﴿ وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ ﴾
أولاً- سأل
أحدهم : عن سبب مجيء الفعل ( قال )
بالتذكير مع ( نسوة ) في قوله تعالى :﴿
وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن
نَّفْسِهِ ﴾(يوسف: 30) وبالتأنيث
في قوله تعالى :﴿ قَالَتِ
الْأَعْرَابُ آمَنَّا ﴾(الحجرات: 14) ، وعن وجه ذلك في العربية . وهذا السؤال كان قد وُجِّه
إلى الدكتور فاضل السامرائي في برنامج ( لمسات بيانية )
، فأجاب عنه بما يأتي :
« تذكير الفعل يستعمل مع جمع التكسير ؛ ليفيد القِلّة ؛ كما جاء في
الآية في سورة يوسف :( وَقَالَ
نِسْوَةٌ )(يوسف: 30) ؛ لأن النسوة كانوا قِلّة ،
وهذا بخلاف تأنيث الفعل ، فإنه يفيد الكثرة ؛ كما قال تعالى في آية أخرى في سورة
الحجرات :( قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا )(الحجرات:
14) ، ( قالت ) ، تفيد الكثرة هنا ؛ لأن الأعراب كثرة ، وفيهم قبائل متعددة ،
فتاء التأنيث في الفعل تفيد التكثير » .
وفي
لمسة أخرى قال الدكتور فاضل :« نحن لدينا
قاعدة كنت غافلاً عنها ( أن التأنيث
يفيد الكثرة ، والتذكير قد يفيد القلة ، والتأنيث قد يفيد المبالغة ) . ربنا قال :(
وَقَالَ نِسْوَةٌ )(يوسف: 30) . قال :( قال ) ؛ لكن قال
:( قَالَتِ الْأَعْرَابُ )(الحجرات: 14) ؛ لأن
النسوة قليل ، والأعراب كثير . هذا في القرآن كثير ؛ فالتأنيث يفيد الكثرة » .
وذكر الدكتور فاضل أيضًا هذه القاعدة في لمسة أخرى ، فقال :« جمع
التكسير يجوز فيه التذكير والتأنيث :( نسوة ) ، جمع
تكسير ، يبقى السبب ، تقول : أقبل الرجال ، وأقبلت الرجال . قالت الرسل ، وقال
الرسل .. يبقى الاختيار ، نحن عندنا في هذا قاعدة ( أن التذكير
يدل على القِلّة ، والتأنيث يدل على الكثرة ) . ( قال نسوة ) قليلة ، ( قالت
الأعراب ) كثير » .
ثانيًا- وفي الجواب عن ذلك نقول بعون الله وتعليمه :
1- لفظ ( النِّسْوَة ) ، بكسر النون ، فيه ثلاثة أقوال :
أولها
: أنه جمعُ تكسير للقلَّة
؛ كالصِّبْيَة والفِتْيَةِ والغِلْمَة ، ونصَّ بعضهم على عدم اطَّراده ، وليس له
واحدٌ من لفظه .
والثاني
: أنه اسمٌ مفردٌ لجمع المرأة
، قاله الزمخشريُّ .
والثالث
: أنه اسم جمع ، قاله أبو
بكر بنُ السَّراج ؛ وكذلك أخواتها ؛ كالصِّبيةِ ، والفِتْيَةِ ، والغِلْمَة .
وقيل : تأنيثه على كُلِّ قولٍ غير حقيقي ، باعتبارِ الجماعةِ ؛ ولذلك لم
يلحق فعله تاء التأنيث .
وأشهر هذه الأقوال القول
الأول ، والمشهور فيه كسر النون ، ويجوز ضمُّها في لغةٍ
، ونقلها أبو البقاءِ عن قراءة أحدهم . قال القرطبي : وهي قراءة الأعمش ، والمفضل
والسلمي . قيل : وإذا ضُمَّتْ نونه ، كان اسم جمع بلا خلاف .
والصواب : أن لفظ ( النِّسْوَة ) اسم جمع يدل على القلة ؛ سواء كسرت نونه ، أو
ضمَّت ، ولا مفرد له من لفظه ، وتأنيثه حقيقيٌّ ، ويقال في جمع : المرأة . كما يقال : القوم في جمع : المرء ، ويُكسَّر في الكثرة على ( نِسْوان ) ، والألف والنون للمبالغة في الكثرة . ومثل ( النسوة ) في كونه اسم جمع لا مفرد له من لفظه ( النساء ) ، والفرق بينهما : أن لفظ ( النساء ) جمع كثرة ، ولفظ ( النسوة ) جمع قلَّة ، يقال : نساء كثير ،
ونسوان كثير ، ولا يقال : نسوة كثير ؛ وإنما يقال :(
ثلاثُ نسوة ) إلى ( عشر نسوة ) ، وقوله تعالى :﴿
وَقَالَ نِسْوَةٌ ﴾(يوسف: 30) ، قال أبو
حيان :« ونسوة كما ذكرنا جمع قلة ، وكنَّ على ما نقل خمسًا : امرأة خبَّازة ، وامرأة ساقية ، وامرأة
بوَّابة ، وامرأة سجَّانة ، وامرأة صاحب دوابه» . وقال الزمخشري : وكنّ خمسًا :« امرأة الساقي ، وامرأة الخباز ، وامرأة صاحب الدواب ، وامرأة صاحب
السجن ، وامرأة الحاجب » .
أما
لفظ ( الأعراب ) فقيل : هو جمع تكسير ، وقيل : هو
اسم جمع لا مفرد له من لفظه . والأول هو الصحيح ، ويدل بصيغته على القلة ، ومفرده ( أعرابي ) ، ويُكسَّر في الكثرة على ( أعاريب )
، ويطلق على جماعة من سكان البوادي الجفاة ؛ سواء كانوا من العرب ، أو من مواليهم . ويقابله
لفظ ( العرب ) ، وهو اسم جنس جمعي كالروم والفرس
، ومفرده ( عربيٌّ ) . قال الأزهري في فقه اللغة
:« ويجمع (
الأعرابي ) على ( الأعراب ) ، و( الأعاريب ) . والأعرابيُّ إذا قيل له : يا عربيُّ ! فرح بذاك وهشَّ له .
والعربيُّ إذا قيل له : يا أعرابيُّ غضب له . فمن نزل
البادية ، أو جاور البادينَ وظعَن بظعْنهم فهم ( أعراب ) ، ومن نزل بلاد الريف واستوطن المدن والقرى
العربية وغيرها مما ينتمي إلى العرب ، فهم ( عرب ) ، وإن لم يكونوا فصحاء » .
ودلالة
( الأعراب ) على القلة ظاهرة ، وهو من العام الذي يراد به الخاص ، وذكر
المفسرون أن قوله تعالى :﴿ قَالَتِ
الْأَعْرَابُ آمَنَّا ﴾(الحجرات: 14) نزل في جماعة منهم ، وهم من بوادي العرب ،
قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم المدينة طمعًا في الصدقات ، لا رغبة في
الإسلام ، فسمَّاهم الله عز وجل ( الأعراب ) ، ومما
يدل على أنهم جماعة مخصوصة قول الله تعالى في بعضهم :﴿ وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِاللّهِ
وَالْيَوْمِ الآخِرِ ﴾(التوبة: 99) . ومثلهم الذين ذكرهم الله تعالى ووصفهم بقوله :﴿ الأَعْرَابُ أَشَدُّ
كُفْراً وَنِفَاقاً ﴾(التوبة: 97) ؛ وذلك لجفائهم وغلظ طباعهم وبعدهم عن سماع
القرآن . قال الواحدي في أسباب
النزول :
قوله تعالى :﴿ الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً ﴾
نزلت في أعاريب من أسد وغطفان ، وأعاريب من أعاريب حاضري المدينة » .
2- أن الأصل في لفظ ( النسوة ) ، إذا أسند إلى فعل أن يُذكَّر ذلك الفعل ، فتقول :( قال النسوة ) ، فتحذف التاء ؛ لأنه اسم جمع ؛ كـ( رهط ، وقوم ) ؛
وكأنه قيل : وقال جمع النسوة . ولولا أن فيه تاء التأنيث ، لفتحت التاء في فعله ؛
ولكنه قد يجوز أن يقال :( قالت نسوة ) ، بإثبات التاء ؛ لأن تأنيثه حقيقي ؛ إلا أن حذف التاء ههنا أبلغ
وأحسن من إثباتها للعلة التي ذكرناها ؛ ولهذا قال تعالى :﴿
وَقَالَ نِسْوَةٌ ﴾ ، ولم يقل :( وقالت نسوة ) .
3- أن الأصل في لفظ ( الأعراب ) ، إذا أسند إلى فعل أن يؤنَّث ذلك الفعل ،
فتقول :( قالت الأعراب ) ، فتثبت التاء ، ويجوز أن تقول :( قال الأعراب ) ، فتحذف التاء ؛ لأنه جمع تكسير ؛ كـ( الأنصار ) . وجمع التكسير يجوز تأنيث الفعل معه ، وتذكيره ، فتقول :( قالت الأنصار ) ، و( قال الأنصار ) ، فتثبت التاء في الفعل ، وتحذفها . أما حذفها فلتذكير اللفظ ، وأما إثباتها فلأنه في معنى الجماعة ؛ وكأنه قيل :
قالت جماعة الأعراب . وإثبات التاء ههنا أبلغ من حذفها ؛ ولهذا قال تعالى :﴿ قَالَتِ
الْأَعْرَابُ آمَنَّا ﴾ ، ولم يقل :( قال الأعراب ) .
قال ابن قيِّم الجَوْزِيَّة في بدائع الفوائد :« فإن كان الفاعل جمعًا مُكَسَّرًا ، دخلت التاء للتأنيث ، وحذفت
لتذكير اللفظ ؛ لأنه بمنزلة الواحد ، في أنَّ إعرابَه كإعرابه
، ومجراه في كثير من الكلام مجرى اسم الجنس » . ثم قال :« وزعموا أن التاء في ﴿ قَالَتِ
الْأَعْرَابُ ﴾ ، ونحوه ، لتأنيث الجماعة ، وهو غير حقيقي ، وقد كان على لحوق التاء
في :﴿ وَقَالَ نِسْوَةٌ ﴾ أولى ؛ لأن تأنيثهن حقيقي » .
وأما ما ذهب الزمخشري إليه في قوله تعالى ﴿
وَقَالَ نِسْوَةٌ ﴾ من أن التاء لم تلحق الفعل ؛ لأن تأنيث ( النسوة ) غير حقيقي ، فهو مبني على قوله :« والنسوة اسم مفرد لجمع المرأة » . وأما ما ذهب إليه أبو
حيان وغيره من أن تاء التأنيث لم تلحقه ؛ لأنه جمع تكسير المؤنث ، فقد ذكرنا أن الصحيح فيه أنه اسم جمع للقلة ،
لا مفرد له من لفظه ، وهذا ما صرح به ابن قيِّم الجَوْزِيَّة في قوله السابق .
ثالثًا- نخلص مما تقدم إلى أن كلاً من لفظ ( نسوة ) ، ولفظ ( الأعراب ) يدل بصيغته على القلة ، وأن تذكير الفعل ، أو تأنيثه معهما لا يدل
على قلة ، ولا كثرة ، ويبدو الفرق بينهما من وجهين :
أحدهما : أن لفظ ( النسوة ) اسم جمع لا مفرد له من لفظه وتأنيثه حقيقي ،
وأن لفظ ( الأعراب ) جمع تكسير ، مفرده ( أعرابي ) ، وتأنيثه غير حقيقي . فإذا أسند كل منهما
إلى الفعل ، جاز في هذا الفعل التذكير ، والتأنيث .
أما تذكير الفعل مع ( نسوة ) فلأنه في معنى الجمع ؛
لأنه اسم جمع . وأما تأنيثه فلتأنيث اللفظ ؛ لأن تأنيثه حقيقي .
وأما تذكيره مع ( الأعراب ) فلتذكير اللفظ ؛
لأنه جمع تكسير . وأما تأنيثه فلأنه في معنى الجماعة ؛
لأن تأنيثه غير حقيقي .
والثاني : إذا تأخر الفعل عن ( النسوة ) ، وجب اتصاله بضمير جمع المؤنث ، فيقال على
هذا :( النسوة قلن ) ، والشاهد قوله تعالى :﴿ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ
أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ ﴾(يوسف:
31) . أما ( الأعراب ) إن تأخر الفعل عنه جاز اتصاله بضمير جمع
المؤنث ، وضمير جمع المذكر ، فيقال على هذا :( الأعراب قلن ) ، و( الأعراب قالوا ) ، والتذكير بضمير جمع المذكر أحسن ، وعليه ورد قوله تعالى :﴿ قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا
أَسْلَمْنَا ﴾(الحجرات:
14) ، ويؤيده قوله تعالى :﴿ وَمِمَّن حَولَكُم مِّنَ الأَعرابِ مُنافِقونَ ﴾(التوبة:
101) ، فأخبر الله عز وجل عنهم بجمع المذكر ، وهم :
جهينة ، ومزينة ، وأشجع ، وأسلم ، وغفار .
إذا عرفت هذا فاعلم أن الدكتور فاضل السامرائي
في جوابه السابق قد خلط بين ( النسوة ) ، و( الأعراب ) ، فجمعهما معًا تحت مسمًّى واحد ، وهو جمع
التكسير ، ثم زعم أن ( الأعراب ) كثير ، بخلاف ( النسوة ) ؛ إذ هم قليل . والظاهر أنه قاس لفظ ( الأعراب ) على
لفظ ( النسوة ) ، ونظر إليهما من مرصده الخاص ،
فرأى أن ( الأعراب ) كثير بالنسبة إلى ( النسوة ) ، وكان عليه أن يقيس ( النسوة ) على ( النسوان )
، أو ( النساء ) ، وأن بقيس ( الأعراب ) على ( الأعاريب )
؛ ولكنه أخطأ القياس ، فوقع فيما لا ينبغي لمثله أن يقع فيه . ثم زعم أن تذكير الفعل مع ( نسوة ) يفيد القلة ، وأن تأنيثه مع ( الأعراب ) يفيد الكثرة ، وذكر في ذلك قاعدة ، كان قد
نسيها ، ثم تذكرها ، وهي :« أن التذكير يفيد القلة ،
والتأنيث يفيد الكثرة » ، وخلص من ذلك إلى أن
قوله تعالى :﴿ وَقَالَ نِسْوَةٌ ﴾ بالتذكير يفيد القلة ، وأن قوله تعالى :﴿ قَالَتِ
الْأَعْرَابُ آمَنَّا ﴾ بالتأنيث يفيد الكثرة ، فوقع ثانية فيما لا ينبغي لمثله أن يقع فيه
.
وإن كان من سبب آخر لتذكير الفعل في قوله تعالى
:﴿ وَقَالَ نِسْوَةٌ ﴾ ، وتأنيثه في قوله تعالى :﴿ قَالَتِ
الْأَعْرَابُ آمَنَّا ﴾ غير الذي ذكرناه ، فهو
أن حذف التاء من الفعل في الأول يفيد سرعة حدوث الفعل ، بخلاف إثباتها في الثاني ،
ويبين لك ذلك أن النسوة كُنَّ حريصات على أن ينشرن قصة مراودة امرأة العزيز لفتاها
بأقصى سرعة ممكنة ، وقد تمَّ لهن ما أردن ، فانتشرت القصة في أهل مصر كانتشار
النار في الهشيم ، وقد ساعد على ذلك حذف التاء من الفعل . ولو جاء التعبير بالتاء :( وقالت نسوة ) ، لما دل على سرعة حدوثه ؛ كدلالته مع حذفها . وأما قوله تعالى :﴿ قَالَتِ
الْأَعْرَابُ آمَنَّا ﴾ فليس فيه من سبب يستدعي
سرعة الفعل ؛ فلذلك ثبتت الفاء فيه .. هذا ، وقد ذكر الألوسي في ذلك علة طريفة ،
فقال :« النكتة في اعتبار التأنيث في قوله تعالى :﴿ قَالَتِ
الْأَعْرَابُ آمَنَّا ﴾ الإشارة إلى قلة عقول الأعراب ، على عكس ما روعي التذكير في قوله
تعالى :﴿ وَقَالَ نِسْوَةٌ ﴾
» . وأما أن يقال :« التذكير يفيد القلة ،
والتأنيث يفيد الكثرة » ، فهذا قول لم يقل به
أحد .. والله تعالى أعلم !
أولاً- سأل
أحدهم : عن سبب مجيء الفعل ( قال )
بالتذكير مع ( نسوة ) في قوله تعالى :﴿
وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن
نَّفْسِهِ ﴾(يوسف: 30) وبالتأنيث
في قوله تعالى :﴿ قَالَتِ
الْأَعْرَابُ آمَنَّا ﴾(الحجرات: 14) ، وعن وجه ذلك في العربية . وهذا السؤال كان قد وُجِّه
إلى الدكتور فاضل السامرائي في برنامج ( لمسات بيانية )
، فأجاب عنه بما يأتي :
« تذكير الفعل يستعمل مع جمع التكسير ؛ ليفيد القِلّة ؛ كما جاء في
الآية في سورة يوسف :( وَقَالَ
نِسْوَةٌ )(يوسف: 30) ؛ لأن النسوة كانوا قِلّة ،
وهذا بخلاف تأنيث الفعل ، فإنه يفيد الكثرة ؛ كما قال تعالى في آية أخرى في سورة
الحجرات :( قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا )(الحجرات:
14) ، ( قالت ) ، تفيد الكثرة هنا ؛ لأن الأعراب كثرة ، وفيهم قبائل متعددة ،
فتاء التأنيث في الفعل تفيد التكثير » .
وفي
لمسة أخرى قال الدكتور فاضل :« نحن لدينا
قاعدة كنت غافلاً عنها ( أن التأنيث
يفيد الكثرة ، والتذكير قد يفيد القلة ، والتأنيث قد يفيد المبالغة ) . ربنا قال :(
وَقَالَ نِسْوَةٌ )(يوسف: 30) . قال :( قال ) ؛ لكن قال
:( قَالَتِ الْأَعْرَابُ )(الحجرات: 14) ؛ لأن
النسوة قليل ، والأعراب كثير . هذا في القرآن كثير ؛ فالتأنيث يفيد الكثرة » .
وذكر الدكتور فاضل أيضًا هذه القاعدة في لمسة أخرى ، فقال :« جمع
التكسير يجوز فيه التذكير والتأنيث :( نسوة ) ، جمع
تكسير ، يبقى السبب ، تقول : أقبل الرجال ، وأقبلت الرجال . قالت الرسل ، وقال
الرسل .. يبقى الاختيار ، نحن عندنا في هذا قاعدة ( أن التذكير
يدل على القِلّة ، والتأنيث يدل على الكثرة ) . ( قال نسوة ) قليلة ، ( قالت
الأعراب ) كثير » .
ثانيًا- وفي الجواب عن ذلك نقول بعون الله وتعليمه :
1- لفظ ( النِّسْوَة ) ، بكسر النون ، فيه ثلاثة أقوال :
أولها
: أنه جمعُ تكسير للقلَّة
؛ كالصِّبْيَة والفِتْيَةِ والغِلْمَة ، ونصَّ بعضهم على عدم اطَّراده ، وليس له
واحدٌ من لفظه .
والثاني
: أنه اسمٌ مفردٌ لجمع المرأة
، قاله الزمخشريُّ .
والثالث
: أنه اسم جمع ، قاله أبو
بكر بنُ السَّراج ؛ وكذلك أخواتها ؛ كالصِّبيةِ ، والفِتْيَةِ ، والغِلْمَة .
وقيل : تأنيثه على كُلِّ قولٍ غير حقيقي ، باعتبارِ الجماعةِ ؛ ولذلك لم
يلحق فعله تاء التأنيث .
وأشهر هذه الأقوال القول
الأول ، والمشهور فيه كسر النون ، ويجوز ضمُّها في لغةٍ
، ونقلها أبو البقاءِ عن قراءة أحدهم . قال القرطبي : وهي قراءة الأعمش ، والمفضل
والسلمي . قيل : وإذا ضُمَّتْ نونه ، كان اسم جمع بلا خلاف .
والصواب : أن لفظ ( النِّسْوَة ) اسم جمع يدل على القلة ؛ سواء كسرت نونه ، أو
ضمَّت ، ولا مفرد له من لفظه ، وتأنيثه حقيقيٌّ ، ويقال في جمع : المرأة . كما يقال : القوم في جمع : المرء ، ويُكسَّر في الكثرة على ( نِسْوان ) ، والألف والنون للمبالغة في الكثرة . ومثل ( النسوة ) في كونه اسم جمع لا مفرد له من لفظه ( النساء ) ، والفرق بينهما : أن لفظ ( النساء ) جمع كثرة ، ولفظ ( النسوة ) جمع قلَّة ، يقال : نساء كثير ،
ونسوان كثير ، ولا يقال : نسوة كثير ؛ وإنما يقال :(
ثلاثُ نسوة ) إلى ( عشر نسوة ) ، وقوله تعالى :﴿
وَقَالَ نِسْوَةٌ ﴾(يوسف: 30) ، قال أبو
حيان :« ونسوة كما ذكرنا جمع قلة ، وكنَّ على ما نقل خمسًا : امرأة خبَّازة ، وامرأة ساقية ، وامرأة
بوَّابة ، وامرأة سجَّانة ، وامرأة صاحب دوابه» . وقال الزمخشري : وكنّ خمسًا :« امرأة الساقي ، وامرأة الخباز ، وامرأة صاحب الدواب ، وامرأة صاحب
السجن ، وامرأة الحاجب » .
أما
لفظ ( الأعراب ) فقيل : هو جمع تكسير ، وقيل : هو
اسم جمع لا مفرد له من لفظه . والأول هو الصحيح ، ويدل بصيغته على القلة ، ومفرده ( أعرابي ) ، ويُكسَّر في الكثرة على ( أعاريب )
، ويطلق على جماعة من سكان البوادي الجفاة ؛ سواء كانوا من العرب ، أو من مواليهم . ويقابله
لفظ ( العرب ) ، وهو اسم جنس جمعي كالروم والفرس
، ومفرده ( عربيٌّ ) . قال الأزهري في فقه اللغة
:« ويجمع (
الأعرابي ) على ( الأعراب ) ، و( الأعاريب ) . والأعرابيُّ إذا قيل له : يا عربيُّ ! فرح بذاك وهشَّ له .
والعربيُّ إذا قيل له : يا أعرابيُّ غضب له . فمن نزل
البادية ، أو جاور البادينَ وظعَن بظعْنهم فهم ( أعراب ) ، ومن نزل بلاد الريف واستوطن المدن والقرى
العربية وغيرها مما ينتمي إلى العرب ، فهم ( عرب ) ، وإن لم يكونوا فصحاء » .
ودلالة
( الأعراب ) على القلة ظاهرة ، وهو من العام الذي يراد به الخاص ، وذكر
المفسرون أن قوله تعالى :﴿ قَالَتِ
الْأَعْرَابُ آمَنَّا ﴾(الحجرات: 14) نزل في جماعة منهم ، وهم من بوادي العرب ،
قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم المدينة طمعًا في الصدقات ، لا رغبة في
الإسلام ، فسمَّاهم الله عز وجل ( الأعراب ) ، ومما
يدل على أنهم جماعة مخصوصة قول الله تعالى في بعضهم :﴿ وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِاللّهِ
وَالْيَوْمِ الآخِرِ ﴾(التوبة: 99) . ومثلهم الذين ذكرهم الله تعالى ووصفهم بقوله :﴿ الأَعْرَابُ أَشَدُّ
كُفْراً وَنِفَاقاً ﴾(التوبة: 97) ؛ وذلك لجفائهم وغلظ طباعهم وبعدهم عن سماع
القرآن . قال الواحدي في أسباب
النزول :
قوله تعالى :﴿ الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً ﴾
نزلت في أعاريب من أسد وغطفان ، وأعاريب من أعاريب حاضري المدينة » .
2- أن الأصل في لفظ ( النسوة ) ، إذا أسند إلى فعل أن يُذكَّر ذلك الفعل ، فتقول :( قال النسوة ) ، فتحذف التاء ؛ لأنه اسم جمع ؛ كـ( رهط ، وقوم ) ؛
وكأنه قيل : وقال جمع النسوة . ولولا أن فيه تاء التأنيث ، لفتحت التاء في فعله ؛
ولكنه قد يجوز أن يقال :( قالت نسوة ) ، بإثبات التاء ؛ لأن تأنيثه حقيقي ؛ إلا أن حذف التاء ههنا أبلغ
وأحسن من إثباتها للعلة التي ذكرناها ؛ ولهذا قال تعالى :﴿
وَقَالَ نِسْوَةٌ ﴾ ، ولم يقل :( وقالت نسوة ) .
3- أن الأصل في لفظ ( الأعراب ) ، إذا أسند إلى فعل أن يؤنَّث ذلك الفعل ،
فتقول :( قالت الأعراب ) ، فتثبت التاء ، ويجوز أن تقول :( قال الأعراب ) ، فتحذف التاء ؛ لأنه جمع تكسير ؛ كـ( الأنصار ) . وجمع التكسير يجوز تأنيث الفعل معه ، وتذكيره ، فتقول :( قالت الأنصار ) ، و( قال الأنصار ) ، فتثبت التاء في الفعل ، وتحذفها . أما حذفها فلتذكير اللفظ ، وأما إثباتها فلأنه في معنى الجماعة ؛ وكأنه قيل :
قالت جماعة الأعراب . وإثبات التاء ههنا أبلغ من حذفها ؛ ولهذا قال تعالى :﴿ قَالَتِ
الْأَعْرَابُ آمَنَّا ﴾ ، ولم يقل :( قال الأعراب ) .
قال ابن قيِّم الجَوْزِيَّة في بدائع الفوائد :« فإن كان الفاعل جمعًا مُكَسَّرًا ، دخلت التاء للتأنيث ، وحذفت
لتذكير اللفظ ؛ لأنه بمنزلة الواحد ، في أنَّ إعرابَه كإعرابه
، ومجراه في كثير من الكلام مجرى اسم الجنس » . ثم قال :« وزعموا أن التاء في ﴿ قَالَتِ
الْأَعْرَابُ ﴾ ، ونحوه ، لتأنيث الجماعة ، وهو غير حقيقي ، وقد كان على لحوق التاء
في :﴿ وَقَالَ نِسْوَةٌ ﴾ أولى ؛ لأن تأنيثهن حقيقي » .
وأما ما ذهب الزمخشري إليه في قوله تعالى ﴿
وَقَالَ نِسْوَةٌ ﴾ من أن التاء لم تلحق الفعل ؛ لأن تأنيث ( النسوة ) غير حقيقي ، فهو مبني على قوله :« والنسوة اسم مفرد لجمع المرأة » . وأما ما ذهب إليه أبو
حيان وغيره من أن تاء التأنيث لم تلحقه ؛ لأنه جمع تكسير المؤنث ، فقد ذكرنا أن الصحيح فيه أنه اسم جمع للقلة ،
لا مفرد له من لفظه ، وهذا ما صرح به ابن قيِّم الجَوْزِيَّة في قوله السابق .
ثالثًا- نخلص مما تقدم إلى أن كلاً من لفظ ( نسوة ) ، ولفظ ( الأعراب ) يدل بصيغته على القلة ، وأن تذكير الفعل ، أو تأنيثه معهما لا يدل
على قلة ، ولا كثرة ، ويبدو الفرق بينهما من وجهين :
أحدهما : أن لفظ ( النسوة ) اسم جمع لا مفرد له من لفظه وتأنيثه حقيقي ،
وأن لفظ ( الأعراب ) جمع تكسير ، مفرده ( أعرابي ) ، وتأنيثه غير حقيقي . فإذا أسند كل منهما
إلى الفعل ، جاز في هذا الفعل التذكير ، والتأنيث .
أما تذكير الفعل مع ( نسوة ) فلأنه في معنى الجمع ؛
لأنه اسم جمع . وأما تأنيثه فلتأنيث اللفظ ؛ لأن تأنيثه حقيقي .
وأما تذكيره مع ( الأعراب ) فلتذكير اللفظ ؛
لأنه جمع تكسير . وأما تأنيثه فلأنه في معنى الجماعة ؛
لأن تأنيثه غير حقيقي .
والثاني : إذا تأخر الفعل عن ( النسوة ) ، وجب اتصاله بضمير جمع المؤنث ، فيقال على
هذا :( النسوة قلن ) ، والشاهد قوله تعالى :﴿ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ
أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ ﴾(يوسف:
31) . أما ( الأعراب ) إن تأخر الفعل عنه جاز اتصاله بضمير جمع
المؤنث ، وضمير جمع المذكر ، فيقال على هذا :( الأعراب قلن ) ، و( الأعراب قالوا ) ، والتذكير بضمير جمع المذكر أحسن ، وعليه ورد قوله تعالى :﴿ قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا
أَسْلَمْنَا ﴾(الحجرات:
14) ، ويؤيده قوله تعالى :﴿ وَمِمَّن حَولَكُم مِّنَ الأَعرابِ مُنافِقونَ ﴾(التوبة:
101) ، فأخبر الله عز وجل عنهم بجمع المذكر ، وهم :
جهينة ، ومزينة ، وأشجع ، وأسلم ، وغفار .
إذا عرفت هذا فاعلم أن الدكتور فاضل السامرائي
في جوابه السابق قد خلط بين ( النسوة ) ، و( الأعراب ) ، فجمعهما معًا تحت مسمًّى واحد ، وهو جمع
التكسير ، ثم زعم أن ( الأعراب ) كثير ، بخلاف ( النسوة ) ؛ إذ هم قليل . والظاهر أنه قاس لفظ ( الأعراب ) على
لفظ ( النسوة ) ، ونظر إليهما من مرصده الخاص ،
فرأى أن ( الأعراب ) كثير بالنسبة إلى ( النسوة ) ، وكان عليه أن يقيس ( النسوة ) على ( النسوان )
، أو ( النساء ) ، وأن بقيس ( الأعراب ) على ( الأعاريب )
؛ ولكنه أخطأ القياس ، فوقع فيما لا ينبغي لمثله أن يقع فيه . ثم زعم أن تذكير الفعل مع ( نسوة ) يفيد القلة ، وأن تأنيثه مع ( الأعراب ) يفيد الكثرة ، وذكر في ذلك قاعدة ، كان قد
نسيها ، ثم تذكرها ، وهي :« أن التذكير يفيد القلة ،
والتأنيث يفيد الكثرة » ، وخلص من ذلك إلى أن
قوله تعالى :﴿ وَقَالَ نِسْوَةٌ ﴾ بالتذكير يفيد القلة ، وأن قوله تعالى :﴿ قَالَتِ
الْأَعْرَابُ آمَنَّا ﴾ بالتأنيث يفيد الكثرة ، فوقع ثانية فيما لا ينبغي لمثله أن يقع فيه
.
وإن كان من سبب آخر لتذكير الفعل في قوله تعالى
:﴿ وَقَالَ نِسْوَةٌ ﴾ ، وتأنيثه في قوله تعالى :﴿ قَالَتِ
الْأَعْرَابُ آمَنَّا ﴾ غير الذي ذكرناه ، فهو
أن حذف التاء من الفعل في الأول يفيد سرعة حدوث الفعل ، بخلاف إثباتها في الثاني ،
ويبين لك ذلك أن النسوة كُنَّ حريصات على أن ينشرن قصة مراودة امرأة العزيز لفتاها
بأقصى سرعة ممكنة ، وقد تمَّ لهن ما أردن ، فانتشرت القصة في أهل مصر كانتشار
النار في الهشيم ، وقد ساعد على ذلك حذف التاء من الفعل . ولو جاء التعبير بالتاء :( وقالت نسوة ) ، لما دل على سرعة حدوثه ؛ كدلالته مع حذفها . وأما قوله تعالى :﴿ قَالَتِ
الْأَعْرَابُ آمَنَّا ﴾ فليس فيه من سبب يستدعي
سرعة الفعل ؛ فلذلك ثبتت الفاء فيه .. هذا ، وقد ذكر الألوسي في ذلك علة طريفة ،
فقال :« النكتة في اعتبار التأنيث في قوله تعالى :﴿ قَالَتِ
الْأَعْرَابُ آمَنَّا ﴾ الإشارة إلى قلة عقول الأعراب ، على عكس ما روعي التذكير في قوله
تعالى :﴿ وَقَالَ نِسْوَةٌ ﴾
» . وأما أن يقال :« التذكير يفيد القلة ،
والتأنيث يفيد الكثرة » ، فهذا قول لم يقل به
أحد .. والله تعالى أعلم !