هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

دخول

descriptionسر دخول ( لا ) النافية على فعل القسم Emptyسر دخول ( لا ) النافية على فعل القسم

more_horiz
سر دخول ( لا ) النافية على فعل القسم

قال الله عز وجل :﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ * إِنَّهُ لَقُرْآَنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ * تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾(الواقعة: 75 – 80) ، فأدخل ﴿ لَا ﴾ النافية على الفعل ﴿ أُقْسِمُ ﴾ ، والظاهر يقتضي أن يقال :﴿ فَأُقْسِمُ ﴾ ، بإسقاط ( لا ) ؛ كما قال تعالى :﴿ وَأَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا ﴾(الأنعام: 109) .. فما دلالة ﴿ لَا ﴾ هذه ، وما سر دخولها على فعل القسم ؟ وفي الإجابة عن ذلك نقول بعون الله وتعليمه :

أولاً- اختلف أهل التأويل في قوله :﴿ فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ ﴾ : أقسم هو أو غير قسم ، على قولين . والذي عليه الجمهور أنه قسم من الله عز وجل ، يقسم بما شاء من خلقه ، وهو دليل على عظمته . ثم اختلفوا في تأويله على أقوال :

القول الأول : أن ( لا ) هاهنا زائدة ، أو : صلة ، وتقدير الكلام :( فأقسم بمواقع النجوم ) ، رواه ابن جرير الطبري عن سعيد بن جُبَيْر . وعليه جمهور البصريين والكوفيين ، وعلل البصريون لزيادتها بأنها زيدت لتوكيد القسم . والدليل عليه قراءة الحسن وحميد وعيسى بن عمر :( فلأقسم ) ، بغير ألف بعد اللام . قال الزركشي في البرهان : وهي قراءة قويمة لا يضعفها عدم نون التوكيد مع اللام ؛ لأن المراد بـ( أقسم ) فعل الحال ، ولا تلزم النون مع اللام . ومن منع منهم دخول لام التوكيد على فعل الحال خرج هذه القراءة على أن المراد :( فلأنا أقسم ) ، فقدر مبتدأ محذوفًا بين اللام ، وفعل القسم .

القول الثاني : أنها ليست بزائدة لا معنى لها ؛ بل يؤتى بها في أول القسم ، إذا كان مقسمًا به على منفي ؛ كقول عائشة رضي الله عنها :« لا ، والله ما مست يد رسول الله صلى الله عليه وسلم يد امرأة قط » ، وهكذا هاهنا تقدير الكلام :( فلا . أي : فليس الأمر كما زعمتم في القرآن أنه سحر أو كهانة ، أو شعر ) ، ثم استؤنف القسم ، فقيل :( أقسم بمواقع النجوم ) . رواه الطبري عن بعض أهل العربية ، ورواه القرطبي عن الفراء ، ثم قال :« وقد يقول الرجل :( لا ، والله ما كان كذا ) ، فلا يريد به نفي اليمين ؛ بل يريد به نفي كلام تقدم . أي : ليس الأمر ، كما ذكرت ، بل هو كذا » .

فـ( لا )- على هذا- نافية لما حكي عن المشركين من إنكارهم البعث . قالوا : وإنما صح ذلك ؛ لأن القرآن كله يجري مجرى السورة الواحدة ، فيجوز أن يكون الادعاء في سورة ، والرد عليهم في أخرى . قال أبو حيان :« لا يجوز ؛ لأن في ذلك حذف اسم ( لا ) ، وخبرها ، وليس جوابًا لسائل سأل ، فيحتمل ذلك » . أما الزركشي فقال :« وهذا أولى من دعوى الزيادة ؛ لأنها تقتضي الإلغاء . وكونها صدر الكلام يقتضي الاعتناء بها ، وهما متنافيان » .

القول الثالث : أنها نافية للقسم ، على أن ( أقسم ) إخبار لا إنشاء . واختاره الزمخشري في الكشاف . قال :« والمعنى في ذلك : أنه لا يقسم بالشيء إلا إعظامًا له بدليل :﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ﴾ ؛ فكأنه قيل : إن إعظامه بالإقسام به ، كلا إعظام . أي : إنه يستحق إعظامًا فوق ذلك » .

القول الرابع والخامس : قال القرطبي :« وقيل : ( لا ) بمعنى : ( ألا ) ، للتنبيه .. ونبَّه بهذا على فضيلة القرآن ؛ ليتدبروه ، وأنه ليس بشعر ولا سحر ولا كهانة ، كما زعموا » . وقال الزركشي في البرهان :« وأجاز الخارزجي في ﴿ لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ ﴾ كون ( لا ) فيه بمعنى الاستثناء ، فحذفت الهمزة ، وبقيت ( لا ) » . فعلى الأول يكون أصلها :( ألا ) ، بفتح الهمزة ، وعلى الثاني يكون أصلها :( إلا ) ، بكسر الهمزة .

القول السادس : قال أبو حيان في البحر :« والأولى عندي أنها لام أشبعت حركتها ، فتولدت منها ألف ؛ كقوله : أعوذ بالله من العَقْرَاب » . فعلى هذا يكون أصلها : ( فلأقسم )- كما في قراءة من قرأ ذلك- ثم أصبحت ( لا ) بعد إشباع فتحة اللام ؛ كما أشبعت فتحة الراء ألفًا في ( العقرب ) ، فأصبح : العقراب .

ثانيًا- هذه هي أشهر الأقوال في تأويل ﴿ فَلَا أُقْسِمُ ﴾ ، والمعتمد منها عند جمهور المتقدمين والمتأخرين والمعاصرين هو القول الأول الذي ينصُّ على أنه قسم صريح ، وأن ( لا ) فيه مزيدة لتوكيد القسم ، والتقدير :( فأقسم ) . والدليل عليه قراءة :( فلأقسم ) ، بغير ألف بعد اللام ، واحتج القائلون به بأن الله تعالى سمَّاه قسمًا في قوله معترضًا بين القسم وجوابه :﴿ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ﴾ .

وأورد الزركشي في البرهان قصة طريفة حكاها عن الخطابي ، فقال :« قال الخطابي : سمعت ابن أبي هريرة يحكي عن أبي العباس بن سريج ، قال : سأل رجل بعض العلماء عن قوله :﴿ لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ ﴾(البلد: 1) ، فأخبر أنه لا يقسم به ، ثم أقسم به في قوله :﴿ وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ ﴾(التين: 3) ، فقال : أي الأمرين أحب إليك : أجيبك ثم أقطعك ؟ أو أقطعك ثم أجيبك ؟ فقال : بل اقطعني ، ثم أجبني ، فقال له : اعلم أن هذا القرآن نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بحضرة رجال وبين ظهراني قوم ، وكانوا أحرص الخلق على أن يجدوا فيهم غمزًا وعليه مطعنًا . فلو كان هذا عندهم مناقضة ، لتعلقوا به ، وأسرعوا بالرد عليه ؛ ولكن القوم علموا وجهلت ، ولم ينكروا منه ما أنكرت . ثم قال له : إن العرب قد تدخل ( لا ) في كلامها ، وتلغي معناها ، وأنشد فيه أبياتًا » .

وقد أصاب هذا العالم في قوله موجهًا كلامه إلى السائل :« ولكن القوم علموا وجهلت ، ولم ينكروا منه ما أنكرت » ؛ ولكنه بعد عن الصواب ؛ بل جانب الصواب حين زعم :« أن العرب قد تدخل ( لا ) في كلامها ، وتلغي معناها » ، وهو زعم باطل ، لما فيه من افتراء على العرب ، وبالتالي على كلام الباري عز وجل الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، فكيف يقال فيه مثل هذا الكلام ؟ فكلام الباري عز وجل لا يوجد فيه لفظ ، إلا وله معنى . وإن كان قد خفي معناه على الكثيرين ، فهذا لا يعني أن الله سبحانه أدخله في كلامه وألغى معناه ، تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا .

ولو كان الأمر كما قال هذا العالم وغيره ، لما اختلفوا في ( لا ) هذه على الأقوال التي ذكرناها ، حتى القائلون بزيادتها اختلفوا فيها . حكى الزركشي في البرهان عن ابن الشجري أنه قال :« وليست ( لا ) في قوله :﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ ﴾ ، وقوله :﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ ﴾(المعارج: 40) ونحوه ، بمنزلتها في قوله :﴿ لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ ﴾(القيامة: 1)- كما زعم بعضهم- لأنها ليست في أول السورة ، لمجيئها بعد الفاء ، والفاء عاطفة كلمة على كلمة تخرجها عن كونها بمنزلتها في :﴿ لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ ﴾(القيامة: 1) » . وهذا يعني : أن ( لا ) في :﴿ فَلَا أُقْسِمُ ﴾ زائدة ، لوقوعها بين الفاء العاطفة والفعل ، وأما في :﴿ لَا أُقْسِمُ ﴾ فالقول بزيادتها ضعيف ؛ لأن الزيادة ، لا تأتي في صدر الكلام .

وذهب بعض القائلين بزيادتها في ( آية القيامة ) ، ونحوها مما أتى فيها المقسم عليه منفيًّا- إلى أن فائدتها مع التوكيد التوطئة . أي : التمهيد لنفي الجواب ، وقدروه بقولهم : لا أقسم بيوم القيامة ، لا يتركون سدى . ورده بعضهم الآخر بقوله تعالى :﴿ لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ ﴾(البلد: 1- 3) ؛ فإن جوابه مثبت ، وهو قوله تعالى :﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ ﴾(البلد: 4) .. وهكذا تجدهم يشرقون ويغربون ، وفي خضم تأويلاتهم المتكلفة يَغرَقون ، ويُغرِقون غيرهم معهم ، لا لسبب إلا لأنهم لم يدركوا المراد من إدخال ( لا ) على فعل القسم .

ثالثًا- نعود بعد هذا إلى الإجابة عن هذه المسألة الخلافية التي مازال أهل العلم فيها يختلفون ولا يزالون ، فنقول بعون الله وتعليمه :

القسم أسلوب من أساليب الكلام ، الغرض منه تأكيد الخبر لدى المخاطب ، وهو أسلوب شائع الاستعمال في كلام العرب ، وكلام الله عز وجل ، ولا يكون إلا باسم الله ، إذا كان المقسِم هو العبد ، وفي حديث ابن عمرَ أنه أتاه رجل ، فقال : يا أبا عبد الرحمن ! أَعليَّ جُناحٌ أن أحلِف بالكعبة ؟ قال : ولِمَ تحلِفُ بالكعبة ؟ إذا حلفت بالكعبة ، فاحلِفْ بربِّ الكعبة ، فإن عمرَ كان إذا حلَف ، قال :« كلَّا ، وأبي » ، فحلَف بها يومًا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :« لا تحلِفْ بأبيك ، ولا بغير الله ؛ فإنه مَنْ حلَف بغير الله ، فقد أشرك » . هذا ، وقد أخبر الله تعالى عن المشركين ، فقال سبحانه :﴿ وَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ وَلَـكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ ﴾(التوبة: 56) ، وقال :﴿ وَأَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا ﴾(الأنعام: 109) .

وأما الله عز وجل فيقسم بنفسه المقدسة ، ويقسم بما شاء من مخلوقاته تعظيمًا لها . ولقائل أن يقول : ما معنى القسم من الله سبحانه ؛ فإنه إن كان لأجل المؤمن فالمؤمن يصدق مجرد الأخبار ، وإن كان لأجل الكافر فلا يفيده القسم شيئًا ؟ قال أبو القاسم القشيري :« فالجواب : أن الله ذكر القسم لكمال الحجة وتأكيدها ؛ وذلك أن الحُكْمَ يُفصَلُ باثنين : إما بالشهادة . وإما بالقسم ، فذكر تعالى النوعين ، حتى لا يبقى للناس على الله سبحانه من حجة » . ومن هنا قالوا : إن الشهادة قد تجري في بعض المواضع مجرى القسم ؛ كقول القائل :( أشهد بالله إنك لصادق ) . أي : أقسم بالله . ومنهم من يقول : إن قال :( أشهد ) ، ولم يقل :( بالله ) ، يكون قسمًا أيضًا ، والدليل عليه قوله تعالى :﴿ إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ ﴾(المنافقون:1) . فقولهم :﴿ نَشْهَدُ ﴾ يجري مجرى القسم ؛ ولذلك تُلُقِّيََ بما يُتلقَّى به القسم بقولهم :﴿ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ ﴾ . ثم قال تعالى معقِّبًا عليه :﴿ اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ﴾(المنافقون: 2) ، فسَمَّى قولهم ذلك يمينًا .

إذا عرفت هذا ، فاعلم أن القسم في القرآن ينقسم ، بحسب المقسَم عليه ، وبحسب الحاجة إليه إلى قسمين :

القسم الأول : قَسَمٌ مثبت ، وهو الذي يكون فيه المقسَم عليه من الأمور التي تكون مَظنةً للشك من قبل المخاطب . وأمثلته في القرآن كثيرة ؛ منها قوله تعالى :

﴿ وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ ﴾(يونس: 53) .

﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ ﴾(سبأ: 3) .

﴿ زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ﴾ (التغابن: 7) .

﴿ وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى ﴾(النجم: 1- 2) .

﴿ وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ * لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ﴾(التين: 1) ، ونحو ذلك كثير .

فالمقسَم عليه في هذه الآيات كلها هو من الأمور التي تكون مَظنَّةً للشك من قبل المخاطب ، فيأتي القسم بما أقسم به عليه ، لتأكيده وتثبيته في ذهن المخاطبين ؛ لأن المخاطب بين مصدِّق به ومكذِّب ، فيأتي القسم عليه ، دفعًا لمظنة اتهام ، أو إزاحة لشك . تأمل قوله تعالى :﴿ وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ ﴾(يونس: 53) ، كيف حكى استِنْباء الكافرين لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، إن كان الوعيد بالعذاب الذي توعدهم الله تعالى به في الآخرة حقًّا ! فهم مزلزلون من الداخل تجاه هذا اليوم- أعني : يوم البعث وما يصحبه من أهوال- يريدون أن يستوثقوا ، وليس بهم ذرَّة من يقين ، فيأتي الجواب من الله عز وجل بالإيجاب حاسمًا ، مؤكَّدًا بهذا القسم :﴿ قُلْ إِي وَرَبِّي ﴾ . أيْ : نعم ! وربي الذي أعرف قيمة ربوبيته ، فلا أقسم به حانثًا ، ولا أقسم به إلا في جد وفي يقين :﴿ إِنَّهُ لَحَقٌّ ، وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ ﴾ ! ومثل ذلك يقال في بقيَّة الآيات .

والقسم الثاني : قسَم مسبوق بـ( لا ) النافية ، وهو نوعان :

أولهما : نوع يختص المُقسِم فيه بالعبد ؛ ومثاله : أن يقال لزيد من الناس : أَقسمْ بالله على أن فلانًا هو قاتل ، فيقول :( لا أقسم ) ؛ إما لخوفه من بطش القاتل ، أو لخوفه عليه من أن يصاب بمكروه ، أو لخشيته من سوء عاقبة الكذب في القسم . فـ( لا ) في هذه الحالة هي النافية للقسم. و( أقسم ) فعل منفي بها . وهذا واضح : تقول :( أقسم ) ، و( لا أقسم ) ، والأول مثبت ، والثاني منفي .. وقد يكون الأمر المطلوب القسم عليه من الأمور التي لا تحتاج إلى القسم ؛ لأنه واضح الثبوت ، فحينئذ تكون ( لا ) في نحو قولك :( لا أقسم ) لنفي الحاجة إلى القسم ، خلافًا لمن زعم زيادتها في الموضعين ؛ إذ لو كانت مزيدة ، لما عرف النفي من الإثبات ، ولما مُيِّز بين الحاجة إلى القسم ، وعدم الحاجة إليه .

وثانيهما : يختص المقسِم فيه بالله عز وجل ؛ ومنه ما وقع في القرآن الكريم من أقسام مسبوقة بـ( لا ) ؛ كما في قوله تعالى :

﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ * إِنَّهُ لَقُرْآَنٌ كَرِيمٌ ﴾( الواقعة : 75- 77 ) .

﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ * عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ ﴾(المعارج: 40- 41) .

﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لَا تُبْصِرُونَ * إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ﴾(الحاقة: 38- 40) .

﴿ لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ * أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ ﴾(القيامة: 1- 3) .

﴿ لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ * لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ ﴾(البلد: 1- 4) .

فهذا ليس بقسم صريح ، ولا قسم منفيٍّ ؛ وإنما هو تلويح بالقسم ، و( لا ) فيه على أصلها الذي وضعت له من الدلالة على النفي ، وأدخلت على الفعل ( أقسم ) لسر بديع من أسرار القرآن ، وهو نفي الحاجة إلى القسم على أمور يقينية ثابتة ، لا يتطرق إليها الشك أبدًا ؛ كالقرآن الكريم في آية الواقعة ، وقدرة الله تعالى على تبديل الكافرين بخير منهم في آية المعارج ، والقرآن على أنه قول رسول كريم في آية الحاقة ، وخلق الله تعالى الإنسان في نصَب وشدة . فهذه الأمور اليقينية الثابتة لا تحتاج إلى أن تؤكد بالقسم ، فضلاً عن أن المتكلِم هو الله جل وعلا ، شاء من شاء ، وأبى من أبى .

تأمل قوله تعالى :﴿ إِنَّهُ لَقُرْآَنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ * تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾(الواقعة: 77- 80) ، تجد فيه أن ( كون القرآن كريمًا موجود في كتاب مصون ، لا يمسُّه إلا الملائكة المطهَّرون ، وأنه تنزيل من رب العالمين ) حقيقةٌ ثابتةٌ لا تحتاج إلى قسم يؤكِّدها ؛ لأنها أوضح من أن تؤكَّد بقسم .

وقد كان المشركون يزعمون أن القرآن الذي أتى به محمد صلى الله عليه وسلم هو قول كاهن ، وقول مجنون ، وأنه مفترى على الله سبحانه من أساطير الأولين ، وأنه متقوَّل على الله جل وعلا ، تنزَّلت به الشياطين عليه ، إلى آخر ذلك من الأقاويل الباطلة ، فجاء الجواب من الله تعالى حاسمًا بأنه ليس كما يزعمون ويدَّعون ويفترون ؛ وإنما هو نسخة من القرآن الكريم الموجود في الكتاب المكنون ، والذي لا يمسه إلا الملائكة المطهَّرون ، وأنه تنزيل من رب العالمين ، لا تنزيل من الشياطين . وهذا ما قرره سبحانه وتعالى في آية آيات أخرَ ؛ كقوله :﴿ وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ * وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ * إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ ﴾(الشعراء: 210- 212) .

وقد مهَّد الله تعالى لهذا الجواب بقوله :﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ ﴾ ، ﴿ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ﴾ ملوِّحًا بالقسم بمواقع النجوم التي أخبر عن عظمة القسم بها . قال سيد قطب :« وهذا التلويح بالقسم والعدول عنه أسلوب ذو تأثير في تقرير الحقيقة التي لا تحتاج إلى القسم ؛ لأنها ثابتة واضحة » ؛ وكأنه سبحانه يقول : لست بحاجة إلى القسم بمواقع النجوم- على عظمتها- أن هذا القرآن كريمٌ ؛ لأن كونه كريمًا ، في ذاته وفي مصدره ، من الحقائق الثابتة التي لا يتطرق إليها الشك أبدًا ، وبالتالي فهو لا يحتاج إلى قسم يؤكده ؛ لأنه أوضح وأجلى من أن يحتاج إلى قسم .

ثم تأمل قوله تعالى :﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لَا تُبْصِرُونَ ﴾(الحاقة: 38- 43) ، نجد كيف نفى سبحانه حاجته إلى القسم بما نبصر وما لا نبصر ، على قوله سبحانه :﴿ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ * وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ * تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ . وتعقيبًا على هذه الآيات قال سيد قطب رحمه الله :« إن الأمر لا يحتاج إلى قسم ، وهو واضح هذا الوضوح ، ثابت هذا الثبوت ، واقع هذا الوقوع . لا يحتاج إلى قسم أنه حق ، صادر عن الحق ، وليس شعر شاعر ، ولا كهانة كاهن ، ولا افتراه مفتر . لا ، فما هو بحاجة إلى توكيد بيمين » .

ثم تأمل قوله تعالى :﴿ لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ﴾(القيامة: 1- 2) تجد كيف بدأ الله سبحانه السورة ملوحًا بالقسم بيوم القيامة وبالنفس اللوَّامة ، على أن البعث حقٌّ لا ريب فيه ، وهو ما دل عليه قوله تعالى :﴿ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ ﴾(القيامة: 3) .

ثم تأمل قوله تعالى :﴿ لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ ﴾(البلد: 1- 4) ، كيف بدأ الله سبحانه السورة بالتلويح بهذا القسم العظيم ، على حقيقة هي في حياة الإنسان ثابتة ، لا يتطرق إليها الشك أبدًا ﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ ﴾ .

فالمقام- إذًا- لا يحتاج إلى قسم وتوكيد بيمين ، فضلاً عن أن المتكلم هو الله جل وعلا ؛ ولهذا لمَّا سمع أعرابيٌ قول الله تعالى :﴿ وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ ﴾(الذاريات: 22- 23) ، صاح قائلاً :« يا سبحان الله ! من ذا الذي أغضب الجليل حتى حلف ؟ لم يصدقوه بقوله ، حتى ألجئوه إلى اليمين » . فتأمل قول هذا الأعرابي الذي أدرك بفطرته السليمة أن الأمر لا يحتاج إلى القسم على صحة وقوعه ؛ لأنه أظهر وأوضح من أن يُقسَم عليه ، مع أن المقسم عليه في هذه الآيات من الأمور التي هي موضع شك من المخاطبين !

رابعًا- وأما عن تسمية قوله تعالى :﴿ فَلَا أُقْسِمُ ﴾ قسمًا في قوله تعالى :﴿ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ﴾ فالجواب عنه : أن قوله تعالى :﴿ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ﴾ لا يدل على أن ﴿ فَلَا أُقْسِمُ ﴾ قسم- كما يوحي بذلك ظاهر اللفظ- وإنما يدل على أن مواقع النجوم شيء عظيم يستحق أن يقسم به المقسمون ، لو كانوا يعلمون عظمتها . ولو أن الله جل وعلا كان بحاجة إلى القسم على أن هذا القرآن كريم ، لأقسم بها ؛ ولكنه سبحانه ليس بحاجة إلى هذا القسم . فثبت أن قوله تعالى :﴿ فَلَا أُقْسِمُ ﴾ ليس بقسم ؛ وإنما هو تلويح بالقسم ، وأنه بمنزلة القسم الصريح . ولتوضيح ذلك نقول :

إن قوله تعالى :﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ ﴾ يحتمل أن يفهم منه المخاطب أن الله سبحانه لم يقسم بمواقع النجوم ، لتفاهتها وحقارتها- في نظره- أو لقلة شأنها ، فجاء قوله تعالى :﴿ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ﴾ معترضًا بين التلويح بالقسم والمقسَم عليه ، صَوْنًا للمعنى من هذا الاحتمال . ويؤكد ذلك أن المخاطبين بهذه الآيات لم يكونوا يعلمون وقت نزول القرآن عن مواقع النجوم إلا القليل القليلَ الذي يدركونه بعيونهم المجردة ؛ ولهذا لم يقل سبحانه :﴿ كَمَا تَعْلَمُونَ ﴾ ؛ لأنه لو قيل ذلك ، لأفاد علمهم بعظمة هذا القسم . وكذلك لو قيل :﴿ إِنْ تَعْلَمُونَ ﴾ ، لأفاد إمكان علمهم بذلك ، ومن ثمَّ جاء التعبير بقوله تعالى :﴿ لَوْ تَعْلَمُونَ ﴾ ؛ ليفيد نفْيَ علمهم بعظمة هذا القسم ، مع تمني حصوله . ويبيِّن لك ذلك أن الأصل في ﴿ لَوْ ﴾ أنها أداة تَمنٍّ ، ثم استعملت كأداة للشرط ؛ وذلك من باب تعدُّد المعنى الوظيفي للمبنى الواحد . ومن خواصِّها فرْضُ ما ليس بواقع واقعًا ، وتستعمل فيما لا يُتَوقَّع حدوثُه ، وفيما يمتنع حدوثه ، أو فيما هو محال ، أو من قبيل المحال .

ولو سلمنا جدلاً أن قوله تعالى :﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ ﴾ قسم- كما يقولون ، بدليل أن الله تعالى سماه قسمًا ، فكيف يقسم ربنا جل وعلا على قرآن أعلن هو نفسه سبحانه عجز الإنس والجن على الإتيان بمثله ، ولو اجتمعوا على ذلك وتظاهروا ؛ وذلك قوله تعالى :﴿ قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ﴾(الإسراء: 88) ؟ ألا ترى أن في القسم عليه وضعه موضع المشكوك فيه ؟ وممَّن ؟ من الله تعالى قائل هذا القرآن الكريم . والشك في القرآن هو شك في قائله ، تعالى القرآن وقائله عز وجل عن ذلك ، وعلا علوًّا كبيرًا .

ومن يعرف هذا ، يدرك خطورة القول بأن قوله تعالى :﴿ فَلَا أُقْسِمُ ﴾ قسم ، و إن ( لا ) فيه مزيدة للتوكيد . ومن أصرَّ على القول بذلك بعد هذا البيان المفصل ، فإنه ملحد بآيات الله جل وعلا ، علم أو لم يعلم ، فليتنبه إلى ذلك من يفسر القرآن ، وليكن على حذر من أمره . فالله جل شأنه عندما يقول :﴿ لَا أُقْسِمُ ﴾ فهذا لا يعني إلا شيئًا واحدًا فقط ، وهو أنه تعالى ليس بحاجة إلى أن يقسم بشيء من مخلوقاته- مهما عظم ذلك الشيء- على أن المقسَم عليه حقٌّ لا ريب فيه ؛ لأن كونه حقًّا لا يحتاج إلى يمين يؤكد حقِّيَّتَه وثبوته .

والفرق واضح كل الوضوح بين أن يقول الله عز وجل :( أقسمُ ) ، وأن يقول :( لا أقسمُ ) ؛ فالأول يجعل المقسم عليه أمرًا مشكوكًا في حقِّيَّته وثبوته عند المخاطب ، بخلاف الثاني . وإذا علمنا الفرق بين القولين ، أدركنا سرَّ دخول ﴿ لَا ﴾ النافية على فعل القسم الذي يكون فيه ضمير الفعل عائدًا على الله جل وعلا ، ويكون المقسَم عليه من الأمور اليقينيَّة الثابتة .

وبهذا يظهر لنا الفرق بين القسم المثبت ، والقسم المسبوق بـ﴿ لَا ﴾ النافية ، كما يظهر لنا أن القول بزيادة ﴿ لَا ﴾ هو قول بعيد جدًّا ؛ بل هو في بعده عن الصواب أبعد من النجوم في مواقعها من الأرض ؛ إذ يستحيل أن يؤكَّد الشيء بنفيه ، ولا يمكن لأعجمي ، فضلاً عن عربي ، أن يتصور أن ﴿ لَا أُقْسِمُ ﴾ معناه :﴿ أُقْسِمُ ﴾ ! وكيف ينسب ذلك إلى القرآن الكريم ، وهو كتاب بيان ، وهدى للناس !

وأما القول بأن ﴿ لَا ﴾ نافية للقسم فهو أبعد من القول بزيادتها ؛ وذلك لما بين نفي الحاجة إلى القسم ، وبين نفي القسم من فرق كبير . وفي بيان هذا الفرق قالت الدكتورة عائشة عبد الرحمن :« وفرق بعيد أقصى البعد بين أن تكون ﴿ لَا ﴾ لنفي القسم كما قال بعضهم ، وبين أن تكون لنفي الحاجة إلى القسم كما يهدي إليه البيان القرآني » .

وأضافت قائلة :« ومن نفي الحاجة إلى القسم يأتي التأكيد والتقرير؛ لأنه يجعل المقام في غنًى بالثقة واليقين عن الإقسام ، والسر البياني لهذا الأسلوب يعتمد في قوة اللفت- على ما يبدو- بين النفي ، والقسم من مفارقة مثيرة لأقصى الانتباه . وما زلنا بسليقتنا اللغوية نؤكد الثقة بنفي الحاجة معها إلى القسم ، فنقول لمن نثق فيه : لا تقسم . أو : من غير يمين ، مقررين بذلك أنه موضع ثقتنا ، فليس بحاجة إلى أن يقسم لنا » .

وقد يأتي النهي عن القسم من المتكلم لعلمه بأن المقسِم كاذب في قسمه ؛ ونحو ذلك قوله تعالى :﴿ وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ ﴾ ؛ ولهذا أمر الله تعالى نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم أن ينهاهم عن هذا القسم ، لعلمه سبحانه بنفاقهم ، فقال جل شأنه :﴿ قُلْ لَا تُقْسِمُوا ﴾(النور: 53) .

نخلص من ذلك كله إلى أن قوله تعالى ﴿ أُقْسِمُ ﴾ قسم مباشر . وأما قوله ﴿ لَا أُقْسِمُ ﴾ فهو تلويح بالقسم وعدول عنه ؛ لعدم الحاجة إليه ، خلافًا للأول . وهذا التلويح بالقسم مع العدول عنه- كما قال سيد قطب رحمه الله- أوقع في الحس والنفس من القسم المباشر ، وهو أسلوب ذو تأثير في تقرير الحقيقة التي لا تحتاج إلى القسم ؛ لأنها ثابتة واضحة . فإذا كان كذلك ، فهو في قوة القسم من حيث إفادته معنى التوكيد والتقرير والتأثير .

وأما ما ذهب إليه بعضهم من أن ﴿ لَا ﴾ هذه نفيٌ لكلام تقدم ذكره فمدفوع بإجماع القرَّاء على أن ﴿ لَا ﴾ موصولة بالفعل ﴿ أُقْسِمُ ﴾ . وجعلها ردًّا لكلام سبق ، يقتضي القراءة على وجوب الفصل بينها ، وبين الفعل ، فضلاً عما يبدو فيه من غرابة . ولو كانت ( لا ) نفيًا لكلام سابق ، لوجب الفصل بينهما بـ( واو ) القسم ، ولوجب أيضًا أن يكون جواب القسم منفيًّا ، يدلك على ذلك قول الله تعالى :﴿ فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ﴾(النساء: 65) ، ونحو ذلك قول عائشة رضي الله عنها :« لا ، والله ، ما مسَّت يدُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يدَ امرأة قطُّ » .

وأما ما ذهب إليه بعضهم من أن ﴿ لَا ﴾ هذه أداة تنبيه ، وأن أصلها :( أَلَا ) فهو قول غريب عجيب ، ولا يقل عنه غرابة وعجبًا قول من زعم أنها أداة استثناء ، وأن أصلها :( إلا ) ، ثم حذفت همزتها ، وأغرب منهما وأعجب قول من قال : إنها لام أُشبِعت حركتها ، فتولَّدت عنها ألفٌ . والأعجب من ذلك كله أن يتبنَّى هذا القول عالم جليل كأبي حيان الأندلسي ، على أنه أولى الأقوال عنده بالصواب .

خامسًا- بقي أن تعلم أن الدكتور فاضل السامرَّائي ، وهو أشهر من أن يعرَّف به ، كان قد أجاب في كتابه الغنيِّ عن التعريف ( لمسات بيانية في نصوص من التنزيل ) عن السؤال الآتي : ما دلالة ( لا ) في القسم ، في قوله تعالى في سورة البلد :﴿ لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ ﴾(البلد: 1) ؟ فقال ما نصُّه :« اختلف النحاة في دلالة ( لا ) : كلام عام من ( لا أقسم ) عمومًا ، يقولون :( لا ) زائدة لتوكيد القسم بمعنى : أقسم ؛ مثال : قولنا : والله لا أفعل ، معناها : لا أفعل . ولو قلنا : لا والله لا أفعل ، معناها : لا أفعل . لا يختلف المعنى ، والقسم دلالة واحدة .. وقسم يقولون : هي للنفي . أي : نفي القسم . والغرض منه أن الأمر لا يحتاج للقسم لوضوحه ، فلا داعي للقسم . وقسم قال : إنها تنفي لغرض الاهتمام ؛ كأن تقول : لا أوصيك بفلان ، بمعنى : لا أحتاج لأن أوصيك . وفي السورة ( لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ ) تدور ( لا ) في كل هذه الأمور ، على أنها توكيد للقسم ، بمعنى :( أقسم بهذا البلد ) . إذن الغرض للتوكيد ؛ لأن الأمر فيه عناية واهتمام » .

هذا ما قاله فضيلته بنصِّه ، وهو مدوَّن في كتاب ، وليس جوابًا مرتجلاً على الهواء ، ولا يخفى على العامَّة ما في ذلك من قلق واضطراب ، وهو كلام يحتاج من القارىء إلى كثير من التدبر والتأمل ؛ كي يستطيع استيعابه وفهمه ؛ لأنه أشبه بالألغاز ، وإلا فكيف يمكن أن يفهم قوله :« والله لا أفعل ، معناها : لا أفعل . ولو قلنا : لا والله لا أفعل ، معناها : لا أفعل . لا يختلف المعنى ، والقسم دلالة واحدة » ؟ أو كيف يمكن أن يفهم قوله :« وفي السورة ( لا أقسم بهذا البلد ) تدور ( لا ) في كل هذه الأمور ، على أنها توكيد للقسم ، بمعنى :( أقسم بهذا البلد ) . إذن الغرض للتوكيد ؛ لأن الأمر فيه عناية واهتمام » ؟

ومثل هذا الاضطراب والخلط نجده عند ابن عاشور ؛ وذلك عند تفسيره لآية الواقعة :﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ ﴾ (الواقعة: 75) ، حيث قال :« و( لا أقسم ) بمعنى :( أقسم ) ، و ( لا ) مزيدة للتوكيد ، وأصلها : نافية تدل على أن القائل لا يقدم على القسم بما أقسم به ، خشية سوء عاقبة الكذب في القسم ، وبمعنى : أنه غير محتاج إلى القسم ؛ لأن الأمر واضح الثبوت . ثم كثر هذا الاستعمال ، فصار مرادًا تأكيد الخبر ، فساوى القسم ، بدليل قوله عقبه :﴿ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ﴾(الواقعة: 76) » .

ثم قال عند تفسير قوله تعالى :﴿ لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ ﴾ من سورة البلد ، قال « و( لا أقسم ) صيغة تحقيق قَسَم ، وأصلها : أنها امتناع من القسَم امتناع تحرُّج ، من أن يحلف بالمُقْسمِ به ، خشية الحنث ، فشاع استعمال ذلك في كل قَسَم يراد تحقيقه ، واعتبر حرف ( لا ) كالمزيد ؛ كما تقدم عند قوله تعالى :﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ ﴾ » .

لاحظ قوله :« و( لا أقسم ) بمعنى :( أقسم ) ، و ( لا ) مزيدة للتوكيد » . ثم تأمل قوله :« وأصلها : نافية تدل على أن القائل لا يقدم على القسم بما أقسم به ، خشية سوء عاقبة الكذب في القسم » . وقوله :« وأصلها : أنها امتناع من القسَم امتناع تحرُّج ، من أن يحلف بالمُقْسمِ به ، خشية الحنث » . وتذكر أن المُقسِم هو الله عز وجل ! نسأله سبحانه أن يرزقنا نعمة الفهم لكلامه ، والإدراك لأسرار بيانه ، وألا نقول فيه إلا صوابًا ، له الحمد وله المنّ

descriptionسر دخول ( لا ) النافية على فعل القسم Emptyرد: سر دخول ( لا ) النافية على فعل القسم

more_horiz
شكرا جزيلا اخي الاعصار
سر دخول ( لا ) النافية على فعل القسم Icon_cool

descriptionسر دخول ( لا ) النافية على فعل القسم Emptyرد: سر دخول ( لا ) النافية على فعل القسم

more_horiz
شكرا ياغالي علي التوبيك وجزاك الله كل خير

descriptionسر دخول ( لا ) النافية على فعل القسم Emptyرد: سر دخول ( لا ) النافية على فعل القسم

more_horiz
جزاكم الله خيرا شكرا على المرور الحلو
*****
******
*******
النجم الثاقب يرحب بكم
http://altarekk.ahladalil.com :cheers: ::ss554dd::

descriptionسر دخول ( لا ) النافية على فعل القسم Emptyرد: سر دخول ( لا ) النافية على فعل القسم

more_horiz
شكــرا لكـ يا أخــى الغالــى ؛؛ باركـ الله فيكـ gg444g


::ss554dd::

descriptionسر دخول ( لا ) النافية على فعل القسم Emptyرد: سر دخول ( لا ) النافية على فعل القسم

more_horiz
باركـ الله فيكـ

descriptionسر دخول ( لا ) النافية على فعل القسم Emptyرد: سر دخول ( لا ) النافية على فعل القسم

more_horiz
باركـ الله فيكـ

descriptionسر دخول ( لا ) النافية على فعل القسم Emptyرد: سر دخول ( لا ) النافية على فعل القسم

more_horiz
حللت أهلا ونزلت سهلا أخي

descriptionسر دخول ( لا ) النافية على فعل القسم Emptyرد: سر دخول ( لا ) النافية على فعل القسم

more_horiz
شكرا لك وبارك الله فيك اخيسر دخول ( لا ) النافية على فعل القسم Moz-screenshot-7

descriptionسر دخول ( لا ) النافية على فعل القسم Emptyرد: سر دخول ( لا ) النافية على فعل القسم

more_horiz
لا تحرمنا ردودك الطيبة شكرا على المرور

descriptionسر دخول ( لا ) النافية على فعل القسم Emptyرد: سر دخول ( لا ) النافية على فعل القسم

more_horiz
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

ياسبحــــــــــــــان الله

موضوع في القمة+تم اضافته للمفضلة

جـــــــــــــــــــزاك الله خيرا

descriptionسر دخول ( لا ) النافية على فعل القسم Emptyرد: سر دخول ( لا ) النافية على فعل القسم

more_horiz
شكرا لك يا غالي عـ لـى مواضيعك القيمة ..
واصل ناشطك وابداعكـ ..

descriptionسر دخول ( لا ) النافية على فعل القسم Emptyرد: سر دخول ( لا ) النافية على فعل القسم

more_horiz
تسلم علي الموضوع

جزاك الله خيرا

descriptionسر دخول ( لا ) النافية على فعل القسم Emptyرد: سر دخول ( لا ) النافية على فعل القسم

more_horiz
تسلم علي الموضوع

جزاك الله خيرا

descriptionسر دخول ( لا ) النافية على فعل القسم Emptyرد: سر دخول ( لا ) النافية على فعل القسم

more_horiz
تسلم علي الموضوع

جزاك الله خيرا



privacy_tip صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى

جميع الحقوق محفوظة لدليل الاشهار العربي