﴿ فَلَمَّا
أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ ﴾
قال الله تبارك وتعالى في قصة
إبراهيم وابنه عليهما السلام :﴿
فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ
أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ
صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴾(الصافات: 103-
105) . وكان إبراهيم- عليه السلام- قد رأى في المنام أنه يذبح ابنه ؛ كما أخبر الله تعالى عن ذلك بقوله :﴿ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي
أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ
افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ﴾(الصافات: 102) .
أولاً- ومن
الشبهات التي تثار هنا السؤال عن جواب ﴿
فَلَمَّا ﴾ في الآية الأولى ،
فيقال : أين جوابها ؟ كما قيل : أين جواب ﴿ فَلَمَّا ﴾ في
قوله تعالى في قصة يوسف عليه السلام :﴿ فَلَمَّا ذَهَبُوا
بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا
إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ﴾(يوسف:
15) ؟
وللنحاة
والمفسرين في الجواب عن هذه الشبهة قولان : أحدهما : أن
جواب ﴿ فَلَمَّا ﴾ مذكور في الكلام . والثاني : أنه محذوف .. فأما الذين قالوا :
إنه مذكور فقد اختلفوا فيه على قولين :
أحدهما : أن الجواب هو قوله تعالى :﴿ وَتَلَّهُ
لِلْجَبِينِ ﴾ ، والواو زائدة . وهذا القول نسبه
العكبري وأبو حيان إلى بعض الكوفيين . وإليه أشار
الدكتور فضل حسن عباس في كتابه ( لطائف المنان وروائع البيان في دعوى الزيادة في
القرآن ) .
وثانيهما : أن الجواب هو قوله تعالى :﴿ وَنَادَيْنَاهُ
أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ ﴾
، والواو زائدة . وإلى هذا ذهب الفرَّاء شيخ الكوفيين ،
وحجته أن العرب تدخل الواو في جواب ﴿ فَلَمَّا ﴾ ، و﴿ حَتَّى إِذَا
﴾ ،
وتلقيها . وتابع الفراءَ فيما ذهب إليه الإمامُ الطبري ،
وردد كلامه دون زيادة ، أو نقصان . وعلى هذا القول جمهور الكوفيين
، وكثير من المعاصرين .
وأما
الذين قالوا : إن جواب ﴿ فَلَمَّا ﴾ محذوف
فحجتهم أن ( الواو ) من حروف المعاني ، ولا يجوز أن
تزاد . وعلى هذا القول جمهور البصريين ومن تبعهم من المتأخرين .
وتقدير الكلام عندهم :﴿ فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ ،
سعدا وأجزل لهما الثواب ، وَنَادَيْنَاهُ أَنْ
يَا إِبْرَاهِيمُ ﴾ .
وقدر
الزمخشري الجواب بعد قوله تعالى :﴿ وَنَادَيْنَاهُ
أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ ﴾
، فقال :« فإن قلت :
أين جواب ( لمَّا ) ؟ قلت :
هو محذوف ، تقديره : فلما أسلما وتله للجبين وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت
الرؤيا .. كان ما كان مما تنطق به الحال ولا يحيط به الوصف ،
من استبشارهما واغتباطهما وحمدهما لله وشكرهما على ما أنعم به عليهما من دفع
البلاء العظيم بعد حلوله » .
ونقل
الرازي عن البصريين قولهم :« وحذف
الجواب ليس بغريب في القرآن . والفائدة فيه أنه إذا كان محذوفًا
، كان أعظم وأفخم » . ومن الغريب أن نجد العكبري يقدر الجواب بقوله :«
نادته الملائكة »
محذوفًا ، ويرفض أن يكون الجواب ﴿ وَنَادَيْنَاهُ
﴾ مذكورًا ؛ لأن القاعدة النحوية تمنع من ارتباط
جواب ( لمَّا ) بالواو . ولهذا نجدهم يلوون عنق
الآية الكريمة ، ويخضعونها للقاعدة النحوية ، والذي
ينبغي أن يكون هو العكس تمامًا .
ولست
أدري كيف يستسيغ عاقل أن يقال في تأويل الآية الكريمة :
فلما أسلما وتلَّه للجبين- نادته الملائكة- وناديناه أن يا إبراهيم ! مع أن المعنى
أوضح من أن يحتاج في بيانه إلى مثل هذا التأويل ؟!
ومن
المعاصرين الذين اختاروا القول بحذف الجواب الدكتور فضل حسن عباس
، فقال في كتابه ( لطائف المنان وروائع البيان في دعوى الزيادة في القرآن )
:« قالوا :
الواو زائدة ، والتقدير : فلما أسلما ، تلَّه للجبين . وليس الأمر كذلك ، فليس قوله تعالى :﴿ تَلَّهُ ﴾ جواب ﴿ فَلَمَّا ﴾ ؛ بل الجواب محذوف ، والتقدير :
فلما أسلما وتلَّه للجبين وباشر إبراهيم ذبح ابنه ، أجزل لهما في الثواب . أو : أكرمهما بالرحمة . أو : مَنَّ
الله عليهما بنعمة الفداء » .
وأنت
إذا تأملت الآية جيدًا وتدبرت معناها حق التدبر ، تبين
لك أن كل ما قيل فيها ليس بشيء ؛ لأن المعنى المراد منها ليس على ما ذكروا ؛ وإنما
المراد هو : أن إبراهيم وابنه- عليهما السلام- لما فوَّضا أمرهما إلى لله تعالى ،
وامتثلا لأمره سبحانه بأن رضي الأول بذبح ابنه ، ورضي الثاني بأن يذبح ، وصرعه
والده على جبينه ، أو كبَّه على وجهه وهمَّ بذبحه تصديقًا للرؤيا ، ناداه ربه عز
وجل بقوله :﴿ أَنْ يَا
إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا ﴾
، فتوقف إبراهيم- عليه السلام- عن الذبح ، والتفت وراءه ، فإذا بذبح
عظيم أرسله الله تعالى فداء لإسماعيل عليه السلام . وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى :﴿ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْح عَظِيمٍ
﴾(الصافات: 107) .
وهذا
ما جاء في التفسير ، فقد جاء فيه :« لما أضجعه
للذبح ، نوديَ من الجبل : أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا » . وعليه
يكون قوله تعالى :﴿ وَنَادَيْنَاهُ
﴾ جوابًا لقوله :﴿ فَلَمَّا
أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ ﴾ ، وتكون
الواو رابطة لجواب ﴿ فَلَمَّا
﴾ بشرطها
. وإنما جيء بها- هنا- دون غيرها من أدوات الربط ؛ لما
فيها من معنى الجمع الذي لا يفارقها ، فدلت على أن الجواب قد وقع مع وقوع الشرط في
وقت واحد . ولولا وجود هذه الواو في الكلام ، لتمَّ ذبح
إبراهيم- عليه السلام- لابنه بعد أن صرعه على جبينه ، ولم ينفعه حينئذ النداء
شيئًا .
وهكذا
يتبين لنا أن الله تعالى ، لما أراد أن يوقف هذا الذبح ويمنع
وقوعه ، قرن نداءه لإبراهيم- عليه السلام- بهذه الواو التي قال البعض فيها : إنها
زائدة ، وقال البعض الآخر : إنها عاطفة ، والجواب محذوف ، وعدوا حذفه من بلاغة
القرآن وإعجازه ، ولم يدروا أن سرَّ الإعجاز في إدخال هذه الواو على جواب ﴿ فَلَمَّا ﴾ .. ومن يعرف جوهر الكلام ، ويدرك أسرار البيان ، يتبين له أن ما قلناه في هذه
الواو هو الحق ، والله تعالى أعلم بأسرار بيانه ، له الحمد والمنَّة ، وسلام على
إبراهيم !!!
أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ ﴾
قال الله تبارك وتعالى في قصة
إبراهيم وابنه عليهما السلام :﴿
فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ
أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ
صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴾(الصافات: 103-
105) . وكان إبراهيم- عليه السلام- قد رأى في المنام أنه يذبح ابنه ؛ كما أخبر الله تعالى عن ذلك بقوله :﴿ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي
أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ
افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ﴾(الصافات: 102) .
أولاً- ومن
الشبهات التي تثار هنا السؤال عن جواب ﴿
فَلَمَّا ﴾ في الآية الأولى ،
فيقال : أين جوابها ؟ كما قيل : أين جواب ﴿ فَلَمَّا ﴾ في
قوله تعالى في قصة يوسف عليه السلام :﴿ فَلَمَّا ذَهَبُوا
بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا
إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ﴾(يوسف:
15) ؟
وللنحاة
والمفسرين في الجواب عن هذه الشبهة قولان : أحدهما : أن
جواب ﴿ فَلَمَّا ﴾ مذكور في الكلام . والثاني : أنه محذوف .. فأما الذين قالوا :
إنه مذكور فقد اختلفوا فيه على قولين :
أحدهما : أن الجواب هو قوله تعالى :﴿ وَتَلَّهُ
لِلْجَبِينِ ﴾ ، والواو زائدة . وهذا القول نسبه
العكبري وأبو حيان إلى بعض الكوفيين . وإليه أشار
الدكتور فضل حسن عباس في كتابه ( لطائف المنان وروائع البيان في دعوى الزيادة في
القرآن ) .
وثانيهما : أن الجواب هو قوله تعالى :﴿ وَنَادَيْنَاهُ
أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ ﴾
، والواو زائدة . وإلى هذا ذهب الفرَّاء شيخ الكوفيين ،
وحجته أن العرب تدخل الواو في جواب ﴿ فَلَمَّا ﴾ ، و﴿ حَتَّى إِذَا
﴾ ،
وتلقيها . وتابع الفراءَ فيما ذهب إليه الإمامُ الطبري ،
وردد كلامه دون زيادة ، أو نقصان . وعلى هذا القول جمهور الكوفيين
، وكثير من المعاصرين .
وأما
الذين قالوا : إن جواب ﴿ فَلَمَّا ﴾ محذوف
فحجتهم أن ( الواو ) من حروف المعاني ، ولا يجوز أن
تزاد . وعلى هذا القول جمهور البصريين ومن تبعهم من المتأخرين .
وتقدير الكلام عندهم :﴿ فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ ،
سعدا وأجزل لهما الثواب ، وَنَادَيْنَاهُ أَنْ
يَا إِبْرَاهِيمُ ﴾ .
وقدر
الزمخشري الجواب بعد قوله تعالى :﴿ وَنَادَيْنَاهُ
أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ ﴾
، فقال :« فإن قلت :
أين جواب ( لمَّا ) ؟ قلت :
هو محذوف ، تقديره : فلما أسلما وتله للجبين وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت
الرؤيا .. كان ما كان مما تنطق به الحال ولا يحيط به الوصف ،
من استبشارهما واغتباطهما وحمدهما لله وشكرهما على ما أنعم به عليهما من دفع
البلاء العظيم بعد حلوله » .
ونقل
الرازي عن البصريين قولهم :« وحذف
الجواب ليس بغريب في القرآن . والفائدة فيه أنه إذا كان محذوفًا
، كان أعظم وأفخم » . ومن الغريب أن نجد العكبري يقدر الجواب بقوله :«
نادته الملائكة »
محذوفًا ، ويرفض أن يكون الجواب ﴿ وَنَادَيْنَاهُ
﴾ مذكورًا ؛ لأن القاعدة النحوية تمنع من ارتباط
جواب ( لمَّا ) بالواو . ولهذا نجدهم يلوون عنق
الآية الكريمة ، ويخضعونها للقاعدة النحوية ، والذي
ينبغي أن يكون هو العكس تمامًا .
ولست
أدري كيف يستسيغ عاقل أن يقال في تأويل الآية الكريمة :
فلما أسلما وتلَّه للجبين- نادته الملائكة- وناديناه أن يا إبراهيم ! مع أن المعنى
أوضح من أن يحتاج في بيانه إلى مثل هذا التأويل ؟!
ومن
المعاصرين الذين اختاروا القول بحذف الجواب الدكتور فضل حسن عباس
، فقال في كتابه ( لطائف المنان وروائع البيان في دعوى الزيادة في القرآن )
:« قالوا :
الواو زائدة ، والتقدير : فلما أسلما ، تلَّه للجبين . وليس الأمر كذلك ، فليس قوله تعالى :﴿ تَلَّهُ ﴾ جواب ﴿ فَلَمَّا ﴾ ؛ بل الجواب محذوف ، والتقدير :
فلما أسلما وتلَّه للجبين وباشر إبراهيم ذبح ابنه ، أجزل لهما في الثواب . أو : أكرمهما بالرحمة . أو : مَنَّ
الله عليهما بنعمة الفداء » .
وأنت
إذا تأملت الآية جيدًا وتدبرت معناها حق التدبر ، تبين
لك أن كل ما قيل فيها ليس بشيء ؛ لأن المعنى المراد منها ليس على ما ذكروا ؛ وإنما
المراد هو : أن إبراهيم وابنه- عليهما السلام- لما فوَّضا أمرهما إلى لله تعالى ،
وامتثلا لأمره سبحانه بأن رضي الأول بذبح ابنه ، ورضي الثاني بأن يذبح ، وصرعه
والده على جبينه ، أو كبَّه على وجهه وهمَّ بذبحه تصديقًا للرؤيا ، ناداه ربه عز
وجل بقوله :﴿ أَنْ يَا
إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا ﴾
، فتوقف إبراهيم- عليه السلام- عن الذبح ، والتفت وراءه ، فإذا بذبح
عظيم أرسله الله تعالى فداء لإسماعيل عليه السلام . وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى :﴿ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْح عَظِيمٍ
﴾(الصافات: 107) .
وهذا
ما جاء في التفسير ، فقد جاء فيه :« لما أضجعه
للذبح ، نوديَ من الجبل : أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا » . وعليه
يكون قوله تعالى :﴿ وَنَادَيْنَاهُ
﴾ جوابًا لقوله :﴿ فَلَمَّا
أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ ﴾ ، وتكون
الواو رابطة لجواب ﴿ فَلَمَّا
﴾ بشرطها
. وإنما جيء بها- هنا- دون غيرها من أدوات الربط ؛ لما
فيها من معنى الجمع الذي لا يفارقها ، فدلت على أن الجواب قد وقع مع وقوع الشرط في
وقت واحد . ولولا وجود هذه الواو في الكلام ، لتمَّ ذبح
إبراهيم- عليه السلام- لابنه بعد أن صرعه على جبينه ، ولم ينفعه حينئذ النداء
شيئًا .
وهكذا
يتبين لنا أن الله تعالى ، لما أراد أن يوقف هذا الذبح ويمنع
وقوعه ، قرن نداءه لإبراهيم- عليه السلام- بهذه الواو التي قال البعض فيها : إنها
زائدة ، وقال البعض الآخر : إنها عاطفة ، والجواب محذوف ، وعدوا حذفه من بلاغة
القرآن وإعجازه ، ولم يدروا أن سرَّ الإعجاز في إدخال هذه الواو على جواب ﴿ فَلَمَّا ﴾ .. ومن يعرف جوهر الكلام ، ويدرك أسرار البيان ، يتبين له أن ما قلناه في هذه
الواو هو الحق ، والله تعالى أعلم بأسرار بيانه ، له الحمد والمنَّة ، وسلام على
إبراهيم !!!