سر تأكيد خبر { إنَّ } باللام
قال الله تعالى في الحث على الصبر
والمغفرة :﴿ وَلَمَن
صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ﴾(الشورى: 43) . وقال سبحانه في آية أخرى :﴿ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ
إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ﴾(لقمان: 17) ،
فأدخل لام التوكيد على خبر { إنَّ } في
آية الشورى ، ونزعها منه في
آية لقمان .
ولسائل أن يسأل : ما السر
البلاغي في إدخال هذه اللام على خبر { إنَّ } في الآية الأولى ، ونزعها منه في الثانية ؟ وهل دل دخولها في الأولى على أن
الصبر فيها من النوع الذي يكون فيه للإنسان غريم ، فصنعت
بذلك معجزة ؛ كما زعم بعضهم ؟ أو أنها دخلت ؛ لأن الصبر والغفران أشقّ على
النفس من الصبر وحده ؛ كما زعم آخر ؟ وقبل الإجابة عن ذلك نقول بعون
الله وتعليمه :
أولاً- الصبر في اللغة معناه : حبس النفس وتثبيتها
، وضدُّه : الجزع . قال الله عز وجل :﴿ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ
وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ﴾(الكهف: 28) . أي : احبسها وثبتها ؛ وهو نوعان : صبر على المكروه ، وصبر عن
المحبوب . والأول يُعدَّى إلى المفعول بـ{ على } ، والثاني بـ{ عن } . تقول : صبرت على ما أكره . وصبرت عمَّا أحب .
والأول هو الأكثر استعمالاً ؛ ومنه قول الله تعالى :﴿ وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً
جَمِيلاً ﴾(المزّمِّل: 10) .
وقوله تعالى :﴿ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ﴾ . أي : من صواب التدبير الذي لا شك في ظهور الرشد فيه ، وهو مما ينبغي لكل
عاقل أن يعزم عليه ، فتأخذ نفسه به لا محالة . والعزم :
إمضاء الرأي المُروَّى المُنقَّح دون تردُّد ؛ وكأنه من جملة الحزم ، والعرب تقول
:« قد أحزم لو أعزم » ، وأصله من قول الرجل : عزمت عليه أن يفعل كذا . أي : ألزمته إياك لا محالة على وجه لا يجوز ذلك الترخص في تركه
. قال تعالى :﴿ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى
اللّهِ ﴾(آل عمران: 159) ، فما كان من الأمور حميد العاقبة معروفًا بالرشد والصواب ، فهو من
عزم الأمور .
وقد أخبر الله عز وجل أن الصبر من شأن أولي العزم من الرسل ، فقال مخاطبًا رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم :﴿ فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ ﴾(الأحناف: 35) . وأولو العزم من الرسل هم
المجدون المجتهدون في تبليغ الوحي الذين لا يصرفهم عنه صارف ، والصابرون على أمر
الله عز وجل فيما عهده سبحانه وتعالى إليهم ، أو قضاه وقدره عليهم .
ولكون
الصبر من صفات أولي العزم من الرسل مدح الله تعالى الصابرين في البأساء والضرَّاء
وحين البأس بقوله :﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا
وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ﴾(البقرة: 177) ، وجمع لهم أمورًا لم يجمعها لغيرهم ، فقال سبحانه
:﴿ أولئك عَلَيْهِمْ صلوات مّن رَّبْهِمْ
وَرَحْمَةٌ وأولئك هُمُ المهتدون ﴾(البقرة: 157) ، وجعل لهم من الأجر ما لم يجعله لغيرهم من أهل الطاعات ، روى
الزمخشري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :« ينصب الله الموازين يوم القيامة ، فيؤتى بأهل الصلاة فيوفون أجورهم
بالموازين ، ويؤتى بأهل الصدقة فيوفون أجورهم بالموازين ، ويؤتى بأهل البلاء فلا
ينصب لهم ميزان ولا ينشر لهم ديوان ، ويصب عليهم الأجر صبًا » ، فما من طاعة إلا
وأجرها مقدر إلا الصبر ، ومصداق ذلك قول الله عز وجل :﴿ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ
﴾(الزمر: 10) .
ثانيًا- قوله
تعالى :﴿ وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ
إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ﴾(الشورى: 43) جاء في سياق التحذير عن الظلم
والبغي ، وما يؤدي إلى العذاب الأليم ، وفيه حَضٌّ على ما حَضَّ عليه تعالى أولاً
من الانتصار من الباغي اهتمامًا به وزيادة ترغيب فيه ؛ وذلك قوله تعالى :﴿ وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ
الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ * وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ
فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ﴾(الشورى: 40- 41) ، فبيّن سبحانه أن الانتصار من الجاني مشروع ، ثم بيّن أن شرعه
مشروط برعاية المماثلة ، ثم بيّن أن العفو أولى . ثم قال تعالى
:﴿ وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ
فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ * إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى
الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ
أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾(الشورى: 42- 43) ، فبيَّن أن الانتصار من الظلم
مباح ، وأن للظالم عذابًا أليمًا . ثم عقَّب سبحانه على ذلك بقوله :﴿ وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ
إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُور ﴾(الشورى: 43) مشيرًا إلى أن الإصلاح بالعفو عن
الجاني الذي تقدم ذكره إنما يُحْمَدُ ، إذا كان عن قدرة لا عن عجز . وهذا
إذا كان
الجاني نادمًا مقلعًا ، أما إذا كان مُصِرًّا على البغي
، فالأفضل الانتصار منه .
وأما قوله
تعالى :﴿ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ
إِنَّ ذَلِكَ مِِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ﴾(لقمان: 17) فقد جاء في سياق جملة من الأوامر
والنواهي في وصيَّة لقمان لابنه :﴿ يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ
عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ ﴾(لقمان: 17) ، ثم عقَّب سبحانه على ذلك بقوله
:﴿ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ﴾(لقمان: 17) ، وهو إشارة إلى ما تقدم ممَّا
أمره به ونهاه عنه ، من إقامة الصلاة ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن
المنكر ، ويدخل في ذلك كله الأمر بالصبر على المصائب .
وإذا كانت الآية
الأولى قد حددت نوع الصبر ، وهو الصبر على البغي ، وهو من النوع الذي يكون فيه
للإنسان غريم- على حدِّ تعبير أحدهم- فليس في الآية الثانية ما يدل على أن المراد
بالصبر فيها الصبرُ الذي لا يكون فيه للإنسان غريم ؛ بل فيما تقدم ذلك من
أمر ونهي يدل على أن المراد بالصبر فيها الصبرُ على ما قد يتعرض له الإنسان من أذى
الآخرين وظلمهم ؛ وهو قول لقمان لابنه :﴿ يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ
عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ ﴾ . فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد يَجران للقائم
بهما معاداةً من بعض الناس ، أو أذى من بعضهم الآخر ، وكذلك مقيم الصلاة كثيرًا ما
يتعرض لأذى الناس في بلاد الكفر والشرك ، فإذا لم يصبر على ما يصيبه من جراء الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر وإقام الصلاة ، فإنه يوشك أن يترك ذلك .
ثالثًا- ويتضح مما تقدم أن قوله عز وجل :﴿ وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ
الْأُمُورِ ﴾ حثٌّ على الصبر والمغفرة ، وأن
قوله تعالى :﴿ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ
ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ﴾ أمر بالصبر فقط ، وأن الصبر في الآيتين هو نوع واحد ، لا نوعان . وإذا علم ذلك تبيَّن
أن لام التوكيد لم تدخل في خبر { إنَّ } في الآية الأولى ؛ لأن الصبر فيها من النوع
الذي يكون فيه للإنسان غريم . أو لأنها جمعت بين الصبر والغفران ، خلافًا للآية
الثانية ، يدلك على ذلك- إضافة إلى ما تقدم- قوله تعالى في خطاب المؤمنين :﴿ لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ
وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ
الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيراً ﴾ ،
ثم عقَّب تعالى على ذلك بقوله :﴿
وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ
فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ ﴾(آل
عمران: 186) ، فأتى بخبر { إنَّ } هنا مجردًا من لام التوكيد ، مع أن الآية قد
جمعت بين الصبر والتقوى ، ولم تقتصر على ذكر الصبر وحده ، وأن الصبر فيها هو صبر
على الابتلاء في الأموال والأولاد ، وصبر على ظلم المشركين وتحمل أذاهم .
والتحقيق في هذه المسألة :
أن الذي قرره علماء البلاغة والبيان أن للمخاطب- عندما يُلقَى إليه خبرٌ مَّا-
ثلاث حالات :
الحالة الأولى : أن يكون المخاطب خالي الذهن من الحكم ، بمعنى : أنه لم يكن
مُتردَّدًا في قبوله ، أو منكرًا له . وفي هذه الحالة يُلقَى إليه الخبر
خاليًا من التوكيد . ويسمَّى هذا الضرْب من الخبر ابتدائيًا ؛ ومثاله قوله تعالى
:﴿ مُحَمّدٌ
رَسُولُ الله وَالّذِينَ مَعَهُ أَشِدّاءُ على الكُفّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ ﴾(الفتح:
29) .
والحالة الثانية : أن يكون المخاطب مُتردِّدًا في قبول الحكم ، طالبًا أن يصل إلى اليقين في معرفته .
وفي هذه الحالة يحسُن توكيده له ؛ ليتمكن من نفسه .
ويسمَّى هذا الضرب من الخبر طلبيًّا ؛ ومثاله قوله تعالى :﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ
جَمِيعاً ﴾(الأعراف: 158) ، وقوله :﴿ وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا
بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم ﴾(الصف: 6) .
والحالة الثالثة : أن يكون المخاطب مُنكِرًا لما يُلقَى إليه من
أخبار . وفي هذه الحالة يجب أن يؤكَّد الخبرُ له بأكثرَ من مؤكِّد ؛ وذلك على حسب إنكاره
قوةً وضعفًا . ويسمَّى هذا الضرب من التوكيد إنكاريًا ؛
ومثاله قوله تعالى :﴿ إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ
إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ
الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ ﴾(المنافقون: 1) .
وإلى هذه الحالات الثلاثة أشار الشيخ عبد القاهر
الجرجاني بقوله في { دلائل الإعجاز } :« إن الأصل الذي ينبغي أن
يكون عليه البناء هو الذي دوِّن في الكتب من أنها للتأكيد . وإذا كان قد ثبت ذلك ،
فإذا كان الخبر بأمر ليس للمخاطب ظن في خلافه البتة ، ولا يكون قد عقد في نفسه أن
الذي تزعم أنه كائن غير كائن ، وأن الذي تزعم أنه لم يكن كائن ، فأنت لا تحتاج
هناك إلى { إن } ، وإنما تحتاج إليها إذا كان له ظن في الخلاف ،
وعقد قلبه على نفي ما تثبت ، أو إثبات ما تنفي » .
ثم قال :« وأما جعلها ، إذا جمع بينها وبين اللام نحو: إن عبد الله لقائم ،
للكلام مع المنكر فجيد ؛ لأنه إذا كان الكلام مع المنكر ، كانت الحاجة إلى التأكيد
أشد ؛ وذلك أنك أحوج ما تكون إلى الزيادة في تثبيت خبرك ، إذا كان هناك من يدفعه
وينكر صحته ؛ إلا أنه ينبغي أن يعلم أنه كما يكون للإنكار قد كان من السامع ، فإنه
يكون للإنكار أو يرى أن يكون من السامعين . وجملة الأمر : أنك لا تقول :{ إنه لكذلك } ، حتى تريد أن تضع كلامك وضع من يزع فيه عن
الإنكار » .
وعلى
الحالة الثانية يُحمَل قوله تعالى :﴿ وَاصْبِرْ
عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ﴾(لقمان: 17) ، وقوله تعالى :﴿ وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ ﴾(آل عمران: 186) . وعلى الحالة الثالثة يُحمَل قوله تعالى :﴿ وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ
الْأُمُورِ ﴾ ..
والله تعالى أعلم ! نسأل الله تعالى أن يجعلنا من الذين
يفقهون كلامه ، ويدركون بعض أسرار بيانه ، والحمد لله رب
العالمين .