أثر النية في العمل
الإسلام دين يهتم بالجوهر قبل المظهر، ويوجه النيات قبل الشكليات، فالإيمان تصديق بالقلب قبل أن يكون إقرارًا باللسان، وعملاً بالأركان؛ ولهذا كانتْ نيةُ العبد في كلِّ عمل هي محل العناية الأولى؛ لأنها المؤثر على العمل صِحَّة وفسادًا، ونقصًا وكمالاً، وقبولاً وردًّا، وجعل الله - تعالى - محل النية القلب؛ لأنه المضغة التي إن صلحت، صلح الجسد كله، وإن فسدت، فسد الجسد كله، كما أخبر بذلك الصادق المصدوق سيدنا رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم.
يقول الله - سبحانه وتعالى -: ﴿ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ ﴾ [البينة: 5].
واعتبر العلماء حديث النية الذي رواه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب عن سيدنا رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - من الأحاديث التي يدور عليها مدار الدين، رغم أنه لم يرو من طريق صحيح إلا من طريقه، ولكنه اشتهر وصار أساسًا في العبادات والمعاملات؛ حيث قال - رضي الله عنه -: "سمعت رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: ((إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه))؛ متفق على صحته.
وقد قاله أمير المؤمنين على المنبر، واستندوا في سبب وروده على ما رواه ابن دقيق العيد، وما رواه الطبراني عن مهاجر أم قيس: كان فينا رجل خطب امرأة يقال لها: أم قيس، فأبت أن تتزوجه حتى يهاجر، فهاجر فتزوجها، فكنا نسميه مهاجر أم قيس.
وقال البيهقي: هذا الحديث ثلث العلم؛ لأن كسب العبد يقع بقلبه ولسانه وجوارحه، والنية عمل القلب، وهي أرجح الأقسام الثلاثة.
أما الإمام أحمد بن حنبل - رضي الله عنه - فيعده ثلث العلم من جهة أخرى أن القواعد الثلاث التي ترد إليها كل الأحكام هي: هذا الحديث، وحديث: ((مَن أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه، فهو رد))، وحديث: ((الحلال بين، والحرام بين))، ونفهم الحديث ثلاثة أمور:
1- الفهم الأول: من قصد بعمله وجه الله - تعالى - دون غيره، كان عمله بمشيئة الله مقبولاً، ومن قصد غير الله - تعالى - أو أشرك في قصده، كان عمله مردودًا؛ ﴿ قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ ﴾ [آل عمران: 29].
﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الأنعام: 162].
2- الفهم الثاني: صحة العمل لا تكون إلا بالنية؛ ولذلك جعلها معظم الفقهاء شرطًا، بل ركنًا أساسيًّا كجزء من العبادة مثل الصلاة والصيام، واشترطها الحنابلة والأحناف كأساس تُبنى عليه العبادة، فجعلوها شرطًا لا بد من وجوده قبل الدخول في العبادة، وتناقشوا في الأفعال المتروكة (مثل تجنب المعاصي)، واتفقوا على أن نية الكف عن المتروك تثمر ثوابًا عند الله تعالى.
3- الفهم الثالث: هو كمال العمل وتمامه بوجود النية؛ حيث يترَقَّى العبد كلما ارتقت نيته، فالذي يريد الثواب بقراءة القرآن غير الذي يريد التحصُّن بالآيات ودفع الأذى عنه، والذي يتلذذ بالتلاوة قاصدًا محبة كلام الله أعلى وأكمل، والذي يبتغي الخلوة مع الله والتدبر أتم وأحسن.
ولا مانع أن تكونَ النية شاملة لكل ما سبق من معانٍ حسب حال العبد، ولكن أهم جزئية هي التركيز على وجود الإخلاص الذي لا يكون إلا بخلوص النية، وتحري توحيد الله في القلب، ولنا في قصة العالم والشهيد والكريم الذين أخبر عنهم سيدنا رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - في يوم القيامة عبرة؛ حيث يكونون أول من تسعر بهم النار؛ لأن العالم ادعى أنه قصد بعلمه وجه الله، فيكذبه الله والملائكة، ويقولون له: علمت ليقال عنك: عالم، وقد قيل، فيلقى به في النار، وكذلك الكريم الذي قصد أن يقال عنه: كريم، والشهيد الذي قصد أن يقال عنه: شجاع.
وكان الصحابة - رضوان الله تعالى عليهم - يُدَقِّقون ويبحثون ويفتشون عن صحة القلب وصحيح النية، ويخشون النفاق والرياء؛ عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((مَن قال: اللهم إني أعوذ أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم، ثلاثًا صباحًا، وثلاثًا مساء، يذهب الشِّرك الجلي والخفي))؛ رواه أحمد والطبراني بسند جيد وغيرهما.
وقال جَلَّ شأنه: ﴿ لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ ﴾ [الحج: 37].
فالله أغنى الأغنياء عن الشِّرك، من عمل عملاً أشرك فيه معه غيره، تركه وشريكه، فهو العالم بالخفيات، وبمكنون الصدور، وهواجس الضمائر؛ يقول الله - تعالى -: ﴿ وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ﴾ [الملك: 13 - 14]، لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، سبحانه لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة.
والناس مخبوءُون تحت جلودهم، ولكن الله - تعالى - ينظر إلى قلوبهم وأعمالهم، ويتفاوتون بنياتهم؛ عن أم المؤمنين الصديقة عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((يغزو جيش الكعبة، فإذا كانوا ببيداء من الأرض يخسف بأولهم وآخرهم))، قالت: قلت: يا رسول الله، كيف يخسف بأولهم وآخرهم وفيهم أسواقهم ومن ليس منهم؟ قال: ((يخسف بأولهم وآخرهم، ثم يبعثون على نياتهم))؛ متفق عليه، وهذا لفظ البخاري.
و(أسواقهم) معناها: السوقة منهم، و(من ليس منهم)؛ أي: ممن خرج بغير نية القتال مُكرهًا، أو لصحبة الطريق، وقد تعجبت الصديقة من وقوع العذاب على من لا إرادةَ له في القتال الذي هو سبب العقوبة، فقال - صلَّى الله عليه وسلَّم - مُجيبًا عما سألت عنه بأن العذاب يقع عامًّا؛ لحضور آجالهم، ثم يبعثون على نياتهم.
وقد يبلغ العبد بنيته الصالحة منزلة يقصر عنها عمله، إن كان له عذر، ففي غزوة تبوك يحدثنا أبو عبدالله جابر بن عبدالله الأنصاري - رضي الله عنهما - قال: كنا مع النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - في غزاة، فقال: ((إن بالمدينة لرجالاً ما سرتم مسيرًا، ولا قطعتم واديًا، إلا كانوا معكم؛ حبسهم المرض))، وفي رواية: ((إلا شركوكم في الأجر))؛ رواه مسلم، ورواه البخاري عن أنس - رضي الله عنه - قال: "رجعنا من غزوة تبوك مع النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقال: ((إن أقوامًا خلفنا بالمدينة ما سلكنا شعبًا ولا واديًا إلا وهم معنا؛ حبسهم العذر)).
فكل حركات المسلم وسكناته، وجميع معتقداته وأعماله تتوقف صحة وقبولاً وكمالاً وتمامًا على النية، بدءًا من الإيمان؛ حيث يصح بالنية خالصًا لوجه الله - تعالى - ويخرج بفساد النية إلى الشرك والنفاق، مرورًا بالجهاد، والعلم، والنفقة، وسائر الصالحات.
عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال: سُئِل رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - عن الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل رياء، أيُّ ذلك في سبيل الله؟ فقال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، فهو في سبيل الله))؛ متفق عليه، فليحرس كل مؤمن قلبَه، وليراقب باطنَه، وليتحر وجه الله في كل صغيرة وكبيرة؛ عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إن الله لا ينظر إلى أجسامكم، ولا إلى صدوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم))؛ رواه مسلم.
وسبحان المولى اللطيف بعباده، الذي عفا عن الهم بالسيئات، ولم يجز عن السيئة إلا بمثلها، وقد يعفو، ولكنه تكرم فجعل الهم بالحسنة واحدة، وبفعلها عشرًا إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، والله يضاعف لمن يشاء، ولكنه لوحدانيته وعلوه وصمديته لا يقبل إلا المخلصين.
فنسأل الله - تعالى - أن يجعلنا من المخلصين، ويلحقنا بالمخلصين، وأن يصلح منا الظاهر والباطن، ويجعل بواطننا أفضل من ظواهرنا، ويقبلنا ويتقبل منا، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.