هذه الدنيا إليه ، كما قال
تعالى: {

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ
مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا
تَعْمَلُونَ


} الآيات.




فإن وجد خيرا فليحمد الله، وإن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه، ولهذا
كان الكفار يتمنون الموت من شدة الحسرة والندم.




نسأل الله أن يعافينا من الكفر والشر كله، إنه جواد كريم.




تم تفسير سورة النبأ، والحمد لله رب العالمين

descriptionتفسيرالقران - صفحة 2 Emptyرد: تفسيرالقران

more_horiz
-
تفسير
سورة
المرسلات
عدد آياتها
50

(



آية



1-
50 )
وهي مكية






{ 1 - 15 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَالْمُرْسَلَاتِ
عُرْفًا * فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا
فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا * فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا * عُذْرًا أَوْ
نُذْرًا * إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ * فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ
* وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ * وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ * وَإِذَا
الرُّسُلُ أُقِّتَتْ * لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ * لِيَوْمِ الْفَصْلِ *
وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ
لِلْمُكَذِّبِينَ }




أقسم تعالى على البعث والجزاء بالأعمال ، بالمرسلات عرفا، وهي الملائكة
التي يرسلها الله تعالى بشئونه القدرية وتدبير العالم، وبشئونه الشرعية
ووحيه إلى رسله.




و


{ عُرْفًا }

حال من المرسلات أي: أرسلت بالعرف والحكمة والمصلحة، لا بالنكر والعبث.




{ فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا }

وهي [أيضا] الملائكة التي يرسلها الله تعالى وصفها بالمبادرة لأمره،
وسرعة تنفيذ أوامره، كالريح العاصف، أو: أن العاصفات، الرياح الشديدة،
التي يسرع هبوبها.




{ وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا }

يحتمل أنها الملائكة ، تنشر ما دبرت على نشره، أو أنها السحاب التي ينشر
بها الله الأرض، فيحييها بعد موتها.




{ فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا }

هي الملائكه تلقي أشرف الأوامر، وهو الذكر الذي يرحم الله به عباده،
ويذكرهم فيه منافعهم ومصالحهم، تلقيه إلى الرسل.




{ عُذْرًا أَوْ نُذْرًا }

أي: إعذارا وإنذارا للناس، تنذر الناس ما أمامهم من المخاوف وتقطع
معذرتهم ، فلا يكون لهم حجة على الله.




{ إِنَّمَا تُوعَدُونَ }

من البعث والجزاء على الأعمال


{ لَوَاقِعٌ }

أي: متحتم وقوعه، من غير شك ولا ارتياب.




فإذا وقع حصل من التغير للعالم والأهوال الشديدة ما يزعج القلوب، وتشتد
له الكروب، فتنطمس النجوم أي: تتناثر وتزول عن أماكنها وتنسف الجبال،
فتكون كالهباء المنثور، وتكون هي والأرض قاعا صفصفا، لا ترى فيها عوجا
ولا أمتا، وذلك اليوم هو اليوم الذي أقتت فيه الرسل، وأجلت للحكم بينها
وبين أممها، ولهذا قال:




{ لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ }

استفهام للتعظيم والتفخيم والتهويل.




ثم أجاب بقوله:


{ لِيَوْمِ الْفَصْلِ }

[أي:] بين الخلائق، بعضهم لبعض، وحساب كل منهم منفردا، ثم توعد المكذب
بهذا اليوم فقال:


{ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ }

أي: يا حسرتهم، وشدة عذابهم، وسوء منقلبهم، أخبرهم الله، وأقسم لهم، فلم
يصدقوه، فاستحقوا العقوبة البليغة.







{ 16 - 19 } { أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ * ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ
الْآخِرِينَ * كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ
لِلْمُكَذِّبِينَ }




أي: أما أهلكنا المكذبين السابقين، ثم نتبعهم بإهلاك من كذب من الآخرين،
وهذه سنته السابقة واللاحقة في كل مجرم لا بد من عذابه ، فلم لا تعتبرون
بما ترون وتسمعون؟




{ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ }

بعدما شاهدوا من الآيات البينات، والعقوبات والمثلات.




{ 20 -24 } { أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ * فَجَعَلْنَاهُ
فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ * فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ
الْقَادِرُونَ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ }




أي: أما خلقناكم أيها الآدميون


{ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ }

أي: في غاية الحقارة، خرج من بين الصلب والترائب، حتى جعله الله


{ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ }

وهو الرحم، به يستقر وينمو.




{ إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ }

ووقت مقدر.




{ فَقَدَرْنَا }

أي: قدرنا ودبرنا ذلك الجنين، في تلك الظلمات، ونقلناه من النطفة إلى
العلقة، إلى المضغة، إلى أن جعله الله جسدا، ثم نفخ فيه الروح، ومنهم من
يموت قبل ذلك.




{ فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ }

[يعني بذلك نفسه المقدسة] حيث كان قدرا تابعا للحكمة، موافق للحمد .




{ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ }

بعدما بين الله لهم الآيات، وأراهم العبر والبينات.







{ 25 - 28 } { أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا * أَحْيَاءً


وَأَمْوَاتًا
* وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً
فُرَاتًا * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ }




أي: أما امتننا عليكم وأنعمنا، بتسخير الأرض لمصالحكم، فجعلناها


{ كِفَاتًا }

لكم.




{ أَحْيَاءً }

في الدور،


{ وَأَمْوَاتًا }

في القبور، فكما أن الدور والقصور من نعم الله على عباده ومنته، فكذلك
القبور، رحمة في حقهم، وسترا لهم، عن كون أجسادهم بادية للسباع وغيرها.




{ وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ }

أي: جبالا ترسي الأرض، لئلا تميد بأهلها، فثبتها الله بالجبال الراسيات
الشامخات أي: الطوال العراض،


{ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا }

أي: عذبا زلالا، قال تعالى:


{ أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ أَأَنْتُمْ
أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ لَوْ نَشَاءُ
جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ }





{ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ }

مع ما أراهم الله من النعم التي انفرد الله بها، واختصهم بها، فقابلوها
بالتكذيب.




{ 29 - 34 } { انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ *
انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ * لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي
مِنَ اللَّهَبِ * إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ * كَأَنَّهُ
جِمَالَةٌ صُفْرٌ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ }




هذا من الويل الذي أعد [للمجرمين] للمكذبين، أن يقال لهم يوم القيامة:


{ انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ }

ثم فسر ذلك بقوله:


{ انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ }

أي: إلى ظل نار جهنم، التي تتمايز في خلاله ثلاث شعب أي: قطع من النار
أي: تتعاوره وتتناوبه وتجتمع به.




{ لَا ظَلِيلٍ }

ذلك الظل أي: لا راحة فيه ولا طمأنينة،


{ وَلَا يُغْنِي }

من مكث فيه


{ مِنَ اللَّهَبِ }

بل اللهب قد أحاط به، يمنة ويسرة ومن كل جانب، كما قال تعالى:


{ لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ
}





{ لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش وكذلك نجزي الظالمين }





ثم ذكر عظم شرر النار، الدال على عظمها وفظاعتها وسوء منظرها، فقال:




{ إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ }

وهي السود التي تضرب إلى لون فيه صفرة، وهذا يدل على أن النار مظلمة،
لهبها وجمرها وشررها، وأنها سوداء، كريهة المرأى ، شديدة الحرارة، نسأل
الله العافية منها [من الأعمال المقربة منها].




{ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ }





{ 35 - 40 } { هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ * وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ
فَيَعْتَذِرُونَ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ * هَذَا يَوْمُ
الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ * فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ
فَكِيدُونِ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ }




أي: هذا اليوم العظيم الشديد على المكذبين، لا ينطقون فيه من الخوف
والوجل الشديد،


{ وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ }

أي: لا تقبل معذرتهم، ولو اعتذروا:


{ فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا
هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ }





{ هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ }

لنفصل بينكم، ونحكم بين الخلائق،


{ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ }

تقدرون على الخروج من ملكي وتنجون به من عذابي،


{ فَكِيدُونِ }

أي: ليس لكم قدرة ولا سلطان، كما قال تعالى:


{ يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا
مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ
إِلَّا بِسُلْطَانٍ }





ففي ذلك اليوم، تبطل حيل الظالمين، ويضمحل مكرهم وكيدهم، ويستسلمون لعذاب
الله، ويبين لهم كذبهم في تكذيبهم


{ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ }








{ 41 - 45 } { إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ * وَفَوَاكِهَ
مِمَّا يَشْتَهُونَ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ
تَعْمَلُونَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَيْلٌ
يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ }




لما ذكر عقوبة المكذبين، ذكر ثواب المحسنين، فقال:


{ إِنَّ الْمُتَّقِينَ }

[أي:] للتكذيب، المتصفين بالتصديق في أقوالهم وأفعالهم وأعمالهم، ولا
يكونون كذلك إلا بأدائهم الواجبات، وتركهم المحرمات.




{ فِي ظِلَالٍ }

من كثرة الأشجار المتنوعة، الزاهية البهية.


{ وَعُيُونٍ }

جارية من السلسبيل، والرحيق وغيرهما،


{ وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ }

أي: من خيار الفواكه وطيبها، ويقال لهم:


{ كُلُوا وَاشْرَبُوا }

من المآكل الشهية، والأشربة اللذيذة


{ هَنِيئًا }

أي: من غير منغص ولا مكدر، ولا يتم هناؤه حتى يسلم الطعام والشراب من كل
آفة ونقص، وحتى يجزموا أنه غير منقطع ولا زائل،


{ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ }

فأعمالكم هي السبب الموصل لكم إلى هذا النعيم المقيم، وهكذا كل من أحسن
في عبادة الله وأحسن إلى عباد الله، ولهذا قال:


{ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ
لِلْمُكَذِّبِينَ }

ولو لم يكن لهم من هذا الويل إلا فوات هذا النعيم، لكفى به حرمانا
وخسرانا .







{ 46 - 50 } { كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ *
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا
لَا يَرْكَعُونَ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ * فَبِأَيِّ
حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ }




هذا تهديد ووعيد للمكذبين، أنهم وإن أكلوا في الدنيا وشربوا وتمتعوا
باللذات، وغفلوا عن القربات، فإنهم مجرمون، يستحقون ما يستحقه المجرمون،
فستنقطع عنهم اللذات، وتبقى عليهم التبعات، ومن إجرامهم أنهم إذا أمروا
بالصلاة التي هي أشرف العبادات، وقيل لهم:


{ ارْكَعُوا }

امتنعوا من ذلك.




فأي إجرام فوق هذا؟ وأي تكذيب يزيد على هذا؟"




{ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ }

ومن الويل عليهم أنهم تنسد عليهم أبواب التوفيق، ويحرمون كل خير، فإنهم
إذا كذبوا هذا القرآن الكريم، الذي هو أعلى مراتب الصدق واليقين على
الإطلاق.




{ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ }

أبالباطل الذي هو كاسمه، لا يقوم عليه شبهة فضلا عن الدليل؟ أم بكلام كل
مشرك كذاب أفاك مبين؟.




فليس بعد النور المبين إلا دياجى الظلمات، ولا بعد الصدق الذي قامت
الأدلة والبراهين على صدقه إلا الكذب الصراح والإفك المبين ، الذي لا
يليق إلا بمن يناسبه.




فتبا لهم ما أعماهم! وويحا لهم ما أخسرهم وأشقاهم!




نسأل الله العفو والعافية [إنه جواد كريم. تمت].


descriptionتفسيرالقران - صفحة 2 Emptyرد: تفسيرالقران

more_horiz
-
تفسير
سورة
الإنسان

عدد آياتها
31

(



آية



1-
31 )
وهي مكية






{ 1 - 3 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هَلْ أَتَى عَلَى
الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا *
إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ
فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا * إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا
شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا }




ذكر الله في هذه السورة الكريمة أول حالة الإنسان ومبتدأها ومتوسطها
ومنتهاها.




فذكر أنه مر عليه دهر طويل وهو الذي قبل وجوده، وهو معدوم بل ليس مذكورا.




ثم لما أراد الله تعالى خلقه، خلق [أباه] آدم من طين، ثم جعل نسله
متسلسلا


{ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ }

أي: ماء مهين مستقذر


{ نَبْتَلِيهِ }

بذلك لنعلم هل يرى حاله الأولى ويتفطن لها أم ينساها وتغره نفسه؟




فأنشأه الله، وخلق له القوى الباطنة والظاهرة، كالسمع والبصر، وسائر
الأعضاء، فأتمها له وجعلها سالمة يتمكن بها من تحصيل مقاصده.




ثم أرسل إليه الرسل، وأنزل عليه الكتب، وهداه الطريق الموصلة إلى الله ،
ورغبه فيها، وأخبره بما له عند الوصول إلى الله.




ثم أخبره بالطريق الموصلة إلى الهلاك، ورهبه منها، وأخبره بما له إذا
سلكها، وابتلاه بذلك، فانقسم الناس إلى شاكر لنعمة الله عليه، قائم بما
حمله الله من حقوقه، وإلى كفور لنعمة الله عليه، أنعم الله عليه بالنعم
الدينية والدنيوية، فردها، وكفر بربه، وسلك الطريق الموصلة إلى الهلاك.




ثم ذكر تعالى حال الفريقين عند الجزاء فقال:



{ 4 - 22 } { إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَا وَأَغْلَالًا
وَسَعِيرًا * إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ
مِزَاجُهَا كَافُورًا }




إلى آخر الثواب أي: إنا هيأنا وأرصدنا لمن كفر بالله، وكذب رسله، وتجرأ
على المعاصي


{ سَلَاسِلَ }

في نار جهنم، كما قال تعالى:


{ ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ }
.




{ وَأَغْلَالًا }

تغل بها أيديهم إلى أعناقهم ويوثقون بها.




{ وَسَعِيرًا }

أي: نارا تستعر بها أجسامهم وتحرق بها أبدانهم،


{ كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا
لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ }

وهذا العذاب دائم لهم أبدا، مخلدون فيه سرمدا.




وأما


{ الْأَبْرَارِ }

وهم الذين برت قلوبهم بما فيها من محبة الله ومعرفته، والأخلاق الجميلة،
فبرت جوارحهم ، واستعملوها بأعمال البر أخبر أنهم


{ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ }

أي: شراب لذيذ من خمر قد مزج بكافور أي: خلط به ليبرده ويكسر حدته، وهذا
الكافور [في غاية اللذة] قد سلم من كل مكدر ومنغص، موجود في كافور
الدنيا، فإن الآفة الموجودة في الأسماء التي ذكر الله أنها في الجنة وهي
في الدنيا تعدم في الآخرة .




كما قال تعالى:


{ فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ }



{ وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ }



{ لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ }



{ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ }
.




{ عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ }

أي: ذلك الكأس اللذيذ الذي يشربون به، لا يخافون نفاده، بل له مادة لا
تنقطع، وهي عين دائمة الفيضان والجريان، يفجرها عباد الله تفجيرا، أنى
شاءوا، وكيف أرادوا، فإن شاءوا صرفوها إلى البساتين الزاهرات، أو إلى
الرياض الناضرات، أو بين جوانب القصور والمساكن المزخرفات، أو إلى أي:
جهة يرونها من الجهات المونقات.




وقد ذكر جملة من أعمالهم في أول هذه السورة، فقال:


{ يُوفُونَ بِالنَّذْرِ }

أي: بما ألزموا به أنفسهم لله من النذور والمعاهدات، وإذا كانوا يوفون
بالنذر، وهو لم يجب عليهم، إلا بإيجابهم على أنفسهم، كان فعلهم وقيامهم
بالفروض الأصلية، من باب أولى وأحرى،


{ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا }

أي: منتشرا فاشيا، فخافوا أن ينالهم شره، فتركوا كل سبب موجب لذلك،


{ وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ }

أي: وهم في حال يحبون فيها المال والطعام، لكنهم قدموا محبة الله على
محبة نفوسهم، ويتحرون في إطعامهم أولى الناس وأحوجهم


{ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا }

.




ويقصدون بإنفاقهم وإطعامهم وجه الله تعالى، ويقولون بلسان الحال:


{ إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً
وَلَا شُكُورًا }

أي: لا جزاء ماليا ولا ثناء قوليا.




{ إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا }

أي: شديد الجهمة والشر


{ قَمْطَرِيرًا }

أي: ضنكا ضيقا،


{ فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ }

فلا يحزنهم الفزع الأكبر، وتتلقاهم الملائكة [هذا يومكم الذي كنتم
توعدون].




{ وَلَقَّاهُمْ }

أي: أكرمهم وأعطاهم


{ نَضْرَةً }

في وجوههم


{ وَسُرُورًا }

في قلوبهم، فجمع لهم بين نعيم الظاهر والباطن


{ وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا }

على طاعة الله، فعملوا ما أمكنهم منها، وعن معاصي الله، فتركوها، وعلى
أقدار الله المؤلمة، فلم يتسخطوها،


{ جَنَّةً }

جامعة لكل نعيم، سالمة من كل مكدر ومنغص،


{ وَحَرِيرًا }

كما قال [تعالى:]


{ وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ }

ولعل الله إنما خص الحرير، لأنه لباسهم الظاهر، الدال على حال صاحبه.




{ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ }

الاتكاء: التمكن من الجلوس، في حال الرفاهية والطمأنينة [الراحة]،
والأرائك هي السرر التي عليها اللباس المزين،


{ لَا يَرَوْنَ فِيهَا }

أي: في الجنة


{ شَمْسًا }

يضرهم حرها


{ وَلَا زَمْهَرِيرًا }

أي: بردا شديدا، بل جميع أوقاتهم في ظل ظليل، لا حر ولا برد، بحيث تلتذ
به الأجساد، ولا تتألم من حر ولا برد.




{ وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا
}

أي: قربت ثمراتها من مريدها تقريبا ينالها، وهو قائم، أو قاعد، أو مضطجع.




ويطاف على أهل الجنة أي: يدور [عليهم] الخدم والولدان


{ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا }



{ قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ }

أي: مادتها من فضة، [وهي] على صفاء القوارير، وهذا من أعجب الأشياء، أن
تكون الفضة الكثيفة من صفاء جوهرها وطيب معدنها على صفاء القوارير.




{ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا }

أي: قدروا الأواني المذكورة على قدر ريهم، لا تزيد ولا تنقص، لأنها لو
زادت نقصت لذتها، ولو نقصت لم تف بريهم . ويحتمل أن المراد: قدرها أهل
الجنة بنفوسهم بمقدار يوافق لذاتهم، فأتتهم على ما قدروا في خواطرهم.




{ وَيُسْقَوْنَ فِيهَا }

أي: في الجنة من كأس، وهو الإناء المملوء من خمر ورحيق،


{ كَانَ مِزَاجُهَا }

أي: خلطها


{ زَنْجَبِيلًا }

ليطيب طعمه وريحه.




{ عَيْنًا فِيهَا }

أي: في الجنة،


{ تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا }

سميت بذلك لسلاستها ولذتها وحسنها.




{ وَيَطُوفُ }

على أهل الجنة، في طعامهم وشرابهم وخدمتهم.




{ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ }

أي: خلقوا من الجنة للبقاء، لا يتغيرون ولا يكبرون، وهم في غاية الحسن،


{ إِذَا رَأَيْتَهُمْ }

منتشرين في خدمتهم


{ حَسِبْتَهُمْ }

من حسنهم


{ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا }

وهذا من تمام لذة أهل الجنة، أن يكون خدامهم الولدان المخلدون، الذين تسر
رؤيتهم، ويدخلون على مساكنهم، آمنين من تبعتهم، ويأتونهم بما يدعون
وتطلبه نفوسهم،


{ وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ }

أي: هناك في الجنة، ورمقت ما هم فيه من النعيم


{ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا }

فتجد الواحد منهم، عنده من القصور والمساكن والغرف المزينة المزخرفة، ما
لا يدركه الوصف، ولديه من البساتين الزاهرة، والثمار الدانية، والفواكه
اللذيذة، والأنهار الجارية، والرياض المعجبة، والطيور المطربة [المشجية]
ما يأخذ بالقلوب، ويفرح النفوس.




وعنده من الزوجات. اللاتي هن في غاية الحسن والإحسان، الجامعات لجمال
الظاهر والباطن، الخيرات الحسان، ما يملأ القلب سرورا، ولذة وحبورا،
وحوله من الولدان المخلدين، والخدم المؤبدين، ما به تحصل الراحة
والطمأنينة، وتتم لذة العيش، وتكمل الغبطة.




ثم علاوة ذلك وأعظمه الفوز برؤية الرب الرحيم، وسماع خطابه، ولذة قربه،
والابتهاج برضاه، والخلود الدائم، وتزايد ما هم فيه من النعيم كل وقت
وحين، فسبحان الملك المالك، الحق المبين، الذي لا تنفد خزائنه، ولا يقل
خيره، فكما لا نهاية لأوصافه فلا نهاية لبره وإحسانه.




{ عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ }

أي: قد جللتهم ثياب السندس والإستبرق الأخضران، اللذان هما أجل أنواع
الحرير، فالسندس: ما غلظ من الديباج والإستبرق: ما رق منه.


{ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ }

أي: حلوا في أيديهم أساور الفضة، ذكورهم وإناثهم، وهذا وعد وعدهم الله،
وكان وعده مفعولا، لأنه لا أصدق منه قيلا ولا حديثا.




وقوله:


{ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا }

أي: لا كدر فيه بوجه من الوجوه، مطهرا لما في بطونهم من كل أذى وقذى.




{ إِنَّ هَذَا }

الجزاء الجزيل والعطاء الجميل


{ كَانَ لَكُمْ جَزَاءً }

على ما أسلفتموه من الأعمال،


{ وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا }

أي: القليل منه، يجعل الله لكم به من النعيم المقيم ما لا يمكن حصره.




وقوله تعالى لما ذكر نعيم الجنة


{ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا }

فيه الوعد والوعيد وبيان كل ما يحتاجه العباد، وفيه الأمر بالقيام
بأوامره وشرائعه أتم القيام، والسعي في تنفيذها، والصبر على ذلك. ولهذا
قال:


{ فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ
كَفُورًا }

أي: اصبر لحكمه القدري، فلا تسخطه، ولحكمه الديني، فامض عليه، ولا يعوقك
عنه عائق.


{ وَلَا تُطِعْ }

من المعاندين، الذين يريدون أن يصدوك


{ آثِمًا }

أي: فاعلا إثما ومعصية ولا


{ كَفُورًا }

فإن طاعة الكفار والفجار والفساق، لا بد أن تكون في المعاصي، فلا يأمرون
إلا بما تهواه أنفسهم. ولما كان الصبر يساعده القيام بعبادة الله ،
والإكثار من ذكره أمره الله بذلك فقال:


{ وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا }

أي: أول النهار وآخره، فدخل في ذلك، الصلوات المكتوبات وما يتبعها من
النوافل، والذكر، والتسبيح، والتهليل، والتكبير في هذه الأوقات.







{ وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ }

أي: أكثر [له] من السجود، ولا يكون ذلك إلا بالإكثار من الصلاة .


{ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا }

وقد تقدم تقييد هذا المطلق بقوله:


{ يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا }

الآية [وقوله]


{ إِنَّ هَؤُلَاءِ }

أي: المكذبين لك أيها الرسول بعد ما بينت لهم الآيات، ورغبوا ورهبوا، ومع
ذلك، لم يفد فيهم ذلك شيئا، بل لا يزالون يؤثرون،


{ الْعَاجِلَةَ }

ويطمئنون إليها،


{ وَيَذَرُونَ }

أي: يتركون العمل ويهملون


{ وَرَاءَهُمْ }

أي: أمامهم


{ يَوْمًا ثَقِيلًا }

وهو يوم القيامة، الذي مقداره خمسون ألف سنة مما تعدون، وقال تعالى:


{ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ }

فكأنهم ما خلقوا إلا للدنيا والإقامة فيها.




{ 28 }


ثم استدل عليهم وعلى بعثهم بدليل عقلي، وهو دليل الابتداء، فقال:


{ نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ }

أي: أوجدناهم من العدم،


{ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ }

أي: أحكمنا خلقتهم بالأعصاب، والعروق، والأوتار، والقوى الظاهرة
والباطنة، حتى تم الجسم واستكمل، وتمكن من كل ما يريده، فالذي أوجدهم على
هذه الحالة، قادر على أن يعيدهم بعد موتهم لجزائهم، والذي نقلهم في هذه
الدار إلى هذه الأطوار، لا يليق به أن يتركهم سدى، لا يؤمرون، ولا ينهون،
ولا يثابون، ولا يعاقبون، ولهذا قال:


{ بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا }

أي: أنشأناكم للبعث نشأة أخرى، وأعدناكم بأعيانكم، وهم بأنفسهم أمثالهم.


{ إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ }

أي: يتذكر بها المؤمن، فينتفع بما فيها من التخويف والترغيب.


{ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا }

أي: طريقا موصلا إليه، فالله يبين الحق والهدى، ثم يخير الناس بين
الاهتداء بها أو النفور عنها، مع قيام الحجة عليهم ،


{ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ }

فإن مشيئة الله نافذة،


{ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا }

فله الحكمة في هداية المهتدي، وإضلال الضال.


{ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ }

فيختصه بعنايته، ويوفقه لأسباب السعادة ويهديه لطرقها.


{ وَالظَّالِمِينَ }

الذين اختاروا الشقاء على الهدى


{ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا }

[بظلمهم وعدوانهم]. تم تفسير سورة الإنسان - ولله الحمد والمنة


descriptionتفسيرالقران - صفحة 2 Emptyرد: تفسيرالقران

more_horiz
-
تفسير
سورة
القيامة
عدد آياتها
40

(



آية


1-40 )
وهي مكية






{ 1 - 6 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ لَا أُقْسِمُ
بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ *
أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ * بَلَى قَادِرِينَ
عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ * بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ
أَمَامَهُ * يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ }




ليست


{ لا }

[ها] هنا نافية، [ولا زائدة] وإنما أتي بها للاستفتاح والاهتمام بما
بعدها، ولكثرة الإتيان بها مع اليمين، لا يستغرب الاستفتاح بها، وإن لم
تكن في الأصل موضوعة للاستفتاح.




فالمقسم به في هذا الموضع، هو المقسم عليه، وهو البعث بعد الموت، وقيام
الناس من قبورهم، ثم وقوفهم ينتظرون ما يحكم به الرب عليهم.




{ وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ }

وهي جميع النفوس الخيرة والفاجرة، سميت


{ لوامة }

لكثرة ترددها وتلومها وعدم ثبوتها على حالة من أحوالها، ولأنها عند الموت
تلوم صاحبها على ما عملت ، بل نفس المؤمن تلوم صاحبها في الدنيا على ما
حصل منه، من تفريط أو تقصير في حق من الحقوق، أو غفلة، فجمع بين الإقسام
بالجزاء، وعلى الجزاء، وبين مستحق الجزاء.




ثم أخبر مع هذا، أن بعض المعاندين يكذب بيوم القيامة، فقال:


{ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أن لَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ }

بعد الموت، كما قال في الآية الأخرى:


{ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ }

؟ فاستبعد من جهله وعدوانه قدرة الله على خلق عظامه التي هي عماد البدن،
فرد عليه بقوله:


{ بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ }

أي: أطراف أصابعه وعظامه، المستلزم ذلك لخلق جميع أجزاء البدن، لأنها إذا
وجدت الأنامل والبنان، فقد تمت خلقة الجسد، وليس إنكاره لقدرة الله تعالى
قصورا بالدليل الدال على ذلك، وإنما [وقع] ذلك منه أن قصده وإرادته أن
يكذب بما أمامه من البعث. والفجور: الكذب مع التعمد.




ثم ذكر أحوال القيامة فقال:







{ 7 - 15 } { فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ * وَخَسَفَ الْقَمَرُ * وَجُمِعَ
الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ * يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ
الْمَفَرُّ * كَلَّا لَا وَزَرَ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ
الْمُسْتَقَرُّ * يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ
وَأَخَّرَ * بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ
أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ }




أي: إذا كانت القيامة برقت الأبصار من الهول العظيم، وشخصت فلا تطرف كما
قال تعالى:


{ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ
مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ
وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ }





{ وَخَسَفَ الْقَمَرُ }

أي: ذهب نوره وسلطانه،


{ وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ }

وهما لم يجتمعا منذ خلقهما الله تعالى، فيجمع الله بينهما يوم القيامة،
ويخسف القمر، وتكور الشمس، ثم يقذفان في النار، ليرى العباد أنهما عبدان
مسخران، وليرى من عبدهما أنهم كانوا كاذبين.




{ يَقُولُ الْإِنْسَانُ }

حين يرى تلك القلاقل المزعجات:


{ أَيْنَ الْمَفَرُّ }

أي: أين الخلاص والفكاك مما طرقنا وأصابنا ?




{ كَلَّا لَا وَزَرَ }

أي: لا ملجأ لأحد دون الله،


{ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ }

لسائر العباد فليس في إمكان أحد أن يستتر أو يهرب عن ذلك الموضع، بل لا
بد من إيقافه ليجزى بعمله، ولهذا قال:


{ يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ }

أي: بجميع عمله الحسن والسيء، في أول وقته وآخره، وينبأ بخبر لا ينكره.




{ بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ }

أي: شاهد ومحاسب،


{ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ }

فإنها معاذير لا تقبل، ولا تقابل ما يقرر به العبد ، فيقر به، كما قال
تعالى:


{ اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا }

.




فالعبد وإن أنكر، أو اعتذر عما عمله، فإنكاره واعتذاره لا يفيدانه شيئا،
لأنه يشهد عليه سمعه وبصره، وجميع جوارحه بما كان يعمل، ولأن استعتابه قد
ذهب وقته وزال نفعه:


{ فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا
هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ }





{ 16 - 19 } { لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ
عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ
قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ }




كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا جاءه جبريل بالوحي، وشرع في تلاوته
عليه، بادره النبي صلى الله عليه وسلم من الحرص قبل أن يفرغ، وتلاه مع
تلاوة جبريل إياه، فنهاه الله عن هذا، وقال:


{ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ
وَحْيُهُ }





وقال هنا:


{ لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ }

ثم ضمن له تعالى أنه لا بد أن يحفظه ويقرأه، ويجمعه الله في صدره، فقال:


{ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ }

فالحرص الذي في خاطرك، إنما الداعي له حذر الفوات والنسيان، فإذا ضمنه
الله لك فلا موجب لذلك.




{ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ }

أي: إذا كمل جبريل قراءة ما أوحى الله إليك، فحينئذ اتبع ما قرأه
وأقرأه.




{ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ }

أي: بيان معانيه، فوعده بحفظ لفظه وحفظ معانيه، وهذا أعلى ما يكون،
فامتثل صلى الله عليه وسلم لأدب ربه، فكان إذا تلا عليه جبريل القرآن بعد
هذا، أنصت له، فإذا فرغ قرأه.




وفي هذه الآية أدب لأخذ العلم، أن لا يبادر المتعلم المعلم قبل أن يفرغ
من المسألة التي شرع فيها، فإذا فرغ منها سأله عما أشكل عليه، وكذلك إذا
كان في أول الكلام ما يوجب الرد أو الاستحسان، أن لا يبادر برده أو
قبوله، حتى يفرغ من ذلك الكلام، ليتبين ما فيه من حق أو باطل، وليفهمه
فهما يتمكن به من الكلام عليه، وفيها: أن النبي صلى الله عليه وسلم كما
بين للأمة ألفاظ الوحي، فإنه قد بين لهم معانيه.




{ 20 - 25 } { كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ * وَتَذَرُونَ
الْآخِرَةَ * وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ *
وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ * تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ
}




أي: هذا الذي أوجب لكم الغفلة والإعراض عن وعظ الله وتذكيره أنكم


{ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ }

وتسعون فيما يحصلها، وفي لذاتها وشهواتها، وتؤثرونها على الآخرة، فتذرون
العمل لها، لأن الدنيا نعيمها ولذاتها عاجلة، والإنسان مولع بحب العاجل،
والآخرة متأخر ما فيها من النعيم المقيم، فلذلك غفلتم عنها وتركتموها،
كأنكم لم تخلقوا لها، وكأن هذه الدار هي دار القرار، التي تبذل فيها
نفائس الأعمار، ويسعى لها آناء الليل والنهار، وبهذا انقلبت عليكم
الحقيقة، وحصل من الخسار ما حصل. فلو آثرتم الآخرة على الدنيا، ونظرتم
للعواقب نظر البصير العاقل لأنجحتم، وربحتم ربحا لا خسار معه، وفزتم فوزا
لا شقاء يصحبه.




ثم ذكر ما يدعو إلى إيثار الآخرة، ببيان حال أهلها وتفاوتهم فيها، فقال
في جزاء المؤثرين للآخرة على الدنيا:


{ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ }

أي: حسنة بهية، لها رونق ونور، مما هم فيه من نعيم القلوب، وبهجة النفوس،
ولذة الأرواح،


{ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ }

أي: تنظر إلى ربها على حسب مراتبهم: منهم من ينظره كل يوم بكرة وعشيا،
ومنهم من ينظره كل جمعة مرة واحدة، فيتمتعون بالنظر إلى وجهه الكريم،
وجماله الباهر، الذي ليس كمثله شيء، فإذا رأوه نسوا ما هم فيه من النعيم
وحصل لهم من اللذة والسرور ما لا يمكن التعبير عنه، ونضرت وجوههم
فازدادوا جمالا إلى جمالهم، فنسأل الله الكريم أن يجعلنا معهم.




وقال في المؤثرين العاجلة على الآجلة:


{ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ }

أي: معبسة ومكدرة ، خاشعة ذليلة.


{ تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ }

أي: عقوبة شديدة، وعذاب أليم، فلذلك تغيرت وجوههم وعبست.







{ 26 - 40 } { كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ
* وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ *
إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ * فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى *
وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى * ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى *
أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى * ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى * أَيَحْسَبُ
الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ
يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ مِنْهُ
الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى * أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى
أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى }




يعظ تعالى عباده بذكر حال المحتضر عند السياق ، وأنه إذا بلغت روحه
التراقي، وهي العظام المكتنفة لثغرة النحر، فحينئذ يشتد الكرب، ويطلب كل
وسيلة وسبب، يظن أن يحصل به الشفاء والراحة، ولهذا قال:


{ وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ }

أي: من يرقيه من الرقية لأنهم انقطعت آمالهم من الأسباب العادية، فلم يبق
إلا الأسباب الإلهية . ولكن القضاء والقدر، إذا حتم وجاء فلا مرد له،


{ وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ }

للدنيا.


{ وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ }

أي: اجتمعت الشدائد والتفت، وعظم الأمر وصعب الكرب، وأريد أن تخرج الروح
التي ألفت البدن ولم تزل معه، فتساق إلى الله تعالى، حتى يجازيها
بأعمالها، ويقررها بفعالها.




فهذا الزجر، [الذي ذكره الله] يسوق القلوب إلى ما فيه نجاتها، ويزجرها
عما فيه هلاكها. ولكن المعاند الذي لا تنفع فيه الآيات، لا يزال مستمرا
على بغيه وكفره وعناده.




{ فَلَا صَدَّقَ }

أي: لا آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره


{ وَلَا صَلَّى وَلَكِنْ كَذَّبَ }

بالحق في مقابلة التصديق،


{ وَتَوَلَّى }

عن الأمر والنهي، هذا وهو مطمئن قلبه، غير خائف من ربه، بل يذهب


{ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى }

أي: ليس على باله شيء، توعده بقوله:


{ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى }

وهذه كلمات وعيد، كررها لتكرير وعيده، ثم ذكر الإنسان بخلقه الأول، فقال:


{ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى }

أي: معطلا ، لا يؤمر ولا ينهى، ولا يثاب ولا يعاقب؟ هذا حسبان باطل وظن
بالله بغير ما يليق بحكمته.




{ أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى ثُمَّ كَانَ }

بعد المني


{ عَلَقَةً }

أي: دما،


{ فَخَلَقَ }

الله منها الحيوان وسواه أي: أتقنه وأحكمه،


{ فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى أَلَيْسَ ذَلِكَ
}

الذي خلق الإنسان [وطوره إلى] هذه الأطوار المختلفة


{ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى }

بلى إنه على كل شيء قدير. تم تفسير سورة القيامة، ولله الحمد والمنة،
وذلك في 16 صفر سنة 1344




المجلد التاسع من تيسير الكريم الرحمن في تفسير القرآن لجامعه الفقير إلى
الله: عبد الرحمن بن ناصر بن عبد الله السعدي غفر الله له ولوالديه
وللمسلمين آمين
.

descriptionتفسيرالقران - صفحة 2 Emptyرد: تفسيرالقران

more_horiz
-
تفسير
سورة
المدثر
عدد آياتها
56

(



آية



1-
56 )
وهي مكية






{ 1 - 7 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يَا أَيُّهَا
الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ
فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ * وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ *
وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ }




تقدم أن المزمل والمدثر بمعنى واحد، وأن الله أمر رسوله صلى الله عليه
وسلم، بالاجتهاد في عبادة الله القاصرة والمتعدية، فتقدم هناك الأمر له
بالعبادات الفاضلة القاصرة، والصبر على أذى قومه، وأمره هنا بإعلان
الدعوة ، والصدع بالإنذار، فقال:


{ قُمِ }

[أي] بجد ونشاط


{ فَأَنْذِرْ }

الناس بالأقوال والأفعال، التي يحصل بها المقصود، وبيان حال المنذر عنه،
ليكون ذلك أدعى لتركه،


{ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ }

أي: عظمه بالتوحيد، واجعل قصدك في إنذارك وجه الله، وأن يعظمه العباد
ويقوموا بعبادته.




{ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ }

يحتمل أن المراد بثيابه، أعماله كلها، وبتطهيرها تخليصها والنصح بها،
وإيقاعها على أكمل الوجوه، وتنقيتها عن المبطلات والمفسدات، والمنقصات من
شر ورياء، [ونفاق]، وعجب، وتكبر، وغفلة، وغير ذلك، مما يؤمر العبد
باجتنابه في عباداته.




ويدخل في ذلك تطهير الثياب من النجاسة، فإن ذلك من تمام التطهير للأعمال
خصوصا في الصلاة، التي قال كثير من العلماء: إن إزالة النجاسة عنها شرط
من شروط الصلاة.




ويحتمل أن المراد بثيابه، الثياب المعروفة، وأنه مأمور بتطهيرها عن
[جميع] النجاسات، في جميع الأوقات، خصوصا في الدخول في الصلوات، وإذا كان
مأمورا بتطهير الظاهر، فإن طهارة الظاهر من تمام طهارة الباطن.




{ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ }

يحتمل أن المراد بالرجز الأصنام والأوثان، التي عبدت مع الله، فأمره
بتركها، والبراءة منها ومما نسب إليها من قول أو عمل. ويحتمل أن المراد
بالرجز أعمال الشر كلها وأقواله، فيكون أمرا له بترك الذنوب، صغيرها
وكبيرها ، ظاهرها وباطنها، فيدخل في ذلك الشرك وما دونه.




{ وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ }

أي: لا تمنن على الناس بما أسديت إليهم من النعم الدينية والدنيوية،
فتتكثر بتلك المنة، وترى لك [الفضل] عليهم بإحسانك المنة، بل أحسن إلى
الناس مهما أمكنك، وانس [عندهم] إحسانك، ولا تطلب أجره إلا من الله تعالى
واجعل من أحسنت إليه وغيره على حد سواء.




وقد قيل: إن معنى هذا، لا تعط أحدا شيئا، وأنت تريد أن يكافئك عليه بأكثر
منه، فيكون هذا خاصا بالنبي صلى الله عليه وسلم.




{ وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ }

أي: احتسب بصبرك، واقصد به وجه الله تعالى، فامتثل رسول الله صلى الله
عليه وسلم لأمر ربه، وبادر إليه، فأنذر الناس، وأوضح لهم بالآيات البينات
جميع المطالب الإلهية، وعظم الله تعالى، ودعا الخلق إلى تعظيمه، وطهر
أعماله الظاهرة والباطنة من كل سوء، وهجر كل ما يبعد عن الله من الأصنام
وأهلها، والشر وأهله، وله المنة على الناس -بعد منة الله- من غير أن يطلب
منهم على ذلك جزاء ولا شكورا، وصبر لله أكمل صبر، فصبر على طاعة الله،
وعن معاصي الله، وعلى أقدار الله المؤلمة ، حتى فاق أولي العزم من
المرسلين، صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين.







{ 8 - 10 } { فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ * فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ
يَوْمٌ عَسِيرٌ * عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ }




أي: فإذا نفخ في الصور للقيام من القبور، وجمع الخلق للبعث والنشور.




{ فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ }

لكثرة أهواله وشدائده.




{ عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ }

لأنهم قد أيسوا من كل خير، وأيقنوا بالهلاك والبوار. ومفهوم ذلك أنه على
المؤمنين يسير، كما قال تعالى:


{ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ }

.







{ 11 - 31 } { ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ
مَالًا مَمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا *
ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا
عَنِيدًا * سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا * إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ *
فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ *
ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ
هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ *
سَأُصْلِيهِ سَقَرَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ * لَا تُبْقِي وَلَا
تَذَرُ * لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ * عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ * وَمَا
جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا
عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا
وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ
وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا
أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ
وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ
وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ }





هذه الآيات، نزلت في الوليد بن المغيرة، معاند الحق، والمبارز لله
ولرسوله بالمحاربة والمشاقة، فذمه الله ذما لم يذمه غيره، وهذا جزاء كل
من عاند الحق ونابذه، أن له الخزي في الدنيا، ولعذاب الآخرة أخزى، فقال:


{ ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا }

أي: خلقته منفردا، بلا مال ولا أهل، ولا غيره، فلم أزل أنميه وأربيه ،


{ وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا }

أي: كثيرا


{ و }

جعلت له


{ بنين }

أي: ذكورا


{ شُهُودًا }

أي: دائما حاضرين عنده، [على الدوام] يتمتع بهم، ويقضي بهم حوائجه،
ويستنصر بهم.




{ وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا }

أي: مكنته من الدنيا وأسبابها، حتى انقادت له مطالبه، وحصل على ما يشتهي
ويريد،


{ ثُمَّ }

مع هذه النعم والإمدادات


{ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ }

أي: يطمع أن ينال نعيم الآخرة كما نال نعيم الدنيا.




{ كَلَّا }

أي: ليس الأمر كما طمع، بل هو بخلاف مقصوده ومطلوبه، وذلك لأنه


{ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا }

أي: معاندا، عرفها ثم أنكرها، ودعته إلى الحق فلم ينقد لها ولم يكفه أنه
أعرض وتولى عنها، بل جعل يحاربها ويسعى في إبطالها، ولهذا قال عنه:




{ إِنَّهُ فَكَّرَ }

[أي:] في نفسه


{ وَقَدَّرَ }

ما فكر فيه، ليقول قولا يبطل به القرآن.




{ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ }

لأنه قدر أمرا ليس في طوره، وتسور على ما لا يناله هو و [لا] أمثاله،


{ ثُمَّ نَظَرَ }

ما يقول،


{ ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ }

في وجهه، وظاهره نفرة عن الحق وبغضا له،


{ ثُمَّ أَدْبَرَ }

أي: تولى


{ وَاسْتَكْبَرَ }

نتيجة سعيه الفكري والعملي والقولي أن قال:




{ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ
}

أي: ما هذا كلام الله، بل كلام البشر، وليس أيضا كلام البشر الأخيار، بل
كلام الفجار منهم والأشرار، من كل كاذب سحار.




فتبا له، ما أبعده من الصواب، وأحراه بالخسارة والتباب!!




كيف يدور في الأذهان، أو يتصوره ضمير كل إنسان، أن يكون أعلى الكلام
وأعظمه، كلام الرب العظيم، الماجد الكريم، يشبه كلام المخلوقين الفقراء
الناقصين؟!




أم كيف يتجرأ هذا الكاذب العنيد، على وصفه كلام المبدئ المعيد .




فما حقه إلا العذاب الشديد والنكال، ولهذا قال تعالى:




{ سَأُصْلِيهِ سَقَرَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ لَا تُبْقِي وَلَا
تَذَرُ }

أي: لا تبقي من الشدة، ولا على المعذب شيئا إلا وبلغته.




{ لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ }

أي: تلوحهم [وتصليهم] في عذابها، وتقلقهم بشدة حرها وقرها.




{ عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ }

من الملائكة، خزنة لها، غلاظ شداد، لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما
يؤمرون.




{ وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً }

وذلك لشدتهم وقوتهم.


{ وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا }

يحتمل أن المراد: إلا لعذابهم وعقابهم في الآخرة، ولزيادة نكالهم فيها،
والعذاب يسمى فتنة، [كما قال تعالى:


{ يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ }

] ويحتمل أن المراد: أنا ما أخبرناكم بعدتهم، إلا لنعلم من يصدق ومن
يكذب، ويدل على هذا ما ذكر بعده في قوله:


{ لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ
آمَنُوا إِيمَانًا }

فإن أهل الكتاب، إذا وافق ما عندهم وطابقه، ازداد يقينهم بالحق،
والمؤمنون كلما أنزل الله آية، فآمنوا بها وصدقوا، ازداد إيمانهم،


{ وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ }

أي: ليزول عنهم الريب والشك، وهذه مقاصد جليلة، يعتني بها أولو الألباب،
وهي السعي في اليقين، وزيادة الإيمان في كل وقت، وكل مسألة من مسائل
الدين، ودفع الشكوك والأوهام التي تعرض في مقابلة الحق، فجعل ما أنزله
الله على رسوله محصلا لهذه الفوائد الجليلة، ومميزا للكاذبين من
الصادقين، ولهذا قال:


{ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ }

أي: شك وشبهة ونفاق.


{ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا }

وهذا على وجه الحيرة والشك، والكفر منهم بآيات الله، وهذا وذاك من هداية
الله لمن يهديه، وإضلاله لمن يضل ولهذا قال:




{ كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ }

فمن هداه الله، جعل ما أنزله الله على رسوله رحمة في حقه، وزيادة في
إيمانه ودينه، ومن أضله، جعل ما أنزله على رسوله زيادة شقاء عليه وحيرة،
وظلمة في حقه، والواجب أن يتلقى ما أخبر الله به ورسوله بالتسليم، فإنه
لا يعلم جنود ربك من الملائكة وغيرهم


{ إلَّا هُوَ }

فإذا كنتم جاهلين بجنوده، وأخبركم بها العليم الخبير، فعليكم أن تصدقوا
خبره، من غير شك ولا ارتياب،


{ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ }

أي: وما هذه الموعظة والتذكار مقصودا به العبث واللعب، وإنما المقصود به
أن يتذكر [به] البشر ما ينفعهم فيفعلونه، وما يضرهم فيتركونه.







{ 32 - 56 } { كَلَّا وَالْقَمَرِ * وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ *
وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ * إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ * نَذِيرًا
لِلْبَشَرِ * لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ *
كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ *
فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي
سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ
الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا
نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ * فَمَا
تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ * فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ
مُعْرِضِينَ * كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ * فَرَّتْ مِنْ
قَسْوَرَةٍ * بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا
مُنَشَّرَةً * كَلَّا بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ * كَلَّا إِنَّهُ
تَذْكِرَةٌ * فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ * وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ
يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ }





{ كَلَّا }

هنا بمعنى: حقا، أو بمعنى


{ ألا }

الاستفتاحية، فأقسم تعالى بالقمر، وبالليل وقت إدباره، والنهار وقت
إسفاره، لاشتمال المذكورات على آيات الله العظيمة، الدالة على كمال قدرة
الله وحكمته، وسعة سطانه، وعموم رحمته، وإحاطة علمه، والمقسم عليه قوله:


{ إِنَّهَا }

أي النار


{ لَإِحْدَى الْكُبَرِ }

أي: لإحدى العظائم الطامة والأمور الهامة، فإذا أعلمناكم بها، وكنتم على
بصيرة من أمرها، فمن شاء منكم أن يتقدم، فيعمل بما يقربه من ربه، ويدنيه
من رضاه، ويزلفه من دار كرامته، أو يتأخر [عما خلق له و] عما يحبه الله
[ويرضاه]، فيعمل بالمعاصي، ويتقرب إلى نار جهنم، كما قال تعالى:


{ وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ
شَاءَ فَلْيَكْفُرْ }

الآية.




{ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ }

من أعمال السوء وأفعال الشر


{ رَهِينَةٌ }

بها موثقة بسعيها، قد ألزم عنقها، وغل في رقبتها، واستوجبت به العذاب،


{ إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ }

فإنهم لم يرتهنوا، بل أطلقوا وفرحوا


{ فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ }





أي: في جنات قد حصل لهم بها جميع مطلوباتهم، وتمت لهم الراحة والطمأنينة،
حتى أقبلوا يتساءلون، فأفضت بهم المحادثة، أن سألوا عن المجرمين، أي: حال
وصلوا إليها، وهل وجدوا ما وعدهم الله تعالى؟ فقال بعضهم لبعض: " هل أنتم
مطلعون عليهم " فاطلعوا عليهم في وسط الجحيم يعذبون، فقالوا لهم:


{ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ }

أي: أي شيء أدخلكم فيها؟ وبأي: ذنب استحققتموها؟ فـ


{ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ
الْمِسْكِينَ }

فلا إخلاص للمعبود، [ولا إحسان] ولا نفع للخلق المحتاجين.




{ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ }

أي: نخوض بالباطل، ونجادل به الحق،


{ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ }

هذا آثار الخوض بالباطل، [وهو] التكذيب بالحق، ومن أحق الحق، يوم الدين،
الذي هو محل الجزاء على الأعمال، وظهور ملك الله وحكمه العدل لسائر
الخلق.




فاستمرينا على هذا المذهب الفاسد


{ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ }

أي: الموت، فلما ماتوا على الكفر تعذرت حينئذ عليهم الحيل، وانسد في
وجوههم باب الأمل،


{ فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ }

لأنهم لا يشفعون إلا لمن ارتضى، وهؤلاء لا يرضى الله أعمالهم . فلما بين
الله مآل المخالفين، ورهب مما يفعل بهم، عطف على الموجودين بالعتاب
واللوم، فقال:


{ فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ }

أي: صادين غافلين عنها.


{ كَأَنَّهُمْ }

في نفرتهم الشديدة منها


{ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ }

أي: كأنهم حمر وحش نفرت فنفر بعضها بعضا، فزاد عدوها،


{ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ }

أي: من صائد ورام يريدها، أو من أسد ونحوه، وهذا من أعظم ما يكون من
النفور عن الحق، ومع هذا الإعراض وهذا النفور، يدعون الدعاوى الكبار.




فـ


{ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً }

نازلة عليه من السماء، يزعم أنه لا ينقاد للحق إلا بذلك، وقد كذبوا،
فإنهم لو جاءتهم كل آية لم يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم، فإنهم جاءتهم
الآيات البينات التي تبين الحق وتوضحه، فلو كان فيهم خير لآمنوا، ولهذا
قال:


{ كَلَّا }

أن نعطيهم ما طلبوا، وهم ما قصدوا بذلك إلا التعجيز،


{ بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ }

فلو كانوا يخافونها لما جرى منهم ما جرى.




{ كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ }

الضمير إما أن يعود على هذه السورة، أو على ما اشتملت عليه [من] هذه
الموعظة،


{ فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ }

لأنه قد بين له السبيل، ووضح له الدليل.



{ وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ }

فإن مشيئته نافذة عامة، لا يخرج عنها حادث قليل ولا كثير، ففيها رد على
القدرية، الذين لا يدخلون أفعال العباد تحت مشيئة الله، والجبرية الذين
يزعمون أنه ليس للعبد مشيئة، ولا فعل حقيقة، وإنما هو مجبور على أفعاله،
فأثبت تعالى للعباد مشيئة حقيقة وفعلا، وجعل ذلك تابعا لمشيئته،


{ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ }

أي: هو أهل أن يتقى ويعبد، لأنه الإله الذي لا تنبغي العبادة إلا له،
وأهل أن يغفر لمن اتقاه واتبع رضاه. تم تفسير سورة المدثر ولله الحمد
.

descriptionتفسيرالقران - صفحة 2 Emptyرد: تفسيرالقران

more_horiz
-
تفسير
سورة
المزمل

عدد آياتها
20

(



آية


1-20 )
وهي مكية






{ 1 - 11 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يَا أَيُّهَا
الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ
مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا *
إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا * إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ
هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا * إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ
سَبْحًا طَوِيلًا * وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ
تَبْتِيلًا * رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ
فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا * وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ
هَجْرًا جَمِيلًا * وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ
وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا }




المزمل: المتغطي بثيابه كالمدثر، وهذا الوصف حصل من رسول الله صلى الله
عليه وسلم حين أكرمه الله برسالته، وابتدأه بإنزال [وحيه بإرسال] جبريل
إليه، فرأى أمرا لم ير مثله، ولا يقدر على الثبات له إلا المرسلون،
فاعتراه في ابتداء ذلك انزعاج حين رأى جبريل عليه السلام، فأتى إلى
أهله، فقال: " زملوني زملوني " وهو ترعد فرائصه، ثم جاءه جبريل فقال: "
اقرأ " فقال: " ما أنا بقارئ " فغطه حتى بلغ منه الجهد، وهو يعالجه على
القراءة، فقرأ صلى الله عليه وسلم، ثم ألقى الله عليه الثبات، وتابع عليه
الوحي، حتى بلغ مبلغا ما بلغه أحد من المرسلين.




فسبحان الله، ما أعظم التفاوت بين ابتداء نبوته ونهايتها، ولهذا خاطبه
الله بهذا الوصف الذي وجد منه في أول أمره.




فأمره هنا بالعبادات المتعلقة به، ثم أمره بالصبر على أذية أعدائه ، ثم
أمره بالصدع بأمره، وإعلان دعوتهم إلى الله، فأمره هنا بأشرف العبادات،
وهي الصلاة، وبآكد الأوقات وأفضلها، وهو قيام الليل.




ومن رحمته تعالى، أنه لم يأمره بقيام الليل كله، بل قال:


{ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا }

.




ثم قدر ذلك فقال:


{ نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ }

أي: من النصف


{ قَلِيلًا }

بأن يكون الثلث ونحوه.




{ أَوْ زِدْ عَلَيْهِ }

أي: على النصف، فيكون الثلثين ونحوها.


{ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا }

فإن ترتيل القرآن به يحصل التدبر والتفكر، وتحريك القلوب به، والتعبد
بآياته، والتهيؤ والاستعداد التام له، فإنه قال:


{ إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا }

أي: نوحي إليك هذا القرآن الثقيل، أي: العظيمة معانيه، الجليلة أوصافه،
وما كان بهذا الوصف، حقيق أن يتهيأ له، ويرتل، ويتفكر فيما يشتمل عليه.




ثم ذكر الحكمة في أمره بقيام الليل، فقال:


{ إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ }

أي: الصلاة فيه بعد النوم


{ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا }

أي: أقرب إلى تحصيل مقصود القرآن، يتواطأ على القرآن القلب واللسان،
وتقل الشواغل، ويفهم ما يقول، ويستقيم له أمره، وهذا بخلاف النهار، فإنه
لا يحصل به هذا المقصود ، ولهذا قال:


{ إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا }

أي: ترددا على حوائجك ومعاشك، يوجب اشتغال القلب وعدم تفرغه التفرغ
التام.




{ وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ }

شامل لأنواع الذكر كلها


{ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا }

أي: انقطع إلى الله تعالى، فإن الانقطاع إلى الله والإنابة إليه، هو
الانفصال بالقلب عن الخلائق، والاتصاف بمحبة الله، وكل ما يقرب إليه،
ويدني من رضاه.




{ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ }

وهذا اسم جنس يشمل المشارق والمغارب [كلها]، فهو تعالى رب المشارق
والمغارب، وما يكون فيها من الأنوار، وما هي مصلحة له من العالم العلوي
والسفلي، فهو رب كل شيء وخالقه ومدبره.




{ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ }

أي: لا معبود إلا وجهه الأعلى، الذي يستحق أن يخص بالمحبة والتعظيم،
والإجلال والتكريم، ولهذا قال:


{ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا }

أي: حافظا ومدبرا لأمورك كلها.




فلما أمره الله بالصلاة خصوصا، وبالذكر عموما، وذلك يحصل للعبد ملكة قوية
في تحمل الأثقال، وفعل الثقيل من الأعمال، أمره بالصبر على ما يقول فيه
المعاندون له ويسبونه ويسبون ما جاء به، وأن يمضي على أمر الله، لا يصده
عنه صاد، ولا يرده راد، وأن يهجرهم هجرا جميلا، وهو الهجر حيث اقتضت
المصلحة الهجر الذي لا أذية فيه، فيقابلهم بالهجر والإعراض عنهم وعن
أقوالهم التي تؤذيه، وأمره بجدالهم بالتي هي أحسن.




{ وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ }

أي: اتركني وإياهم، فسأنتقم منهم، وإن أمهلتهم فلا أهملهم، وقوله:


{ أُولِي النَّعْمَةِ }

أي: أصحاب النعمة والغنى، الذين طغوا حين وسع الله عليهم من رزقه، وأمدهم
من فضله كما قال تعالى:


{ كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى }

.




ثم توعدهم بما عنده من العقاب، فقال:



{ 12 - 14 } { إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا * وَطَعَامًا ذَا
غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا * يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ
وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا }



أي: إن عندنا


{ أَنْكَالًا }

أي: عذابا شديدا، جعلناه تنكيلا للذي لا يزال مستمرا على الذنوب.


{ وَجَحِيمًا }

أي: نارا حامية


{ وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ }

وذلك لمرارته وبشاعته، وكراهة طعمه وريحه الخبيث المنتن،


{ وَعَذَابًا أَلِيمًا }

أي: موجعا مفظعا، وذلك


{ يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ }

من الهول العظيم،


{ وَكَانَتِ الْجِبَالُ }

الراسيات الصم الصلاب


{ كَثِيبًا مَهِيلًا }

أي: بمنزلة الرمل المنهال المنتثر، ثم إنها تبس بعد ذلك، فتكون كالهباء
المنثور.







{ 15 - 16 } { إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا
عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا * فَعَصَى
فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا }




يقول تعالى: احمدوا ربكم على إرسال هذا النبي الأمي العربي البشير
النذير، الشاهد على الأمة بأعمالهم، واشكروه وقوموا بهذه النعمة الجليلة،
وإياكم أن تكفروها، فتعصوا رسولكم، فتكونوا كفرعون حين أرسل الله إليه
موسى بن عمران، فدعاه إلى الله، وأمره بالتوحيد، فلم يصدقه، بل عصاه،
فأخذه الله أخذا وبيلا أي: شديدا بليغا.







{ 17 - 18 } { فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ
الْوِلْدَانَ شِيبًا * السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ
مَفْعُولًا }




أي: فكيف يحصل لكم الفكاك والنجاة من يوم القيامة، اليوم المهيل أمره،
العظيم قدره ، الذي يشيب الولدان، وتذوب له الجمادات العظام، فتتفطر به
السماء وتنتثر به نجومها


{ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا }

أي: لا بد من وقوعه، ولا حائل دونه.







{ 19 } { إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ
سَبِيلًا }




[أي:] إن هذه الموعظة التي نبأ الله بها من أحوال يوم القيامة وأهواله ،
تذكرة يتذكر بها المتقون، وينزجر بها المؤمنون،


{ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا }

أي: طريقا موصلا إليه، وذلك باتباع شرعه، فإنه قد أبانه كل البيان،
وأوضحه غاية الإيضاح، وفي هذا دليل على أن الله تعالى أقدر العباد على
أفعالهم، ومكنهم منها، لا كما يقوله الجبرية: إن أفعالهم تقع بغير
مشيئتهم، فإن هذا خلاف النقل والعقل.




{ 20 } { إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ
اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ
وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ
فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ
أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ
يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ
وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا
تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ
خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ
غَفُورٌ رَحِيمٌ }







ذكر الله في أول هذه السورة أنه أمر رسوله بقيام نصف الليل أو ثلثه أو
ثلثيه، والأصل أن أمته أسوة له في الأحكام، وذكر في هذا الموضع، أنه
امتثل ذلك هو وطائفة معه من المؤمنين.







ولما كان تحرير الوقت المأمور به مشقة على الناس، أخبر أنه سهل عليهم في
ذلك غاية التسهيل فقال:


{ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ }

أي: يعلم مقاديرهما وما يمضي منهما ويبقى.




{ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ }

أي: [لن] تعرفوا مقداره من غير زيادة ولا نقص، لكون ذلك يستدعي انتباها
وعناء زائدا أي: فخفف عنكم، وأمركم بما تيسر عليكم، سواء زاد على المقدر
أو نقص،


{ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ }

أي: مما تعرفون ومما لا يشق عليكم، ولهذا كان المصلي بالليل مأمورا
بالصلاة ما دام نشيطا، فإذا فتر أو كسل أو نعس، فليسترح، ليأتي الصلاة
بطمأنينة وراحة.




ثم ذكر بعض الأسباب المناسبة للتخفيف، فقال:


{ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى }

يشق عليهم صلاة ثلثي الليل أو نصفه أو ثلثه، فليصل المريض المتسهل عليه
، ولا يكون أيضا مأمورا بالصلاة قائما عند مشقة ذلك، بل لو شقت عليه
الصلاة النافلة، فله تركها [وله أجر ما كان يعمل صحيحا].


{ وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ
}

أي: وعلم أن منكم مسافرين يسافرون للتجارة، ليستغنوا عن الخلق، ويتكففوا
عن الناس أي: فالمسافر، حاله تناسب التخفيف، ولهذا خفف عنه في صلاة
الفرض، فأبيح له جمع الصلاتين في وقت واحد، وقصر الصلاة الرباعية.




وكذلك


{ آخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ
مِنْهُ }

فذكر تعالى تخفيفين، تخفيفا للصحيح المقيم، يراعي فيه نشاطه، من غير أن
يكلف عليه تحرير الوقت، بل يتحرى الصلاة الفاضلة، وهي ثلث الليل بعد نصفه
الأول.




وتخفيفا للمريض أو المسافر، سواء كان سفره للتجارة، أو لعبادة، من قتال
أو جهاد، أو حج، أو عمرة، ونحو ذلك ، فإنه أيضا يراعي ما لا يكلفه، فلله
الحمد والثناء، الذي ما جعل على الأمة في الدين من حرج، بل سهل شرعه،
وراعى أحوال عباده ومصالح دينهم وأبدانهم ودنياهم.




ثم أمر العباد بعبادتين، هما أم العبادات وعمادها: إقامة الصلاة، التي لا
يستقيم الدين إلا بها، وإيتاء الزكاة التي هي برهان الإيمان، وبها تحصل
المواساة للفقراء والمساكين، ولهذا قال:




{ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ }

بأركانها، وشروطها، ومكملاتها،


{ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا }

أي: خالصا لوجه الله، من نية صادقة، وتثبيت من النفس، ومال طيب، ويدخل في
هذا، الصدقة الواجبة ؟ والمستحبة، ثم حث على عموم الخير وأفعاله فقال:


{ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ
اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا }

الحسنة بعشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة.




وليعلم أن مثقال ذرة من الخير في هذه الدار، يقابله أضعاف أضعاف الدنيا،
وما عليها في دار النعيم المقيم، من اللذات والشهوات، وأن الخير والبر في
هذه الدنيا، مادة الخير والبر في دار القرار، وبذره وأصله وأساسه،
فواأسفاه على أوقات مضت في الغفلات، وواحسرتاه على أزمان تقضت بغير
الأعمال الصالحات، وواغوثاه من قلوب لم يؤثر فيها وعظ بارئها، ولم ينجع
فيها تشويق من هو أرحم بها منها ، فلك اللهم الحمد، وإليك المشتكى، وبك
المستغاث، ولا حول ولا قوة إلا بك.




{ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ }

وفي الأمر بالاستغفار بعد الحث على أفعال الطاعة والخير، فائدة كبيرة،
وذلك أن العبد ما يخلو من التقصير فيما أمر به، إما أن لا يفعله أصلا أو
يفعله على وجه ناقص، فأمر بترقيع ذلك بالاستغفار، فإن العبد يذنب آناء
الليل والنهار، فمتى لم يتغمده الله برحمته ومغفرته، فإنه هالك.




تم تفسير سورة المزمل
.

descriptionتفسيرالقران - صفحة 2 Emptyرد: تفسيرالقران

more_horiz
-
تفسير
سورة
الجن

عدد آياتها
28

(



آية


1-28 )
وهي مكية






{ 1 - 2 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ
أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا
قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ
نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا }




أي:


{ قُلْ }

يا أيها الرسول للناس


{ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ }

صرفهم الله [إلى رسوله] لسماع آياته لتقوم عليهم الحجة [وتتم عليهم
النعمة] ويكونوا نذرا لقومهم. وأمر الله رسوله أن يقص نبأهم على الناس،
وذلك أنهم لما حضروه، قالوا: أنصتوا، فلما أنصتوا فهموا معانيه، ووصلت
حقائقه إلى قلوبهم،


{ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا }

أي: من العجائب الغالية، والمطالب العالية.







{ 2 } { يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ }


والرشد: اسم جامع لكل ما يرشد الناس إلى مصالح دينهم ودنياهم،


{ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا }

فجمعوا بين الإيمان الذي يدخل فيه جميع أعمال الخير، وبين التقوى،
[المتضمنة لترك الشر] وجعلوا السبب الداعي لهم إلى الإيمان وتوابعه، ما
علموه من إرشادات القرآن، وما اشتمل عليه من المصالح والفوائد واجتناب
المضار، فإن ذلك آية عظيمة، وحجة قاطعة، لمن استنار به، واهتدى بهديه،
وهذا الإيمان النافع، المثمر لكل خير، المبني على هداية القرآن، بخلاف
إيمان العوائد، والمربى والإلف ونحو ذلك، فإنه إيمان تقليد تحت خطر
الشبهات والعوارض الكثيرة،




{ وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا }

أي: تعالت عظمته وتقدست أسماؤه،


{ مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا }

فعلموا من جد الله وعظمته، ما دلهم على بطلان من يزعم أن له صاحبة أو
ولدا، لأن له العظمة والكمال في كل صفة كمال، واتخاذ الصاحبة والولد
ينافي ذلك، لأنه يضاد كمال الغنى.




{ وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا }

أي: قولا جائرا عن الصواب، متعديا للحد، وما حمله على ذلك إلا سفهه وضعف
عقله، وإلا فلو كان رزينا مطمئنا لعرف كيف يقول.







{ 5 } { وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى
اللَّهِ كَذِبًا }




أي: كنا مغترين قبل ذلك، وغرنا القادة والرؤساء من الجن والإنس، فأحسنا
بهم الظن، وظنناهم لا يتجرأون على الكذب على الله، فلذلك كنا قبل هذا
على طريقهم، فاليوم إذ بان لنا الحق، رجعنا إليه ، وانقدنا له، ولم نبال
بقول أحد من الناس يعارض الهدى.







{ 6 } { وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ
مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا }




أي: كان الإنس يعبدون الجن ويستعيذون بهم عند المخاوف والأفزاع ، فزاد
الإنس الجن رهقا أي: طغيانا وتكبرا لما رأوا الإنس يعبدونهم، ويستعيذون
بهم، ويحتمل أن الضمير في زادوهم يرجع إلى الجن ضمير الواو أي: زاد الجن
الإنس ذعرا وتخويفا لما رأوهم يستعيذون بهم ليلجئوهم إلى الاستعاذة بهم،
فكان الإنسي إذا نزل بواد مخوف، قال: " أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء
قومه ".




{ وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ
أَحَدًا }

أي: فلما أنكروا البعث أقدموا على الشرك والطغيان.




{ وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ }

أي: أتيناها واختبرناها،


{ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا }

عن الوصول إلى أرجائها [والدنو منها]،


{ وَشُهُبًا }

يرمى بها من استرق السمع، وهذا بخلاف عادتنا الأولى، فإنا كنا نتمكن من
الوصول إلى خبر السماء.




{ وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْع }

فنتلقف من أخبار السماء ما شاء الله.


{ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا }

أي: مرصدا له، معدا لإتلافه وإحراقه، أي: وهذا له شأن عظيم، ونبأ جسيم،
وجزموا أن الله تعالى أراد أن يحدث في الأرض حادثا كبيرا، من خير أو شر،
فلهذا قالوا:


{ وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ
أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا }

أي: لا بد من هذا أو هذا، لأنهم رأوا الأمر تغير عليهم تغيرا أنكروه،
فعرفوا بفطنتهم أن هذا الأمر يريده الله، ويحدثه في الأرض، وفي هذا بيان
لأدبهم، إذ أضافوا الخير إلى الله تعالى، والشر حذفوا فاعله تأدبا مع
الله.




{ وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ }

أي: فساق وفجار وكفار،


{ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا }

أي: فرقا متنوعة، وأهواء متفرقة، كل حزب بما لديهم فرحون.




{ وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ
نُعْجِزَهُ هَرَبًا }

أي: وأنا في وقتنا الآن تبين لنا كمال قدرة الله وكمال عجزنا، وأن
نواصينا بيد الله فلن نعجزه في الأرض ولن نعجزه إن هربنا وسعينا بأسباب
الفرار والخروج عن قدرته، لا ملجأ منه إلا إليه.




{ وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى }

وهو القرآن الكريم، الهادي إلى الصراط المستقيم، وعرفنا هدايته وإرشاده،
أثر في قلوبنا فـ


{ آمَنَّا بِهِ }

.




ثم ذكروا ما يرغب المؤمن فقالوا:


{ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ }

إيمانا صادقا


{ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا }

أي: لا نقصا ولا طغيانا ولا أذى يلحقه ، وإذا سلم من الشر حصل له الخير،
فالإيمان سبب داع إلى حصول كل خير وانتفاء كل شر.




{ وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ }

أي: الجائرون العادلون عن الصراط المستقيم.




{ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا }

أي:: أصابوا طريق الرشد، الموصل لهم إلى الجنة ونعيمها،


{ وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا }

وذلك جزاء على أعمالهم، لا ظلم من الله لهم، فإنهم


{ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ }

المثلى


{ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا }

أي: هنيئا مريئا، ولم يمنعهم ذلك إلا ظلمهم وعدوانهم.




{ لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ }

أي: لنختبرهم فيه ونمتحنهم ليظهر الصادق من الكاذب.




{ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا }

أي: من أعرض عن ذكر الله، الذي هو كتابه، فلم يتبعه وينقد له، بل غفل عنه
ولهى، يسلكه عذابا صعدا أي: شديدا بليغا.




وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا }
أي: لا دعاء عبادة، ولا دعاء مسألة، فإن المساجد التي هي أعظم محال
العبادة مبنية على الإخلاص لله، والخضوع لعظمته، والاستكانة لعزته،


{ وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ }

أي: يسأله ويتعبد له ويقرأ القرآن كَاد الجن من تكاثرهم عليه أن يكونوا
عليه لبدا، أي: متلبدين متراكمين حرصا على سماع ما جاء به من الهدى.




{ قُلْ }

لهم يا أيها الرسول، مبينا حقيقة ما تدعو إليه:


{ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا }

أي: أوحده وحده لا شريك له، وأخلع ما دونه من الأنداد والأوثان، وكل ما
يتخذه المشركون من دونه.




{ قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا }

فإني عبد ليس لي من الأمر ولا من التصرف شيء.




{ 22 } { قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ }




أي: لا أحد أستجير به ينقذني من عذاب الله، وإذا كان الرسول الذي هو أكمل
الخلق، لا يملك ضرا ولا رشدا، ولا يمنع نفسه من الله [شيئا] إن أراده
بسوء، فغيره من الخلق من باب أولى وأحرى.




{ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا }

أي: ملجأ ومنتصرا.


{ إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ }

أي: ليس لي مزية على الناس، إلا أن الله خصني بإبلاغ رسالاته ودعوة الخلق
إلى الله، وبهذا تقوم الحجة على الناس.


{ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ
خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا }

وهذا المراد به المعصية الكفرية، كما قيدتها النصوص الأخر المحكمة.




وأما مجرد المعصية، فإنه لا يوجب الخلود في النار، كما دلت على ذلك آيات
القرآن، والأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأجمع عليه سلف الأمة
وأئمة هذه الأمة.




{ حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ }

أي: شاهدوه عيانا، وجزموا أنه واقع بهم،


{ فَسَيَعْلَمُونَ }

في ذلك الوقت حقيقة المعرفة


{ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا }

حين لا ينصرهم غيرهم ولا أنفسهم ينتصرون، وإذ يحشرون فرادى كما خلقوا أول
مرة.


{ قُلْ }

لهم إن سألوك [فقالوا]


{ متى هذا الوعد }

؟


{ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي
أَمَدًا }

أي: غاية طويلة، فعلم ذلك عند الله.




{ عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا }

من الخلق، بل انفرد بعلم الضمائر والأسرار والغيب،


{ إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ }

أي: فإنه يخبره بما اقتضت حكمته أن يخبره به، وذلك لأن الرسل ليسوا
كغيرهم، فإن الله أيدهم بتأييد ما أيده أحدا من الخلق، وحفظ ما أوحاه
إليهم حتى يبلغوه على حقيقته، من غير أن تتخبطهم الشياطين، ولا يزيدوا
فيه أو ينقصوا، ولهذا قال:


{ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا }

أي: يحفظونه بأمر الله؛


{ لِيَعْلَمَ }

بذلك


{ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ }

بما جعله لهم من الأسباب،


{ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ }

أي: بما عندهم، وما أسروه وأعلنوه،


{ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا }

وفي هذه السورة فوائد كثيرة: منها: وجود الجن، وأنهم مكلفون مأمورون
مكلفون منهيون، مجازون بأعمالهم، كما هو صريح في هذه السورة.




ومنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رسول إلى الجن، كما هو رسول إلى
الإنس ، فإن الله صرف نفر الجن ليستمعوا ما يوحى إليه ويبلغوا قومهم.




ومنها: ذكاء الجن ومعرفتهم بالحق، وأن الذي ساقهم إلى الإيمان هو ما
تحققوه من هداية القرآن، وحسن أدبهم في خطابهم.




ومنها: اعتناء الله برسوله، وحفظه لما جاء به، فحين ابتدأت بشائر نبوته،
والسماء محروسة بالنجوم، والشياطين قد هربت عن أماكنها، وأزعجت عن
مراصدها، وأن الله رحم به الأرض وأهلها رحمة ما يقدر لها قدر، وأراد بهم
ربهم رشدا، فأراد أن يظهر من دينه وشرعه ومعرفته في الأرض، ما تبتهج به
القلوب، وتفرح به أولو الألباب، وتظهر به شعائر الإسلام، وينقمع به أهل
الأوثان والأصنام.




ومنها: شدة حرص الجن لاستماع الرسول صلى الله عليه وسلم، وتراكمهم عليه.




ومنها: أن هذه السورة قد اشتملت على الأمر بالتوحيد والنهي عن الشرك،
وبينت حالة الخلق، وأن كل أحد منهم لا يستحق من العبادة مثقال ذرة، لأن
الرسول محمدا صلى الله عليه وسلم، إذا كان لا يملك لأحد نفعا ولا ضرا، بل
ولا يملك لنفسه، علم أن الخلق كلهم كذلك، فمن الخطأ والغلط اتخاذ من هذا
وصفه إلها [آخر] مع الله. ومنها: أن علوم الغيوب قد انفرد الله بعلمها،
فلا يعلمها أحد من الخلق، إلا من ارتضاه الله وخصه بعلم شيء منها. تم
تفسير سورة الجن، ولله الحمد
.

descriptionتفسيرالقران - صفحة 2 Emptyرد: تفسيرالقران

more_horiz
-
تفسير
سورة
نوح عليه السلام
عدد آياتها 28

(



آية



1-2
8 )
وهي مكية






{ 1 - 28 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إِنَّا أَرْسَلْنَا
نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ }




إلى آخر السورة لم يذكر الله في هذه السورة سوى قصة نوح وحدها لطول لبثه
في قومه، وتكرار دعوته إلى التوحيد، ونهيه عن الشرك، فأخبر تعالى أنه
أرسله إلى قومه، رحمة بهم، وإنذارا لهم من عذاب الله الأليم، خوفا من
استمرارهم على كفرهم، فيهلكهم الله هلاكا أبديا، ويعذبهم عذابا سرمديا،
فامتثل نوح عليه السلام لذلك، وابتدر لأمر الله، فقال:


{ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ }

أي: واضح النذارة بينها، وذلك لتوضيحه ما أنذر به وما أنذر عنه، وبأي:
شيء تحصل النجاة، بين جميع ذلك بيانا شافيا، فأخبرهم وأمرهم بزبدة ما
يأمرهم به فقال:


{ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ }

وذلك بإفراده تعالى بالتوحيد والعبادة، والبعد عن الشرك وطرقه ووسائله،
فإنهم إذا اتقوا الله غفر ذنوبهم، وإذا غفر ذنوبهم حصل لهم النجاة من
العذاب، والفوز بالثواب،


{ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى }

أي: يمتعكم في هذه الدار، ويدفع عنكم الهلاك إلى أجل مسمى أي: مقدر
[البقاء في الدنيا] بقضاء الله وقدره [إلى وقت محدود]، وليس المتاع أبدا،
فإن الموت لا بد منه، ولهذا قال:


{ إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ
تَعْلَمُونَ }

لما كفرتم بالله، وعاندتم الحق، فلم يجيبوا لدعوته، ولا انقادوا لأمره،
فقال شاكيا لربه:


{ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا فَلَمْ يَزِدْهُمْ
دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا }

أي: نفورا عن الحق وإعراضا، فلم يبق لذلك فائدة، لأن فائدة الدعوة أن
يحصل جميع المقصود أو بعضه.




{ وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ }

أي: لأجل أن يستجيبوا فإذا استجابوا غفرت لهم فكان هذا محض مصلحتهم،
ولكنهم أبوا إلا تماديا على باطلهم، ونفورا عن الحق،


{ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ }

حذر سماع ما يقول لهم نبيهم نوح عليه السلام،


{ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ }

أي تغطوا بها غطاء يغشاهم بعدا عن الحق وبغضا له،


{ وَأَصَرُّوا }

على كفرهم وشرهم


{ وَاسْتَكْبَرُوا }

على الحق


{ اسْتِكْبَارًا }

فشرهم ازداد، وخيرهم بعد.




{ ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا }

أي: بمسمع منهم كلهم.




{ ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا }

كل هذا حرص ونصح، وإتيانهم بكل باب يظن أن يحصل منه المقصود ،
{
فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ }

أي: اتركوا ما أنتم عليه من الذنوب، واستغفروا الله منها.




{ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا }

كثير المغفرة لمن تاب واستغفر، فرغبهم بمغفرة الذنوب، وما يترتب عليها من
حصول الثواب، واندفاع العقاب.




ورغبهم أيضا، بخير الدنيا العاجل، فقال:


{ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا }

أي: مطرا متتابعا، يروي الشعاب والوهاد، ويحيي البلاد والعباد.




{ وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ }

أي: يكثر أموالكم التي تدركون بها ما تطلبون من الدنيا وأولادكم،


{ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا }

وهذا من أبلغ ما يكون من لذات الدنيا ومطالبها.




{ مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا }

أي: لا تخافون لله عظمة، وليس لله عندكم قدر.




{ وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا }

أي: خلقا [من] بعد خلق، في بطن الأم، ثم في الرضاع، ثم في سن الطفولية،
ثم التمييز، ثم الشباب، إلى آخر ما وصل إليه الخلق ، فالذي انفرد بالخلق
والتدبير البديع، متعين أن يفرد بالعبادة والتوحيد، وفي ذكر ابتداء خلقهم
تنبيه لهم على الإقرار بالمعاد، وأن الذي أنشأهم من العدم قادر على أن
يعيدهم بعد موتهم.




واستدل أيضا عليهم بخلق السماوات التي هي أكبر من خلق الناس، فقال:


{ أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا }

أي: كل سماء فوق الأخرى.




{ وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا }

لأهل الأرض


{ وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا }

.




ففيه تنبيه على عظم خلق هذه الأشياء، وكثرة المنافع في الشمس والقمر
الدالة على رحمته وسعة إحسانه، فالعظيم الرحيم، يستحق أن يعظم ويحب ويعبد
ويخاف ويرجى.




{ وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا }

حين خلق أباكم آدم وأنتم في صلبه.




{ ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا }

عند الموت


{ وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا }

للبعث والنشور، فهو الذي يملك الحياة والموت والنشور.




{ وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا }

أي: مبسوطة مهيأة للانتفاع بها.




{ لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا }

فلولا أنه بسطها، لما أمكن ذلك، بل ولا أمكنهم حرثها وغرسها وزرعها،
والبناء، والسكون على ظهرها.




{ قَالَ نُوحٌ }

شاكيا لربه: إن هذا الكلام والوعظ والتذكير ما نجع فيهم ولا أفاد.




{ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي }

فيما أمرتهم به


{ وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا }

أي: عصوا الرسول الناصح الدال على الخير، واتبعوا الملأ والأشراف الذين
لم تزدهم أموالهم ولا أولادهم إلا خسارا أي: هلاكا وتفويتا للأرباح فكيف
بمن انقاد لهم وأطاعهم؟!




{ وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا }

أي: مكرا كبيرا بليغا في معاندة الحق.




{ وَقَالُوا }

لهم داعين إلى الشرك مزينين له:


{ لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ }

فدعوهم إلى التعصب على ما هم عليه من الشرك، وأن لا يدعوا ما عليه آباؤهم
الأقدمون، ثم عينوا آلهتهم فقالوا:


{ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ
وَنَسْرًا }

وهذه أسماء رجال صالحين لما ماتوا زين الشيطان لقومهم أن يصوروا صورهم
لينشطوا -بزعمهم- على الطاعة إذا رأوها، ثم طال الأمد، وجاء غير أولئك
فقال لهم الشيطان: إن أسلافكم يعبدونهم، ويتوسلون بهم، وبهم يسقون المطر،
فعبدوهم، ولهذا أوصى رؤساؤهم للتابعين لهم أن لا يدعوا عبادة هذه الآلهة
.




{ وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا }

أي: وقد أضل الكبار والرؤساء بدعوتهم كثيرا من الخلق،


{ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا }

أي: لو كان ضلالهم عند دعوتي إياهم بحق، لكان مصلحة، ولكن لا يزيدون
بدعوة الرؤساء إلا ضلالا أي: فلم يبق محل لنجاحهم ولا لصلاحهم، ولهذا ذكر
الله عذابهم وعقوبتهم الدنيوية والأخروية، فقال:


{ مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا }

في اليم الذي أحاط بهم


{ فَأُدْخِلُوا نَارًا }

فذهبت أجسادهم في الغرق وأرواحهم للنار والحرق، وهذا كله بسبب خطيئاتهم،
التي أتاهم نبيهم نوح ينذرهم عنها، ويخبرهم بشؤمها ومغبتها، فرفضوا ما
قال، حتى حل بهم النكال،


{ فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا }

ينصرونهم حين نزل بهم الأمر الأمر، ولا أحد يقدر يعارض القضاء والقدر.




{ وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ
دَيَّارًا }

يدور على وجه الأرض، وذكر السبب في ذلك فقال:


{ إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا
فَاجِرًا كَفَّارًا }

أي: بقاؤهم مفسدة محضة، لهم ولغيرهم، وإنما قال نوح -عليه السلام- ذلك،
لأنه مع كثرة مخالطته إياهم، ومزاولته لأخلاقهم، علم بذلك نتيجة أعمالهم،
لا جرم أن الله استجاب دعوته ، فأغرقهم أجمعين ونجى نوحا ومن معه من
المؤمنين.




{ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا
}

خص المذكورين لتأكد حقهم وتقديم برهم، ثم عمم الدعاء، فقال:


{ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا
تَبَارًا }

أي: خسارا ودمارا وهلاكا.




تم تفسير سورة نوح عليه السلام [والحمد لله]

descriptionتفسيرالقران - صفحة 2 Emptyرد: تفسيرالقران

more_horiz
-
تفسير
سورة
المعارج

عدد آياتها
44

(



آية


1-44 )
وهي مكية






{ 1 - 7 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سَأَلَ سَائِلٌ
بِعَذَابٍ وَاقِعٍ * لِلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ * مِنَ اللَّهِ
ذِي الْمَعَارِجِ * تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي
يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ * فَاصْبِرْ صَبْرًا
جَمِيلًا * إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا }





يقول تعالى مبينا لجهل المعاندين، واستعجالهم لعذاب الله، استهزاء وتعنتا
وتعجيزا:




{ سَأَلَ سَائِلٌ }

أي: دعا داع، واستفتح مستفتح


{ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ لِلْكَافِرينَ }

لاستحقاقهم له بكفرهم وعنادهم


{ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ مِنَ اللَّهِ }

أي: ليس لهذا العذاب الذي استعجل به من استعجل، من متمردي المشركين، أحد
يدفعه قبل نزوله، أو يرفعه بعد نزوله، وهذا حين دعا النضر بن الحارث
القرشي أو غيره من المشركين فقال:


{ اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو
ائتنا بعذاب أليم }

إلى آخر الآيات.




فالعذاب لا بد أن يقع عليهم من الله، فإما أن يعجل لهم في الدنيا، وإما
أن يؤخر عنهم إلى الآخرة ، فلو عرفوا الله تعالى، وعرفوا عظمته، وسعة
سلطانه وكمال أسمائه وصفاته، لما استعجلوا ولاستسلموا وتأدبوا، ولهذا
أخبر تعالى من عظمته ما يضاد أقوالهم القبيحة فقال:


{ ذِي الْمَعَارِجِ تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ }

أي: ذو العلو والجلال والعظمة، والتدبير لسائر الخلق، الذي تعرج إليه
الملائكة بما دبرها على تدبيره، وتعرج إليه الروح، وهذا اسم جنس يشمل
الأرواح كلها، برها وفاجرها، وهذا عند الوفاة، فأما الأبرار فتعرج
أرواحهم إلى الله، فيؤذن لها من سماء إلى سماء، حتى تنتهي إلى السماء
التي فيها الله عز وجل، فتحيي ربها وتسلم عليه، وتحظى بقربه، وتبتهج
بالدنو منه، ويحصل لها منه الثناء والإكرام والبر والإعظام.




وأما أرواح الفجار فتعرج، فإذا وصلت إلى السماء استأذنت فلم يؤذن لها،
وأعيدت إلى الأرض.




ثم ذكر المسافة التي تعرج إلى الله فيها الملائكة والأرواح وأنها تعرج
في يوم بما يسر لها من الأسباب، وأعانها عليه من اللطافة والخفة وسرعة
السير، مع أن تلك المسافة على السير المعتاد مقدار خمسين ألف سنة، من
ابتداء العروج إلى وصولها ما حد لها، وما تنتهي إليه من الملأ الأعلى،
فهذا الملك العظيم، والعالم الكبير، علويه وسفليه، جميعه قد تولى خلقه
وتدبيره العلي الأعلى، فعلم أحوالهم الظاهرة والباطنة، وعلم مستقرهم
ومستودعهم، وأوصلهم من رحمته وبره ورزقه ، ما عمهم وشملهم وأجرى عليهم
حكمه القدري، وحكمه الشرعي وحكمه الجزائي.




فبؤسا لأقوام جهلوا عظمته، ولم يقدروه حق قدره، فاستعجلوا بالعذاب على
وجه التعجيز والامتحان، وسبحان الحليم الذي أمهلهم وما أهملهم، وآذوه
فصبر عليهم وعافاهم ورزقهم.




هذا أحد الاحتمالات في تفسير هذه الآية [الكريمة] فيكون هذا العروج
والصعود في الدنيا، لأن السياق الأول يدل على هذا.




ويحتمل أن هذا في يوم القيامة، وأن الله تبارك وتعالى يظهر لعباده في يوم
القيامة من عظمته وجلاله وكبريائه، ما هو أكبر دليل على معرفته، مما
يشاهدونه من عروج الأملاك والأرواح صاعدة ونازلة، بالتدابير الإلهية،
والشئون في الخليقة




في ذلك اليوم الذي مقداره خمسون ألف سنة من طوله وشدته، لكن الله تعالى
يخففه على المؤمن.




وقوله:


{ فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا }

أي: اصبر على دعوتك لقومك صبرا جميلا، لا تضجر فيه ولا ملل، بل استمر على
أمر الله، وادع عباده إلى توحيده، ولا يمنعك عنهم ما ترى من عدم
انقيادهم، وعدم رغبتهم، فإن في الصبر على ذلك خيرا كثيرا.




{ إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا وَنَرَاهُ قَرِيبًا }

الضمير يعود إلى البعث الذي يقع فيه عذاب السائلين بالعذاب أي: إن حالهم
حال المنكر له، أو الذي غلبت عليه الشقوة والسكرة، حتى تباعد جميع ما
أمامه من البعث والنشور، والله يراه قريبا، لأنه رفيق حليم لا يعجل،
ويعلم أنه لا بد أن يكون، وكل ما هو آت فهو قريب.




ثم ذكر أهوال ذلك اليوم وما يكون فيه، فقال:



{ 8 - 18 } { يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ * وَتَكُونُ
الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ * وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا *
يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ
يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ * وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي
تُؤْوِيهِ * وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ * كَلَّا
إِنَّهَا لَظَى * نَزَّاعَةً لِلشَّوَى * تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ
وَتَوَلَّى * وَجَمَعَ فَأَوْعَى }


أي:


{ يَوْمِ }

القيامة، تقع فيه هذه الأمور العظيمة فـ


{ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ }

وهو الرصاص المذاب من تشققها وبلوغ الهول منها كل مبلغ.




{ وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ }

وهو الصوف المنفوش، ثم تكون بعد ذاك هباء منثورا فتضمحل، فإذا كان هذا
القلق والانزعاج لهذه الأجرام الكبيرة الشديدة، فما ظنك بالعبد الضعيف
الذي قد أثقل ظهره بالذنوب والأوزار؟




أليس حقيقا أن ينخلع قلبه وينزعج لبه، ويذهل عن كل أحد؟ ولهذا قال:


{ وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا يُبَصَّرُونَهُمْ }

أي: يشاهد الحميم، وهو القريب حميمه، فلا يبقى في قلبه متسع لسؤال حميمه
عن حاله، ولا فيما يتعلق بعشرتهم ومودتهم، ولا يهمه إلا نفسه،


{ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ }

الذي حق عليه العذاب


{ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ وَصَاحِبَتِهِ }

أي: زوجته


{ وَأَخِيهِ وَفَصِيلَتِهِ }

أي: قرابته


{ الَّتِي تُؤْوِيهِ }

أي: التي جرت عادتها في الدنيا أن تتناصر ويعين بعضها بعضا، ففي يوم
القيامة، لا ينفع أحد أحدا، ولا يشفع أحد إلا بإذن الله.




بل لو يفتدي [المجرم المستحق للعذاب] بجميع ما في الأرضِ ثم ينجيه لم
ينفعه ذلك.




{ كلًّا }

أي: لا حيلة ولا مناص لهم، قد حقت عليهم كلمة ربك على الذين فسقوا أنهم
لا يؤمنون ، وذهب نفع الأقارب والأصدقاء.




{ إِنَّهَا لَظَى نَزَّاعَةً لِلشَّوَى }

أي: للأعضاء الظاهرة والباطنة من شدة عذابها .




{ تَدْعُوا }

إليها


{ مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى وجمع فأوعى }

أي: أدبر عن اتباع الحق وأعرض عنه، فليس له فيه غرض، وجمع الأموال بعضها
فوق بعض وأوعاها، فلم ينفق منها، فإن النار تدعوهم إلى نفسها، وتستعد
للالتهاب بهم.







{ 19 - 35 } { إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ
الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا * إِلَّا
الْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ *
وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ
وَالْمَحْرُومِ * وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ *
وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * إِنَّ عَذَابَ
رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ
* إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ
فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ
فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ
وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ *
وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولَئِكَ فِي
جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ }




وهذا الوصف للإنسان من حيث هو وصف طبيعته الأصلية، أنه هلوع.




وفسر الهلوع بأنه:


{ إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا }

فيجزع إن أصابه فقر أو مرض، أو ذهاب محبوب له، من مال أو أهل أو ولد، ولا
يستعمل في ذلك الصبر والرضا بما قضى الله.




{ وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا }

فلا ينفق مما آتاه الله، ولا يشكر الله على نعمه وبره، فيجزع في الضراء،
ويمنع في السراء.




{ إِلَّا الْمُصَلِّينَ }

الموصوفين بتلك الأوصاف فإنهم إذا مسهم الخير شكروا الله، وأنفقوا مما
خولهم الله، وإذا مسهم الشر صبروا واحتسبوا.




وقوله [في وصفهم]


{ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ }

أي: مداومون عليها في أوقاتها بشروطها ومكملاتها.




وليسوا كمن لا يفعلها، أو يفعلها وقتا دون وقت، أو يفعلها على وجه ناقص.




{ وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ }

من زكاة وصدقة




{ لِلسَّائِلِ }

الذي يتعرض للسؤال


{ وَالْمَحْرُومِ }

وهو المسكين الذي لا يسأل الناس فيعطوه، ولا يفطن له فيتصدق عليه.




{ وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ }

أي: يؤمنون بما أخبر الله به، وأخبرت به رسله، من الجزاء والبعث،
ويتيقنون ذلك فيستعدون للآخرة، ويسعون لها سعيها. والتصديق بيوم الدين
يلزم منه التصديق بالرسل، وبما جاءوا به من الكتب.




{ وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ }

أي: خائفون وجلون، فيتركون لذلك كل ما يقربهم من عذاب الله.




{ إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ }

أي: هو العذاب الذي يخشى ويحذر.




{ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ }

فلا يطأون بها وطأ محرما، من زنى أو لواط، أو وطء في دبر، أو حيض، ونحو
ذلك، ويحفظونها أيضا من النظر إليها ومسها، ممن لا يجوز له ذلك، ويتركون
أيضا وسائل المحرمات الداعية لفعل الفاحشة.




{ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ }

أي: سرياتهم


{ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ }

في وطئهن في المحل الذي هو محل الحرث.




{ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ }

أي: غير الزوجة وملك اليمين،


{ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ }

أي: المتجاوزون ما أحل الله إلى ما حرم الله، ودلت هذه الآية على تحريم
[نكاح] المتعة، لكونها غير زوجة مقصودة، ولا ملك يمين.




{ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ }

أي: مراعون لها، حافظون مجتهدون على أدائها والوفاء بها، وهذا شامل لجميع
الأمانات التي بين العبد وبين ربه، كالتكاليف السرية، التي لا يطلع عليها
إلا الله، والأمانات التي بين العبد وبين الخلق، في الأموال والأسرار،
وكذلك العهد، شامل للعهد الذي عاهد عليه الله، والعهد الذي عاهد عليه
الخلق، فإن العهد يسأل عنه العبد، هل قام به ووفاه، أم رفضه وخانه فلم
يقم به؟.




{ وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ }

أي: لا يشهدون إلا بما يعلمونه، من غير زيادة ولا نقص ولا كتمان، ولا
يحابي فيها قريبا ولا صديقا ونحوه، ويكون القصد بها وجه الله.





قال تعالى:


{ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ }



{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ
شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ
وَالْأَقْرَبِينَ }

.




{ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ }

بمداومتها على أكمل وجوهها.




{ أُولَئِكَ }

أي: الموصوفون بتلك الصفات


{ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ }

أي: قد أوصل الله لهم من الكرامة والنعيم المقيم ما تشتهيه الأنفس، وتلذ
الأعين، وهم فيها خالدون.




وحاصل هذا، أن الله وصف أهل السعادة والخير بهذه الأوصاف الكاملة،
والأخلاق الفاضلة، من العبادات البدنية، كالصلاة، والمداومة عليها،
والأعمال القلبية، كخشية الله الداعية لكل خير، والعبادات المالية،
والعقائد النافعة، والأخلاق الفاضلة، ومعاملة الله، ومعاملة خلقه، أحسن
معاملة من إنصافهم، وحفظ عهودهم وأسرارهم ، والعفة التامة بحفظ الفروج
عما يكره الله تعالى.







{ 36 - 39 } { فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ * عَنِ
الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ * أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ
مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ * كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ
مِمَّا يَعْلَمُونَ }




يقول تعالى، مبينا اغترار الكافرين:


{ فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ }

أي: مسرعين.




{ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ }

أي: قطعا متفرقة وجماعات متوزعة ، كل منهم بما لديه فرح.




{ أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ }

بأي: سبب أطمعهم، وهم لم يقدموا سوى الكفر، والجحود برب العالمين، ولهذا
قال:


{ كلَّا }

[أي:] ليس الأمر بأمانيهم ولا إدراك ما يشتهون بقوتهم.




{ إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ }

أي: من ماء دافق، يخرج من بين الصلب والترائب، فهم ضعفاء، لا يملكون
لأنفسهم نفعا ولا ضرا، ولا موتا ولا حياة ولا نشورا.




{ 40 - 44 } { فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ
إِنَّا لَقَادِرُونَ * عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا
نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ * فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى
يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ * يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ
الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ * خَاشِعَةً
أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا
يُوعَدُونَ }




هذا إقسام منه تعالى بالمشارق والمغارب، للشمس والقمر والكواكب، لما فيها
من الآيات الباهرات على البعث، وقدرته على تبديل أمثالهم، وهم بأعيانهم،
كما قال تعالى:


{ وَنُنْشِئَكُمْ فِيمَا لَا تَعْلَمُونَ }

.




{ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ }

أي: ما أحد يسبقنا ويفوتنا ويعجزنا إذا أردنا أن نعيده. فإذا تقرر البعث
والجزاء، واستمروا على تكذيبهم، وعدم انقيادهم لآيات الله.




{ فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا }

أي: يخوضوا بالأقوال الباطلة، والعقائد الفاسدة، ويلعبوا بدينهم، ويأكلوا
ويشربوا، ويتمتعوا


{ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ }

فإن الله قد أعد لهم فيه من النكال والوبال ما هو عاقبة خوضهم ولعبهم.




ثم ذكر حال الخلق حين يلاقون يومهم الذي يوعدون، فقال:


{ يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ }

أي: القبور،


{ سِرَاعًا }

مجيبين لدعوة الداعي، مهطعين إليها


{ كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ }

أي: [كأنهم إلى علم] يؤمون ويسرعون أي: فلا يتمكنون من الاستعصاء
للداعي، والالتواء لنداء المنادي، بل يأتون أذلاء مقهورين للقيام بين يدي
رب العالمين.




{ خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ }

وذلك أن الذلة والقلق قد ملك قلوبهم، واستولى على أفئدتهم، فخشعت منهم
الأبصار، وسكنت منهم الحركات، وانقطعت الأصوات.




فهذه الحال والمآل، هو يومهم


{ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ }

ولا بد من الوفاء بوعد الله [تمت والحمد لله].

descriptionتفسيرالقران - صفحة 2 Emptyرد: تفسيرالقران

more_horiz
-
تفسير
سورة
الحاقة
عدد آياتها
52

(



آية


1-52 )
وهي مكية






{ 1 - 8 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَاقَّةُ * مَا
الْحَاقَّةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ * كَذَّبَتْ ثَمُودُ
وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ * فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ
* وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ * سَخَّرَهَا
عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى
الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ *
فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ }




{ الْحَاقَّةُ }

من أسماء يوم القيامة، لأنها تحق وتنزل بالخلق، وتظهر فيها حقائق الأمور،
ومخبآت الصدور، فعظم تعالى شأنها وفخمه، بما كرره من قوله:


{ الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ }

فإن لها شأنا عظيما وهولا جسيما، [ومن عظمتها أن الله أهلك الأمم المكذبة
بها بالعذاب العاجل]




ثم ذكر نموذجا من أحوالها الموجودة في الدنيا المشاهدة فيها، وهو ما
أحله من العقوبات البليغة بالأمم العاتية فقال:


{ كَذَّبَتْ ثَمُودُ }

وهم القبيلة المشهورة سكان الحجر الذين أرسل الله إليهم رسوله صالحا عليه
السلام، ينهاهم عما هم عليه من الشرك، ويأمرهم بالتوحيد، فردوا دعوته
وكذبوه وكذبوا ما أخبرهم به من يوم القيامة، وهي القارعة التي تقرع الخلق
بأهوالها، وكذلك عاد الأولى سكان حضرموت حين بعث الله إليهم رسوله هودا
عليه الصلاة والسلام يدعوهم إلى عبادة الله [وحده] فكذبوه وكذبوا بما
أخبر به من البعث فأهلك الله الطائفتين بالهلاك المعجل


{ فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ }

وهي الصيحة العظيم ة الفظيعة، التي انصدعت منها قلوبهم وزهقت لها أرواحهم
فأصبحوا موتى لا يرى إلا مساكنهم وجثثهم.







{ وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ }

أي: قوية شديدة الهبوب لها صوت أبلغ من صوت الرعد [القاصف]


{ عَاتِيَةٍ }

[أي: ] عتت على خزانها، على قول كثير من المفسرين، أو عتت على عاد وزادت
على الحد كما هو الصحيح.







{ سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا
}

أي: نحسا وشرا فظيعا عليهم فدمرتهم وأهلكتهم،


{ فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى }

أي: هلكى موتى


{ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ }

أي: كأنهم جذوع النخل التي قد قطعت رءوسها الخاوية الساقط بعضها على بعض.




{ فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ }

وهذا استفهام بمعنى النفي المتقرر.




{ 9 - 12 } { وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ
بِالْخَاطِئَةِ * فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً
رَابِيَةً * إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي
الْجَارِيَةِ * لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ
وَاعِيَةٌ }




أي: وكذلك غير هاتين الأمتين الطاغيتين عاد وثمود جاء غيرهم من الطغاة
العتاة كفرعون مصر الذي أرسل الله إليه عبده ورسوله موسى [ابن عمران]
عليه الصلاة والسلام وأراه من الآيات البينات ما تيقنوا بها الحق ولكن
جحدوا وكفروا ظلما وعلوا وجاء من قبله من المكذبين،


{ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ }

أي: قرى قوم لوط الجميع جاءوا


{ بِالْخَاطِئَةِ }

أي: بالفعلة الطاغية وهي الكفر والتكذيب والظلم والمعاندة وما انضم إلى
ذلك من أنواع الفواحش والفسوق.




{ فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ }

وهذا اسم جنس أي: كل من هؤلاء كذب الرسول الذي أرسله الله إليهم. فأخذ
الله الجميع


{ أَخْذَةً رَابِيَةً }

أي: زائدة على الحد والمقدار الذي يحصل به هلاكهم.




ومن جملة أولئك قوم نوح أغرقهم الله في اليم حين طغى [الماء على وجه]
الأرض وعلا على مواضعها الرفيعة.وامتن الله على الخلق الموجودين بعدهم أن
الله حملهم


{ فِي الْجَارِيَةِ }

وهي: السفينة في أصلاب آبائهم وأمهاتهم الذين نجاهم الله.




فاحمدوا الله واشكروا الذي نجاكم حين أهلك الطاغين واعتبروا بآياته
الدالة على توحيده ولهذا قال:


{ لِنَجْعَلَهَا }

أي: الجارية والمراد جنسها،


{ لَكُمْ تَذْكِرَةً }

تذكركم أول سفينة صنعت وما قصتها وكيف نجى الله عليها من آمن به واتبع
رسوله وأهلك أهل الأرض كلهم فإن جنس الشيء مذكر بأصله.




وقوله:


{ وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ }

أي: تعقلها أولو الألباب ويعرفون المقصود منها ووجه الآية بها.




وهذا بخلاف أهل الإعراض والغفلة وأهل البلادة وعدم الفطنة فإنهم ليس لهم
انتفاع بآيات الله لعدم وعيهم عن الله، وفكرهم بآيات الله



{ 13 - 18 } { فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ *
وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً *
فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ
يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ * وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ
عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ * يَوْمَئِذٍ
تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ }



لما ذكر ما فعله تعالى بالمكذبين لرسله وكيف جازاهم وعجل لهم العقوبة في
الدنيا وأن الله نجى الرسل وأتباعهم كان هذا مقدمة لذكر الجزاء الأخروي
وتوفية الأعمال كاملة يوم القيامة. فذكر الأمور الهائلة التي تقع أمام
القيامة وأن أول ذلك أنه ينفخ إسرافيل


{ فِي الصُّورِ }

إذا تكاملت الأجساد نابتة.


{ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ }

فتخرج الأرواح فتدخل كل روح في جسدها فإذا الناس قيام لرب العالمين.




{ وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً }

أي: فتتت الجبال واضمحلت وخلطت بالأرض ونسفت على الأرض فكان الجميع قاعا
صفصفا لا ترى فيها عوجا ولا أمتا. هذا ما يصنع بالأرض وما عليها.




وأما ما يصنع بالسماء، فإنها تضطرب وتمور وتتشقق ويتغير لونها، وتهي بعد
تلك الصلابة والقوة العظيمة، وما ذاك إلا لأمر عظيم أزعجها، وكرب جسيم
هائل أوهاها وأضعفها.




{ وَالْمَلَكُ }

أي: الملائكة الكرام


{ عَلَى أَرْجَائِهَا }

أي: على جوانب السماء وأركانها، خاضعين لربهم، مستكينين لعظمته.




{ وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ }

أملاك في غاية القوة إذا أتى للفصل بين العباد والقضاء بينهم بعدله وقسطه
وفضله.




ولهذا قال:


{ يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ }

على الله


{ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ }

لا من أجسامكم وأجسادكم ولا من أعمالكم [وصفاتكم]، فإن الله تعالى عالم
الغيب والشهادة.




ويحشر العباد حفاة عراة غرلا، في أرض مستوية، يسمعهم الداعي، وينفذهم
البصر، فحينئذ يجازيهم بما عملوا، ولهذا ذكر كيفية الجزاء، فقال:








{ 19 - 24 } { فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ
هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ
حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ *
قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ
فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ }




وهؤلاء هم أهل السعادة يعطون كتبهم التي فيها أعمالهم الصالحة بأيمانهم
تمييزا لهم وتنويها بشأنهم ورفعا لمقدارهم، ويقول أحدهم عند ذلك من الفرح
والسرور ومحبة أن يطلع الخلق على ما من الله عليه به من الكرامة:


{ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ }

أي: دونكم كتابي فاقرأوه فإنه يبشر بالجنات، وأنواع الكرامات، ومغفرة
الذنوب، وستر العيوب.




والذي أوصلني إلى هذه الحال، ما من الله به علي من الإيمان بالبعث
والحساب، والاستعداد له بالممكن من العمل، ولهذا قال:


{ إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ }

أي: أيقنت فالظن -هنا- [بمعنى] اليقين.




{ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ }

أي: جامعة لما تشتهيه الأنفس، وتلذ الأعين، وقد رضوها ولم يختاروا عليها
غيرها.




{ فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ }

المنازل والقصور عالية المحل.




{ قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ }

أي: ثمرها وجناها من أنواع الفواكه قريبة، سهلة التناول على أهلها،
ينالها أهلها قياما وقعودا ومتكئين.




ويقال لهم إكراما:


{ كُلُوا وَاشْرَبُوا }

أي: من كل طعام لذيذ، وشراب شهي،


{ هَنِيئًا }

أي: تاما كاملا من غير مكدر ولا منغص.




وذلك الجزاء حصل لكم


{ بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ }

من الأعمال الصالحة -وترك الأعمال السيئة- من صلاة وصيام وصدقة وحج
وإحسان إلى الخلق، وذكر لله وإنابة إليه.




فالأعمال جعلها الله سببا لدخول الجنة ومادة لنعيمها وأصلا لسعادتها.




{ 25 - 37 } { وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ
يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ *
يَا


لَيْتَهَا
كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي
سُلْطَانِيَهْ * خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ
فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ * إِنَّهُ
كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ * وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ
الْمِسْكِينِ * فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَا هُنَا حَمِيمٌ * وَلَا
طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ * لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ }





هؤلاء أهل الشقاء يعطون كتب أعمالهم السيئة بشمالهم تمييزا لهم وخزيا
وعارا وفضيحة، فيقول أحدهم من الهم والغم والخزي


{ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ }

لأنه يبشر بدخول النار والخسارة الأبدية.




{ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ }

أي: ليتني كنت نسيا منسيا ولم أبعث وأحاسب ولهذا قال:




{ يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ }

أي:: يا ليت موتتي هي الموتة التي لا بعث بعدها.




ثم التفت إلى ماله وسلطانه، فإذا هو وبال عليه لم يقدم منه لآخرته، ولم
ينفعه في الافتداء من عذاب الله فيقول:


{ مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ }

أي: ما نفعني لا في الدنيا، لم أقدم منه شيئا، ولا في الآخرة، قد ذهب وقت
نفعه.




{ هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ }

أي: ذهب واضمحل فلم تنفع الجنود الكثيرة، ولا العدد الخطيرة، ولا الجاه
العريض، بل ذهب ذلك كله أدراج الرياح، وفاتت بسببه المتاجر والأرباح،
وحضر بدله الهموم والغموم والأتراح، فحينئذ يؤمر بعذابه فيقال للزبانية
الغلاظ الشداد:


{ خُذُوهُ فَغُلُّوهُ }

أي: اجعلوا في عنقه غلا يخنقه.




{ ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ }

أي: قلبوه على جمرها ولهبها.




{ ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا }

من سلاسل الجحيم في غاية الحرارة


{ فَاسْلُكُوهُ }

أي: انظموه فيها بأن تدخل في دبره وتخرج من فمه، ويعلق فيها، فلا يزال
يعذب هذا العذاب الفظيع، فبئس العذاب والعقاب، وواحسرة من له التوبيخ
والعتاب.




فإن السبب الذي أوصله إلى هذا المحل:


{ إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ }

بأن كان كافرا بربه معاندا لرسله رادا ما جاءوا به من الحق.




{ وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ }

أي: ليس في قلبه رحمة يرحم بها الفقراء والمساكين فلا يطعمهم [من ماله]
ولا يحض غيره على إطعامهم، لعدم الوازع في قلبه، وذلك لأن مدار السعادة
ومادتها أمران: الإخلاص لله، الذي أصله الإيمان بالله، والإحسان إلى
الخلق بوجوه الإحسان، الذي من أعظمها، دفع ضرورة المحتاجين بإطعامهم ما
يتقوتون به، وهؤلاء لا إخلاص ولا إحسان، فلذلك استحقوا ما استحقوا.




{ فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا }

أي: يوم القيامة


{ حَمِيمٍ }

أي: قريب أو صديق يشفع له لينجو من عذاب الله أو يفوز بثواب الله:


{ وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ }



{ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ }

.




وليس له طعام إلا من غسلين وهو صديد أهل النار، الذي هو في غاية الحرارة،
ونتن الريح، وقبح الطعم ومرارته لا يأكل هذا الطعام الذميم


{ إِلَّا الْخَاطِئُونَ }

الذين أخطأوا الصراط المستقيم وسلكوا سبل الجحيم فلذلك استحقوا العذاب
الأليم.







{ 38 - 52 } { فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لَا تُبْصِرُونَ
* إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ
قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ * وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا
تَذَكَّرُونَ * تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * وَلَوْ تَقَوَّلَ
عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ *
ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ
عَنْهُ حَاجِزِينَ * وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ * وَإِنَّا
لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ * وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى
الْكَافِرِينَ * وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ * فَسَبِّحْ بِاسْمِ
رَبِّكَ الْعَظِيمِ }




أقسم تعالى بما يبصر الخلق من جميع الأشياء وما لا يبصرونه، فدخل في ذلك
كل الخلق بل يدخل في ذلك نفسه المقدسة، على صدق الرسول بما جاء به من
هذا القرآن الكريم، وأن الرسول الكريم بلغه عن الله تعالى.




ونزه الله رسوله عما رماه به أعداؤه، من أنه شاعر أو ساحر، وأن الذي
حملهم على ذلك عدم إيمانهم وتذكرهم، فلو آمنوا وتذكروا، لعلموا ما ينفعهم
ويضرهم، ومن ذلك، أن ينظروا في حال محمد صلى الله عليه وسلم، ويرمقوا
أوصافه وأخلاقه، لرأوا أمرا مثل الشمس يدلهم على أنه رسول الله حقا، وأن
ما جاء به تنزيل رب العالمين، لا يليق أن يكون قول البشر بل هو كلام دال
على عظمة من تكلم به، وجلالة أوصافه، وكمال تربيته لعباده، وعلوه فوق
عباده، وأيضا، فإن هذا ظن منهم بما لا يليق بالله وحكمته فإنه لو تقول
عليه وافترى


{ بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ }

الكاذبة.




{ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ
}

وهو عرق متصل بالقلب إذا انقطع مات منه الإنسان، فلو قدر أن الرسول
-حاشا وكلا- تقول على الله لعاجله بالعقوبة، وأخذه أخذ عزيز مقتدر، لأنه
حكيم، على كل شيء قدير، فحكمته تقتضي أن لا يمهل الكاذب عليه، الذي يزعم
أن الله أباح له دماء من خالفه وأموالهم، وأنه هو وأتباعه لهم النجاة،
ومن خالفه فله الهلاك.




فإذا كان الله قد أيد رسوله بالمعجزات، وبرهن على صدق ما جاء به بالآيات
البينات، ونصره على أعدائه، ومكنه من نواصيهم، فهو أكبر شهادة منه على
رسالته.




وقوله:


{ فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ }

أي: لو أهلكه، ما امتنع هو بنفسه، ولا قدر أحد أن يمنعه من عذاب الله.




{ وَإِنَّهُ }

أي: القرآن الكريم


{ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ }

يتذكرون به مصالح دينهم ودنياهم، فيعرفونها، ويعملون عليها، يذكرهم
العقائد الدينية، والأخلاق المرضية، والأحكام الشرعية، فيكونون من
العلماء الربانيين، والعباد العارفين، والأئمة المهديين.




{ وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ }

به، وهذا فيه تهديد ووعيد للمكذبين، فإنه سيعاقبهم على تكذيبهم بالعقوبة
البليغة.




{ وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ }

فإنهم لما كفروا به، ورأوا ما وعدهم به، تحسروا إذ لم يهتدوا به، ولم
ينقادوا لأمره، ففاتهم الثواب، وحصلوا على أشد العذاب، وتقطعت بهم
الأسباب.




{ وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ }

أي: أعلى مراتب العلم، فإن أعلى مراتب العلم اليقين وهو العلم الثابت،
الذي لا يتزلزل ولا يزول.




واليقين مراتبه ثلاثة، كل واحدة أعلى مما قبلها:




أولها: علم اليقين، وهو العلم المستفاد من الخبر.




ثم عين اليقين، وهو العلم المدرك بحاسة البصر.




ثم حق اليقين، وهو العلم المدرك بحاسة الذوق والمباشرة.




وهذا القرآن الكريم، بهذا الوصف، فإن ما فيه من العلوم المؤيدة بالبراهين
القطعية، وما فيه من الحقائق والمعارف الإيمانية، يحصل به لمن ذاقه حق
اليقين.




{ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ }

أي: نزهه عما لا يليق بجلاله، وقدسه بذكر أوصاف جلاله وجماله وكماله.




تم تفسير سورة الحاقة، والحمد لله أولا وآخرا، وظاهرا وباطنا، على كماله
وأفضاله وعدله.

descriptionتفسيرالقران - صفحة 2 Emptyرد: تفسيرالقران

more_horiz
-
تفسير
سورة
القلم

عدد آياتها
52

(



آية




1-52
)
وهي مكية






{ 1 - 7 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ن وَالْقَلَمِ وَمَا
يَسْطُرُونَ * مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ * وَإِنَّ لَكَ
لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ * وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ *
فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ * بِأَيِّيكُمُ الْمَفْتُونُ * إِنَّ رَبَّكَ
هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ
بِالْمُهْتَدِينَ }




يقسم تعالى بالقلم، وهو اسم جنس شامل للأقلام، التي تكتب بها [أنواع]
العلوم، ويسطر بها المنثور والمنظوم، وذلك أن القلم وما يسطرون به من
أنواع الكلام، من آيات الله العظيمة، التي تستحق أن يقسم الله بها، على
براءة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، مما نسبه إليه أعداؤه من الجنون
فنفى عنه الجنون بنعمة ربه عليه وإحسانه، حيث من عليه بالعقل الكامل،
والرأي الجزل، والكلام الفصل، الذي هو أحسن ما جرت به الأقلام، وسطره
الأنام، وهذا هو السعادة في الدنيا، ثم ذكر سعادته في الآخرة، فقال:


{ وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا }

.




أي: لأجرا عظيمًا، كما يفيده التنكير،


{ غير ممنون }

أي: [غير] مقطوع، بل هو دائم مستمر، وذلك لما أسلفه النبي صلى الله عليه
وسلم من الأعمال الصالحة، والأخلاق الكاملة، ولهذا قال:


{ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ }

أي: عاليًا به، مستعليًا بخلقك الذي من الله عليك به، وحاصل خلقه العظيم،
ما فسرته به أم المؤمنين، [عائشة -رضي الله عنها-] لمن سألها عنه، فقالت:
"كان خلقه القرآن"، وذلك نحو قوله تعالى له:


{ خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ }



{ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ }

[الآية]،


{ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا
عَنِتُّمْ حَرِيُصُ عَلَيْكُم بِالمْؤُمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ }

وما أشبه ذلك من الآيات الدالات على اتصافه صلى الله عليه وسلم بمكارم
الأخلاق، [والآيات] الحاثات على الخلق العظيم فكان له منها أكملها
وأجلها، وهو في كل خصلة منها، في الذروة العليا، فكان صلى الله عليه وسلم
سهلًا لينا، قريبًا من الناس، مجيبًا لدعوة من دعاه، قاضيًا لحاجة من
استقضاه، جابرًا لقلب من سأله، لا يحرمه، ولا يرده خائبًا، وإذا أراد
أصحابه منه أمرًا وافقهم عليه، وتابعهم فيه إذا لم يكن فيه محذور، وإن
عزم على أمر لم يستبد به دونهم، بل يشاورهم ويؤامرهم، وكان يقبل من
محسنهم، ويعفو عن مسيئهم، ولم يكن يعاشر جليسًا له إلا أتم عشرة وأحسنها،
فكان لا يعبس في وجهه، ولا يغلظ عليه في مقاله، ولا يطوي عنه بشره، ولا
يمسك عليه فلتات لسانه، ولا يؤاخذه بما يصدر منه من جفوة، بل يحسن إلي
عشيره غاية الإحسان، ويحتمله غاية الاحتمال صلى الله عليه وسلم.




فلما أنزله الله في أعلى المنازل من جميع الوجوه، وكان أعداؤه ينسبون
إليه أنه مجنون مفتون قال:


{ فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ بِأَيِّيكُمُ الْمَفْتُونُ }

وقد تبين أنه أهدى الناس، وأكملهم لنفسه ولغيره، وأن أعداءه أضل الناس،
[وشر الناس] للناس، وأنهم هم الذين فتنوا عباد الله، وأضلوهم عن سبيله،
وكفى بعلم الله بذلك، فإنه هو المحاسب المجازي.




و


{ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ
بِالْمُهْتَدِينَ }

وهذا فيه تهديد للضالين، ووعد للمهتدين، وبيان لحكمة الله، حيث كان يهدي
من يصلح للهداية، دون غيره.







{ 8 - 16 } { فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ * وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ
فَيُدْهِنُونَ * وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ * هَمَّازٍ
مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * عُتُلٍّ
بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ * أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ * إِذَا تُتْلَى
عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ * سَنَسِمُهُ عَلَى
الْخُرْطُومِ }





يقول الله تعالى، لنبيه صلى الله عليه وسلم:


{ فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ }

الذين كذبوك وعاندوا الحق، فإنهم ليسوا أهلًا لأن يطاعوا، لأنهم لا
يأمرون إلا بما يوافق أهواءهم، وهم لا يريدون إلا الباطل، فالمطيع لهم
مقدم على ما يضره، وهذا عام في كل مكذب، وفي كل طاعة ناشئة عن التكذيب،
وإن كان السياق في شيء خاص، وهو أن المشركين طلبوا من النبي صلى الله
عليه وسلم، أن يسكت عن عيب آلهتهم ودينهم، ويسكتوا عنه، ولهذا قال:


{ وَدُّوا }

أي: المشركون


{ لَوْ تُدْهِنُ }

أي: توافقهم على بعض ما هم عليه، إما بالقول أو الفعل أو بالسكوت عما
يتعين الكلام فيه،


{ فَيُدْهِنُونَ }

ولكن اصدع بأمر الله، وأظهر دين الإسلام، فإن تمام إظهاره، بنقض ما
يضاده، وعيب ما يناقضه.




{ وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ }

أي: كثير الحلف، فإنه لا يكون كذلك إلا وهو كذاب، ولا يكون كذابًا إلا
وهو


{ مُهِينٌ }

أي: خسيس النفس، ناقص الهمة، ليس له همة في الخير، بل إرادته في شهوات
نفسه الخسيسة.




{ هَمَّازٍ }

أي: كثير العيب [للناس] والطعن فيهم بالغيبة والاستهزاء، وغير ذلك.




{ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ }

أي: يمشي بين الناس بالنميمة، وهي: نقل كلام بعض الناس لبعض، لقصد
الإفساد بينهم، وإلقاء العداوة والبغضاء.




{ مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ }

الذي يلزمه القيام به من النفقات الواجبة والكفارات والزكوات وغير ذلك،


{ مُعْتَدٍ }

على الخلق في ظلمهم، في الدماء والأموال والأعراض


{ أَثِيمٍ }

أي: كثير الإثم والذنوب المتعلقة في حق الله تعالى




{ عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ }

أي: غليظ شرس الخلق قاس غير منقاد للحق


{ زَنِيمٍ }

أي: دعي، ليس له أصل و [لا] مادة ينتج منها الخير، بل أخلاقه أقبح
الأخلاق، ولا يرجى منه فلاح، له زنمة أي: علامة في الشر، يعرف بها.




وحاصل هذا، أن الله تعالى نهى عن طاعة كل حلاف كذاب، خسيس النفس، سيئ
الأخلاق، خصوصًا الأخلاق المتضمنة للإعجاب بالنفس، والتكبر على الحق وعلى
الخلق، والاحتقار للناس، كالغيبة والنميمة، والطعن فيهم، وكثرة المعاصي.




وهذه الآيات - وإن كانت نزلت في بعض المشركين، كالوليد بن المغيرة أو
غيره لقوله عنه:


{ أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا
قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ }

أي: لأجل كثرة ماله وولده، طغى واستكبر عن الحق، ودفعه حين جاءه، وجعله
من جملة أساطير الأولين، التي يمكن صدقها وكذبها- فإنها عامة في كل من
اتصف بهذا الوصف، لأن القرآن نزل لهداية الخلق كلهم، ويدخل فيه أول الأمة
وآخرهم، وربما نزل بعض الآيات في سبب أو في شخص من الأشخاص، لتتضح به
القاعدة العامة، ويعرف به أمثال الجزئيات الداخلة في القضايا العامة.




ثم توعد تعالى من جرى منه ما وصف الله، بأن الله سيسمه على خرطومه في
العذاب، وليعذبه عذابًا ظاهرًا، يكون عليه سمة وعلامة، في أشق الأشياء
عليه، وهو وجهه.







{ 17 - 33 } { إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ
الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ * وَلَا
يَسْتَثْنُونَ * فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ
نَائِمُونَ }




إلى آخر القصة يقول تعال: إنا بلونا هؤلاء المكذبين بالخير وأمهلناهم،
وأمددناهم بما شئنا من مال وولد، وطول عمر، ونحو ذلك، مما يوافق أهواءهم،
لا لكرامتهم علينا، بل ربما يكون استدراجًا لهم من حيث لا يشعرون
فاغترارهم بذلك نظير اغترار أصحاب الجنة، الذين هم فيها شركاء، حين زهت
ثمارها أينعت أشجارها، وآن وقت صرامها، وجزموا أنها في أيديهم، وطوع
أمرهم، [وأنه] ليس ثم مانع يمنعهم منها، ولهذا أقسموا وحلفوا من غير
استثناء، أنهم سيصرمونها أي: يجذونها مصبحين، ولم يدروا أن الله
بالمرصاد، وأن العذاب سيخلفهم عليها، ويبادرهم إليها.




{ فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ }

أي: عذاب نزل عليها ليلًا


{ وَهُمْ نَائِمُونَ }

فأبادها وأتلفها


{ فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ }

أي: كالليل المظلم، ذهبت الأشجار والثمار، هذا وهم لا يشعرون بهذا الواقع
الملم، ولهذا تنادوا فيما بينهم، لما أصبحوا يقول بعضهم لبعض:


{ أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ فَانْطَلَقُوا
}

قاصدين له


{ وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ }

فيما بينهم، ولكن بمنع حق الله، ويقولون:


{ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ }

أي: بكروا قبل انتشار الناس، وتواصوا مع ذلك، بمنع الفقراء والمساكين،
ومن شدة حرصهم وبخلهم، أنهم يتخافتون بهذا الكلام مخافتة، خوفًا أن
يسمعهم أحد، فيخبر الفقراء.




{ وَغَدَوْا }

في هذه الحالة الشنيعة، والقسوة، وعدم الرحمة


{ عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ }

أي: على إمساك ومنع لحق الله، جازمين بقدرتهم عليها.




{ فَلَمَّا رَأَوْهَا }

على الوصف الذي ذكر الله كالصريم


{ قَالُوا }

من الحيرة والانزعاج.


{ إِنَّا لَضَالُّونَ }

[أي: تائهون] عنها، لعلها غيرها، فلما تحققوها، ورجعت إليهم عقولهم
قالوا:


{ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ }

منها، فعرفوا حينئذ أنه عقوبة، فـ


{ قَالَ أَوْسَطُهُمْ }

أي: أعدلهم، وأحسنهم طريقة


{ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ }

أي: تنزهون الله عما لا يليق به، ومن ذلك، ظنكم أن قدرتكم مستقلة، فلولا
استثنيتم، فقلتم:


{ إِنْ شَاءَ اللَّهُ }

وجعلتم مشيئتكم تابعة لمشيئتة الله، لما جرى عليكم ما جرى، فقالوا


{ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ }

أي: استدركوا بعد ذلك، ولكن بعد ما وقع العذاب على جنتهم، الذي لا يرفع،
ولكن لعل تسبيحهم هذا، وإقرارهم على أنفسهم بالظلم، ينفعهم في تخفيف
الإثم ويكون توبة، ولهذا ندموا ندامة عظيمة.




{ فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ }

فيما أجروه وفعلوه،




{ قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ }

أي: متجاوزين للحد في حق الله، وحق عباده.




{ عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى
رَبِّنَا رَاغِبُونَ }

فهم رجوا الله أن يبدلهم خيرًا منها، ووعدوا أنهم سيرغبون إلى الله،
ويلحون عليه في الدنيا، فإن كانوا كما قالوا، فالظاهر أن الله أبدلهم في
الدنيا خيرًا منها لأن من دعا الله صادقًا، ورغب إليه ورجاه، أعطاه سؤله.




قال تعالى مبينا ما وقع:


{ كَذَلِكَ الْعَذَابُ }

[أي:] الدنيوي لمن أتى بأسباب العذاب أن يسلب الله العبد الشيء الذي طغى
به وبغى، وآثر الحياة الدنيا، وأن يزيله عنه، أحوج ما يكون إليه.




{ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ }

من عذاب الدنيا


{ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ }

فإن من علم ذلك، أوجب له الانزجار عن كل سبب يوجب العذاب ويحل العقاب







{ 34 - 41 } { إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ
النَّعِيمِ * أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ
كَيْفَ تَحْكُمُونَ * أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ * إِنَّ
لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ * أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا
بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ *
سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ * أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ
فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ }




يخبر تعالى بما أعده للمتقين للكفر والمعاصي، من أنواع النعيم والعيش
السليم في جوار أكرم الأكرمين، وأن حكمته تعالى لا تقتضي أن يجعل
المسلمين القانتين لربهم، المنقادين لأوامره، المتبعين لمراضيه
كالمجرمين الذين أوضعوا في معاصيه، والكفر بآياته، ومعاندة رسله، ومحاربة
أوليائه، وأن من ظن أنه يسويهم في الثواب، فإنه قد أساء الحكم، وأن حكمه
حكم باطل، ورأيه فاسد، وأن المجرمين إذا ادعوا ذلك، فليس لهم مستند، لا
كتاب فيه يدرسون [ويتلون] أنهم من أهل الجنة، وأن لهم ما طلبوا وتخيروا.




وليس لهم عند الله عهد ويمين بالغة إلى يوم القيامة أن لهم ما يحكمون،
وليس لهم شركاء وأعوان على إدراك ما طلبوا، فإن كان لهم شركاء وأعوان
فليأتوا بهم إن كانوا صادقين، ومن المعلوم أن جميع ذلك منتف، فليس لهم
كتاب، ولا لهم عهد عند الله في النجاة، ولا لهم شركاء يعينونهم، فعلم أن
دعواهم باطلة فاسدة، وقوله:


{ سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ }

أي: أيهم الكفيل بهذه الدعوى الفاسدة، فإنه لا يمكن التصدر بها، ولا
الزعامة فيها.







{ 42 - 43 } { يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ
فَلَا يَسْتَطِيعُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ
وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ }





أي: إذا كان يوم القيامة، وانكشف فيه من القلاقل [والزلازل] والأهوال ما
لا يدخل تحت الوهم، وأتى الباري لفصل القضاء بين عباده ومجازاتهم فكشف عن
ساقه الكريمة التي لا يشبهها شيء، ورأى الخلائق من جلال الله وعظمته ما
لا يمكن التعبير عنه، فحينئذ يدعون إلى السجود لله، فيسجد المؤمنون الذين
كانوا يسجدون لله، طوعًا واختيارًا، ويذهب الفجار المنافقون ليسجدوا فلا
يقدرون على السجود، وتكون ظهورهم كصياصي البقر، لا يستطيعون الانحناء،
وهذا الجزاء ما جنس عملهم، فإنهم كانوا يدعون في الدنيا إلى السجود لله
وتوحيده وعبادته وهم سالمون، لا علة فيهم، فيستكبرون عن ذلك ويأبون، فلا
تسأل يومئذ عن حالهم وسوء مآلهم، فإن الله قد سخط عليهم، وحقت عليهم كلمة
العذاب، وتقطعت أسبابهم، ولم تنفعهم الندامة ولا الاعتذار يوم القيامة،
ففي هذا ما يزعج القلوب عن المقام على المعاصي، و[يوجب] التدارك مدة
الإمكان.




ولهذا قال تعالى


{ 44 - 52 } { فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ
سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ
إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ * أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ
مُثْقَلُونَ * أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ * فَاصْبِرْ
لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ
مَكْظُومٌ * لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ
بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ * فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ
الصَّالِحِينَ * وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ
بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ
لَمَجْنُونٌ * وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ }




أي: دعني والمكذبين بالقرآن العظيم فإن علي جزاءهم، ولا تستعجل لهم، فـ


{ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ }

فنمدهم بالأموال والأولاد، ونمدهم في الأرزاق والأعمال، ليغتروا ويستمروا
على ما يضرهم، فإن وهذا من كيد الله لهم، وكيد الله لأعدائه، متين قوي،
يبلغ من ضررهم وعذابهم فوق كل مبلغ




{ أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ }

أي: ليس لنفورهم عنك، وعدم تصديقهم لما جئت به ، سبب يوجب لهم ذلك، فإنك
تعلمهم، وتدعوهم إلى الله، لمحض مصلحتهم، من غير أن تطلبهم من أموالهم
مغرمًا يثقل عليهم.




{ أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ }

ما كان عندهم من الغيوب، وقد وجدوا فيها أنهم على حق، وأن لهم الثواب عند
الله، فهذا أمر ما كان، وإنما كانت حالهم حال معاند ظالم.




فلم يبق إلا الصبر لأذاهم، والتحمل لما يصدر منهم، والاستمرار على
دعوتهم، ولهذا قال:


{ فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ }

أي: لما حكم به شرعًا وقدرًا، فالحكم القدري، يصبر على المؤذي منه، ولا
يتلقى بالسخط والجزع، والحكم الشرعي، يقابل بالقبول والتسليم، والانقياد
التام لأمره.




وقوله:


{ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ }

وهو يونس بن متى، عليه الصلاة والسلام أي: ولا تشابهه في الحال، التي
أوصلته، وأوجبت له الانحباس في بطن الحوت، وهو عدم صبره على قومه الصبر
المطلوب منه، وذهابه مغاضبًا لربه، حتى ركب في البحر، فاقترع أهل السفينة
حين ثقلت بأهلها أيهم يلقون لكي تخف بهم، فوقعت القرعة عليه فالتقمه
الحوت وهو مليم [وقوله]


{ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ }

أي: وهو في بطنها قد كظمت عليه، أو نادى وهو مغتم مهتم بأن قال


{ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ
الظَّالِمِينَ }

فاستجاب الله له، وقذفته الحوت من بطنها بالعراء وهو سقيم، وأنبت الله
عليه شجرة من يقطين، ولهذا قال هنا:


{ لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ
}

أي: لطرح في العراء، وهي الأرض الخالية


{ وَهُوَ مَذْمُومٌ }

ولكن الله تغمده برحمته فنبذ وهو ممدوح، وصارت حاله أحسن من حاله
الأولى، ولهذا قال:


{ فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ }

أي: اختاره واصطفاه ونقاه من كل كدر،.


{ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ }

أي: الذين صلحت أعمالهم وأقوالهم ونياتهم، [وأحوالهم] فامتثل نبينا محمد
صلى الله عليه وسلم، أمر ربه، فصبر لحكم ربه صبرًا لا يدركه فيه أحد من
العالمين.




فجعل الله له العاقبة


{ والعاقبة للمتقين }

ولم يدرك أعداؤه فيه إلا ما يسوءهم، حتى إنهم حرصوا على أن يزلقوه
بأبصارهم أي: يصيبوه بأعينهم، من حسدهم وغيظهم وحنقهم، هذا منتهى ما
قدروا عليه من الأذى الفعلي، والله حافظه وناصره، وأما الأذى القولي،
فيقولون فيه أقوالًا، بحسب ما توحي إليهم قلوبهم، فيقولون تارة "مجنون"
وتارة "ساحر" وتارة "شاعر".




قال تعالى


{ وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ }

أي: وما هذا القرآن الكريم، والذكر الحكيم، إلا ذكر للعالمين، يتذكرون به
مصالح دينهم ودنياهم.




تم تفسير سورة القلم، والحمد لله رب العالمين.

descriptionتفسيرالقران - صفحة 2 Emptyرد: تفسيرالقران

more_horiz
-
تفسير
سورة
الملك
عدد آياتها
30

(



آية


1-30 )
وهي مكية






{ 1 - 4 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تَبَارَكَ الَّذِي
بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ
الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا
وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ * الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ
طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ
الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ
كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ }




{ تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ }

أي: تعاظم وتعالى، وكثر خيره، وعم إحسانه، من عظمته أن بيده ملك العالم
العلوي والسفلي، فهو الذي خلقه، ويتصرف فيه بما شاء، من الأحكام القدرية،
والأحكام الدينية، التابعة لحكمته، ومن عظمته، كمال قدرته التي يقدر بها
على كل شيء، وبها أوجد ما أوجد من المخلوقات العظيمة، كالسماوات والأرض.




وخلق الموت والحياة أي: قدر لعباده أن يحييهم ثم يميتهم؛


{ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا }

أي: أخلصه وأصوبه، فإن الله خلق عباده، وأخرجهم لهذه الدار، وأخبرهم
أنهم سينقلون منها، وأمرهم ونهاهم، وابتلاهم بالشهوات المعارضة لأمره،
فمن انقاد لأمر الله وأحسن العمل، أحسن الله له الجزاء في الدارين، ومن
مال مع شهوات النفس، ونبذ أمر الله، فله شر الجزاء.




{ وَهُوَ الْعَزِيزُ }

الذي له العزة كلها، التي قهر بها جميع الأشياء، وانقادت له المخلوقات.




{ الْغَفُورُ }

عن المسيئين والمقصرين والمذنبين، خصوصًا إذا تابوا وأنابوا، فإنه يغفر
ذنوبهم، ولو بلغت عنان السماء، ويستر عيوبهم، ولو كانت ملء الدنيا.




{ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا }

أي: كل واحدة فوق الأخرى، ولسن طبقة واحدة، وخلقها في غاية الحسن
والإتقان


{ مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ }

أي: خلل ونقص.




وإذا انتفى النقص من كل وجه، صارت حسنة كاملة، متناسبة من كل وجه، في
لونها وهيئتها وارتفاعها، وما فيها من الشمس والقمر والكواكب النيرات،
الثوابت منهن والسيارات.




ولما كان كمالها معلومًا، أمر [الله] تعالى بتكرار النظر إليها والتأمل
في أرجائها، قال:




{ فَارْجِعِ الْبَصَرَ }

أي: أعده إليها، ناظرًا معتبرًا


{ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ }

أي: نقص واختلال.




{ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ }

المراد بذلك: كثرة التكرار


{ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ }

أي: عاجزًا عن أن يرى خللًا أو فطورًا، ولو حرص غاية الحرص.




ثم صرح بذكر حسنها فقال:







{ 5 - 10 } { وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ
وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ
السَّعِيرِ * وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ
وَبِئْسَ الْمَصِيرُ * إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا
وَهِيَ تَفُورُ * تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ
فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ *
قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ
اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ *
وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ
السَّعِيرِ }




أي: ولقد جملنا


{ السَّمَاءَ الدُّنْيَا }

التي ترونها وتليكم،


{ بِمَصَابِيحَ }

وهي: النجوم، على اختلافها في النور والضياء، فإنه لولا ما فيها من
النجوم، لكانت سقفًا مظلمًا، لا حسن فيه ولا جمال.




ولكن جعل الله هذه النجوم زينة للسماء، [وجمالا]، ونورًا وهداية يهتدى
بها في ظلمات البر والبحر، ولا ينافي إخباره أنه زين السماء الدنيا
بمصابيح، أن يكون كثير من النجوم فوق السماوات السبع، فإن السماوات
شفافة، وبذلك تحصل الزينة للسماء الدنيا، وإن لم تكن الكواكب فيها،


{ وَجَعَلْنَاهَا }

أي: المصابيح


{ رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ }

الذين يريدون استراق خبر السماء، فجعل الله هذه النجوم، حراسة للسماء عن
تلقف الشياطين أخبار الأرض، فهذه الشهب التي ترمى من النجوم، أعدها الله
في الدنيا للشياطين،


{ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ }

في الآخرة


{ عَذَابِ السَّعِيرِ }

لأنهم تمردوا على الله، وأضلوا عباده، ولهذا كان أتباعهم من الكفار
مثلهم، قد أعد الله لهم عذاب السعير، فلهذا قال:


{ وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ
الْمَصِيرُ }

الذي يهان أهله غاية الهوان.




{ إِذَا أُلْقُوا فِيهَا }

على وجه الإهانة والذل


{ سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا }

أي: صوتًا عاليًا فظيعًا،


{ وَهِيَ تَفُورُ }

.




{ تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ }

أي: تكاد على اجتماعها أن يفارق بعضها بعضًا، وتتقطع من شدة غيظها على
الكفار، فما ظنك ما تفعل بهم، إذا حصلوا فيها؟" ثم ذكر توبيخ الخزنة
لأهلها فقال:


{ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ
يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ }

؟ أي: حالكم هذا واستحقاقكم النار، كأنكم لم تخبروا عنها، ولم تحذركم
النذر منها.




{ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا
نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ }

فجمعوا بين تكذيبهم الخاص، والتكذيب العام بكل ما أنزل الله ولم يكفهم
ذلك، حتى أعلنوا بضلال الرسل المنذرين وهم الهداة المهتدون، ولم يكتفوا
بمجرد الضلال، بل جعلوا ضلالهم، ضلالًا كبيرًا، فأي عناد وتكبر وظلم،
يشبه هذا؟




{ وَقَالُوا }

معترفين بعدم أهليتهم للهدى والرشاد:


{ لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ
السَّعِيرِ }

فنفوا عن أنفسهم طرق الهدى، وهي السمع لما أنزل الله، وجاءت به الرسل،
والعقل الذي ينفع صاحبه، ويوقفه على حقائق الأشياء، وإيثار الخير،
والانزجار عن كل ما عاقبته ذميمة، فلا سمع [لهم] ولا عقل، وهذا بخلاف أهل
اليقين والعرفان، وأرباب الصدق والإيمان، فإنهم أيدوا إيمانهم بالأدلة
السمعية، فسمعوا ما جاء من عند الله، وجاء به رسول الله، علمًا ومعرفة
وعملًا.




والأدلة العقلية: المعرفة للهدى من الضلال، والحسن من القبيح، والخير من
الشر، وهم -في الإيمان- بحسب ما من الله عليهم به من الاقتداء بالمعقول
والمنقول، فسبحان من يختص بفضله من يشاء، ويمن على من يشاء من عباده،
ويخذل من لا يصلح للخير.




قال تعالى عن هؤلاء الداخلين للنار، المعترفين بظلمهم وعنادهم:


{ فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ }

أي: بعدًا لهم وخسارة وشقاء.




فما أشقاهم وأرداهم، حيث فاتهم ثواب الله، وكانوا ملازمين للسعير، التي
تستعر في أبدانهم، وتطلع على أفئدتهم!




{ 12 } { إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ
مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ }




لما ذكر حالة الأشقياء الفجار، ذكر حالة السعداء الأبرار فقال:


{ إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ }

أي: في جميع أحوالهم، حتى في الحالة التي لا يطلع عليهم فيها إلا الله،
فلا يقدمون على معاصيه، ولا يقصرون فيما أمر به


{ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ }

لذنوبهم، وإذا غفر الله ذنوبهم؛ وقاهم شرها، ووقاهم عذاب الجحيم، ولهم
أجر كبير وهو ما أعده لهم في الجنة، من النعيم المقيم، والملك الكبير،
واللذات [المتواصلات]، والمشتهيات، والقصور [والمنازل] العاليات، والحور
الحسان، والخدم والولدان.




وأعظم من ذلك وأكبر، رضا الرحمن، الذي يحله الله على أهل الجنان.





{ 13 - 14 } { وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ
عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ
اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ }




هذا إخبار من الله بسعة علمه، وشمول لطفه فقال:


{ وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ }

أي: كلها سواء لديه، لا يخفى عليه منها خافية، فـ


{ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ }

أي: بما فيها من النيات، والإرادات، فكيف بالأقوال والأفعال، التي تسمع
وترى؟!




ثم قال -مستدلا بدليل عقلي على علمه-:


{ أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ }

فمن خلق الخلق وأتقنه وأحسنه، كيف لا يعلمه؟!


{ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ }

الذي لطف علمه وخبره، حتى أدرك السرائر والضمائر، والخبايا [والخفايا
والغيوب]، وهو الذي


{ يعلم السر وأخفى }

ومن معاني اللطيف، أنه الذي يلطف بعبده ووليه، فيسوق إليه البر والإحسان
من حيث لا يشعر، ويعصمه من الشر، من حيث لا يحتسب، ويرقيه إلى أعلى
المراتب، بأسباب لا تكون من [العبد] على بال، حتى إنه يذيقه المكاره،
ليتوصل بها إلى المحاب الجليلة، والمقامات النبيلة.







{ 15 } { هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي
مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ }





أي: هو الذي سخر لكم الأرض وذللها، لتدركوا منها كل ما تعلقت به حاجتكم،
من غرس وبناء وحرث، وطرق يتوصل بها إلى الأقطار النائية والبلدان
الشاسعة،


{ فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا }

أي: لطلب الرزق والمكاسب.




{ وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ }

أي: بعد أن تنتقلوا من هذه الدار التي جعلها الله امتحانًا، وبلغة يتبلغ
بها إلى الدار الآخرة، تبعثون بعد موتكم، وتحشرون إلى الله، ليجازيكم
بأعمالكم الحسنة والسيئة.




{ 16 - 18 } { أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ
الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ * أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ
أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ *
وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ }




هذا تهديد ووعيد، لمن استمر في طغيانه وتعديه، وعصيانه الموجب للنكال
وحلول العقوبة، فقال:


{ أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ }

وهو الله تعالى، العالي على خلقه.




{ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ }

بكم وتضطرب، حتى تتلفكم وتهلككم




{ أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ
حَاصِبًا }

أي: عذابًا من السماء يحصبكم، وينتقم الله منكم


{ فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ }

أي: كيف يأتيكم ما أنذرتكم به الرسل والكتب، فلا تحسبوا أن أمنكم من الله
أن يعاقبكم بعقاب من الأرض ومن السماء ينفعكم، فستجدون عاقبة أمركم، سواء
طال عليكم الزمان أو قصر، فإن من قبلكم، كذبوا كما كذبتم، فأهلكهم الله
تعالى، فانظروا كيف إنكار الله عليهم، عاجلهم بالعقوبة الدنيوية، قبل
عقوبة الآخرة، فاحذروا أن يصيبكم ما أصابهم.







{ 19 } { أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ
وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ
شَيْءٍ بَصِيرٌ }




وهذا عتاب وحث على النظر إلى حالة الطير التي سخرها الله، وسخر لها الجو
والهواء، تصف فيه أجنحتها للطيران، وتقبضها للوقوع، فتظل سابحة في الجو،
مترددة فيه بحسب إرادتها وحاجتها.




{ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ }

فإنه الذي سخر لهن الجو، وجعل أجسادهن وخلقتهن في حالة مستعدة للطيران،
فمن نظر في حالة الطير واعتبر فيها، دلته على قدرة الباري، وعنايته
الربانية، وأنه الواحد الأحد، الذي لا تنبغي العبادة إلا له،


{ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ }

فهو المدبر لعباده بما يليق بهم، وتقتضيه حكمته.







{ 20 - 21 } { أَمْ مَنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ
مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي


غُرُورٍ

* أَمْ مَنْ هَذَا
الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ
وَنُفُورٍ }




يقول تعالى للعتاة النافرين عن أمره، المعرضين عن الحق:


{ أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ
الرَّحْمَنِ }

أي: ينصركم إذا أراد بكم الرحمن سوءًا، فيدفعه عنكم؟ أي: من الذي ينصركم
على أعدائكم غير الرحمن؟ فإنه تعالى هو الناصر المعز المذل، وغيره من
الخلق، لو اجتمعوا على نصر عبد، لم ينفعوه مثقال ذرة، على أي عدو كان،
فاستمرار الكافرين على كفرهم، بعد أن علموا أنه لا ينصرهم أحد من دون
الرحمن، غرور وسفه.




{ أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ }

أي: الرزق كله من الله، فلو أمسك عنكم رزقه، فمن الذي يرسله لكم؟ فإن
الخلق لا يقدرون على رزق أنفسهم، فكيف بغيرهم؟ فالرزاق المنعم، الذي لا
يصيب العباد نعمة إلا منه، هو الذي يستحق أن يفرد بالعبادة، ولكن
الكافرون


{ لَجُّوا }

أي: استمروا


{ فِي عُتُوٍّ }

أي: قسوة وعدم لين للحق


{ وَنُفُورٍ }

أي: شرود عن الحق.







{ 22 } { أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمْ مَنْ
يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ }




أي: أي الرجلين أهدى؟ من كان تائها في الضلال، غارقًا في الكفر قد انتكس
قلبه، فصار الحق عنده باطلًا، والباطل حقًا؟ ومن كان عالمًا بالحق،
مؤثرًا له، عاملًا به، يمشي على الصراط المستقيم في أقواله وأعماله وجميع
أحواله؟ فبمجرد النظر إلى حال هذين الرجلين، يعلم الفرق بينهما، والمهتدي
من الضال منهما، والأحوال أكبر شاهد من الأقوال.




{ 23 - 26 } { قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ
وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ * قُلْ هُوَ
الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * وَيَقُولُونَ
مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قُلْ إِنَّمَا
الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ }





يقول تعالى - مبينًا أنه المعبود وحده، وداعيًا عباده إلى شكره، وإفراده
بالعبادة-:


{ قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ }

أي: أوجدكم من العدم، من غير معاون له ولا مظاهر، ولما أنشأكم، كمل لكم
الوجود بالسمع والأبصار والأفئدة، التي هي أنفع أعضاء البدن وأكمل القوى
الجسمانية، ولكنه مع هذا الإنعام


{ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ }

الله، قليل منكم الشاكر، وقليل منكم الشكر.




{ قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ }

أي: بثكم في أقطارها، وأسكنكم في أرجائها، وأمركم، ونهاكم، وأسدى عليكم
من النعم، ما به تنتفعون، ثم بعد ذلك يحشركم ليوم القيامة.




ولكن هذا الوعد بالجزاء، ينكره هؤلاء المعاندون


{ وَيَقُولُونَ }

تكذيبًا:




{ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ }

جعلوا علامة صدقهم أن يخبروا بوقت مجيئه، وهذا ظلم وعناد فإنما العلم
عند الله لا عند أحد من الخلق، ولا ملازمة بين صدق هذا الخبر وبين
الإخبار بوقته، فإن الصدق يعرف بأدلته، وقد أقام الله من الأدلة
والبراهين على صحته ما لا يبقى معه أدنى شك لمن ألقى السمع وهو شهيد.




{ 27 - 30 } { فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ
كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ * قُلْ
أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا
فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * قُلْ هُوَ
الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ
هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ
غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ }




يعني أن محل تكذيب الكفار وغرورهم به حين كانوا في الدنيا، فإذا كان يوم
الجزاء، ورأوا العذاب منهم


{ زُلْفَةً }

أي: قريبًا، ساءهم ذلك وأفظعهم، وقلقل أفئدتهم، فتغيرت لذلك وجوههم،
ووبخوا على تكذيبهم، وقيل لهم هذا الذي كنتم به تكذبون، فاليوم رأيتموه
عيانًا، وانجلى لكم الأمر، وتقطعت بكم الأسباب ولم يبق إلا مباشرة
العذاب.




ولما كان المكذبون للرسول صلى الله عليه وسلم، [الذين] يردون دعوته،
ينتظرون هلاكه، ويتربصون به ريب المنون، أمره الله أن يقول لهم: أنتم
وإن حصلت لكم أما*-تم الحذف. كلمة غير محترمة لا يسمح بها في هذا المنتدى-*م وأهلكني الله ومن معي، فليس ذلك بنافع لكم شيئًا،
لأنكم كفرتم بآيات الله، واستحققتم العذاب، فمن يجيركم من عذاب أليم قد
تحتم وقوعه بكم؟ فإذًا، تعبكم وحرصكم على هلاكي غير مفيدة، ولا مجد لكم
شيئًا.




ومن قولهم، إنهم على هدى، والرسول على ضلال، أعادوا في ذلك وأبدوا،
وجادلوا عليه وقاتلوا، فأمر الله نبيه أن يخبر عن حاله وحال أتباعه، ما
به يتبين لكل أحد هداهم وتقواهم، وهو أن يقولوا:


{ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا }

والإيمان يشمل التصديق الباطن، والأعمال الباطنة والظاهرة، ولما كانت
الأعمال، وجودها وكمالها، متوقفة على التوكل، خص الله التوكل من بين سائر
الأعمال، وإلا فهو داخل في الإيمان، ومن جملة لوازمه كما قال تعالى:


{ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ }

فإذا كانت هذه حال الرسول وحال من اتبعه، وهي الحال التي تتعين للفلاح،
وتتوقف عليها السعادة، وحالة أعدائه بضدها، فلا إيمان [لهم] ولا توكل،
علم بذلك من هو على هدى، ومن هو في ضلال مبين.




ثم أخبر عن انفراده بالنعم، خصوصًا، بالماء الذي جعل الله منه كل شيء حي
فقال:


{ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا }

أي: غائرًا


{ فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ }

تشربون منه، وتسقون أنعامكم وأشجاركم وزروعكم؟ وهذا استفهام بمعنى النفي،
أي: لا يقدر أحد على ذلك غير الله تعالى.




تمت ولله الحمد.




privacy_tip صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى

جميع الحقوق محفوظة لدليل الاشهار العربي