لا يملك الباحث المتعمق في الوثائق والمظان والمصادر والكتابات التاريخية، إلا أن يتساءل أمام واقعة المولى الرشيد العلوي مع اليهودي ابن مشعل، مادة تاريخية مثيرة دون شك، ولكن أين ينتهي التاريخ ويبدأ الأدب والتشويق أو بالأحرى الحكي الشعبي؟
هل يتعلق الأمر بلغز مجالي ورمزي، يتطلب عصر الأذهان بما لا مزيد عليه؟ أم أنه حادث تاريخي عاد يتملك كسائر الأحداث والوقائع عناصر المادة علميا ومنهجيا؟ وقد تشبه الواقعة حكايات ألف ليلة وليلة – كما ذهب إلى ذلك مؤرخون وباحثون أجانب – بحيث يجب قراءتها وفق أبعاد لا تخلو من تشابك وتعقيد عبر تعدد المقاربات؟ وربما لأن لها تداعيات عميقة على تاريخ المغرب وبعض العناصر الخفية أحيانا أو الظاهرة أحيانا أخرى والتي طالما حيرت الباحثين والمؤرخين، وهي قد مدت فعلا مفاصلها بشكل مباشر أو غير مباشر في الأحداث والمواقف واللحظات التاريخية.
أسئلة متعددة ومشروعة، كثيرا ما تواجه الباحث في تاريخ المغرب وعبر بعض وقائعه وحقبه، وطبعا يختلف تعاطي المؤرخ مع نوع الحادثة التاريخية ذات الحمولة السياسية أو الاجتماعية أو الثقافية عن تعاطي غيره معها وفي درجة تعقيد والتباس واقعة الرشيد مع ابن مشعل، هو اختلاف في النظر والمنهج وأفق التعامل مع المادة المعرفية، تخالف قطعا تعامل الأديب أو المفكر أو عالم الاجتماع والسيميولوجي أو الإناسي مثلا، ولعل البحث والسؤال هنا يكون بالضرورة وأحيانا أهم من الجواب ذاته، ونحن سنركز - لضيق المقام - على أسئلة ذات طابع تاريخي ومجالي حول الواقعة، وإذا أتيحت الفرص سنعود لها مرة أخرى بحول الله.
الأمر يتعلق في مقالنا هذا بمادة حدثية فريدة من نوعها، تمثل لحظة مفصلية معقدة من تاريخ المغرب، نقصد ظهور مجالات وشخصيات جديدة مؤثرة في وقائع بداية النصف الثاني من القرن السابع عشر الميلادي/ الحادي عشر الهجري، بما طبعها من أزمات وصراعات وتطاحنات وتحديات داخلية وخارجية ومؤامرات وأوبئة ومجاعات وحروب أهلية طاحنة كادت أن تأتي أحيانا على الأخضر واليابس.
إنها في الواقع، نهايات مرحلة من تاريخ البلاد وبدايات أخرى، حقبة استمرت ما يزيد عن ستين سنة منذ وفاة السلطان أحمد المنصور السعدي سنة 1603 وتطاحن أبنائه على الحكم (المامون – أبو فارس وزيدان) مما أشر إلى أفول دولة السعديين وظهور قوى سياسية جديدة وزعماء وصلحاء هنا وهناك، وحتى قيام الدولة العلوية اعتبارا من سنة 1660م على الأرجح ، بعد مخاض تاريخي مرير ممتد وملتبس أحيانا، من هنا تستطيع المادة التاريخية وضمنها القصصية أيضا، أن تلم عبر ثناياها إحالات حاسمة وعناصر فاعلة في تشكيل اللحظة التاريخية كعوامل السلطة والأموال والتجارة أساسا وأدوار أهل الذمة (اليهود هنا) وأهمية عاملي النسب والمجال جميعا.
إنها قصة شخص يهودي تاجر ثري صاحب جاه ومال وجبروت، يدعى هارون بن مشعل مع المولى الرشيد بن مولاي علي الشريف وهذا الأخير يعد أحد أكبر رموز الصلاح والنسب الشريف والبركة بتافيلالت إلى حدود منتصف القرن السابع عشر، قصة الأمير العلوي مولاي الرشيد الهارب من أخيه مولاي أمحمد (فتحا) بن الشريف، الذي كانت كل المؤشرات تؤكد قرب سيطرته على الوضع ببلاد المغرب بفضل ما اتصف به كما يقول الإخباريون من عزم وحزم وذكاء إلى إقدام وبطش مثيرين.
قلب موازين القوى
لكن في هذا الوقت بالضبط حدثت القصة أو الواقعة التاريخية وأدت فيما أدت إلى قلب موازين القوى بشكل تراجيدي مذهل لصالح مولاي الرشيد المؤسس الفعلي والحقيقي للدولة العلوية، بعد أن كان مجرد متمرد مطارَد من طرف هذه الجهة أو تلك، مطاردة الرشيد، لم تكن من طرف أخيه مولاي أمحمد فحسب بل شملت أيضا الدلائيين بعد قضائهم على المجاهد العياشي بسلا سنة 1641، وحكام فاس خلال هذه الفترة المتردية من تاريخ المغرب، علاوة على حساسية الوضع في تافيلالت أو سجلماسة معقل العلويين أنفسهم، وذلك في مواجهة تابوعصامت و السملاليين بسوس الذين – كما تذهب إلى ذلك المصادر التقليدية - عاثوا في سجلماسة وما جاورها، وطالما تطلعوا للسيطرة على الطريق التجاري العابر لتافيلات من تمبكتو ومن ثمة، السعي إلى حكم جميع مناطق البلاد، علاوة على بقايا السعديين بمراكش وآسفي ونواحيهما وبعدهم عرب الشبانات وأسرة آل النقسيس (من الموريسكيين) بتطوان والخضر غيلان بالهبط أي منطقة جبالة دون تطوان، وبين كل هذا وذاك كان قدر المغرب الأقصى أن يقع تحت طائلة الأطماع الاستعمارية المختلفة أيضا (الإسبان والبرتغال في هذه الفترة) والمؤامرات والمحاولات التوسعية لآل عثمان من الشرق أي الجزائر الحالية.
وسط هذا الخضم من الصراع والتشتت والتآمر وتمزق البلاد طرائق قددا، طفا إلى سطح حوليات الفترة ومظانها اسم المولى الرشيد العلوي، الذي وضعته الظروف التاريخية العصيبة معا على محك تاريخ البلاد المنهكة في تلك الفترة، أكثر بكثير من أخيه الأسن منه والمنافس له، حتى عُد هو المؤسس الحقيقي لدولة الأشراف العلويين بالمغرب الأقصى، وليس الأمر من باب الصدفة التاريخية كما قد يظهر لأول وهلة، لكنه أقرب إلى شيء يمكن أن يوصف بالفريد من نوعه في تاريخ البلاد، دون نفي الشروط الموضوعية طبعا ونقصد بالضبط قصته مع اليهودي ابن مشعل والتي شكلت المنعطف الأساس – ظاهريا على الأقل – في كل الحكاية، لأن السؤال التاريخي هنا هو كيف جرى ما جرى وضمن نطاقه المجالي والسياسي بالدرجة الأولى؟
بواسطة مداخيل تجارة تافيلالت تمكن المولى امحمد من تجهيز أتباعه وأنصاره وسط ساكنة سجلماسة وعرب المعقل ثم أنكاد، وانطلق نحو فاس لمواجهة الدلائيين الذين كانوا قد استطاعوا السيطرة على الأطلس المتوسط والهضبة الوسطى وزحفوا نحو الغرب ثم باتجاه فاس لإزاحة العياشي وإلى جبالة في مواجهة آل النقسيس والخضر غيلان، وبدا لمدة معينة من هذه الفترة العصيبة أنهم أصبحوا تقريبا أسياد المغرب الشمالي والأوسط، وباتوا عازمين على إخضاع الشرق والجنوب فهزموا العلويين مؤقتا ليتفق الطرفان على الحدود بينهما عند جبل العياشي.
لم يتمكن مولاي امحمد من المدينة أي فاس وقيل إن أهلها بايعوه فعلا لكنهم تراجعوا تحت قوة الدلائيين وبفعل تعسف ما قد يكونوا تعرضوا له من طرف الأمير العلوي، غير أن غارات مولاي امحمد تركزت بدءا من تافيلالت وعبر النواحي الشرقية مسيطرا على وجدة وجزء من الساحل المتوسطي الحيوي للتجارة الخارجية، ومخترقا الإيالة العثمانية مادا سطوته وغزواته إلى مناطق تلمسان وعين ماضي والأغواط في قلب الإيالة الجزائرية التركية، مما أثار انتباه داي الأتراك في الجزائر فبعث إليه وفودا ثم رسالة تنبيه (وصفه بصاحب سجلماسة) بينما ظلت منطقة بني يزناسن تابعة شكليا لأتراك الجزائر رغم مداهنة مجموعاتها لمولاي امحمد، وأخيرا، اتفق الطرفان أي الأتراك ومولاي امحمد على وضع الحدود عند واد تفنا.
واضح أن الاحتياج إلى المال أساسا كان وراء تحركات مولاي امحمد من الجنوب الشرقي في اتجاه الشمال والجهة الشمالية الشرقية وحتى ما وراء تلمسان وذلك رغم ما ذكرنا عن عائدات تجارة تمبكتو المارة عبر سجلماسة معقل العلويين الأول، تلك العائدات التي يظهر أنها لم تكن كافية ولا موفية بطموحات هذا الأمير العلوي الطموح الشجاع.
تذهب المصادر أنه في هذه الأثناء، كان مولاي الرشيد أخو مولاي امحمد (وهو أصغر منه سنا وكان في ريعان شبابه) بصدد جولة استطلاعية حول الأطلس (دمنات) وأزرو وفاس وشرق المغرب وفي رواية أخرى كان شبه متمرد وأقرب إلى لاجئ يبحث عن ملاذ خوفا من أخيه، ونلاحظ أنه في اتجاه طريقه إلى تازة حيث حط الرحال في مبدأ أمره هناك ولمدة لا بأس بها، تجنب تماما مناطق تحرك أخيه بحيث سلك سبيله وسط مجالات خاضعة إما لإمارة الدلاء أو مستقلة تحت سلطة رؤساء وصلحاء محليين، يقول الضعيف الرباطي في تاريخه "واستقبل فاس العليا فرآه رئيسها الدريدي (يعني رأى المولى الرشيد) من بعض أبراج سورها فسأل: من هو؟ فأخبر به، فأرسل له في الحين دراهم نحو الخمسة مثاقيل (مما يدل على حالة الفقر التي كان عليها مولاي الرشيد في هذا الوقت) مع وسق من الشعير، ويضيف الضعيف الرباطي في تاريخه" وقال لرسوله: "قل له، هذه الدراهم عشاؤه وهذا الشعير علف خيله، وليرتحل ولا يقيم عندنا ساعة سقطا، قال فرحل بسرعة".
وتتفق الروايات في كل المصادر التقليدية أن الرشيد لجأ بعدها إلى زاوية مغمورة بتازة، وكانت في هذه الفترة قد انتقلت من تأييد المجاهد العياشي إلى سيطرة الدلائيين وأخيرا وقعت تحت رحمة زعامات محلية، في خضم الفوضى العامة التي شهدتها البلاد، ونُسبت تلك الزاوية إلى صاحبها الشيخ عبد الله اللواتي، ولواتة هذه، من قبائل البربر وإليها تنتسب مجموعات زناتية وعدد من المشاهير بينهم الرحالة المغربي العالمي ابن بطوطة.
كان الشيخ اللواتي يفتقر ويعظم نسبة آل البيت، فبالغ في إكرامه، فبينما هو كذلك عنده إذ رأى يوما رجلا بهيأة من خيل وأتباع وممالك، وهو يصطاد كهيأة الملوك فسأل من هو؟ فقيل له: ابن مشعل من يهود تازا، ويصف الضعيف الرباطي رد فعل الرشيد لما تحقق من الرجل، ما يدل على أن الرشيد كان يعرف اليهودي وربما تربص به الدوائر كما يشير إلى ذلك عبد الهادي التازي "فتنحى سريعا وجعل السكين في فمه واستقبل الشيخ اللواتي المذكور، ولما رآه بحاله بادر إليه لبيك يا سيدي لبيك، لا أعز عنك رقبة ولا مال، لأن ذلك كان عندهم – يعلق الضعيف – علامة على تأكيد الاستعطاف في أخذ الثأر لمن ظلم أو شبه ذلك".
أمام هذا الموقف المثير للأمير العلوي تجاه اليهودي التاجر الغني المتسلط والذي سجلت المصادر التقليدية أنه كان له تطاول على الدين والمقصود على المسلمين المغاربة وقد تجبر عليهم (مثلما كان ولا زال بعض إخوانهم المغاربة المسلمين يتجبرون عليهم أيضا ويسومونهم الظلم والهوان) واعتدى على عفاف الناس وحرماتهم وبلغ به العتو أن مزق طفلا بسيفه أمام ناظري أمه الثكلى، قلت: إزاء موقف الرشيد اقترح عليه الشيخ اللواتي أن يهيئ له خمسمائة أو نحوها من إخوانه الأبطال (من طلبته في مصادر أخرى)، ليفتك بهذا اليهودي – حسب الضعيف – غيرة منه جزاه الله خيرا" وهكذا وفق نفس المصادر ومنها تاريخ الضعيف، وضع الشيخ اللواتي هؤلاء تحت تصرف الرشيد، وذهب البعض إلى أن عددهم لم يتجاوز الأربعين، فتواعد معهم أن يمروا خفية ويلحقوا به لدار اليهودي ابن مشعل وهي على نحو مرحلة من تازة شرقا في البيداء.
أحاط الطلبة بالدار، بعد أن أظلم الليل، بحيث لم ينتبه لهم احد، وبشكل يجعل الرشيد يتصل بهم إن احتاجهم، وهذا ما حصل، فقد احتال حتى اتصل باليهودي في خلوته، وذكر عبد الهادي التازي أنه تنكر في زي فتاة تبعا لأنه كانت تهدى له غصبا إحدى الفتيات المسلمات سنويا، فبطش به وقتله، ويلتبس حادث الاغتيال أيضا بمشاركة هؤلاء المريدين أو الطلبة بأن اختبأوا في برامل حملت كهدايا إلى دار ابن مشعل، ثم استولى الرشيد على أمواله وممتلكاته ومقتنياته النفيسة، وزع أكثرها فيما بعد على أنصاره ومن مال إليه، ويضيف الناصري تداعيات أخرى لهذا الحادث أساسها إرث اليهودي الذي يبدو انه كان كبيرا وضخما يطرح سؤال تاريخيا عريضا.
الثورة الصاعة من الشمال الشرقي
ظهر واضحا أنها البداية الفعلية للمولى الرشيد على مسرح السياسة والسلطة، واعتبرها مؤرخو الحوليات وبصياغتهم الخاصة وبعدهم الباحثون إعلانا واضحا عن الثورة الصاعدة والحركية الجديدة النابعة هذه المرة من الشمال الشرقي بدل الجنوب الشرقي وبالضبط من تازة والأحواز، ويعني ذلك تشكيل جيش قوي وضمان رصيد مالي إلى مقومات المواجهة وعناصر هزم كل الخصوم ومن ثمة، توحيد البلاد وإقرار الأمن والسلام ووضع حد لكل المؤامرات والتعديات، ومن ثمة، إنهاء حالة الإنهاك (والتي ساهمت فيها أيضا القحوط والأوبئة الفتاكة) والتشتت والتطاحن الداخلي، بدليل ورود عبارات في المصادر المعنية نموذجها عند الضعيف الرباطي وبن الطيب القادري وعبد الرحمان بن زيدان " فنال ما قدر الله موعوده، وسطعت في فلك السعادة شمس منازل سعوده وألقت إليه المملكة زمامها، ففض بعد تمنعها في خدرها ختامها، ولاح به للمغرب السعادة والبشائر".
من الواضح أن واقعة الرشيد مع ابن مشعل التي وثقتها المصادر في محرم 1074 هــ الموافق لـ غشت 1663 كانت فاصلة في مسار التاريخ، ليس بالنسبة للرشيد كمؤسس فعلي للدولة العلوية ولكن أيضا، فيما أقدم عليه بعد ذلك من خطوات وتذهب المصادر التقليدية إلى إن إرث اليهودي كان موضع نزاع إضافي مع أخيه مولاي امحمد، وهكذا بعد أن تقوى جانب مولاي الرشيد بانضمام قبائل أحواز تازة (البرانس – غياثة – التسول) وقبائل الأحلاف وتعزيز جبهته كقوة صاعدة يحسب لها ألف حساب، وإثر عدة مواجهات، كتب له نصر مثير في الأخير ضمن ما عُرف بمعركة أنكاد، في 1075 02 غشت 1664، حيث كانت أول رصاصة كما يفيد الإيفراني في نحر مولاي امحمد، معلنة انتصار الرشيد في معركة انتهت قبل أن تبدأ، وقد حزن الرشيد على أخيه ودفنه، وفي مصادر أخرى أنه واراه مؤقتا بدار ابن مشعل في بني يزناسن، ما يشير إلى الخلاف في مكان اليهودي وافتراض تعدد إقاماته على الأقل هنا وهناك عبر شمال شرق البلاد.
مباشرة بعد مقتل مولاي امحمد يؤكد صاحب نزهة الحادي "انحشرت جموعه برمتها لأخيه الرشيد ودخلوا تحت طاعته أجمعين وتقوى أمره في الحين"، علما بأن الإيفراني يعد مصنفا دقيقا حريصا على صحة الأخبار وهو المتقدم زمنيا من بين أنداده الأخباريين الذين أتوا بعده، توجه الرشيد بعد هذا لتازة فافتتحها بعد محاربة طويلة في شوال 1076/ 1665، ما يؤكد أهمية الموقع باعتباره ممرا ضروريا نحو شرق البلاد وغربها ومجازا نحو الريف أيضا، وقد يحمل هذا الأمر نفسه جوابا عن سبب اتجاه الرشيد إلى تازة أولا قبل المناطق الأخرى، بالإضافة إلى ما سبق أن ذكرناه في قصته مع ابن مشعل، ولا يمكن إغفال شدة مراس قبائل أحواز تازة التي يكون الرشيد قد اعتمد عليها إن لم يكن في مرحلة ثورته الأولى فعلى الأقل بعد مقتل أخيه.
تتفق الروايات التاريخية ضمن كل المصادر التقليدية ومعها الوثائق الأجنبية الفرنسية خاصة، على كون ابن مشعل من يهود تازة، غير أنها تختلف في توصيفات إقامته أو مكانه الفعلي فتارة هي إقطاعية ابن مشعل وتارة أخرى هي قصبة ابن مشعل وتارة ثالثة تسمى إمارة أو قصر أو حصن ابن مشعل، وينطبق ذلك على نماذج الأخباريين كالإيفراني وابن الطيب القادري والضعيِّف الرباطي فضلا عن المتأخرين منهم كالناصري في الاستقصاء وقد نقل عن نزهة الحادي ونشر المثاني، وابن زيدان في الإتحاف، أما الزياني صاحب البستان الظريف فيذكر انتظار الرشيد حضور قبائل الريف وكارت لمبايعته، ولكن لما لم يحضر أحد، "ارتحل لتازة ولما بلغها بايعه أهلها وقبائلها" علما بأن عددا من المؤرخين والباحثين الأجانب - الفرنسيين خاصة- نقلوا ببعض التصرف مجمل قصة ابن مشعل عن المصادر المغربية بالدرجـــــة الأولى.
الاختلاف في توطين حدث مقتل اليهودي ابن مشعل على يد الرشيد تراوح بين القول بوقوع المكان على بعد مرحلة من تازة شرقا، أو مسافة 12 كلم شرقا (هل يتعلق الأمر ببولجراف والفحامة في اتجاه مسون سؤال تاريخي مجالي؟؟؟)، أو حتى 60 كلم حسب بعض الباحثين، ويذهب العلامة ادريس بلشهب إلى أن الأمر يخص منطقة مكناسة الشرقية وهي حتى الآن توجد شمال شرق تازة (مما يطرح السؤال حول العلاقة الممكنة مع أسلاف مكناسة تازة من بني العافية ) وهناك قلة وطنت الحادث في بني يزناسن المجال الجغرافي والقبلي الواقع شمال وشمال غرب وجدة وأنكاد، وهي منطقة تنتمي للتخوم الشرقية وبعيدة نوعا ما عن تازة وأحوازها بأزيد من 180 كلم على الأقل، غير أن مجمل الأخبار والمؤشرات تفيد باحتمال أن تكون الواقعة قد حدثت شرق تازة، لأن هؤلاء الإخباريين أنفسهم يُفصلون ويسهبون في ارتباط ابن مشعل بتازة أكثر من المنطقة الشرقية المذكورة والمتركزة حاليا حول سهل طريفة ومدينة بركان، ويتعرضون لهذه الأخيرة باعتبارها رواية خاصة بأهل بني يزناسن دون غيرهم، فضلا عن إشاراتهم الواضحة بأنها مجرد رواية شفوية شاعت بين أهل بني يزناسن (أو بني يزناتن) علما بان الإخباري ابن الطيب القادري يفيد بأن كلا من زاوية اللواتي وموضع اليهودي يوجدان بتازة.
الوجود اليهودي بتازة
الوجود اليهودي بتازة قديم وهو مؤشر آخر يدعم احتمال وجود إمارة لهم مركزها شرق تازة وتمتد عبر بعض مناطق حوض ملوية وحتى بني يزناسن.
عاش اليهود كما هو معروف في ظل أجواء وأوضاع "أهل الذمة" في المغرب، عبر مئات السنين وفي ظل قيم التعايش والتسامح التي ميزت المجتمع المغربي عموما باستثناء بعض الفترات المضطربة، تحكمت فيها أساسا عوامل سياسية واقتصادية ثم عرفية عقدية، وكان هذا هو الحال بالنسبة لتازة والأحواز، حيث ذكر الوزان على سبيل المثال (القرن السادس عشر الميلادي) أنه كانت لليهود في تازة خمسمائة دار (يعني 500 عائلة) بعد أن وصف بساتين المدينة وثمارها الطيبة وكرومها...".
لم يخرج يهود تازة عن الوضع العام الذي كان يعيشه أهل الذمة بالمغرب، ولكن انتماءهم الاجتماعي لم يصل إلى إخوانهم كبار المرابين والتجار، فقد ظل أغلبهم - نعني يهود تازة - ملتصقين بأنشطة معينة كالنقارة واللحامة وخيط الأفرشة والسكافة (تطرفت) وشيء من التجارة ذات الحجم المتوسط، إلى عهد قريب أي نقصد الحرف والصناعات البسيطة وبعض الأنشطة التجارية، وعَرفت حياتهم وأعدادهم مدا وجزرا عبر كل فترات تاريخ المغرب حسب الأوضاع العامة، فيما بلغ نفوذ بعض اليهود شأوا كبيرا خلال العصر المريني وحتى العصور اللاحقة، وظل التعايش قائما مع حفاظهم على عاداتهم وممارسة شعائرهم إلى حد بناء أول ملاح لهم بمجاورة القصر السلطاني المريني بفاس (فاس المرينيين أو فاس الجديد) ظلت تلك هي القاعدة إلى حد أن اليهود المغاربة أدوا صلاة الشكر كما تفيد المصادر التقليدية (ومنها اليهودية) حينما انتصر الجيش المغربي على البرتغال في معركة وادي المخازن في04 غشت 1578، كما اشتغل اليهود المغاربة في البلاطات وكوسطاء للسلاطين في التجارة الدولية وكمحميين أيضا، ولسنا بحاجة إلى التدليل على أهمية الرافد العبري في الثقافة المغربية الغنية المتعددة الروافد.
وقد هاجر يهود تازة وتركوا موطنهم شأنهم في ذلك شأن كثير من المغاربة اليهود لأسباب مختلفة ومعروفة، وذلك على فترات متعددة ليس هنا مجال التفصيل فيها.
أتصور في رأي غير ملزم أنه لما كانت الدول والممالك تستأسد وتتنمر على الساكنة والرعايا كان يستوي في ذلك المضطهِدون والمضطهَدون معا، وحالة ابن مشعل لا نستطيع فصلها عن ما يمكن وصفه بالاستبداد الشرقي، بل هي في نهاية المطاف مجرد تعبير عن وضع سياسي وثقافي معين، فابن مشعل كان يجسد رمز الجبروت والطغيان بغض النظر عن "يهوديته" وبالطبع، فقد أسهب وتزيد بعضهم في الواقعة إلى درجة اعتباره حاكما فعليا لتازة وأنه كان يسعى إلى إقامة "دولة إسرائيلية" في شمال وشرق المغرب، كما ذهب إلى ذلك المؤرخ الراحل عبد الهادي التازي، مع أن الأوضاع المعقدة والصعبة التي اجتازها المغرب وقت الرشيد العلوي كانت مفتوحة على أكثر من سؤال وإشكال.
وردت واقعة الرشيد مع ابن مشعل في الوثائق التاريخية الأجنبية لا سيما الفرنسية منها بنفس تفاصيل الإخباريين المغاربة على وجه العموم، دون أن نغفل أحكام القيمة القاسية أحيانا والتي سجلها الكتاب والباحثون الفرنسيون في حق الرشيد ومن هؤلاء الضابط لويس L .Voinot فوانو ( TAZA ET LES RIATA- OUJDA ET L’Amalat-) وقد نقل عن مرسييه، وهناك أوجين فوماي EUGENE FUMEY وقد وسم وثيقته ب "La légende de My Rachid " ضمن ملفات أرشيف المغرب "Archives Marocaines" وكذا المؤرخ الكبير شارل أندري جوليان في كتابه "تاريخ إفريقيا الشمالية ج 2" واصفا واقعة الاغتيال بأنها "عملية حازمة لا تزال ترددها الأسطورة" وتقام ذكراها التي نعتها بالمشوهة عبر ما أسماه عيد "سلطان الطلبة السنوي" في فاس، ويورد هنري تيراسHenri Terrasse قصة ابن مشعل مع الرشيد موجزة ضمن محور هام من كتاب له حول تاريخ المغرب سماه مغامرات مولاي رشيد LES AVENTURES DE MOULAY RACHID . ووصف حقبة تلك المغامرات بأنها لم تكن مجيدة تماما "Episode peu glorieuse".
أما الباحث الفرنسي ناحوم شولتز أستاذ الدراسات اليهودية بجامعة السوربون فيفيد أنه في القرن السابع عشر، كان بعض الجماعات اليهودية ما يزال في قلب بني رياتة (يقصد قبيلة غياثة المحتضنة لمدينة تازة والمحيطة بها) وأصبح شيخ يهودي يدعى ابن مشعل زعيما على تازا"، واضح أن شولتز هنا يعتبر ابن مشعل حاكما فعليا لتازة خلال هذه الفترة المضطربة، مثلما تشير إلى ذلك بعض أخبار نفس الفترة، ومن جهة أخرى فليس هناك ما يشير إلى ارتباط مغارة اليهودي أو كيفان بلغماري في تازة بابن مشعل، أولا لغياب الوثائق وثانيا لاستحالة أن يلجأ يهودي غني متسلط إلى الإقامة في مثل تلك المغارات، فالكهف إذن ينسب لشخص يهودي آخر.
تازة عاصمة الرشيد
إخباريو القرن الثامن عشر يفيدون بأن الرشيد اتخذ تازة عاصمة له خلال فترات تمهيد البلاد وتهدئتها والضرب على أيدي الزعامات الفردية والنزعات الانعزالية، فقد أطبق على فاس الحاضرة التاريخية للمغرب انطلاقا من تازة، وكان جيشه أساسا من قبائل تازة وشراكة والمعقل وحوض ملوية، علما بأن موقع تازة لعب دورا تجاذبيا مهما خلال الفترة السابقة أي عهد الدولة السعدية، ولاسيما عبر الصراع السعدي العثماني في عهد السلطان محمد الشيخ والذي أدى ثمن حميته الوطنية ورفض الاعتراف بالسلطان العثماني، فكان جزاؤه عملية اغتيال بشعة بظاهر تارودانت في 23 أكتوبر 1557م على يد ضباط أتراك تنكروا في ثوب لاجئين.
ونعود إلى الرشيد فما أن علم أهل فاس بالوضع القوي الذي أصبح عليه بعد واقعة ابن مشعل ومقتل أخيه واجتماع الناس حوله، حتى نسوا خلافاتهم (بن صالح في عدوة الاندلس – بن الصغير في اللمطيين – والدريدي في فاس الجديد) واتفقوا على التصدي للرشيد أو حتى مهاجمته في تازة بالذات، لأنهم خشوا أن تُنهب ممتلكاتهم بعد الذي حصل مع مولاي امحمد، فاجتمع أهل فاس وصفرو والبهاليل والحياينة خارج باب الفتوح للقاء الرشيد وجيشه غير أنه أعرض عنهم متوجها إلى سجلماسة لمواجهة تمرد ابن أخيه محمد الأصغر الذي انتصر عليه واحتمله مع إخوانه أسرى إلى معقله الشمالي تازة حيث حبسهم هناك في حصن البستيون إلى أن بعث إليهم من قتلهم حسب نفس المصادر التقليدية.
والمعروف أيضا أن الرشيد كان في أعقاب كل حركة يعود أدراجه إلى تازة لتنظيم الصفوف ودعم موقعه السلطاني، إلى جانب الإقامة طبعا وبلغت حصاراته لفاس ومحاولاته فتحها أربعة في المجموع انتهت بدخوله المدينة وتصفية المعارضين وأخذ البيعة له، ومن تازة انطلق أيضا لمنازلة الشيخ أعراص بالريف الذي تغلب عليه وعامله في المقابل بالرفق والتسامح، وبعد هذه المرحلة الحاسمة طارد الخضر غيلان الذي لجأ إلى الجزائر وقضى على آل النقسيس ثم جاء دور الزاوية الدلائية وأخيرا بقايا الشبانات بمراكش، التي توفي فيها حين صدم فرسه كما تقول الروايات جذع إحدى الأشجار فكانت الإصابة مميتة سنة 1672 بعد أن ضمن وحدة البلاد بالوسائل المعلومة، وفي ظرف وجيز مما يعكس حالة الوهن والإنهاك التي كانت عليها. "فهدنت البلاد" - كما تفيد اخبار الفترة "واستعفت العباد وانقطع النهب والقتل في الطرق وآمنت" ثم ملك الرشيد المغرب أسره قطرا بعد قطر إلى واد نون من السوس الأقصى".
(يتبع)
*رئيس مركز ابن بري التازي للدراسات والأبحاث وحماية التراث
هل يتعلق الأمر بلغز مجالي ورمزي، يتطلب عصر الأذهان بما لا مزيد عليه؟ أم أنه حادث تاريخي عاد يتملك كسائر الأحداث والوقائع عناصر المادة علميا ومنهجيا؟ وقد تشبه الواقعة حكايات ألف ليلة وليلة – كما ذهب إلى ذلك مؤرخون وباحثون أجانب – بحيث يجب قراءتها وفق أبعاد لا تخلو من تشابك وتعقيد عبر تعدد المقاربات؟ وربما لأن لها تداعيات عميقة على تاريخ المغرب وبعض العناصر الخفية أحيانا أو الظاهرة أحيانا أخرى والتي طالما حيرت الباحثين والمؤرخين، وهي قد مدت فعلا مفاصلها بشكل مباشر أو غير مباشر في الأحداث والمواقف واللحظات التاريخية.
أسئلة متعددة ومشروعة، كثيرا ما تواجه الباحث في تاريخ المغرب وعبر بعض وقائعه وحقبه، وطبعا يختلف تعاطي المؤرخ مع نوع الحادثة التاريخية ذات الحمولة السياسية أو الاجتماعية أو الثقافية عن تعاطي غيره معها وفي درجة تعقيد والتباس واقعة الرشيد مع ابن مشعل، هو اختلاف في النظر والمنهج وأفق التعامل مع المادة المعرفية، تخالف قطعا تعامل الأديب أو المفكر أو عالم الاجتماع والسيميولوجي أو الإناسي مثلا، ولعل البحث والسؤال هنا يكون بالضرورة وأحيانا أهم من الجواب ذاته، ونحن سنركز - لضيق المقام - على أسئلة ذات طابع تاريخي ومجالي حول الواقعة، وإذا أتيحت الفرص سنعود لها مرة أخرى بحول الله.
الأمر يتعلق في مقالنا هذا بمادة حدثية فريدة من نوعها، تمثل لحظة مفصلية معقدة من تاريخ المغرب، نقصد ظهور مجالات وشخصيات جديدة مؤثرة في وقائع بداية النصف الثاني من القرن السابع عشر الميلادي/ الحادي عشر الهجري، بما طبعها من أزمات وصراعات وتطاحنات وتحديات داخلية وخارجية ومؤامرات وأوبئة ومجاعات وحروب أهلية طاحنة كادت أن تأتي أحيانا على الأخضر واليابس.
إنها في الواقع، نهايات مرحلة من تاريخ البلاد وبدايات أخرى، حقبة استمرت ما يزيد عن ستين سنة منذ وفاة السلطان أحمد المنصور السعدي سنة 1603 وتطاحن أبنائه على الحكم (المامون – أبو فارس وزيدان) مما أشر إلى أفول دولة السعديين وظهور قوى سياسية جديدة وزعماء وصلحاء هنا وهناك، وحتى قيام الدولة العلوية اعتبارا من سنة 1660م على الأرجح ، بعد مخاض تاريخي مرير ممتد وملتبس أحيانا، من هنا تستطيع المادة التاريخية وضمنها القصصية أيضا، أن تلم عبر ثناياها إحالات حاسمة وعناصر فاعلة في تشكيل اللحظة التاريخية كعوامل السلطة والأموال والتجارة أساسا وأدوار أهل الذمة (اليهود هنا) وأهمية عاملي النسب والمجال جميعا.
إنها قصة شخص يهودي تاجر ثري صاحب جاه ومال وجبروت، يدعى هارون بن مشعل مع المولى الرشيد بن مولاي علي الشريف وهذا الأخير يعد أحد أكبر رموز الصلاح والنسب الشريف والبركة بتافيلالت إلى حدود منتصف القرن السابع عشر، قصة الأمير العلوي مولاي الرشيد الهارب من أخيه مولاي أمحمد (فتحا) بن الشريف، الذي كانت كل المؤشرات تؤكد قرب سيطرته على الوضع ببلاد المغرب بفضل ما اتصف به كما يقول الإخباريون من عزم وحزم وذكاء إلى إقدام وبطش مثيرين.
قلب موازين القوى
لكن في هذا الوقت بالضبط حدثت القصة أو الواقعة التاريخية وأدت فيما أدت إلى قلب موازين القوى بشكل تراجيدي مذهل لصالح مولاي الرشيد المؤسس الفعلي والحقيقي للدولة العلوية، بعد أن كان مجرد متمرد مطارَد من طرف هذه الجهة أو تلك، مطاردة الرشيد، لم تكن من طرف أخيه مولاي أمحمد فحسب بل شملت أيضا الدلائيين بعد قضائهم على المجاهد العياشي بسلا سنة 1641، وحكام فاس خلال هذه الفترة المتردية من تاريخ المغرب، علاوة على حساسية الوضع في تافيلالت أو سجلماسة معقل العلويين أنفسهم، وذلك في مواجهة تابوعصامت و السملاليين بسوس الذين – كما تذهب إلى ذلك المصادر التقليدية - عاثوا في سجلماسة وما جاورها، وطالما تطلعوا للسيطرة على الطريق التجاري العابر لتافيلات من تمبكتو ومن ثمة، السعي إلى حكم جميع مناطق البلاد، علاوة على بقايا السعديين بمراكش وآسفي ونواحيهما وبعدهم عرب الشبانات وأسرة آل النقسيس (من الموريسكيين) بتطوان والخضر غيلان بالهبط أي منطقة جبالة دون تطوان، وبين كل هذا وذاك كان قدر المغرب الأقصى أن يقع تحت طائلة الأطماع الاستعمارية المختلفة أيضا (الإسبان والبرتغال في هذه الفترة) والمؤامرات والمحاولات التوسعية لآل عثمان من الشرق أي الجزائر الحالية.
وسط هذا الخضم من الصراع والتشتت والتآمر وتمزق البلاد طرائق قددا، طفا إلى سطح حوليات الفترة ومظانها اسم المولى الرشيد العلوي، الذي وضعته الظروف التاريخية العصيبة معا على محك تاريخ البلاد المنهكة في تلك الفترة، أكثر بكثير من أخيه الأسن منه والمنافس له، حتى عُد هو المؤسس الحقيقي لدولة الأشراف العلويين بالمغرب الأقصى، وليس الأمر من باب الصدفة التاريخية كما قد يظهر لأول وهلة، لكنه أقرب إلى شيء يمكن أن يوصف بالفريد من نوعه في تاريخ البلاد، دون نفي الشروط الموضوعية طبعا ونقصد بالضبط قصته مع اليهودي ابن مشعل والتي شكلت المنعطف الأساس – ظاهريا على الأقل – في كل الحكاية، لأن السؤال التاريخي هنا هو كيف جرى ما جرى وضمن نطاقه المجالي والسياسي بالدرجة الأولى؟
بواسطة مداخيل تجارة تافيلالت تمكن المولى امحمد من تجهيز أتباعه وأنصاره وسط ساكنة سجلماسة وعرب المعقل ثم أنكاد، وانطلق نحو فاس لمواجهة الدلائيين الذين كانوا قد استطاعوا السيطرة على الأطلس المتوسط والهضبة الوسطى وزحفوا نحو الغرب ثم باتجاه فاس لإزاحة العياشي وإلى جبالة في مواجهة آل النقسيس والخضر غيلان، وبدا لمدة معينة من هذه الفترة العصيبة أنهم أصبحوا تقريبا أسياد المغرب الشمالي والأوسط، وباتوا عازمين على إخضاع الشرق والجنوب فهزموا العلويين مؤقتا ليتفق الطرفان على الحدود بينهما عند جبل العياشي.
لم يتمكن مولاي امحمد من المدينة أي فاس وقيل إن أهلها بايعوه فعلا لكنهم تراجعوا تحت قوة الدلائيين وبفعل تعسف ما قد يكونوا تعرضوا له من طرف الأمير العلوي، غير أن غارات مولاي امحمد تركزت بدءا من تافيلالت وعبر النواحي الشرقية مسيطرا على وجدة وجزء من الساحل المتوسطي الحيوي للتجارة الخارجية، ومخترقا الإيالة العثمانية مادا سطوته وغزواته إلى مناطق تلمسان وعين ماضي والأغواط في قلب الإيالة الجزائرية التركية، مما أثار انتباه داي الأتراك في الجزائر فبعث إليه وفودا ثم رسالة تنبيه (وصفه بصاحب سجلماسة) بينما ظلت منطقة بني يزناسن تابعة شكليا لأتراك الجزائر رغم مداهنة مجموعاتها لمولاي امحمد، وأخيرا، اتفق الطرفان أي الأتراك ومولاي امحمد على وضع الحدود عند واد تفنا.
واضح أن الاحتياج إلى المال أساسا كان وراء تحركات مولاي امحمد من الجنوب الشرقي في اتجاه الشمال والجهة الشمالية الشرقية وحتى ما وراء تلمسان وذلك رغم ما ذكرنا عن عائدات تجارة تمبكتو المارة عبر سجلماسة معقل العلويين الأول، تلك العائدات التي يظهر أنها لم تكن كافية ولا موفية بطموحات هذا الأمير العلوي الطموح الشجاع.
تذهب المصادر أنه في هذه الأثناء، كان مولاي الرشيد أخو مولاي امحمد (وهو أصغر منه سنا وكان في ريعان شبابه) بصدد جولة استطلاعية حول الأطلس (دمنات) وأزرو وفاس وشرق المغرب وفي رواية أخرى كان شبه متمرد وأقرب إلى لاجئ يبحث عن ملاذ خوفا من أخيه، ونلاحظ أنه في اتجاه طريقه إلى تازة حيث حط الرحال في مبدأ أمره هناك ولمدة لا بأس بها، تجنب تماما مناطق تحرك أخيه بحيث سلك سبيله وسط مجالات خاضعة إما لإمارة الدلاء أو مستقلة تحت سلطة رؤساء وصلحاء محليين، يقول الضعيف الرباطي في تاريخه "واستقبل فاس العليا فرآه رئيسها الدريدي (يعني رأى المولى الرشيد) من بعض أبراج سورها فسأل: من هو؟ فأخبر به، فأرسل له في الحين دراهم نحو الخمسة مثاقيل (مما يدل على حالة الفقر التي كان عليها مولاي الرشيد في هذا الوقت) مع وسق من الشعير، ويضيف الضعيف الرباطي في تاريخه" وقال لرسوله: "قل له، هذه الدراهم عشاؤه وهذا الشعير علف خيله، وليرتحل ولا يقيم عندنا ساعة سقطا، قال فرحل بسرعة".
وتتفق الروايات في كل المصادر التقليدية أن الرشيد لجأ بعدها إلى زاوية مغمورة بتازة، وكانت في هذه الفترة قد انتقلت من تأييد المجاهد العياشي إلى سيطرة الدلائيين وأخيرا وقعت تحت رحمة زعامات محلية، في خضم الفوضى العامة التي شهدتها البلاد، ونُسبت تلك الزاوية إلى صاحبها الشيخ عبد الله اللواتي، ولواتة هذه، من قبائل البربر وإليها تنتسب مجموعات زناتية وعدد من المشاهير بينهم الرحالة المغربي العالمي ابن بطوطة.
كان الشيخ اللواتي يفتقر ويعظم نسبة آل البيت، فبالغ في إكرامه، فبينما هو كذلك عنده إذ رأى يوما رجلا بهيأة من خيل وأتباع وممالك، وهو يصطاد كهيأة الملوك فسأل من هو؟ فقيل له: ابن مشعل من يهود تازا، ويصف الضعيف الرباطي رد فعل الرشيد لما تحقق من الرجل، ما يدل على أن الرشيد كان يعرف اليهودي وربما تربص به الدوائر كما يشير إلى ذلك عبد الهادي التازي "فتنحى سريعا وجعل السكين في فمه واستقبل الشيخ اللواتي المذكور، ولما رآه بحاله بادر إليه لبيك يا سيدي لبيك، لا أعز عنك رقبة ولا مال، لأن ذلك كان عندهم – يعلق الضعيف – علامة على تأكيد الاستعطاف في أخذ الثأر لمن ظلم أو شبه ذلك".
أمام هذا الموقف المثير للأمير العلوي تجاه اليهودي التاجر الغني المتسلط والذي سجلت المصادر التقليدية أنه كان له تطاول على الدين والمقصود على المسلمين المغاربة وقد تجبر عليهم (مثلما كان ولا زال بعض إخوانهم المغاربة المسلمين يتجبرون عليهم أيضا ويسومونهم الظلم والهوان) واعتدى على عفاف الناس وحرماتهم وبلغ به العتو أن مزق طفلا بسيفه أمام ناظري أمه الثكلى، قلت: إزاء موقف الرشيد اقترح عليه الشيخ اللواتي أن يهيئ له خمسمائة أو نحوها من إخوانه الأبطال (من طلبته في مصادر أخرى)، ليفتك بهذا اليهودي – حسب الضعيف – غيرة منه جزاه الله خيرا" وهكذا وفق نفس المصادر ومنها تاريخ الضعيف، وضع الشيخ اللواتي هؤلاء تحت تصرف الرشيد، وذهب البعض إلى أن عددهم لم يتجاوز الأربعين، فتواعد معهم أن يمروا خفية ويلحقوا به لدار اليهودي ابن مشعل وهي على نحو مرحلة من تازة شرقا في البيداء.
أحاط الطلبة بالدار، بعد أن أظلم الليل، بحيث لم ينتبه لهم احد، وبشكل يجعل الرشيد يتصل بهم إن احتاجهم، وهذا ما حصل، فقد احتال حتى اتصل باليهودي في خلوته، وذكر عبد الهادي التازي أنه تنكر في زي فتاة تبعا لأنه كانت تهدى له غصبا إحدى الفتيات المسلمات سنويا، فبطش به وقتله، ويلتبس حادث الاغتيال أيضا بمشاركة هؤلاء المريدين أو الطلبة بأن اختبأوا في برامل حملت كهدايا إلى دار ابن مشعل، ثم استولى الرشيد على أمواله وممتلكاته ومقتنياته النفيسة، وزع أكثرها فيما بعد على أنصاره ومن مال إليه، ويضيف الناصري تداعيات أخرى لهذا الحادث أساسها إرث اليهودي الذي يبدو انه كان كبيرا وضخما يطرح سؤال تاريخيا عريضا.
الثورة الصاعة من الشمال الشرقي
ظهر واضحا أنها البداية الفعلية للمولى الرشيد على مسرح السياسة والسلطة، واعتبرها مؤرخو الحوليات وبصياغتهم الخاصة وبعدهم الباحثون إعلانا واضحا عن الثورة الصاعدة والحركية الجديدة النابعة هذه المرة من الشمال الشرقي بدل الجنوب الشرقي وبالضبط من تازة والأحواز، ويعني ذلك تشكيل جيش قوي وضمان رصيد مالي إلى مقومات المواجهة وعناصر هزم كل الخصوم ومن ثمة، توحيد البلاد وإقرار الأمن والسلام ووضع حد لكل المؤامرات والتعديات، ومن ثمة، إنهاء حالة الإنهاك (والتي ساهمت فيها أيضا القحوط والأوبئة الفتاكة) والتشتت والتطاحن الداخلي، بدليل ورود عبارات في المصادر المعنية نموذجها عند الضعيف الرباطي وبن الطيب القادري وعبد الرحمان بن زيدان " فنال ما قدر الله موعوده، وسطعت في فلك السعادة شمس منازل سعوده وألقت إليه المملكة زمامها، ففض بعد تمنعها في خدرها ختامها، ولاح به للمغرب السعادة والبشائر".
من الواضح أن واقعة الرشيد مع ابن مشعل التي وثقتها المصادر في محرم 1074 هــ الموافق لـ غشت 1663 كانت فاصلة في مسار التاريخ، ليس بالنسبة للرشيد كمؤسس فعلي للدولة العلوية ولكن أيضا، فيما أقدم عليه بعد ذلك من خطوات وتذهب المصادر التقليدية إلى إن إرث اليهودي كان موضع نزاع إضافي مع أخيه مولاي امحمد، وهكذا بعد أن تقوى جانب مولاي الرشيد بانضمام قبائل أحواز تازة (البرانس – غياثة – التسول) وقبائل الأحلاف وتعزيز جبهته كقوة صاعدة يحسب لها ألف حساب، وإثر عدة مواجهات، كتب له نصر مثير في الأخير ضمن ما عُرف بمعركة أنكاد، في 1075 02 غشت 1664، حيث كانت أول رصاصة كما يفيد الإيفراني في نحر مولاي امحمد، معلنة انتصار الرشيد في معركة انتهت قبل أن تبدأ، وقد حزن الرشيد على أخيه ودفنه، وفي مصادر أخرى أنه واراه مؤقتا بدار ابن مشعل في بني يزناسن، ما يشير إلى الخلاف في مكان اليهودي وافتراض تعدد إقاماته على الأقل هنا وهناك عبر شمال شرق البلاد.
مباشرة بعد مقتل مولاي امحمد يؤكد صاحب نزهة الحادي "انحشرت جموعه برمتها لأخيه الرشيد ودخلوا تحت طاعته أجمعين وتقوى أمره في الحين"، علما بأن الإيفراني يعد مصنفا دقيقا حريصا على صحة الأخبار وهو المتقدم زمنيا من بين أنداده الأخباريين الذين أتوا بعده، توجه الرشيد بعد هذا لتازة فافتتحها بعد محاربة طويلة في شوال 1076/ 1665، ما يؤكد أهمية الموقع باعتباره ممرا ضروريا نحو شرق البلاد وغربها ومجازا نحو الريف أيضا، وقد يحمل هذا الأمر نفسه جوابا عن سبب اتجاه الرشيد إلى تازة أولا قبل المناطق الأخرى، بالإضافة إلى ما سبق أن ذكرناه في قصته مع ابن مشعل، ولا يمكن إغفال شدة مراس قبائل أحواز تازة التي يكون الرشيد قد اعتمد عليها إن لم يكن في مرحلة ثورته الأولى فعلى الأقل بعد مقتل أخيه.
تتفق الروايات التاريخية ضمن كل المصادر التقليدية ومعها الوثائق الأجنبية الفرنسية خاصة، على كون ابن مشعل من يهود تازة، غير أنها تختلف في توصيفات إقامته أو مكانه الفعلي فتارة هي إقطاعية ابن مشعل وتارة أخرى هي قصبة ابن مشعل وتارة ثالثة تسمى إمارة أو قصر أو حصن ابن مشعل، وينطبق ذلك على نماذج الأخباريين كالإيفراني وابن الطيب القادري والضعيِّف الرباطي فضلا عن المتأخرين منهم كالناصري في الاستقصاء وقد نقل عن نزهة الحادي ونشر المثاني، وابن زيدان في الإتحاف، أما الزياني صاحب البستان الظريف فيذكر انتظار الرشيد حضور قبائل الريف وكارت لمبايعته، ولكن لما لم يحضر أحد، "ارتحل لتازة ولما بلغها بايعه أهلها وقبائلها" علما بأن عددا من المؤرخين والباحثين الأجانب - الفرنسيين خاصة- نقلوا ببعض التصرف مجمل قصة ابن مشعل عن المصادر المغربية بالدرجـــــة الأولى.
الاختلاف في توطين حدث مقتل اليهودي ابن مشعل على يد الرشيد تراوح بين القول بوقوع المكان على بعد مرحلة من تازة شرقا، أو مسافة 12 كلم شرقا (هل يتعلق الأمر ببولجراف والفحامة في اتجاه مسون سؤال تاريخي مجالي؟؟؟)، أو حتى 60 كلم حسب بعض الباحثين، ويذهب العلامة ادريس بلشهب إلى أن الأمر يخص منطقة مكناسة الشرقية وهي حتى الآن توجد شمال شرق تازة (مما يطرح السؤال حول العلاقة الممكنة مع أسلاف مكناسة تازة من بني العافية ) وهناك قلة وطنت الحادث في بني يزناسن المجال الجغرافي والقبلي الواقع شمال وشمال غرب وجدة وأنكاد، وهي منطقة تنتمي للتخوم الشرقية وبعيدة نوعا ما عن تازة وأحوازها بأزيد من 180 كلم على الأقل، غير أن مجمل الأخبار والمؤشرات تفيد باحتمال أن تكون الواقعة قد حدثت شرق تازة، لأن هؤلاء الإخباريين أنفسهم يُفصلون ويسهبون في ارتباط ابن مشعل بتازة أكثر من المنطقة الشرقية المذكورة والمتركزة حاليا حول سهل طريفة ومدينة بركان، ويتعرضون لهذه الأخيرة باعتبارها رواية خاصة بأهل بني يزناسن دون غيرهم، فضلا عن إشاراتهم الواضحة بأنها مجرد رواية شفوية شاعت بين أهل بني يزناسن (أو بني يزناتن) علما بان الإخباري ابن الطيب القادري يفيد بأن كلا من زاوية اللواتي وموضع اليهودي يوجدان بتازة.
الوجود اليهودي بتازة
الوجود اليهودي بتازة قديم وهو مؤشر آخر يدعم احتمال وجود إمارة لهم مركزها شرق تازة وتمتد عبر بعض مناطق حوض ملوية وحتى بني يزناسن.
عاش اليهود كما هو معروف في ظل أجواء وأوضاع "أهل الذمة" في المغرب، عبر مئات السنين وفي ظل قيم التعايش والتسامح التي ميزت المجتمع المغربي عموما باستثناء بعض الفترات المضطربة، تحكمت فيها أساسا عوامل سياسية واقتصادية ثم عرفية عقدية، وكان هذا هو الحال بالنسبة لتازة والأحواز، حيث ذكر الوزان على سبيل المثال (القرن السادس عشر الميلادي) أنه كانت لليهود في تازة خمسمائة دار (يعني 500 عائلة) بعد أن وصف بساتين المدينة وثمارها الطيبة وكرومها...".
لم يخرج يهود تازة عن الوضع العام الذي كان يعيشه أهل الذمة بالمغرب، ولكن انتماءهم الاجتماعي لم يصل إلى إخوانهم كبار المرابين والتجار، فقد ظل أغلبهم - نعني يهود تازة - ملتصقين بأنشطة معينة كالنقارة واللحامة وخيط الأفرشة والسكافة (تطرفت) وشيء من التجارة ذات الحجم المتوسط، إلى عهد قريب أي نقصد الحرف والصناعات البسيطة وبعض الأنشطة التجارية، وعَرفت حياتهم وأعدادهم مدا وجزرا عبر كل فترات تاريخ المغرب حسب الأوضاع العامة، فيما بلغ نفوذ بعض اليهود شأوا كبيرا خلال العصر المريني وحتى العصور اللاحقة، وظل التعايش قائما مع حفاظهم على عاداتهم وممارسة شعائرهم إلى حد بناء أول ملاح لهم بمجاورة القصر السلطاني المريني بفاس (فاس المرينيين أو فاس الجديد) ظلت تلك هي القاعدة إلى حد أن اليهود المغاربة أدوا صلاة الشكر كما تفيد المصادر التقليدية (ومنها اليهودية) حينما انتصر الجيش المغربي على البرتغال في معركة وادي المخازن في04 غشت 1578، كما اشتغل اليهود المغاربة في البلاطات وكوسطاء للسلاطين في التجارة الدولية وكمحميين أيضا، ولسنا بحاجة إلى التدليل على أهمية الرافد العبري في الثقافة المغربية الغنية المتعددة الروافد.
وقد هاجر يهود تازة وتركوا موطنهم شأنهم في ذلك شأن كثير من المغاربة اليهود لأسباب مختلفة ومعروفة، وذلك على فترات متعددة ليس هنا مجال التفصيل فيها.
أتصور في رأي غير ملزم أنه لما كانت الدول والممالك تستأسد وتتنمر على الساكنة والرعايا كان يستوي في ذلك المضطهِدون والمضطهَدون معا، وحالة ابن مشعل لا نستطيع فصلها عن ما يمكن وصفه بالاستبداد الشرقي، بل هي في نهاية المطاف مجرد تعبير عن وضع سياسي وثقافي معين، فابن مشعل كان يجسد رمز الجبروت والطغيان بغض النظر عن "يهوديته" وبالطبع، فقد أسهب وتزيد بعضهم في الواقعة إلى درجة اعتباره حاكما فعليا لتازة وأنه كان يسعى إلى إقامة "دولة إسرائيلية" في شمال وشرق المغرب، كما ذهب إلى ذلك المؤرخ الراحل عبد الهادي التازي، مع أن الأوضاع المعقدة والصعبة التي اجتازها المغرب وقت الرشيد العلوي كانت مفتوحة على أكثر من سؤال وإشكال.
وردت واقعة الرشيد مع ابن مشعل في الوثائق التاريخية الأجنبية لا سيما الفرنسية منها بنفس تفاصيل الإخباريين المغاربة على وجه العموم، دون أن نغفل أحكام القيمة القاسية أحيانا والتي سجلها الكتاب والباحثون الفرنسيون في حق الرشيد ومن هؤلاء الضابط لويس L .Voinot فوانو ( TAZA ET LES RIATA- OUJDA ET L’Amalat-) وقد نقل عن مرسييه، وهناك أوجين فوماي EUGENE FUMEY وقد وسم وثيقته ب "La légende de My Rachid " ضمن ملفات أرشيف المغرب "Archives Marocaines" وكذا المؤرخ الكبير شارل أندري جوليان في كتابه "تاريخ إفريقيا الشمالية ج 2" واصفا واقعة الاغتيال بأنها "عملية حازمة لا تزال ترددها الأسطورة" وتقام ذكراها التي نعتها بالمشوهة عبر ما أسماه عيد "سلطان الطلبة السنوي" في فاس، ويورد هنري تيراسHenri Terrasse قصة ابن مشعل مع الرشيد موجزة ضمن محور هام من كتاب له حول تاريخ المغرب سماه مغامرات مولاي رشيد LES AVENTURES DE MOULAY RACHID . ووصف حقبة تلك المغامرات بأنها لم تكن مجيدة تماما "Episode peu glorieuse".
أما الباحث الفرنسي ناحوم شولتز أستاذ الدراسات اليهودية بجامعة السوربون فيفيد أنه في القرن السابع عشر، كان بعض الجماعات اليهودية ما يزال في قلب بني رياتة (يقصد قبيلة غياثة المحتضنة لمدينة تازة والمحيطة بها) وأصبح شيخ يهودي يدعى ابن مشعل زعيما على تازا"، واضح أن شولتز هنا يعتبر ابن مشعل حاكما فعليا لتازة خلال هذه الفترة المضطربة، مثلما تشير إلى ذلك بعض أخبار نفس الفترة، ومن جهة أخرى فليس هناك ما يشير إلى ارتباط مغارة اليهودي أو كيفان بلغماري في تازة بابن مشعل، أولا لغياب الوثائق وثانيا لاستحالة أن يلجأ يهودي غني متسلط إلى الإقامة في مثل تلك المغارات، فالكهف إذن ينسب لشخص يهودي آخر.
تازة عاصمة الرشيد
إخباريو القرن الثامن عشر يفيدون بأن الرشيد اتخذ تازة عاصمة له خلال فترات تمهيد البلاد وتهدئتها والضرب على أيدي الزعامات الفردية والنزعات الانعزالية، فقد أطبق على فاس الحاضرة التاريخية للمغرب انطلاقا من تازة، وكان جيشه أساسا من قبائل تازة وشراكة والمعقل وحوض ملوية، علما بأن موقع تازة لعب دورا تجاذبيا مهما خلال الفترة السابقة أي عهد الدولة السعدية، ولاسيما عبر الصراع السعدي العثماني في عهد السلطان محمد الشيخ والذي أدى ثمن حميته الوطنية ورفض الاعتراف بالسلطان العثماني، فكان جزاؤه عملية اغتيال بشعة بظاهر تارودانت في 23 أكتوبر 1557م على يد ضباط أتراك تنكروا في ثوب لاجئين.
ونعود إلى الرشيد فما أن علم أهل فاس بالوضع القوي الذي أصبح عليه بعد واقعة ابن مشعل ومقتل أخيه واجتماع الناس حوله، حتى نسوا خلافاتهم (بن صالح في عدوة الاندلس – بن الصغير في اللمطيين – والدريدي في فاس الجديد) واتفقوا على التصدي للرشيد أو حتى مهاجمته في تازة بالذات، لأنهم خشوا أن تُنهب ممتلكاتهم بعد الذي حصل مع مولاي امحمد، فاجتمع أهل فاس وصفرو والبهاليل والحياينة خارج باب الفتوح للقاء الرشيد وجيشه غير أنه أعرض عنهم متوجها إلى سجلماسة لمواجهة تمرد ابن أخيه محمد الأصغر الذي انتصر عليه واحتمله مع إخوانه أسرى إلى معقله الشمالي تازة حيث حبسهم هناك في حصن البستيون إلى أن بعث إليهم من قتلهم حسب نفس المصادر التقليدية.
والمعروف أيضا أن الرشيد كان في أعقاب كل حركة يعود أدراجه إلى تازة لتنظيم الصفوف ودعم موقعه السلطاني، إلى جانب الإقامة طبعا وبلغت حصاراته لفاس ومحاولاته فتحها أربعة في المجموع انتهت بدخوله المدينة وتصفية المعارضين وأخذ البيعة له، ومن تازة انطلق أيضا لمنازلة الشيخ أعراص بالريف الذي تغلب عليه وعامله في المقابل بالرفق والتسامح، وبعد هذه المرحلة الحاسمة طارد الخضر غيلان الذي لجأ إلى الجزائر وقضى على آل النقسيس ثم جاء دور الزاوية الدلائية وأخيرا بقايا الشبانات بمراكش، التي توفي فيها حين صدم فرسه كما تقول الروايات جذع إحدى الأشجار فكانت الإصابة مميتة سنة 1672 بعد أن ضمن وحدة البلاد بالوسائل المعلومة، وفي ظرف وجيز مما يعكس حالة الوهن والإنهاك التي كانت عليها. "فهدنت البلاد" - كما تفيد اخبار الفترة "واستعفت العباد وانقطع النهب والقتل في الطرق وآمنت" ثم ملك الرشيد المغرب أسره قطرا بعد قطر إلى واد نون من السوس الأقصى".
(يتبع)
*رئيس مركز ابن بري التازي للدراسات والأبحاث وحماية التراث