وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ
قال الله عز وجل في قصة صالح عليه السلام :﴿ وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ ﴾(هود: 67) ، وقال سبحانه في قصة شعيب عليه السلام :﴿ وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ ﴾(هود: 94) ، فأتى في الآية الأولى بفعل الأخذ مذكرًا مع ( الصيحة ) ، وأتى به معها في الآية الثانية مؤنَّثًا .
ولقائل أن يقول : لم أتى الفعل ( أخذ ) في الآية الأولى بالتذكير ، وفي الآية الثانية بالتأنيث ، والمسند إليه في الآيتين واحد ، وهو ( الصيحة ) ؟ وفي الإجابة عن ذلك نقول بعون الله وتعليمه :
أولاً- ( الصَّيْحَةُ ) هي الصوتُ الشديد ، على وزن ( فَعْلَةٌ ) مصدر مرة ، يدل على حدوث الفعل مرة واحدة . قال تعالى :﴿ إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ ﴾(القمر: 31) ، وهي من ( الصياح ) مصدر : صاح . يقال : صاح يصبح صياحًا ، وصيحة ، إذا صوَّت بقوة ، ومن الأول قول الشاعر :
فإن زئير الأسد من كل جانب ... ليشغل سمعي عن صياح الثعالب
ومن الثاني قول الآخر :
صاح الزمان بآل زيد صيحة ... خروا لشنتها على الأذقان
ومنه قوله تعالى في المنافقين :﴿ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ ﴾(المنافقون: 4) ، وقوله تعالى :﴿ يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ ﴾(ق: 42) . أي : يسمعون النفخة الثانية من إسرافيل- عليه السلام- يوم البعث . وتأنيث ( الصيحة ) مجازي ، مثلها :( الرجفة ) و( الزجرة ) ، و( الضلالة ) ، و( العاقبة ) .
أما ( الأَخْذُ ) فهو حَوْزُ الشيء وتحصيله ؛ ويكون ذلك تارة بالتناول ؛ نحو قوله تعالى في قصة يوسف عليه السلام :﴿ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ ﴾(يوسف: 79) ، ويكون تارة أخرى بالقهر ؛ نحو قوله تعالى :﴿ وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ﴾(هود: 102) . وعلى هذا المعنى ورد قوله تعالى :﴿ وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ ﴾(هود: 67) ، وقوله تعالى :﴿ وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ ﴾(هود: 94) ، وهي صيحة جبريل عليه السلام ، صاح عليهم صيحة ، فماتوا جميعًا .
ثانيًا- ويكاد يجمع علماء العربية على أن ( الصيحة ) من الألفاظ التي يجوز معها التذكير والتأنيث ؛ لأنها مؤنث مجازي ، ويقول ابن هشام في المغني :« قولهم المؤنثُ المجازيُّ يجوز معه التذكير والتأنيث ، وهذا يتداوله الفقهاء في محاوراتهم ، والصواب تقييده بالمسند إلى المؤنث المجازي ، وبكون المسند فعلاً أو شبهه ، وبكون المؤنث ظاهرًا ؛ وذلك نحو : طَلَعَ الشمسُ .. وأَطَالِعٌ الشمسُ ، ولا يجوز : هذا الشمس ، ولا : هو الشمس ، ولا الشمس هذا ، أو هو » .
فإذا كان قولهم :« المؤنث المجازي يجوز معه التذكير والتأنيث » غير سديد ، و( الصيحة ) مؤنَّث مجازي ، فما بالك بمن يقول : الصيحة مؤنث مجازي يجوز فيها التذكير والتأنيث ، لا معها ، ويزعم أن ذلك قاعدة معروفة ؟ هذا ما قاله الدكتور فاضل السامرائي حين سئل عن الفرق بين أخذ ، وأخذت مع ( الصيحة ) : أيهما أصوب في ميزان اللغة ؟ قال ما نصُّه :« كلاهما صائب ، هذه قاعدة معروفة ( صيحة ) هذه مؤنث مجازي يجوز فيها التذكير والتأنيث » ، وابن هشام يقول في المغني ، وهو أشهر من أن يخفى عن عالم في النحو :« والصواب تقييده بالمسند إلى المؤنث المجازي » . وهذا يعني أن القول الآخر خطأ ، وهو خطأ لا يستهان به ؛ لأنه يجيز القول : هذا شمس ، وهذا صيحة ، وهو من الأخطاء التي تحسب على السامرائي ، كونه عالمًا في النحو ، وله فيه المؤلفات العظام .
وعلماء النحو والتفسير متفقون على أنه يجوز في الفعل المسند إلى ( الصيحة ) : التذكير ، والتأنيث ؛ سواء باشرها الفعل كما في قولك : أخذ ، وأخذت الصيحةُ القومَ ، أو فصل بينها ، وبين الفعل فاصل ، كما في قولك : أخذ القومَ ، وأخذت القومَ الصيحةُ . والتأنيث مع المباشرة أحسن ، والتذكير مع الفصل أحسن ، إظهارا لفضل المؤنث الحقيقي على غيره ، وكلاهما عربي فصيح ، وعلى الأول جاء قوله تعالى في قصة صالح :﴿ وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ ﴾(هود: 67) ، وعلى الثاني جاء قوله تعالى في قصة شعيب :﴿ وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ ﴾(هود: 94) .
أما الوجه في تأنيث الفعل مع ( الصيحة ) فهو ظاهر ، وهو كونها مؤنثًا مجازيًا- غير حقيقيٍّ ، وأما تذكير الفعل معها ففيه ثلاثة أوجه ، ذكرها أبو البقاء العُكبَرِيُّ في ( إملاء ما من به الرحمن ) :
أحدها : أنه فصل بين الفعل والفاعل .
الثاني : أن التأنيث غير حقيقي .
الثالث : أن الصيحة بمعنى الصياح ، فحمل على المعنى .
وفي الوجه الأول قال ابن عادل في اللباب :« والفعل إذا تقدم الاسم المؤنث وحال بينه وبين الفاعل حائل ، جاز التذكير والتأنيث ؛ كقوله :﴿ وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ ﴾(هود: 67) ، و :﴿ وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ ﴾(هود: 94) » . والجمهور على الوجه الثاني ، ومنهم من جمع بينه ، وبين الوجه الأول . ومنهم من اختار الوجه الثالث ، ومنهم من جمع بينه ، وبين الوجه الأول . قال الرازي :« إنما قال :( أَخَذَ ) ، ولم يقل :( أَخَذَتْ ) ؛ لأن ( الصيحة ) محمولة على ( الصياح ) ، وأيضًا فصل بين الفعل والاسم المؤنث بفاصل ، فكان الفاصل كالعوض من تاء التأنيث » .
واختار الشيخ السهيلي الوجه الثاني ، واختار الشيخ ابن قيِّم الجوزية الوجه الثالث ، ونصُّ قوله في ذلك :« فإذا استوى ذكر التاء وتركها في الفعل المتقدم ، وفاعله مؤنث غير حقيقي ، فما الحكمة في اختصاصها في قصة شعيب بالفعل ، وحذفها في قصة صالح :﴿ وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ ﴾(هود: 67) ؟ قلت :( الصيحة ) في قصة صالح في معنى ( العذاب والخزي ) ؛ إذ كانت منتظمة بقوله سبحانه :﴿ وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ ﴾(هود: 66) ، فصارت ( الصيحة ) عبارة عن ذلك الخزي وعن العذاب المذكور في الآية ، فقوي التذكير ، بخلاف قصة شعيب ؛ فإنه لم يذكر فيها ذلك . هذا جواب السهيلي » .
وأضاف ابن قيِّم الجوزية قائلاً :« وعندي فيه جواب أحسن من هذا إن شاء الله ، وهو : أن ( الصيحة ) يراد بها المصدر ، بمعنى ( الصياح ) ، فيحسن فيها التذكير ، ويراد بها الواحدة من المصدر ، فيكون التأنيث أحسن . وقد أخبر تعالى عن العذاب الذي أصاب به قوم شعيب بثلاثة أمور كلها مؤنثة اللفظ :
أحدها : الرجفة في قوله في الأعراف :﴿ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ ﴾(الأعراف: 78) .
الثاني : الظلة بقوله :﴿ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ ﴾(الشعراء: 189) .
الثالث : الصيحة وجمع لهم بين الثلاثة ، فإن الرجفة بدأت بهم ، فأصحروا إلى الفضاء خوفًا من سقوط الأبنية عليهم ، فصهرتهم الشمس بحرها ، ورفعت لهم الظلة فأهرعوا إليها يستظلون بها من الشمس ، فنزل عليهم منها العذاب ، وفيه الصيحة ، فكان ذكر ( الصيحة ) مع ( الرجفة ) و( الظلة ) أحسن من ذكر ( الصياح ) ، وكان ذكر ( التاء ) ، والله أعلم ! » .
ثالثًا- وواضح مما تقدم أن سبب تذكير الفعل في قوله تعالى :﴿ وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ ﴾(هود: 67) أن المراد بالصيحة فيه الخزي الذي هو عبارة عن العذاب ، أو المصدر بمعنى الصياح ، وكلاهما مفرد مذكر ، وعليهما يكون المعنى :
وأخذ الذين ظلموا الخزي أو العذاب .
وأخذ الذين ظلموا الصياح .
وكلاهما حسن ؛ ولكن الثاني أحسن .
وأما تأنيث الفعل في قوله تعالى :﴿ وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ ﴾(هود: 94) فلأن المراد بالصيحة فيه الواحدة من المصدر . وليس في ذلك ما يشير ، لا من بعيد أو قريب إلى أن تذكير الفعل يدل على أن العذاب أشد وأقوى من تأنيثه ؛ ولكن الدكتور فاضل السامرائي يأبى إلا أن يركب رأسه ، فيزعم أن العذاب مع تذكير الفعل أشد وأقوى منه مع تأنيثه ؛ لأن المذكر عنده أقوى من المؤنث ؛ وكأنه لم يقف على أقوال أولئك الشيوخ الكبار ، أو أنه وقف على أقوالهم ؛ ولكنها لم تعجبه ، فابتدع جوابًا من عنده لم ينزل به الله من سلطان ؛ ليوهم الناس أنه عالم مبدع لا حدود لإبداعه ، فيقول :« هناك أمر آخر ، عندما ذكر في قوم صالح ( إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ ) هكذا ختم الآية ، عندما ذكر القوة والعزة ، يعني العذاب أشد ، ختمها ( إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ ) ، معناها : هي أقرب للتذكير ؛ لأن المذكر عندنا هو أقوى من المؤنث . حتى عقّب عليهم ، ولم يعقّب على قوم شعيب ، قال :( أَلاَ إِنَّ ثَمُودَ كَفرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْدًا لِّثَمُودَ (68) ؛ فهؤلاء استحقوا عذابًا أشد ، فذكّر الصيحة . إذن كلها إشارات على أن عذابهم أشد » .
يا سبحان الله ! ما علاقة أن المذكر أقوى من المؤنث بتذكير الفعل مع الصيحة وتأنيثه ؟ وأي إشارات تلك التي يزعمها تشير إلى أن العذاب مع تذكير الفعل أشد منه مع تأنيثه ؟ هنا يقول : المذكر أقوى من المؤنث ؛ لذا ذكِّر الفعل مع الصيحة ، فدل على أن العذاب أشد وأقوى . وفي قوله تعالى :﴿ فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ ﴾ قال : المذكر في العبادة أكمل من عبادة الأنثى ؛ لذا ذكِّر الفعل مع الملائكة ، ولم يؤنَّث ، واستدل على زعمه هذا بأن الرسل كلهم جاءوا رجالاً ، ولم يأتوا إناثًا .
وفي قوله تعالى :﴿ جَاءكُمْ رَسُولٌ ﴾ ، ﴿ وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ ﴾ زعم أن تذكير الفعل يدل على قلة الرسل والنسوة .
وفي قوله تعالى :﴿ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا ﴾ ، ﴿ قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا ﴾ زعم أن تأنيث الفعل يدل على كثرة الرسل والأعراب .
وفي قوله تعالى :﴿ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ ﴾ زعم أن تذكير منقعر يدل على قلة أعجاز النخل .
وفي قوله تعالى :﴿ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ ﴾ زعم أن تأنيث خاوية يدل على كثرة أعجاز النخل .
وفي قوله تعالى :﴿ مَّعْدُودَةً ﴾ زعم أن تأنيث معدودة يدل على الكثرة .
وفي قوله تعالى :﴿ أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ ﴾ زعم أن تأنيث معدودات يدل على القلة ، ومعدودة هي مفرد معدودات .
وفي قوله تعالى :﴿ نُُسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِ ﴾ زعم أن ضمير الذكور في بطونه للأنعام التي يستخلص منها اللبن ، وهي أقل من عموم الأنعام .
وفي قوله تعالى :﴿ نُّسقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِا ﴾ زعم أن ضمير الإناث في بطونها يدل على كثرة الأنعام ذكورًا وإناثًا .
وكل هذه مزاعم باطلة ، لا أساس لها ولا وجود إلا في مخيلته الواسعة ، قد رددناها عليه وبينا خطأها ، وأنا على ثقة من أن الذين صنعوا من صاحب هذه المزاعم الباطلة عالمًا لا يشق له غبار ، ومبدعًا لا حدود لإبداعه ، وجعلوا منه وثنًا يعبدونه من دون الله ، لو سمعوا هذه الأقوال من غيره ، لما ترددوا في وصفه بالغباء الشديد ، ونعتوه بالإلحاد في تفسير آيات الله عز وجل ، وسلقوه بألسنة حداد . ومن المؤسف والمحزن جدًا أن تجد رجالاً يحملون شهادة الدكترة في علوم القرآن وتفسيره يجعلون تواقيع أسمائهم لمسات بيانية ، فتجد الواحد منهم ينهي كلامه بقوله : الدكتور فلان ، وتحته ( لمسات بيانية ) ، وهذه هي اللمسات تنطق بنفسها بأنها لمسات غبية وضبابية ، ومن العجيب أن صاحبها يزعم أنه حين ذهب للعمرة والحج بعد رحلة الإيمان كان عنده معرفة جيدة بالقرآن ؛ ولكن لم يكن عنده علم كبير فيه ، فدعا ربه أن يفتح له في كتابه فتحًا مباركًا ، ثم ذهب إلى زمزم وشرب من مائها ، ودعا ثانية أن يفتح له ربه من خزائن علمه فتحًا مباركًا ، وهو متعلق بأستار الكعبة ؛ وإذ الأمر وكأنه قد تيسر له ، واستجيبت دعوته ، وكانت هذه اللمسات التي يلحد فيها بتفسير آيات الله عز وجل ثمرة من ثمرات تلك الاستجابة .
ولست أدري كيف لعالم نحوي كبير قد فتح الله له من خزائن علمه يصف العلم بأنه كبير ، فيقول :« ولكن لم يكن عندي علم كبير فيه » ! وهل يوصف العلم بأنه كبير ، أو صغير ؟ وهل عالم كبير هذا شأنه ، بدلاً من أن يقول :« قال الله عز وجل ، أو قال الله سبحانه » ، يقول :« قال ، أو هو قال » ، وبلغة العوام ؟ وهل عالم هذا شأنه يقول مرة :« أبواب النار مغلقة وحتى لا تتبدد الحرارة » ، ويقول أخرى عن أهل النار :« يدخلونها ، ثم تقفل عليهم وحتى تبقى الحرارة فيها » ؟ فهل النار التي أعدها الله للكافرين وجعل وقودها الناس والحجارة فرن من أفران الدنيا تتبدد حرارتها بانفتاح أبوابها ، فتقفل حتى تبقى الحرارة فيها ؟ وهل عالم كبير بهر الناس بسعة علمه ودقته يقول :« التذكير في العبادات أفضل وأهمّ من التأنيث ، كما جاء في مريم ( وكانت من القانتين ) ؛ لأن الذين كملوا في التذكير أكثر » ؟ ما هذا التخريف ؟ إنه لشيء عجاب والله ، وأعجب منه أن تنطلي هذه الأقوال وأمثالها على أهل المعرفة والعلم بالقرآن .
ألم يعلم الدكتور السامرائي أنه إذا قال :( سجدت مريم لربها ، وقنتت ) أن تأنيث فعل ( السجود ) ، و( القنوت ) واجب ؛ لأن الفاعل مؤنث حقيقي ؟ وألم يعلم أن فعل السجود الذي تقدم على فاعله لا يجوز تأنيثه إلا إذا فصل بينه ، وبين فاعله بفاصل ؛ كأن بقال :( سجد في المحراب مريم ) ، والأحسن منه أن يقال :( سجدت في المحراب مريم ) بالتأنيث ؟ وألم يعلم أن الفعل الثاني الذي تأخر عن فاعله لا يجوز فيه إلا التأنيث ؛ كما في قوله تعالى :﴿ وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ ﴾(التحريم: 12) ؟ وألم يعلم أنه إذا قال :( سجد محمد لربه ، وقنت ) أن تذكير كل من فعلي السجود والقنوت واجب التذكير ؛ لأن الفاعل مذكر حقيقي ؛ سواء تقدم الفعل عليه ، أم تأخر عنه ؟ فإذا كان يعلم ذلك ، ولا أشك في أنه يعلم ، فكيف يزعم أن تذكير الفعل مع محمد ، وتأنيثه مع مريم يدل على أن المذكر أكمل في العبادة من المؤنث ؟
وأما قوله تعالى :﴿ فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ ﴾ فيجوز فيه تأنيث الفعل بإجماع النحاة والمفسرين ، وباعتراف السامرائي نفسه ، فيقال:( سجدت الملائكة ) ، هذا جائز ، ولا يمكن أن ينكره أحد ؛ لأن لفظ الملائكة جمع تكسير ، وهو حسنٌ لو أنه قيل ؛ ولكن الأحسن منه التذكير ؛ لأن الأصل في لفظ الملائكة التذكير ، وتأنيثه عارض ؛ ولأن الفعل باشر فاعله ؛ ولأن التاء فيه أغنت عن تاء الفعل ؛ كما أغنت عنها في قوله تعالى :﴿ وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي المَدِينَةِ ﴾(يوسف: 30) ؛ ولأن ( سجد ) يدل على سرعة السجود أكثر مما يدل عليها ( سجدت ) ؛ ولأن عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه- كان يُذكِّر الفعل مع الملائكة في القرآن كله ، وكان يقول :« ذكِّروا الملائكة ، ويتلو :﴿ إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنثَى ﴾(النجم: 27) » ؛ فلهذه الأسباب كلها مجتمعة جاء فعل السجود مذكَّرًا مع الملائكة . وأما أن يقال : ذكِّر فعل السجود مع الملائكة ؛ لأن المذكر أكمل في العبادة من الأنثى ، وأن الذين كملوا في العبادة من الرجال أكثر ، فهذا قول لا يقوله إلا جاهل ، فضلاً عن كونه عالمًا كبيرًا .
وأما قوله تعالى :﴿ وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ ﴾ ، وقوله تعالى :﴿ وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ ﴾ فجاء الفعل في الأول مذكَّرًا ؛ لأن المراد بالصيحة فيه المصدر بمعنى الصياح ، وهو مذكر ، وجاء في الثاني مؤنَّثًا ؛ لأن المراد بالصيحة فيه الواحدة من المصدر ، وهي مؤنَّثة ؛ فكان التذكير في الأول أحسن ، وكان التأنيث في الثاني أحسن . ولو كان المراد بالصيحة في الآيتين معنى واحدًا ، لكان تذكير الفعل معها أحسن من تأنيثه ، لاستوائهما في الفصل . وأما القول بأن الصيحة بمعنى العذاب ، وأنه مع تذكير الفعل أشد منه مع تأنيثه ؛ لأن التذكير أقوى من التأنيث ، فهو قول يدل على أن صاحبه لم يكن عنده علم كبير ولا صغير في القرآن ، خلافًا لما يزعم ، والله تعالى أعلم ، ﴿ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ﴾ ، سبحانه وتعالى عما يقول الجاهلون علوًّا كبيرًا ، والحمد لله رب العالمين !
قال الله عز وجل في قصة صالح عليه السلام :﴿ وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ ﴾(هود: 67) ، وقال سبحانه في قصة شعيب عليه السلام :﴿ وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ ﴾(هود: 94) ، فأتى في الآية الأولى بفعل الأخذ مذكرًا مع ( الصيحة ) ، وأتى به معها في الآية الثانية مؤنَّثًا .
ولقائل أن يقول : لم أتى الفعل ( أخذ ) في الآية الأولى بالتذكير ، وفي الآية الثانية بالتأنيث ، والمسند إليه في الآيتين واحد ، وهو ( الصيحة ) ؟ وفي الإجابة عن ذلك نقول بعون الله وتعليمه :
أولاً- ( الصَّيْحَةُ ) هي الصوتُ الشديد ، على وزن ( فَعْلَةٌ ) مصدر مرة ، يدل على حدوث الفعل مرة واحدة . قال تعالى :﴿ إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ ﴾(القمر: 31) ، وهي من ( الصياح ) مصدر : صاح . يقال : صاح يصبح صياحًا ، وصيحة ، إذا صوَّت بقوة ، ومن الأول قول الشاعر :
فإن زئير الأسد من كل جانب ... ليشغل سمعي عن صياح الثعالب
ومن الثاني قول الآخر :
صاح الزمان بآل زيد صيحة ... خروا لشنتها على الأذقان
ومنه قوله تعالى في المنافقين :﴿ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ ﴾(المنافقون: 4) ، وقوله تعالى :﴿ يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ ﴾(ق: 42) . أي : يسمعون النفخة الثانية من إسرافيل- عليه السلام- يوم البعث . وتأنيث ( الصيحة ) مجازي ، مثلها :( الرجفة ) و( الزجرة ) ، و( الضلالة ) ، و( العاقبة ) .
أما ( الأَخْذُ ) فهو حَوْزُ الشيء وتحصيله ؛ ويكون ذلك تارة بالتناول ؛ نحو قوله تعالى في قصة يوسف عليه السلام :﴿ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ ﴾(يوسف: 79) ، ويكون تارة أخرى بالقهر ؛ نحو قوله تعالى :﴿ وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ﴾(هود: 102) . وعلى هذا المعنى ورد قوله تعالى :﴿ وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ ﴾(هود: 67) ، وقوله تعالى :﴿ وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ ﴾(هود: 94) ، وهي صيحة جبريل عليه السلام ، صاح عليهم صيحة ، فماتوا جميعًا .
ثانيًا- ويكاد يجمع علماء العربية على أن ( الصيحة ) من الألفاظ التي يجوز معها التذكير والتأنيث ؛ لأنها مؤنث مجازي ، ويقول ابن هشام في المغني :« قولهم المؤنثُ المجازيُّ يجوز معه التذكير والتأنيث ، وهذا يتداوله الفقهاء في محاوراتهم ، والصواب تقييده بالمسند إلى المؤنث المجازي ، وبكون المسند فعلاً أو شبهه ، وبكون المؤنث ظاهرًا ؛ وذلك نحو : طَلَعَ الشمسُ .. وأَطَالِعٌ الشمسُ ، ولا يجوز : هذا الشمس ، ولا : هو الشمس ، ولا الشمس هذا ، أو هو » .
فإذا كان قولهم :« المؤنث المجازي يجوز معه التذكير والتأنيث » غير سديد ، و( الصيحة ) مؤنَّث مجازي ، فما بالك بمن يقول : الصيحة مؤنث مجازي يجوز فيها التذكير والتأنيث ، لا معها ، ويزعم أن ذلك قاعدة معروفة ؟ هذا ما قاله الدكتور فاضل السامرائي حين سئل عن الفرق بين أخذ ، وأخذت مع ( الصيحة ) : أيهما أصوب في ميزان اللغة ؟ قال ما نصُّه :« كلاهما صائب ، هذه قاعدة معروفة ( صيحة ) هذه مؤنث مجازي يجوز فيها التذكير والتأنيث » ، وابن هشام يقول في المغني ، وهو أشهر من أن يخفى عن عالم في النحو :« والصواب تقييده بالمسند إلى المؤنث المجازي » . وهذا يعني أن القول الآخر خطأ ، وهو خطأ لا يستهان به ؛ لأنه يجيز القول : هذا شمس ، وهذا صيحة ، وهو من الأخطاء التي تحسب على السامرائي ، كونه عالمًا في النحو ، وله فيه المؤلفات العظام .
وعلماء النحو والتفسير متفقون على أنه يجوز في الفعل المسند إلى ( الصيحة ) : التذكير ، والتأنيث ؛ سواء باشرها الفعل كما في قولك : أخذ ، وأخذت الصيحةُ القومَ ، أو فصل بينها ، وبين الفعل فاصل ، كما في قولك : أخذ القومَ ، وأخذت القومَ الصيحةُ . والتأنيث مع المباشرة أحسن ، والتذكير مع الفصل أحسن ، إظهارا لفضل المؤنث الحقيقي على غيره ، وكلاهما عربي فصيح ، وعلى الأول جاء قوله تعالى في قصة صالح :﴿ وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ ﴾(هود: 67) ، وعلى الثاني جاء قوله تعالى في قصة شعيب :﴿ وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ ﴾(هود: 94) .
أما الوجه في تأنيث الفعل مع ( الصيحة ) فهو ظاهر ، وهو كونها مؤنثًا مجازيًا- غير حقيقيٍّ ، وأما تذكير الفعل معها ففيه ثلاثة أوجه ، ذكرها أبو البقاء العُكبَرِيُّ في ( إملاء ما من به الرحمن ) :
أحدها : أنه فصل بين الفعل والفاعل .
الثاني : أن التأنيث غير حقيقي .
الثالث : أن الصيحة بمعنى الصياح ، فحمل على المعنى .
وفي الوجه الأول قال ابن عادل في اللباب :« والفعل إذا تقدم الاسم المؤنث وحال بينه وبين الفاعل حائل ، جاز التذكير والتأنيث ؛ كقوله :﴿ وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ ﴾(هود: 67) ، و :﴿ وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ ﴾(هود: 94) » . والجمهور على الوجه الثاني ، ومنهم من جمع بينه ، وبين الوجه الأول . ومنهم من اختار الوجه الثالث ، ومنهم من جمع بينه ، وبين الوجه الأول . قال الرازي :« إنما قال :( أَخَذَ ) ، ولم يقل :( أَخَذَتْ ) ؛ لأن ( الصيحة ) محمولة على ( الصياح ) ، وأيضًا فصل بين الفعل والاسم المؤنث بفاصل ، فكان الفاصل كالعوض من تاء التأنيث » .
واختار الشيخ السهيلي الوجه الثاني ، واختار الشيخ ابن قيِّم الجوزية الوجه الثالث ، ونصُّ قوله في ذلك :« فإذا استوى ذكر التاء وتركها في الفعل المتقدم ، وفاعله مؤنث غير حقيقي ، فما الحكمة في اختصاصها في قصة شعيب بالفعل ، وحذفها في قصة صالح :﴿ وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ ﴾(هود: 67) ؟ قلت :( الصيحة ) في قصة صالح في معنى ( العذاب والخزي ) ؛ إذ كانت منتظمة بقوله سبحانه :﴿ وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ ﴾(هود: 66) ، فصارت ( الصيحة ) عبارة عن ذلك الخزي وعن العذاب المذكور في الآية ، فقوي التذكير ، بخلاف قصة شعيب ؛ فإنه لم يذكر فيها ذلك . هذا جواب السهيلي » .
وأضاف ابن قيِّم الجوزية قائلاً :« وعندي فيه جواب أحسن من هذا إن شاء الله ، وهو : أن ( الصيحة ) يراد بها المصدر ، بمعنى ( الصياح ) ، فيحسن فيها التذكير ، ويراد بها الواحدة من المصدر ، فيكون التأنيث أحسن . وقد أخبر تعالى عن العذاب الذي أصاب به قوم شعيب بثلاثة أمور كلها مؤنثة اللفظ :
أحدها : الرجفة في قوله في الأعراف :﴿ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ ﴾(الأعراف: 78) .
الثاني : الظلة بقوله :﴿ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ ﴾(الشعراء: 189) .
الثالث : الصيحة وجمع لهم بين الثلاثة ، فإن الرجفة بدأت بهم ، فأصحروا إلى الفضاء خوفًا من سقوط الأبنية عليهم ، فصهرتهم الشمس بحرها ، ورفعت لهم الظلة فأهرعوا إليها يستظلون بها من الشمس ، فنزل عليهم منها العذاب ، وفيه الصيحة ، فكان ذكر ( الصيحة ) مع ( الرجفة ) و( الظلة ) أحسن من ذكر ( الصياح ) ، وكان ذكر ( التاء ) ، والله أعلم ! » .
ثالثًا- وواضح مما تقدم أن سبب تذكير الفعل في قوله تعالى :﴿ وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ ﴾(هود: 67) أن المراد بالصيحة فيه الخزي الذي هو عبارة عن العذاب ، أو المصدر بمعنى الصياح ، وكلاهما مفرد مذكر ، وعليهما يكون المعنى :
وأخذ الذين ظلموا الخزي أو العذاب .
وأخذ الذين ظلموا الصياح .
وكلاهما حسن ؛ ولكن الثاني أحسن .
وأما تأنيث الفعل في قوله تعالى :﴿ وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ ﴾(هود: 94) فلأن المراد بالصيحة فيه الواحدة من المصدر . وليس في ذلك ما يشير ، لا من بعيد أو قريب إلى أن تذكير الفعل يدل على أن العذاب أشد وأقوى من تأنيثه ؛ ولكن الدكتور فاضل السامرائي يأبى إلا أن يركب رأسه ، فيزعم أن العذاب مع تذكير الفعل أشد وأقوى منه مع تأنيثه ؛ لأن المذكر عنده أقوى من المؤنث ؛ وكأنه لم يقف على أقوال أولئك الشيوخ الكبار ، أو أنه وقف على أقوالهم ؛ ولكنها لم تعجبه ، فابتدع جوابًا من عنده لم ينزل به الله من سلطان ؛ ليوهم الناس أنه عالم مبدع لا حدود لإبداعه ، فيقول :« هناك أمر آخر ، عندما ذكر في قوم صالح ( إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ ) هكذا ختم الآية ، عندما ذكر القوة والعزة ، يعني العذاب أشد ، ختمها ( إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ ) ، معناها : هي أقرب للتذكير ؛ لأن المذكر عندنا هو أقوى من المؤنث . حتى عقّب عليهم ، ولم يعقّب على قوم شعيب ، قال :( أَلاَ إِنَّ ثَمُودَ كَفرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْدًا لِّثَمُودَ (68) ؛ فهؤلاء استحقوا عذابًا أشد ، فذكّر الصيحة . إذن كلها إشارات على أن عذابهم أشد » .
يا سبحان الله ! ما علاقة أن المذكر أقوى من المؤنث بتذكير الفعل مع الصيحة وتأنيثه ؟ وأي إشارات تلك التي يزعمها تشير إلى أن العذاب مع تذكير الفعل أشد منه مع تأنيثه ؟ هنا يقول : المذكر أقوى من المؤنث ؛ لذا ذكِّر الفعل مع الصيحة ، فدل على أن العذاب أشد وأقوى . وفي قوله تعالى :﴿ فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ ﴾ قال : المذكر في العبادة أكمل من عبادة الأنثى ؛ لذا ذكِّر الفعل مع الملائكة ، ولم يؤنَّث ، واستدل على زعمه هذا بأن الرسل كلهم جاءوا رجالاً ، ولم يأتوا إناثًا .
وفي قوله تعالى :﴿ جَاءكُمْ رَسُولٌ ﴾ ، ﴿ وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ ﴾ زعم أن تذكير الفعل يدل على قلة الرسل والنسوة .
وفي قوله تعالى :﴿ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا ﴾ ، ﴿ قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا ﴾ زعم أن تأنيث الفعل يدل على كثرة الرسل والأعراب .
وفي قوله تعالى :﴿ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ ﴾ زعم أن تذكير منقعر يدل على قلة أعجاز النخل .
وفي قوله تعالى :﴿ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ ﴾ زعم أن تأنيث خاوية يدل على كثرة أعجاز النخل .
وفي قوله تعالى :﴿ مَّعْدُودَةً ﴾ زعم أن تأنيث معدودة يدل على الكثرة .
وفي قوله تعالى :﴿ أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ ﴾ زعم أن تأنيث معدودات يدل على القلة ، ومعدودة هي مفرد معدودات .
وفي قوله تعالى :﴿ نُُسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِ ﴾ زعم أن ضمير الذكور في بطونه للأنعام التي يستخلص منها اللبن ، وهي أقل من عموم الأنعام .
وفي قوله تعالى :﴿ نُّسقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِا ﴾ زعم أن ضمير الإناث في بطونها يدل على كثرة الأنعام ذكورًا وإناثًا .
وكل هذه مزاعم باطلة ، لا أساس لها ولا وجود إلا في مخيلته الواسعة ، قد رددناها عليه وبينا خطأها ، وأنا على ثقة من أن الذين صنعوا من صاحب هذه المزاعم الباطلة عالمًا لا يشق له غبار ، ومبدعًا لا حدود لإبداعه ، وجعلوا منه وثنًا يعبدونه من دون الله ، لو سمعوا هذه الأقوال من غيره ، لما ترددوا في وصفه بالغباء الشديد ، ونعتوه بالإلحاد في تفسير آيات الله عز وجل ، وسلقوه بألسنة حداد . ومن المؤسف والمحزن جدًا أن تجد رجالاً يحملون شهادة الدكترة في علوم القرآن وتفسيره يجعلون تواقيع أسمائهم لمسات بيانية ، فتجد الواحد منهم ينهي كلامه بقوله : الدكتور فلان ، وتحته ( لمسات بيانية ) ، وهذه هي اللمسات تنطق بنفسها بأنها لمسات غبية وضبابية ، ومن العجيب أن صاحبها يزعم أنه حين ذهب للعمرة والحج بعد رحلة الإيمان كان عنده معرفة جيدة بالقرآن ؛ ولكن لم يكن عنده علم كبير فيه ، فدعا ربه أن يفتح له في كتابه فتحًا مباركًا ، ثم ذهب إلى زمزم وشرب من مائها ، ودعا ثانية أن يفتح له ربه من خزائن علمه فتحًا مباركًا ، وهو متعلق بأستار الكعبة ؛ وإذ الأمر وكأنه قد تيسر له ، واستجيبت دعوته ، وكانت هذه اللمسات التي يلحد فيها بتفسير آيات الله عز وجل ثمرة من ثمرات تلك الاستجابة .
ولست أدري كيف لعالم نحوي كبير قد فتح الله له من خزائن علمه يصف العلم بأنه كبير ، فيقول :« ولكن لم يكن عندي علم كبير فيه » ! وهل يوصف العلم بأنه كبير ، أو صغير ؟ وهل عالم كبير هذا شأنه ، بدلاً من أن يقول :« قال الله عز وجل ، أو قال الله سبحانه » ، يقول :« قال ، أو هو قال » ، وبلغة العوام ؟ وهل عالم هذا شأنه يقول مرة :« أبواب النار مغلقة وحتى لا تتبدد الحرارة » ، ويقول أخرى عن أهل النار :« يدخلونها ، ثم تقفل عليهم وحتى تبقى الحرارة فيها » ؟ فهل النار التي أعدها الله للكافرين وجعل وقودها الناس والحجارة فرن من أفران الدنيا تتبدد حرارتها بانفتاح أبوابها ، فتقفل حتى تبقى الحرارة فيها ؟ وهل عالم كبير بهر الناس بسعة علمه ودقته يقول :« التذكير في العبادات أفضل وأهمّ من التأنيث ، كما جاء في مريم ( وكانت من القانتين ) ؛ لأن الذين كملوا في التذكير أكثر » ؟ ما هذا التخريف ؟ إنه لشيء عجاب والله ، وأعجب منه أن تنطلي هذه الأقوال وأمثالها على أهل المعرفة والعلم بالقرآن .
ألم يعلم الدكتور السامرائي أنه إذا قال :( سجدت مريم لربها ، وقنتت ) أن تأنيث فعل ( السجود ) ، و( القنوت ) واجب ؛ لأن الفاعل مؤنث حقيقي ؟ وألم يعلم أن فعل السجود الذي تقدم على فاعله لا يجوز تأنيثه إلا إذا فصل بينه ، وبين فاعله بفاصل ؛ كأن بقال :( سجد في المحراب مريم ) ، والأحسن منه أن يقال :( سجدت في المحراب مريم ) بالتأنيث ؟ وألم يعلم أن الفعل الثاني الذي تأخر عن فاعله لا يجوز فيه إلا التأنيث ؛ كما في قوله تعالى :﴿ وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ ﴾(التحريم: 12) ؟ وألم يعلم أنه إذا قال :( سجد محمد لربه ، وقنت ) أن تذكير كل من فعلي السجود والقنوت واجب التذكير ؛ لأن الفاعل مذكر حقيقي ؛ سواء تقدم الفعل عليه ، أم تأخر عنه ؟ فإذا كان يعلم ذلك ، ولا أشك في أنه يعلم ، فكيف يزعم أن تذكير الفعل مع محمد ، وتأنيثه مع مريم يدل على أن المذكر أكمل في العبادة من المؤنث ؟
وأما قوله تعالى :﴿ فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ ﴾ فيجوز فيه تأنيث الفعل بإجماع النحاة والمفسرين ، وباعتراف السامرائي نفسه ، فيقال:( سجدت الملائكة ) ، هذا جائز ، ولا يمكن أن ينكره أحد ؛ لأن لفظ الملائكة جمع تكسير ، وهو حسنٌ لو أنه قيل ؛ ولكن الأحسن منه التذكير ؛ لأن الأصل في لفظ الملائكة التذكير ، وتأنيثه عارض ؛ ولأن الفعل باشر فاعله ؛ ولأن التاء فيه أغنت عن تاء الفعل ؛ كما أغنت عنها في قوله تعالى :﴿ وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي المَدِينَةِ ﴾(يوسف: 30) ؛ ولأن ( سجد ) يدل على سرعة السجود أكثر مما يدل عليها ( سجدت ) ؛ ولأن عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه- كان يُذكِّر الفعل مع الملائكة في القرآن كله ، وكان يقول :« ذكِّروا الملائكة ، ويتلو :﴿ إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنثَى ﴾(النجم: 27) » ؛ فلهذه الأسباب كلها مجتمعة جاء فعل السجود مذكَّرًا مع الملائكة . وأما أن يقال : ذكِّر فعل السجود مع الملائكة ؛ لأن المذكر أكمل في العبادة من الأنثى ، وأن الذين كملوا في العبادة من الرجال أكثر ، فهذا قول لا يقوله إلا جاهل ، فضلاً عن كونه عالمًا كبيرًا .
وأما قوله تعالى :﴿ وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ ﴾ ، وقوله تعالى :﴿ وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ ﴾ فجاء الفعل في الأول مذكَّرًا ؛ لأن المراد بالصيحة فيه المصدر بمعنى الصياح ، وهو مذكر ، وجاء في الثاني مؤنَّثًا ؛ لأن المراد بالصيحة فيه الواحدة من المصدر ، وهي مؤنَّثة ؛ فكان التذكير في الأول أحسن ، وكان التأنيث في الثاني أحسن . ولو كان المراد بالصيحة في الآيتين معنى واحدًا ، لكان تذكير الفعل معها أحسن من تأنيثه ، لاستوائهما في الفصل . وأما القول بأن الصيحة بمعنى العذاب ، وأنه مع تذكير الفعل أشد منه مع تأنيثه ؛ لأن التذكير أقوى من التأنيث ، فهو قول يدل على أن صاحبه لم يكن عنده علم كبير ولا صغير في القرآن ، خلافًا لما يزعم ، والله تعالى أعلم ، ﴿ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ﴾ ، سبحانه وتعالى عما يقول الجاهلون علوًّا كبيرًا ، والحمد لله رب العالمين !