:::القرآن روح تسري في الأرواح :::
:::الكـاتب :محمد بديع موسى:::
الإنسان وهو يقرأ القرآن يتغير فيه تغيراتٍ خفيةٍ داخليةٍ، كمَثَل مَن يَدخل مجالاً مغناطيسيًّا يؤثر عليه.. وهذه هي التجربة التي أجراها د. "أحمد القضاي" في ولاية (فلوريدا) بتجربة علمية تقاس بالأجهزة العلمية القياسية والبيولوجية لفسيولوجيا الأعضاء والسوائل مجموعات من المضطربين نفسيًّا والمتوترين، جُرِّبَت معهم وسائل عديدة، ومن ضِمنها سماع قرآن بانتظام، وأيضًا سماع لغة عربية بانتظام، كإحدى صور العلاج، وهم لا يتكلمون العربية ولا يعرفونها، وبالطبع لا يعرفون القرآن، فكانت نسبة نجاح علاج القرآن فيهم 97%، وأكثر من هذا يترسب في النفس علاجات لبعض الأمراض السلوكية دون أن يشعر الشَّخص نفسه أو حتى يقصد.
إنَّ تشابه آيات القرآن في ختامها أو في بداياتها أمرٌ تكرر بأكثر من صورة؛ ليكون لها لفتًا للأنظار لكل آية على حِدة، وكذلك كي تبحث عن أجزاء القصة في كل سور القرآن، فتتربى العقلية التجميعية لا التفتيتية أو التجزيئية، والعقلية التجميعية هذه عقلية ناضجة تعتبر عقلية رشيدة تتمكن عند كل قضية أو مشكلة أن تجمع أطرافها، ولا تكون ضيقة الأفق؛ فتصل إلى حلٍّ حكيمٍ شاملٍ يحقق كل النجاحات في جميع الاتجاهات.. كذلك هذا التشابه يوجد الانتباه، ويطرد الغفلة، والإنسان المنتبه المتربي على القرآن لا يسهل استدراجه من باب غفلته، وحتى لو حدث فسيجد نفسه دخل في سورة غير السورة وآيات غير الآيات، فيعود من قريب، ويتعود على الرجوع إلى الحق، وليس التمادي في الخطأ.
والعقل الذي لم يكن يعرف الأرقام تتناول سور القرآن العديد من الأرقام، وأجزاء الواحد الصحيح، وكأنه تدريب خفي على علوم الحساب؛ بل على أصول علوم الحسابات والحاسبات.
علاج قرآني لضعف العزيمة والهمة:
(ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ* وَلاَ يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (التوبة: 120- 121).
العلاج يكون بتصحيح المفهوم والتصور وضبط النية؛ لأن السبب الرئيسي في القعود والكسل أو الخوف والوجل من العمل الصالح، وما يترتب عليه من بعض المكروهات؛ هو الخوف من الخسارة للمكسب الدنيوي، بينما المؤمن يعلم أن الجنة حُفت بالمكاره، والنار حُفت بالشهوات والفهم الخاطئ.
ثلاث أعمدة رئيسية يدور حولها هذا الموضوع:
العمود الأول:
أن المستفيد الأول من الطاعات هو أنت، والخاسر الأول من القعود عن الطاعات أو البخل بالنفقات من كل صور الإنفاق من الوقت والجهد والمال والعلم أيضًا هو أنت. وهنا إذا ترسخ في النفس هذا الدافع بمنطق المكسب والخسارة، وتغليب الحرص على ما ينفع على ما يضر وما يبقي على ما يفنى، كان هذا هو منتهى الذكاء والفطنة: "الكيس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت"، بل بمنطق التجارة والربح والخسارة فالأعمال الصالحة هي أعلى استثمار فهمه "عثمان بن عفان" التاجر الدارس جيدًا للسوق التجارية؛ فقد باع قافلة التجارة لله- الذي يعطي الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف- فأي بورصة دنيوية، وأي مشروع في الدينا يحقق سبعمائة ضعف من رأس المال.
هكذا أقحم الصحابي الجليل جميع التجار الذين جاءوا يزايدون على شراء القافلة بعد أن باع لله- عز وجل - وهذا هو "صهيب بن سنان الرومي"- الصحابي الجليل- ابن الروم، وسابق الروم كلهم إلى الإسلام، الذي حصل على ربح شهد به النبي- صلي الله عليه وسلم- عندما مدح صنيعه بالهجرة من مكة لله تاركًا ماله ابتغاء مرضاة الله، فقال له الرسول الكريم: ((ربح البيع يا صهيب)) (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُّلُّكمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ) (الصف: 10)، ومقابلة الإفلاس والخسارة يضبط ميزانها التجارى رسول الله- صلي الله عليه وسلم- يقول للصحابة- رضوان الله عليهم-: "أتدرون من المفلس؟ إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتى وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا؛ فيُعطَى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يُقضَى ما عليه أُخذ من خطاياهم، فطرحت عليه، ثم طرح في النار".
العمود الثاني:
(إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ) (التوبة: 120).. الكتابة بقلم القدر الذي جف ورفع، وطويت الصحف التي كتب فيها، تعطي المؤمن عزة وقوة وطمأنينة إلى جنب الله: (قُل لَّن يُّصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (التوبة: 51)، والملاحظ لنا هنا ولهم هناك؛ فكله لنا وليس علينا، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، فتتلقي الأحداث كلها على أنها من رب العزة القوي القادر العليم اللطيف الخبير؛ فتطمأن إلى أن الخلق كلهم أدوات، وأنك تستر القدرة، وتأخذ الأجرة.
ومن زواية ثانية أنك لا تهرب من تكليفٍ؛ خشية أن يصيبك مكروه، فلو أن الله يعلم أن في هذا ضررك ما كلفك به، وهو يحبك وأنت تحبه: (فَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا) (النساء: 19).
واعلم أنه لا يغني حذرٌ من قدر؛ بل إن الأصل في الحذر ليس القعود، ولكن أخذ الحيطة قبل التنفيذ والجد والعزم على المسارعة في الخير جمعت في كلمتين: (خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا) (النساء: 71).
العمود الأخير:
(أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (التوبة: 121).. تأمل يا أخي هدانا الله وإياك هذه الجملة الموجزة.. ما دام الجزاء سيكون من الكريم على مستوى أحسن أعمالك؛ ألا يدفع هذا المؤمن الكيس الفطن على أن يجيد ويتقن ولو في بعض المرات؛ لكي يحاسب على هذا المستوى العالي؟ وهذه الفئة والشريحة الحسابية.. كلما حققت مستوى أفضل وأداء أكمل من أي عمل صالح، سجلت رقما قياسيًّا في أعمالك.. سيحاسبك الكريم يوم القيامة على كل أعمالك بمستوى هذه القمة التي بلغتها ولو مرة: (وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ) (المطففين: 26)، وصدق الرسول- صلي الله عليه وسلم- الذي يدل أمته على الخير: ((إذا سألتم الله فسلوه الفردوس الأعلى)).
حديث "يحيى بن زكريا" عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام
روى الإمام "أحمد" في مسنده أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ الله أمَرَ "يحيى بن زكريا"- عليهما السلام - بخمس كلمات أن يعمل بهنَّ، ويأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن، وإنه كاد أن يبطئ بها، فقال له عيسى- عليه السلام -: إنك قد أمرت بخمس كلمات أن تعمل بهن، وتأمر بني إسرائيل أن يعلموا بهن، فإما أن تبلغهن، وإما أن أبلغهن، فقال: يا أخي، أخشى إن سبقتني أن أعذَّب أو يُخسف بي، قال: فجمع "يحيى بن زكريا" بني إسرائيل في بيت المقدس حتى امتلأ المسجد، فقعد على الشرف، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: إن الله أمرني بخمس كلمات أن أعمل بهن، وآمركم أن تعملوا بهن، أولهن: أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا، فإن مَثَل ذلك كمَثَل رجلٍ اشترى عبدًا من خالص ماله بوَرِقٍ أو ذَهَبٍ، فجعل يعمل ويؤدي إلى غير سيده، فأيكم يسرُّه أن يكون عبده كذلك؟
وإن الله خلقكم ورزقكم فاعبدوه ولا تشركوا به شيئًا، وآمركم بالصلاة، فإن الله ينصبُ وجهه لوجه عبده ما لم يلتفت، فإذا صليتم فلا تلتفتوا، وآمركم بالصيام، فإن مَثَل ذلك كمَثَلَ رجلٍ معه صُرَّة فيها مِسك في عصابةٍ كلهم يجدُ ريحَ المِسك، وإنَّ خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، وآمركم بالصدقة فإن مَثَلَ ذلك كمَثَلِ رجل أرَه العدو، فشدوا يديه إلى عنقه وقدموه ليضربوا عنقه، وقال لهم: هل لكم أن أفدي نفسي منكم، فجعل يفدي نفسه منه بالقليل والكثير حتى فكَّ نفسه، وآمركم بذكر الله، وإنَّ مَثَلَ ذلك كمَثَلَ رجلٍ طلبه العدو سراعًا في أثره، فأتى حصنًا فتحصَّن فيه، وإن العبد أحصن ما يكون من الشيطان إذا كان في ذكر الله".
قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم -: ((وأنا آمُركُم بخمسٍ أمَرَني الله بهنَّ: الجماعة، والسمع والطاعة، والجهاد في سبيل الله، والهجرة، فإن مَن خَرج عن الجماعة قيدَ شِبرٍ فقد خَلَع رَبقةَ الإسلام مِن عُنُقه إلا أن يُراجَع، ومَن دعا بدعوى الجاهلية، فإنه من جثي جهنم)) قالوا: يا رسول الله، وإن صامَ وصلَّي، فقال: ((وإن صامَ وصلَّى، وزعم أنه مسلم، فادعوا المسلمين بأسمائهم على ما سمَّاهم الله- عز وجل - المسلمين المؤمنين عباد الله)) (رواه الإمام أحمد، وهو حديثٌ حسنٌ، وجاء في تفسير القرآن العظيم للإمام ابن كثير: 1/56).