غَنيٌّ عن البيان أن السيرة النبوية كانت- ولا تزال- محطَّ إعجابٍ وتقدير من كلِّ من يطالعها، ويتصفح أحداثها.. ليس ذلك فحسب ممن آمنوا بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وشهدوا له بالرسالة، وأقروا له بالعصمة؛ وإنما أيضًا ممن يطالع تلك السيرة من غير المسلمين، ومن غير المؤمنين أصلاً بالوحي والنبوات.
وليس هذا أمرًا عجيبًا إذا عرفنا أن السيرة النبوية قدمت للإنسانية “النموذج” الأرفع والأرقى للإنسان كما يمكن أن يكون، بل وفوق ما يمكن أن يكون..!
لقد صُنع النبي صلى الله عليه وسلم على العناية الإلهية، وأحيط بالمدد الرباني، وربَّاه خالقه سبحانه وأدبه فأحسن تربيته وتأديبه، ووجَّهه وعلَّمه فأتمَّ توجيهه وتعليمه؛ فلا نرى الحياةَ الشريفة التي امتدت لستة عقود إلا وهي تنتقل من نور إلى نور، ويحوطها التوفيق تلو التوفيق..
وُلد صلى الله عليه وسلم في طهر وعفاف.. ونشأ على كريمِ صفاتٍ وأخلاق.. وبُعث في شرف من قومه.. وحَفِظَ العهودَ حتى لمحاربيه.. وشمل الناس بعطفه، لا سيما الضعفاء والفقراء.. ثم اضطلع بمهام الدولة تكوينًا وإدارةً وصيانةً، فجاءت خُطَطُه كأتمّ ما تكون، وأثبت كفاءة على قدر رسالته الخاتمة العالمية.. وإلى جانب هذا، كان أعبد الناس، وأتقى الناس، وأزهد الناس، وأحلم الناس..
ولم يكن صلى الله عليه وسلم في حياته الخاصة بأقل إبهارًا من حياته العامة.. فكان الزوج الحنون، والأب الشفوق.. وكان المتبتلَ بمثل ما كان المجاهد!
يقول العقاد رحمه الله في (مطلع النور): “ولا نعلم أنَّ أحدًا من الأنبياء وُصِف لنا كما وصف محمد عليه السلام، في كل لمحة من لمحاته، وفي كل حركة من حركاته، وفي يقظته ورقاده، وفي حديثه وصمته، وفي جلوسه ومسيره، وفي ركوبه وارتجاله؛ فلم تكُن له صفة قط في كل أولئك غير صفة البنية السوية، والخلق القويم… وقد جُعلت رسالة محمد حيث ينبغي أن تكون- خَلقًا وخُلُقًا- من ميراث الزمن وميراث الأجداد والآباء؛ فكل خُلُق وُصف به فهو الصالح لأداء رسالته والنهوض بأمانته”.
فهذه لمحة خاطفة عن تلك السيرة النبوية العطرة، التي لا عجب أن تكون محلَّ إبهار بأشعتها وأنوارها، ومحلَّ انبهار ممن يتابع تلك الأشعة والأنوار ولو وفي ومضات قصيرة..
غير أننا نريد الانتقال من حالة “الانبهار” هذه- والسيرة النبوية جديرة بها، من المؤكد- إلى حالة أخرى تكون أكثر وفاءً بحق صاحب تلك السيرة العطرة، صلى الله عليه وسلم، ألا وهي “حالة التفعيل” والتمثُّل والاقتداء..
فما جُعلت السيرة النبوية لِنُبدِيَ أمامها كلمات الشكر والثناء فحسب، ولا لنقف منبهرين بعطائها، فقط.. وإنما أيضًا لنجعل منها منهاجًا ونبراسًا، ولنتخذها في حياتنا قدوةً وأسوة: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} (الأحزاب: 21)، {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (آل عمران: 31). قال ابن كثير: “هذه الآية الكريمة- آية آل عمران- حاكمةٌ على كل من ادّعى محبة الله، وليس هو على الطريقة المحمدية؛ فإنه كاذب في دعواه في نفس الأمر، حتى يتبع الشرع المحمدي والدين النبوي في جميع أقواله وأحواله”.
فلا نريد أن نقف عند حدود المدح والثناء، بل علينا أن نستصحب مع ذلك العبرةَ والدرس؛ لننظر:
كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم في حياته الخاصة والعامة: مَضْرِبَ المثل في كلتيهما، ولم يوف إحداهما حقَّها على حساب الأخرى..!
وكيف كان النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته: يقدم الكلمة الحسنة، ويبسط يده بالرحمة، ويسع الناس بأخلاقه، يعفو ويصفح.. وكيف كان أيضًا يبصر مكر العدو، ويتجنب شَرَكَه، ويأخذ بالأسباب ولا يترك شيئًا دون إعداد..!
وكيف كان النبي صلى الله عليه وسلم في دولته: يضع الأسس، ويقيم الحق، ويقسم بالسوية، ويستوعب المخالفين..!
وكيف كان النبي صلى الله عليه وسلم في جده واجتهاده.. في تبتله وسعيه.. في سلمه وحربه.. في وعظه وسيفه.. في عفوه وعقوبته.. في لينه وحسمه.. في توكله وسَبَبِه.. في مجتمعه المديني المحدود، ومحيطه العالمي خارج الجزيرة الممدود..!
إننا أمام انتقالين مهمين لازمين في تعاملنا مع السيرة النبوية:
الأول: الانتقال من “الانبهار” إلى “التفعيل”.. فلا نَقنع بكلمات الإعجاب والإطراء، ولا بترديد الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم، بألسنتنا.. وإنما نحوّل ذلك إلى فعل وفاعلية، يجعلان للسيرة في حياتنا حضورًا مستمرًّا، واقعًا في الحياة وليس تاريخًا في الكتب.
الثاني: الانتقال من “القراءة الخاطئة” إلى “النظر الصحيح”.. فالبعض يتعامل مع السيرة تعاملاً خاطئًا حين ينظر إليها بزاوية واحدة، غافلاً عن بقية زواياها المتعددة المتكاملة.. فيحسب السيرةَ غزواتٍ وحروبًا كلها، أو يراها سِلْمًا كلها، أو يجتزئ مواقف المعاهدات والموادعة، أو يبتسر مواطن العفو والصلح.. أو غير ذلك من مظاهر “القراءة الأحادية”؛ التي تُطوِّع السيرة ولا تنطلق منها، وتَحكم عليها ولا تتحاكم إليها..!
فالموقف الصحيح يجعلنا ندرك أن السيرة النبوية هي المنهج الذي نقتدي به، وليس النَّص الذي نبحث فيه عن أهوائنا ورغباتنا.. وإلا، كنا مثل هؤلاء الذين نزل فيهم قوله تعالى: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ (48) وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ ۚ بَلْ أُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (النور: 48- 50).
بينما السلوك الواجب علينا تجاه النبي صلى الله عليه وسلم وسيرته العطرة، هو ما أوضحه قولُه تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} (النور: 51- 52).
هذا حق السيرة النبوية علينا، وواجبنا تجاه صاحبها الأكرم صلى الله عليه وسلم.. عسى أن نكون من محبيه حقًّا، ومن تابعيه صدقًا، ومن المرافقين له في جنات النعيم.
وليس هذا أمرًا عجيبًا إذا عرفنا أن السيرة النبوية قدمت للإنسانية “النموذج” الأرفع والأرقى للإنسان كما يمكن أن يكون، بل وفوق ما يمكن أن يكون..!
لقد صُنع النبي صلى الله عليه وسلم على العناية الإلهية، وأحيط بالمدد الرباني، وربَّاه خالقه سبحانه وأدبه فأحسن تربيته وتأديبه، ووجَّهه وعلَّمه فأتمَّ توجيهه وتعليمه؛ فلا نرى الحياةَ الشريفة التي امتدت لستة عقود إلا وهي تنتقل من نور إلى نور، ويحوطها التوفيق تلو التوفيق..
وُلد صلى الله عليه وسلم في طهر وعفاف.. ونشأ على كريمِ صفاتٍ وأخلاق.. وبُعث في شرف من قومه.. وحَفِظَ العهودَ حتى لمحاربيه.. وشمل الناس بعطفه، لا سيما الضعفاء والفقراء.. ثم اضطلع بمهام الدولة تكوينًا وإدارةً وصيانةً، فجاءت خُطَطُه كأتمّ ما تكون، وأثبت كفاءة على قدر رسالته الخاتمة العالمية.. وإلى جانب هذا، كان أعبد الناس، وأتقى الناس، وأزهد الناس، وأحلم الناس..
ولم يكن صلى الله عليه وسلم في حياته الخاصة بأقل إبهارًا من حياته العامة.. فكان الزوج الحنون، والأب الشفوق.. وكان المتبتلَ بمثل ما كان المجاهد!
يقول العقاد رحمه الله في (مطلع النور): “ولا نعلم أنَّ أحدًا من الأنبياء وُصِف لنا كما وصف محمد عليه السلام، في كل لمحة من لمحاته، وفي كل حركة من حركاته، وفي يقظته ورقاده، وفي حديثه وصمته، وفي جلوسه ومسيره، وفي ركوبه وارتجاله؛ فلم تكُن له صفة قط في كل أولئك غير صفة البنية السوية، والخلق القويم… وقد جُعلت رسالة محمد حيث ينبغي أن تكون- خَلقًا وخُلُقًا- من ميراث الزمن وميراث الأجداد والآباء؛ فكل خُلُق وُصف به فهو الصالح لأداء رسالته والنهوض بأمانته”.
فهذه لمحة خاطفة عن تلك السيرة النبوية العطرة، التي لا عجب أن تكون محلَّ إبهار بأشعتها وأنوارها، ومحلَّ انبهار ممن يتابع تلك الأشعة والأنوار ولو وفي ومضات قصيرة..
غير أننا نريد الانتقال من حالة “الانبهار” هذه- والسيرة النبوية جديرة بها، من المؤكد- إلى حالة أخرى تكون أكثر وفاءً بحق صاحب تلك السيرة العطرة، صلى الله عليه وسلم، ألا وهي “حالة التفعيل” والتمثُّل والاقتداء..
فما جُعلت السيرة النبوية لِنُبدِيَ أمامها كلمات الشكر والثناء فحسب، ولا لنقف منبهرين بعطائها، فقط.. وإنما أيضًا لنجعل منها منهاجًا ونبراسًا، ولنتخذها في حياتنا قدوةً وأسوة: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} (الأحزاب: 21)، {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (آل عمران: 31). قال ابن كثير: “هذه الآية الكريمة- آية آل عمران- حاكمةٌ على كل من ادّعى محبة الله، وليس هو على الطريقة المحمدية؛ فإنه كاذب في دعواه في نفس الأمر، حتى يتبع الشرع المحمدي والدين النبوي في جميع أقواله وأحواله”.
فلا نريد أن نقف عند حدود المدح والثناء، بل علينا أن نستصحب مع ذلك العبرةَ والدرس؛ لننظر:
كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم في حياته الخاصة والعامة: مَضْرِبَ المثل في كلتيهما، ولم يوف إحداهما حقَّها على حساب الأخرى..!
وكيف كان النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته: يقدم الكلمة الحسنة، ويبسط يده بالرحمة، ويسع الناس بأخلاقه، يعفو ويصفح.. وكيف كان أيضًا يبصر مكر العدو، ويتجنب شَرَكَه، ويأخذ بالأسباب ولا يترك شيئًا دون إعداد..!
وكيف كان النبي صلى الله عليه وسلم في دولته: يضع الأسس، ويقيم الحق، ويقسم بالسوية، ويستوعب المخالفين..!
وكيف كان النبي صلى الله عليه وسلم في جده واجتهاده.. في تبتله وسعيه.. في سلمه وحربه.. في وعظه وسيفه.. في عفوه وعقوبته.. في لينه وحسمه.. في توكله وسَبَبِه.. في مجتمعه المديني المحدود، ومحيطه العالمي خارج الجزيرة الممدود..!
إننا أمام انتقالين مهمين لازمين في تعاملنا مع السيرة النبوية:
الأول: الانتقال من “الانبهار” إلى “التفعيل”.. فلا نَقنع بكلمات الإعجاب والإطراء، ولا بترديد الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم، بألسنتنا.. وإنما نحوّل ذلك إلى فعل وفاعلية، يجعلان للسيرة في حياتنا حضورًا مستمرًّا، واقعًا في الحياة وليس تاريخًا في الكتب.
الثاني: الانتقال من “القراءة الخاطئة” إلى “النظر الصحيح”.. فالبعض يتعامل مع السيرة تعاملاً خاطئًا حين ينظر إليها بزاوية واحدة، غافلاً عن بقية زواياها المتعددة المتكاملة.. فيحسب السيرةَ غزواتٍ وحروبًا كلها، أو يراها سِلْمًا كلها، أو يجتزئ مواقف المعاهدات والموادعة، أو يبتسر مواطن العفو والصلح.. أو غير ذلك من مظاهر “القراءة الأحادية”؛ التي تُطوِّع السيرة ولا تنطلق منها، وتَحكم عليها ولا تتحاكم إليها..!
فالموقف الصحيح يجعلنا ندرك أن السيرة النبوية هي المنهج الذي نقتدي به، وليس النَّص الذي نبحث فيه عن أهوائنا ورغباتنا.. وإلا، كنا مثل هؤلاء الذين نزل فيهم قوله تعالى: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ (48) وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ ۚ بَلْ أُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (النور: 48- 50).
بينما السلوك الواجب علينا تجاه النبي صلى الله عليه وسلم وسيرته العطرة، هو ما أوضحه قولُه تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} (النور: 51- 52).
هذا حق السيرة النبوية علينا، وواجبنا تجاه صاحبها الأكرم صلى الله عليه وسلم.. عسى أن نكون من محبيه حقًّا، ومن تابعيه صدقًا، ومن المرافقين له في جنات النعيم.