الكتاب: علم البيان
المؤلف: عبد العزيز عتيق (المتوفى: 1396 هـ)
المبحث الخامس: ابن القيم والمذاهب النحوية
تقدم أن إبراهيم ابن القيم لم يكن أسير مذهب معين، وإنما كان ينتظر في الآراء المختلفة وينتقي منها ما كان أسعد بالدليل، ويتضح ذلك من تفننه في الاختيار، فبينما تجده يختار في كثير من القضايا النحوية المذهب البصري حتى إنك لتكاد أن تحكم عليه بأنه بصري النزعة، تجده يختار في مسائل متعددة المذهب
الكوفي ويرجحه، وقد يختار مذهباً مخالفاً لكلا المذهبين وينصره، كما سيأتي:
أ- متابعة المذهب البصري:
لقد تتبعت ابن القيم وهو يستعرض المسائل النحوية، فوجدته وافق البصريين فيما يزيد على أربعين مسألة، وهذه نماذج منها:
1 - تابع البصريين في القول ببناء فعل الأمر، فقال: "وأما الأمر فمبني على ما يجزم به المضارع"، والكوفيون يقولون بإعرابه.
2 - تابع جمهورهم في كون متعلق الظرف أو الجار والمجرور فعلاً، فقال: "وكل منهما متعلق بفعل، تقديره: استقر، أو نحوه" والأخفش على أن متعلقهما مفرد.
3 - تابع البصريين في جواز تقديم الخبر ما لم يمنع مانع، فقال: "الأصل تقديم المبتدأ وتأخير الخبر، والعكس جائز ما لم يمنع منه مانع من الموانع الآتية: ... ".
4 - تابع البصريين في أن "كان وأخواتها" هن الرافعات للمبتدأ على أنه اسم لهن الناصبات للخبر على أنه خبر لهن، فقال: "كان وأخواتها هي العاملة في المبتدأ والخبر، فترفع المبتدأ لشبهه بالفاعل، ويسمى اسمها، وتنصب الخبر لشبهه بالمفعول ويسمى خبرها". والكوفيون على أن الاسم بعد هذه الأفعال مرفوع بما كان مرفوعاً به قبل دخولهن، وأن الاسم المنصوب بعدها إنما نصب على الحال.
5 - تابع البصريين في كون الخبر بعد "إن وأخواتها" مرفوعاً بهن، فقال: "عملت هذه الأدوات لاختصاصها بالأسماء، وعلمن الرفع والنصب لشبهها بالأفعال الناقصة ... " والكوفيون على أن الخبر بعد هذه الأدوات مرفوع بما كان مرفوعاً به قبل دخولهن.
6 - تابعهم في أن أصل المشتقات المصدر، فقال: "والمختار مذهب البصريين أنه أصل للفعل والوصف، وكل منهما مشتق منه".
7 - تابعهم في كون التمييز نكرة، ولا يكون معرفة، فقال: " الثاني: كونه نكرة، فلا تمييز بمعرفة". والكوفيون يجيزون كونه معرفة.
8 - تابعهم فيما قالوا بإعماله من صيغ المبالغة وهو ثلاث صيغ، ووافق سيبويه في إعمال الباقي وهو صيغتان.
9 - تابع جمهورهم في كون "ما" نكرة تامة محلها الرفع على الابتداء.
فقال: "ما" نكرة تامة محلها رفع بالابتداء، وما بعدها في محل الخبر".
وذهب الأخفش إلى أنها موصولة، وما بعدها لا محل له من الإعراب صلة لها، ونقل عن الكوفيين أنها استفهامية.
10 - تابع البصريين ومن وافقهم من الكوفيين في القول بفعلية " أَفعَل" التعجب، فقال: "و" أفعل "فِعلٌ للزوم نون الوقاية إياه قبل ياء المتكلم"
والكوفيون على أنه اسم.
11 - تابعهم في أنه لا يجوز العطف على الضمير المتصل المرفوع إلا بعد الفصل بضمير منفصل، فقال: "فأما ضمير الرفع المتصل أو المستتر فلا يجوز العطف عليه إلا بعد الفصل بالضمير المنفصل المؤكد للمعطوف عليه".
والكوفيون لا يرون وجوب ذلك.
12 - جرى على اصطلاحهم في تسمية البدل بدلاً، وأما الكوفيون فيسمونه الترجمة والتبيين.
13 - تابع البصريين والكسائي في القول بفعلية "نِعْم وبئس". فقال: "والدليل على فعلية" "نِعْم" و "بئس" دخول تاء التأنيث عليهما، ولا دليل للكوفيين على اسميتهما باتصالهما بحرف الجر ... ".
14 - صحح مذهبهم في أن: "فُلُ" و "فُلَة" كناية من "رجل" و "امرأة" على الأصح" والكوفيون يرون أنهما مرخماً: "فلان" و "فلانة".
ب - متابعته المذهب الكوفي:
ولقد تتبعته وهو يستعرض المسائل النحوية، فوجدته قد وافق الكوفيين فيما يزيد على عشر مسائل، أشرت إليها في مواضعها، وهو في معظمها متابع لابن مالك، وهذه نماذج من تلك المسائل:
1 - تابع الكوفيين في تعليلهم دخول الباء على خبر "ليس" و "ما" وأنه لتأكيد
النفي. فقال: " تدخل الباء على الخبر بعد "ما" و "ليس" لتأكيد النفي".
والبصريون على أن هذا الباء مأتي به لدفع توهم أن يكون الكلام موجباً.
2 - تابعهم في تجويزهم إعمال اسم المصدر غير الجاري على فعله قياساً، فقال: "واسم المصدر يطلق على ثلاثة أشياء: "أحدهما: ما لم يجر على فعله قياساً ... والثاني: ... والثالث ... وأما الأول فالكوفيون يجيزون إعماله، وهو الحق ... ".
3 - تابعهم في تجويزهم توكيد النكرة إذا كان ذلك يفيد، بأن كانت النكرة متبعضة أو محدودة. فقال: "لا تؤكد النكرة عند عدم الفائدة اتفاقاً، ومع حصول الفائدة لكون المؤكد محدودا ... فالتحقيق جوازه، كما ذهب إليه الكوفيون، لورود السماع بذلك".
4 - تابع الكوفيين في القول بجواز ندب الموصول إذا كانت صلته مشهورة فقال: "الموصول من قسم المبهم فلا يندب إلا إذا كانت صلته مشهورة نحو: "ومن حفر بئر زمزماه". والبصريون لا يرون جواز ذلك، وما جاء منه محمول عندهم على الشذوذ".
ج- مخالفته الفريقين:
خالف ابن القيم كلا الفريقين: البصري والكوفي في بعض المسائل
النحوية: وهو حينما يخالف أحد الفرقين، إما أن يخالفه ليوافق الفريق الآخر -كما تقدم آنفا- وإما أن يخالفهما جمعا، وحيذ إما أن يأخذ بآراء آحاد النحويين, وهذا هو الغالب وإما أن يقول برأيه وهذا قليل فمما تابع فيه بعض أفراد النحويين مخالفاً جمهورهم ما يأتي:
- تابع ابن مالك في القول بإعمال المصدر المحلى ب "أل" بقلة. فقال: "وعمله -أي المصدر- متلبسا ب "أل" قليل". أ. هـ. وسيبويه، والخليل وبعض البصريين يذهبون إلى إعماله مطلقاً، والكوفيون وابن السراج يمنعون إعماله.
- تابع ابن مالك -أيضاً- في القول برجحان نصب تمييز "كم" الخيرية إذا فصل بينها وبينه بظرف أو جار ومجرور، فقال: " متى فصل بينها وبين مميزها بغير الظرف والجار والمجرور تعين نصبه، وإن كان بواحد منهما فلأرجح نصبه، وقد يجر في الشعر ... ". أ. هـ. والبصريون يوجبون النصب".
- تابع ابن مالك القائل بقول المبرد بصحة نداء ما سمي به من الوصلات المبدوءة ب "أل". فقال " لو سميت رجلاً ب "المنطلق زيد" فإنك تقول في ندائه: "يا المنطلق زيد" ومثله ما سمي به من الموصولات المبدوءة ب "أل". أ. هـ.
- تابع ابن مالك وغيره في تجويزهم الإخبار بظرف الزمان عن الأعيان، إذا حصل بذلك فائدة، بأن كانت عامة وهو خاص. فقال: "أما إن أفاد الإخبار باسم الزمان عن الذوات لكونها عامة واسم الزمان خاص فغنه يجوز". أ. هـ.
- كما تابعه في القول بعدم وجوب تأخير الفاعل المحصور ب "إلا" وهو قول
الكسائي. فقال: " وقد يسبق المحصور من الفاعل أو المفعول إذا ظهر الحصر فيه، بأن يكون الحصر ب "إلا" نحو: ... ". أ. هـ.
هذه نماذج متابعة ابن القيم لابن مالك، وهناك مسائل كثيرة وافقه فيها. وقد أشرت إلى ذلك عند ورود تلك المسائل في الشرح.
- كما تابع ابن القيم: المبرد في القول بأن انتصاب: "أحقا أنك ذاهب" ونحوه على المصدرية. فقال: " وذلك قولهم: " غير شك" أنك قائم و "جَهْدَ رأيي أنك ذاهب" و "ظناً مني أنك قادم" وفي ادعاء الظرفية في هذا كله نظر، والصواب أنه منصوب انتصاب المصادر بأفعال مقدرة".أ. هـ. والجمهور على أن انتصاب ذلك على الظرفية.
- كما تابع ابن العلج في قوله بجواز تقديم المقطوع على المتبع -بفتح الباء- إذا لم يكن المنعوت محتاجاً في بيانه إلى النعت، فقال: "ولا يتعين في مثل هذا تقديم المتبع على المقطوع" يشير إلى قول الشاعرة:
لا يبعدن قومي الذين همُ سُمُ العداة وآفة الجزر
النازلين بكل معترك ... والطيبون معاقد الأُزُرِ
فإنه يروي بنصب "النازلين" "والطيبين" ورفعهما، ورفع الأول ونصب الثاني، والعكس، والجمهور لا يجيزون تقديم المقطوع على المتبع.
- كما تابع الزمخشري في إعراب: "والمسجد الحرام" من قوله تعالى: {وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة:217] بأنه معطوف على "سبيل" وغير
الزمخشري يذهب إلى أنه معطوف على الضمير المجرور: "به" قال في ذلك: "بل الصواب أنه عطف على "سبيل" ليطابق قوله: {إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَام} [الحج:25].
وتابع سيبويه في القول بإعمال: "فَعِل" و "فَعيل" إعمال اسم الفاعل كبقية صيغ المبالغة. فقال: "يحوّل اسم الفعل إلى أبنية المبالغة فيبقى على عمل اسم الفاعل في ثلاثة منها بكثرة وهي: ... وفي اثنين منها بقلة، وهما: "فعيل" و "فعل ".أ. هـ. وأكثر النحويين يخالف سيبويه في إعمال هذين الأخرين.
د- اعتراضات ابن القيم على بعض النحويين:
خاض ابن القيم غمار النحو وصال وجال في صفوف النحويين فإن من يطالع شرحه لألفيه ابن مالك يجد فيه أقوال الخليل ويونس، ونقول سيبويه، وآراء الكسائي، والفراء، والأخفش، وابن السكيت، والمبرد، وابن كيسان، والزمخشري، وثعلب، والرماني، والجرمي، والفارسي، والسيرافي، وابن كيسان، والزمخشري، وابن الحاجب، وابن عصفور، والشلوبين، وابن مالك، وأبي حيان، وابن هشام ... وغيرهم من النحويين واللغويين، فجميع هؤلاء الأعلام ذكر أعيانهم وتعرض لآرائهم، وكانت له وقفات انتقادية عند آراء بعضهم، وهو حينما ينقد رأياً فإنما ينقده بطريقة معتدلة بصل من خلالها إلى تقرير المسألة حسب ما يترجح لديه ورد ما يخالفها من غير تثريب على صاحب رأي أو حط من شانه، بل كثيراً ما يترك التشهير بأعيان من يرد عليهم ويكتفي برد أقوالهم، وربما لا يصرح بالقول المنتقد، وإنما يشير إليه إشارة خفية
فلا يشعر بذلك إلا المتدبر المتأني، وسأذكر نماذج من اعتراضاته ونقده.
- اعترض على ابن مالك في حكايته الاتفاق على جواز جعل الثاني من مفعولي باب "أعطى" نائباً عن الفاعل وترك الأول على نصبه عند أمن اللبس.
فقال في ذلك: "وليس باتفاق كما زعم المصنف، بل من النحاة من منعه مطلقاً، ومنهم من منعه في النكرة دون المعرفة".
- كما رد عليه في قوله بعدم جواز حذف مفعولي "ظن" وأخواتها اقتصاراً.
فقال: "والصحيح جوازه أي حذفهما- فيها خلاف ما ذهب إليه المصنف، ومنه: ... ".
- كما عارضه في إثباته اسم الفاعل من الفعل "كاد" فقال: ""ولا يثبت استعماله -أي اسم الفاعل- من "كاد"".
وهناك مواضع أخرى اعترض عليه فيها، وقد نبهت إليها في مكانها من الشرح.
- كما ألح ابن القيم إبراهيم إلى وهم ابن الناظم في إيراده بيتاً زعم أنه تعدد فيه الخبر وهو قول الشاعر:
يداك يد خيرها يرتجى وأخرى لأعدائها غائظه
فقال ابن القيم: "والاستشهاد به على تعدد الخبر وهم" ولم يتعرض إلى ذكر من استشهد به على ذلك من النحاة.
- وفي الموضوع نفسه رد على ابن عصفور وغيره في إنكارهم تعدد خبر المبتدأ الواحد، من غير أن ينصّ على أعيانهم فقال: "وتقدير المخالف مبتدأ لكل خبر لا دليل عليه".
- كما أمح إلى اعتراض ابن الناظم أباه في تعليل الناظم امتناع حذف عامل المصدر المأتى به للتأكيد بأن حذفه ينافي الغرض الذي جيء به من أجله فلم يسلم بهذا ابن الناظم، وبناء على ذلك أجاز حذفه، مستدلاً بجواز حذفه في نحو: " أنت سيراً سيراً". فقال ابن القيم في تفنيد ذلك: "ولا يرد عليه جواز الحذف في نحو: "أنت سيراً" ووجوبه في نحو: "أنت سيراً سيراً" لأن ... ".
- كما رد قول أبي حيان إن "الياء" و "هُم" يشاركان "نا" في الوقوع في محال الإعراب الثلاثة: الرفع والنصب والخفض، فقال:"وإلحاق "الياء" و "هم" به في هذا الحكم فاسد" ولم ينص على قائل ذلك.
- وكذلك رد على ابن هشام في معرض حديثه عن الضمير الجائز الاستتار.
فقال: "وبهذا يتبين فساد قول من قال الاستتار في نحو: "زيد قائم" واجب لعدم صحة إبرازه".أ. هـ. "وقد بينت أن الخلاف بينهما لفظي في هذه المسألة في موضعها"
المؤلف: عبد العزيز عتيق (المتوفى: 1396 هـ)
المبحث الخامس: ابن القيم والمذاهب النحوية
تقدم أن إبراهيم ابن القيم لم يكن أسير مذهب معين، وإنما كان ينتظر في الآراء المختلفة وينتقي منها ما كان أسعد بالدليل، ويتضح ذلك من تفننه في الاختيار، فبينما تجده يختار في كثير من القضايا النحوية المذهب البصري حتى إنك لتكاد أن تحكم عليه بأنه بصري النزعة، تجده يختار في مسائل متعددة المذهب
الكوفي ويرجحه، وقد يختار مذهباً مخالفاً لكلا المذهبين وينصره، كما سيأتي:
أ- متابعة المذهب البصري:
لقد تتبعت ابن القيم وهو يستعرض المسائل النحوية، فوجدته وافق البصريين فيما يزيد على أربعين مسألة، وهذه نماذج منها:
1 - تابع البصريين في القول ببناء فعل الأمر، فقال: "وأما الأمر فمبني على ما يجزم به المضارع"، والكوفيون يقولون بإعرابه.
2 - تابع جمهورهم في كون متعلق الظرف أو الجار والمجرور فعلاً، فقال: "وكل منهما متعلق بفعل، تقديره: استقر، أو نحوه" والأخفش على أن متعلقهما مفرد.
3 - تابع البصريين في جواز تقديم الخبر ما لم يمنع مانع، فقال: "الأصل تقديم المبتدأ وتأخير الخبر، والعكس جائز ما لم يمنع منه مانع من الموانع الآتية: ... ".
4 - تابع البصريين في أن "كان وأخواتها" هن الرافعات للمبتدأ على أنه اسم لهن الناصبات للخبر على أنه خبر لهن، فقال: "كان وأخواتها هي العاملة في المبتدأ والخبر، فترفع المبتدأ لشبهه بالفاعل، ويسمى اسمها، وتنصب الخبر لشبهه بالمفعول ويسمى خبرها". والكوفيون على أن الاسم بعد هذه الأفعال مرفوع بما كان مرفوعاً به قبل دخولهن، وأن الاسم المنصوب بعدها إنما نصب على الحال.
5 - تابع البصريين في كون الخبر بعد "إن وأخواتها" مرفوعاً بهن، فقال: "عملت هذه الأدوات لاختصاصها بالأسماء، وعلمن الرفع والنصب لشبهها بالأفعال الناقصة ... " والكوفيون على أن الخبر بعد هذه الأدوات مرفوع بما كان مرفوعاً به قبل دخولهن.
6 - تابعهم في أن أصل المشتقات المصدر، فقال: "والمختار مذهب البصريين أنه أصل للفعل والوصف، وكل منهما مشتق منه".
7 - تابعهم في كون التمييز نكرة، ولا يكون معرفة، فقال: " الثاني: كونه نكرة، فلا تمييز بمعرفة". والكوفيون يجيزون كونه معرفة.
8 - تابعهم فيما قالوا بإعماله من صيغ المبالغة وهو ثلاث صيغ، ووافق سيبويه في إعمال الباقي وهو صيغتان.
9 - تابع جمهورهم في كون "ما" نكرة تامة محلها الرفع على الابتداء.
فقال: "ما" نكرة تامة محلها رفع بالابتداء، وما بعدها في محل الخبر".
وذهب الأخفش إلى أنها موصولة، وما بعدها لا محل له من الإعراب صلة لها، ونقل عن الكوفيين أنها استفهامية.
10 - تابع البصريين ومن وافقهم من الكوفيين في القول بفعلية " أَفعَل" التعجب، فقال: "و" أفعل "فِعلٌ للزوم نون الوقاية إياه قبل ياء المتكلم"
والكوفيون على أنه اسم.
11 - تابعهم في أنه لا يجوز العطف على الضمير المتصل المرفوع إلا بعد الفصل بضمير منفصل، فقال: "فأما ضمير الرفع المتصل أو المستتر فلا يجوز العطف عليه إلا بعد الفصل بالضمير المنفصل المؤكد للمعطوف عليه".
والكوفيون لا يرون وجوب ذلك.
12 - جرى على اصطلاحهم في تسمية البدل بدلاً، وأما الكوفيون فيسمونه الترجمة والتبيين.
13 - تابع البصريين والكسائي في القول بفعلية "نِعْم وبئس". فقال: "والدليل على فعلية" "نِعْم" و "بئس" دخول تاء التأنيث عليهما، ولا دليل للكوفيين على اسميتهما باتصالهما بحرف الجر ... ".
14 - صحح مذهبهم في أن: "فُلُ" و "فُلَة" كناية من "رجل" و "امرأة" على الأصح" والكوفيون يرون أنهما مرخماً: "فلان" و "فلانة".
ب - متابعته المذهب الكوفي:
ولقد تتبعته وهو يستعرض المسائل النحوية، فوجدته قد وافق الكوفيين فيما يزيد على عشر مسائل، أشرت إليها في مواضعها، وهو في معظمها متابع لابن مالك، وهذه نماذج من تلك المسائل:
1 - تابع الكوفيين في تعليلهم دخول الباء على خبر "ليس" و "ما" وأنه لتأكيد
النفي. فقال: " تدخل الباء على الخبر بعد "ما" و "ليس" لتأكيد النفي".
والبصريون على أن هذا الباء مأتي به لدفع توهم أن يكون الكلام موجباً.
2 - تابعهم في تجويزهم إعمال اسم المصدر غير الجاري على فعله قياساً، فقال: "واسم المصدر يطلق على ثلاثة أشياء: "أحدهما: ما لم يجر على فعله قياساً ... والثاني: ... والثالث ... وأما الأول فالكوفيون يجيزون إعماله، وهو الحق ... ".
3 - تابعهم في تجويزهم توكيد النكرة إذا كان ذلك يفيد، بأن كانت النكرة متبعضة أو محدودة. فقال: "لا تؤكد النكرة عند عدم الفائدة اتفاقاً، ومع حصول الفائدة لكون المؤكد محدودا ... فالتحقيق جوازه، كما ذهب إليه الكوفيون، لورود السماع بذلك".
4 - تابع الكوفيين في القول بجواز ندب الموصول إذا كانت صلته مشهورة فقال: "الموصول من قسم المبهم فلا يندب إلا إذا كانت صلته مشهورة نحو: "ومن حفر بئر زمزماه". والبصريون لا يرون جواز ذلك، وما جاء منه محمول عندهم على الشذوذ".
ج- مخالفته الفريقين:
خالف ابن القيم كلا الفريقين: البصري والكوفي في بعض المسائل
النحوية: وهو حينما يخالف أحد الفرقين، إما أن يخالفه ليوافق الفريق الآخر -كما تقدم آنفا- وإما أن يخالفهما جمعا، وحيذ إما أن يأخذ بآراء آحاد النحويين, وهذا هو الغالب وإما أن يقول برأيه وهذا قليل فمما تابع فيه بعض أفراد النحويين مخالفاً جمهورهم ما يأتي:
- تابع ابن مالك في القول بإعمال المصدر المحلى ب "أل" بقلة. فقال: "وعمله -أي المصدر- متلبسا ب "أل" قليل". أ. هـ. وسيبويه، والخليل وبعض البصريين يذهبون إلى إعماله مطلقاً، والكوفيون وابن السراج يمنعون إعماله.
- تابع ابن مالك -أيضاً- في القول برجحان نصب تمييز "كم" الخيرية إذا فصل بينها وبينه بظرف أو جار ومجرور، فقال: " متى فصل بينها وبين مميزها بغير الظرف والجار والمجرور تعين نصبه، وإن كان بواحد منهما فلأرجح نصبه، وقد يجر في الشعر ... ". أ. هـ. والبصريون يوجبون النصب".
- تابع ابن مالك القائل بقول المبرد بصحة نداء ما سمي به من الوصلات المبدوءة ب "أل". فقال " لو سميت رجلاً ب "المنطلق زيد" فإنك تقول في ندائه: "يا المنطلق زيد" ومثله ما سمي به من الموصولات المبدوءة ب "أل". أ. هـ.
- تابع ابن مالك وغيره في تجويزهم الإخبار بظرف الزمان عن الأعيان، إذا حصل بذلك فائدة، بأن كانت عامة وهو خاص. فقال: "أما إن أفاد الإخبار باسم الزمان عن الذوات لكونها عامة واسم الزمان خاص فغنه يجوز". أ. هـ.
- كما تابعه في القول بعدم وجوب تأخير الفاعل المحصور ب "إلا" وهو قول
الكسائي. فقال: " وقد يسبق المحصور من الفاعل أو المفعول إذا ظهر الحصر فيه، بأن يكون الحصر ب "إلا" نحو: ... ". أ. هـ.
هذه نماذج متابعة ابن القيم لابن مالك، وهناك مسائل كثيرة وافقه فيها. وقد أشرت إلى ذلك عند ورود تلك المسائل في الشرح.
- كما تابع ابن القيم: المبرد في القول بأن انتصاب: "أحقا أنك ذاهب" ونحوه على المصدرية. فقال: " وذلك قولهم: " غير شك" أنك قائم و "جَهْدَ رأيي أنك ذاهب" و "ظناً مني أنك قادم" وفي ادعاء الظرفية في هذا كله نظر، والصواب أنه منصوب انتصاب المصادر بأفعال مقدرة".أ. هـ. والجمهور على أن انتصاب ذلك على الظرفية.
- كما تابع ابن العلج في قوله بجواز تقديم المقطوع على المتبع -بفتح الباء- إذا لم يكن المنعوت محتاجاً في بيانه إلى النعت، فقال: "ولا يتعين في مثل هذا تقديم المتبع على المقطوع" يشير إلى قول الشاعرة:
لا يبعدن قومي الذين همُ سُمُ العداة وآفة الجزر
النازلين بكل معترك ... والطيبون معاقد الأُزُرِ
فإنه يروي بنصب "النازلين" "والطيبين" ورفعهما، ورفع الأول ونصب الثاني، والعكس، والجمهور لا يجيزون تقديم المقطوع على المتبع.
- كما تابع الزمخشري في إعراب: "والمسجد الحرام" من قوله تعالى: {وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة:217] بأنه معطوف على "سبيل" وغير
الزمخشري يذهب إلى أنه معطوف على الضمير المجرور: "به" قال في ذلك: "بل الصواب أنه عطف على "سبيل" ليطابق قوله: {إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَام} [الحج:25].
وتابع سيبويه في القول بإعمال: "فَعِل" و "فَعيل" إعمال اسم الفاعل كبقية صيغ المبالغة. فقال: "يحوّل اسم الفعل إلى أبنية المبالغة فيبقى على عمل اسم الفاعل في ثلاثة منها بكثرة وهي: ... وفي اثنين منها بقلة، وهما: "فعيل" و "فعل ".أ. هـ. وأكثر النحويين يخالف سيبويه في إعمال هذين الأخرين.
د- اعتراضات ابن القيم على بعض النحويين:
خاض ابن القيم غمار النحو وصال وجال في صفوف النحويين فإن من يطالع شرحه لألفيه ابن مالك يجد فيه أقوال الخليل ويونس، ونقول سيبويه، وآراء الكسائي، والفراء، والأخفش، وابن السكيت، والمبرد، وابن كيسان، والزمخشري، وثعلب، والرماني، والجرمي، والفارسي، والسيرافي، وابن كيسان، والزمخشري، وابن الحاجب، وابن عصفور، والشلوبين، وابن مالك، وأبي حيان، وابن هشام ... وغيرهم من النحويين واللغويين، فجميع هؤلاء الأعلام ذكر أعيانهم وتعرض لآرائهم، وكانت له وقفات انتقادية عند آراء بعضهم، وهو حينما ينقد رأياً فإنما ينقده بطريقة معتدلة بصل من خلالها إلى تقرير المسألة حسب ما يترجح لديه ورد ما يخالفها من غير تثريب على صاحب رأي أو حط من شانه، بل كثيراً ما يترك التشهير بأعيان من يرد عليهم ويكتفي برد أقوالهم، وربما لا يصرح بالقول المنتقد، وإنما يشير إليه إشارة خفية
فلا يشعر بذلك إلا المتدبر المتأني، وسأذكر نماذج من اعتراضاته ونقده.
- اعترض على ابن مالك في حكايته الاتفاق على جواز جعل الثاني من مفعولي باب "أعطى" نائباً عن الفاعل وترك الأول على نصبه عند أمن اللبس.
فقال في ذلك: "وليس باتفاق كما زعم المصنف، بل من النحاة من منعه مطلقاً، ومنهم من منعه في النكرة دون المعرفة".
- كما رد عليه في قوله بعدم جواز حذف مفعولي "ظن" وأخواتها اقتصاراً.
فقال: "والصحيح جوازه أي حذفهما- فيها خلاف ما ذهب إليه المصنف، ومنه: ... ".
- كما عارضه في إثباته اسم الفاعل من الفعل "كاد" فقال: ""ولا يثبت استعماله -أي اسم الفاعل- من "كاد"".
وهناك مواضع أخرى اعترض عليه فيها، وقد نبهت إليها في مكانها من الشرح.
- كما ألح ابن القيم إبراهيم إلى وهم ابن الناظم في إيراده بيتاً زعم أنه تعدد فيه الخبر وهو قول الشاعر:
يداك يد خيرها يرتجى وأخرى لأعدائها غائظه
فقال ابن القيم: "والاستشهاد به على تعدد الخبر وهم" ولم يتعرض إلى ذكر من استشهد به على ذلك من النحاة.
- وفي الموضوع نفسه رد على ابن عصفور وغيره في إنكارهم تعدد خبر المبتدأ الواحد، من غير أن ينصّ على أعيانهم فقال: "وتقدير المخالف مبتدأ لكل خبر لا دليل عليه".
- كما أمح إلى اعتراض ابن الناظم أباه في تعليل الناظم امتناع حذف عامل المصدر المأتى به للتأكيد بأن حذفه ينافي الغرض الذي جيء به من أجله فلم يسلم بهذا ابن الناظم، وبناء على ذلك أجاز حذفه، مستدلاً بجواز حذفه في نحو: " أنت سيراً سيراً". فقال ابن القيم في تفنيد ذلك: "ولا يرد عليه جواز الحذف في نحو: "أنت سيراً" ووجوبه في نحو: "أنت سيراً سيراً" لأن ... ".
- كما رد قول أبي حيان إن "الياء" و "هُم" يشاركان "نا" في الوقوع في محال الإعراب الثلاثة: الرفع والنصب والخفض، فقال:"وإلحاق "الياء" و "هم" به في هذا الحكم فاسد" ولم ينص على قائل ذلك.
- وكذلك رد على ابن هشام في معرض حديثه عن الضمير الجائز الاستتار.
فقال: "وبهذا يتبين فساد قول من قال الاستتار في نحو: "زيد قائم" واجب لعدم صحة إبرازه".أ. هـ. "وقد بينت أن الخلاف بينهما لفظي في هذه المسألة في موضعها"