الشعر الجاهلي
ومهما يكن من أمر، فقد ورثنا عن تلك الحقبة الجاهلية أدباً ناضجاً في لغته وشعره ونثره، ولكن هذا الأدب الذي وصل إلينا لا يشمل الحقبة كلها، قبل الإسلام، ذلك أننا لا نملك نصوصاً مدونة عن مبدأ الشعر عند العرب، وعن تطوره حتى بلوغه المرحلة التي كان عليها عند ظهور الإسلام. والمعروف أن أقدم ما وصل إليه علمنا من ذلك الشعر لا يرقى عهده إلى أكثر من قرنين عن الهجرة. وقد أشار الجاحظ إلى قضية قدم الشعر ال عربي فقال: وأما الشعر فحديث الميلاد، صغير السن.. فإذا استظهرنا الشعر وجدنا له - إلى أن جاء الإسلام - خمسين ومئة عام. وإذا استظهرنا بغاية الاستظهار فمئتي عام.
ومن أقدم الشعراء الذين عرفنا أخبارهم ووصلتنا أشعارهم ا مرؤ القيس بن حجر الكندي، الذي يقال إنه أول من وقف بالديار واستوقف وبكى واستبكى، لكنه هو نفسه ي ذكر شاعراً آخر أقدم منه، بكى الأطلال قبله، وهو ابن خذام، فيقول:
عــوجا على الطلل المحيل، لعلنا نبكي الديـــار كما بكى ابن خذام
ولم يكن بنو كلب بدعاً في القبائل، فكل قبيلة ادعت لشاعرها أنه الأول أو الأقدم: فامرؤ القيس في اليمانية، وعبيد بن الأبرص في بني أسد، ومهلهل بن ربيعة في تغلب، وعمرو بن قميئة والمرقش الأكبر في بكر، وأبو دواد في بني إياد. وهؤلاء جميعاً متقاربون في الزمن، ولم يعثر العلماء على شعر قديم مدون بقلم جاهلي، وكل ما يعرف من هذا الشعر مستمد من أفواه الرواة الذ ين كانوا يتناقلون الأشعار الجاهلية عن طريق الرواية والحفظ. وتعود أ سباب ذلك إلى انتشار الأمية عند العرب، وقلة وسائل التدوين والكتابة لديهم، إذ اقتصر على الحجارة الرقيقة، والجلود، والعظام، وسعف النخيل، وما إليها. ومن ثم كان المعلمون قلة بينهم.
وفي بعض الأشعار الجاهلية إشارات إلى وجود الكتابة ونقوشها، وهي ترد في مطاوي وصف الشعراء للأطلال والرسوم الدارسة، كقول الأخنس بن شهاب التغلبي، مشبهاً أطلال المحبوبة بالكتابة على الجلد الرقيق:
لابنةِ حطّان بــن عوف منــــازل كما رقش العنوان في الرق كاتبه
على أن استعمال الكتابة يقتصر على شؤون من الحياة الاجتماعية والتجارية وما إليها، مما يكون ميدانه النثر، من دون الاتكاء عليها في كتابة الشعر؛ لأن العرب كانوا يعتمدون في حفظ الأشعار على الرواية الشفوية، حتى في خطبهم ووصاياهم وأمثالهم، يسعفهم في هذا الحفظ ذاكرة قوية تأنس بموسيقى الشعر وأوزانه، خاصة، واعتادت ذلك حتى صارت سجية من سجاياهم ، وطبيعة متأصلة فيهم، فضلاً عن حبهم للشعر وعنايتهم الفائقة بروايته وتناقله، لأنه ديوان مناقبهم، وسجل حياتهم وانتصاراتهم، ولم يكن لهم - كما يقول ابن رشيق - علم أصح منه. فلا غرو أن يكون دعامة السّامرعندهم، ومدارَ حلقات القوم لديهم، في مواسمهم وندواتهم، وقد أدى ذلك أيضاً إلى ظهور حلقات من الشعراء الرواة، الذين يأخذ بعضهم عن بعض، مما يمكن أن يسمى اليوم بالمدارس الشعرية، وأشهرها تلك التي تبد أ بأوس بن حجر، وعنه أخذ الشعر ورواه زهير ابن أبي سلمى. ولزهير راويتان: ابنه كعب، والحطيئة، وكان هدبة بن الخشرم ر ا وية الحطيئة، وعن هدبة تلقن الشعر ورواه جميل بن معمر، صاحب بثينة، وراوية جميل هو كثير عزة، الذي يُعد آخر من اجتمع له الشعر والرواية.
و « لما جاء الإسلام شغل العرب والمسلمون عن الشعر بالغزو والفتوح. ولما اطمأنوا بالأمصار، واستقرت دولتهم، راجعوا رواية الشعر - كما يقول ابن سلام - فلم يؤولو ا إلى ديوان مدون، ولا كتاب مكتوب. وألفوا ذلك وقد هلك من العرب من هلك بالموت والقتل، فحفظوا أقل ذلك، وذهب عليهم منه كثير».
ومع ذلك، فقد نشطت رواية الشعر في القرن الهجري الأول، لأسباب مختلفة، ولازمها بعد قليل نشاط حركة التدوين عامة، ونشأت طبقة من الرواة الذين يتخذون رواية الأخبار عن الجاهلية وأيامها. وكان من نتائج ذلك وجود شعر مفتعل صنعه الرواة الوضاعون، ونسبوه إلى شعراء جاهليين، سنداً لعصبية قبلية، أو رفداً للقصص والأخبار، أو إذاعة لنزعة شعوبية، أو إرهاصاً للبعثة النبوية.
وقد عرف بالوضع من رواة الكوفة: خلف الأحمر، وحماد الراوية، كما اشتهر - إلى جانبهم - رواة ثقات من أهل البصرة والكوفة: كالمفضل الضبي، والخليل بن أحمد الفراهيدي، وأبي عمرو بن العلاء، والفراء، وابن سلام، وغيرهم، ميزوا الشعر الصحيح من الشعر الزائف، وكان في مقدمة هؤلاء ابن سلام الجمحي الذي عالج هذا الموضوع مفصلاً في طبقاته، ومما قاله: وليس يشكل على أهل العلم زيادة الرواة، ولا ما وضعوا، ولا ما وضع المولدون. كما أن في كتاب «الأغاني» إشارات كثيرة إلى أشعار منحولة، وأخبار موضوعة، نص عليها أبو الفرج بعد أن تفحص رواياتها، ورجع إلى دواوين الشعراء أنفسهم.
ومع كل هذه الجهود، وغيرها، التي حرص أصحابها على تنقية الشعر القديم من الشوائب الزائفة، وإيصاله إلينا صحيحاً موثقاً، قام في العصر الحديث لفيف من المستشرقين والدارسين العرب يثيرون قضية النحل والانتحال في الشعر الجاهلي، ويشككون في صحة هذا الشعر، على تفاوت فيما بينهم، شططاً وتحاملاً، أو اعتدالاً وحياداً، وبلغ الأمر ذروته عند المستشرق الإنكليزي مرغليوث Margoliouth الذي نشر سنة 1925م مقالة له بعنوان «أصول الشعر ال عربي» أنكر فيها صحة الشعر الجاهلي جملة، وأقام مذهبه هذا على مزاعم وتصورات متناقضة، جعلت بعض المستشرقين أنفسهم ي ر دون عليه ويفندون آراءه، ومنهم جيمس لايل Lyalle ناشر المفضليات.
وفي مصر قام طه حسين يحذو حذو مرغليوث، حين نشر سنة 1926 كتابه «في الشعر الجاهلي» وضمنه آراء جريئة جعلت بعض العلماء والنقاد يردون عليه: كالرافعي، ومحمد فريد وجدي، ومحمد الخضري، ومحمد لطفي جمعة، ومحمد الخضر حسين.
وأدى ذلك إلى أن يعيد طه حسين النظر في كتابه، تعديلاً وحذفاً وزيادة، ويصدره في العام التالي 1927 بعنوان آخر: «في الأدب الجاهلي» بعد أن ضم إليه بحث النثر الجاهلي، وأفاض في شرح نظريته وتطبيقاتها، ووقف عند أسباب الوضع والنحل في الشعر ال عربي، كما أوضح أسباب الشك في الشعر الجاهلي، ودوافعه، ولخص ذلك بقوله: «إن الكثرة المطلقة - مما نسميه أدباً جاهلياً - ليست من الجاهلية في شيء، وإنما هي منحولة بعد ظهور الإسلام، فهي إسلامية تمثل حياة المسلمين وميولهم وأهواءهم، أكثر مما تمثل حياة الجاهليين».
ولم يسلم - مع ذلك - كتاب طه حسين الثاني من النقد والتفنيد. ومرت السنوات بعد ذلك، ولم يكتب لنظرية طه حسين وأمثاله القبول التام، وإن أيقظت الأذهان، ولفتت الأنظار إلى ضرورة التثبت من صحة الشعر الجاهلي، بل صحة كل شعر، قبل روايته أو الاستشهاد به.
ويضاف إلى ذلك ظهور كتب ودراسات جديدة زادت من توثيق الشعر الجاهلي وتصحيح ما صحّ منه، ونوّهت بكثير من مصادره الأصلية، وفي مقدمة هذه الكتب كتاب «مصادر الشعر الجاهلي» لناصر الدين الأسد. وقد وجد الباحثون المعاصرون بين أيديهم عدداً من مصادر الشعر الجاهلي التي جاءت عن طريق الرواة الأمناء الصادقين، الذين وقفوا جهودهم على التحري والتثبت، ولم يخف عليهم وجود شعر جاهلي منحول كشفوا جانباً منه.
ولقد حازت آثار أولئك الرواة القبول والتقدير، وعُدّت مصادر أساسية للشعر الجاهلي. وأهم هذه الآثار:
ـ دواوين الشعراء القدماء، التي جمعت في عصر التدوين: كزهير، والنابغة، وامرئ القيس.
ـ دواوين القبائل ال عربية: كديوان الهذليين، الذي لم يصل إلينا كاملاً.
ـ المجموعات الشعرية الموثوق بها: كالمعلقات وشروحها، والمفضليات، والأصمعيات، والنقائض وشروحها، والحماسات.
ـ كتب الأدب، واللغة، والنحو: كالبيان والتبيين، والحيوان، ومجالس ثعلب، وعيون الأخبار، والكامل، والأمالي. وكذلك بعض كتب المتأخرين التي احتفظت بكثير من الأشعار الجاهلية التي ضاعت أصولها: كخزانات الأدب، وشرح أبيات مغني اللبيب، وكلاهما للبغدادي، وشرح شواهد المغني للسيوطي.
ـ الكتب النقدية البلاغية: كالموشح، والصناعتين، والموازنة والوساطة.
ـ كتب التراجم والطبقات: كمعجم الشعراء، والمؤتلف والمختلف، وطبقات ابن سلاّم، والشعر والشعراء، والأغاني.
فهذه المصادر وأمثالها، تجعل بين أيدينا مادة وافرة للشعر الجاهلي، وهذه المادة غنية وكافية، لكي تهيئ للدارسين مجالاً واسعاً للبحث والتحليل والموازنة، في رحا ب أغراض ذلك ا لشعر وفنونه المختلفة.
ومهما يكن من أمر، فقد ورثنا عن تلك الحقبة الجاهلية أدباً ناضجاً في لغته وشعره ونثره، ولكن هذا الأدب الذي وصل إلينا لا يشمل الحقبة كلها، قبل الإسلام، ذلك أننا لا نملك نصوصاً مدونة عن مبدأ الشعر عند العرب، وعن تطوره حتى بلوغه المرحلة التي كان عليها عند ظهور الإسلام. والمعروف أن أقدم ما وصل إليه علمنا من ذلك الشعر لا يرقى عهده إلى أكثر من قرنين عن الهجرة. وقد أشار الجاحظ إلى قضية قدم الشعر ال عربي فقال: وأما الشعر فحديث الميلاد، صغير السن.. فإذا استظهرنا الشعر وجدنا له - إلى أن جاء الإسلام - خمسين ومئة عام. وإذا استظهرنا بغاية الاستظهار فمئتي عام.
ومن أقدم الشعراء الذين عرفنا أخبارهم ووصلتنا أشعارهم ا مرؤ القيس بن حجر الكندي، الذي يقال إنه أول من وقف بالديار واستوقف وبكى واستبكى، لكنه هو نفسه ي ذكر شاعراً آخر أقدم منه، بكى الأطلال قبله، وهو ابن خذام، فيقول:
عــوجا على الطلل المحيل، لعلنا نبكي الديـــار كما بكى ابن خذام
ولم يكن بنو كلب بدعاً في القبائل، فكل قبيلة ادعت لشاعرها أنه الأول أو الأقدم: فامرؤ القيس في اليمانية، وعبيد بن الأبرص في بني أسد، ومهلهل بن ربيعة في تغلب، وعمرو بن قميئة والمرقش الأكبر في بكر، وأبو دواد في بني إياد. وهؤلاء جميعاً متقاربون في الزمن، ولم يعثر العلماء على شعر قديم مدون بقلم جاهلي، وكل ما يعرف من هذا الشعر مستمد من أفواه الرواة الذ ين كانوا يتناقلون الأشعار الجاهلية عن طريق الرواية والحفظ. وتعود أ سباب ذلك إلى انتشار الأمية عند العرب، وقلة وسائل التدوين والكتابة لديهم، إذ اقتصر على الحجارة الرقيقة، والجلود، والعظام، وسعف النخيل، وما إليها. ومن ثم كان المعلمون قلة بينهم.
وفي بعض الأشعار الجاهلية إشارات إلى وجود الكتابة ونقوشها، وهي ترد في مطاوي وصف الشعراء للأطلال والرسوم الدارسة، كقول الأخنس بن شهاب التغلبي، مشبهاً أطلال المحبوبة بالكتابة على الجلد الرقيق:
لابنةِ حطّان بــن عوف منــــازل كما رقش العنوان في الرق كاتبه
على أن استعمال الكتابة يقتصر على شؤون من الحياة الاجتماعية والتجارية وما إليها، مما يكون ميدانه النثر، من دون الاتكاء عليها في كتابة الشعر؛ لأن العرب كانوا يعتمدون في حفظ الأشعار على الرواية الشفوية، حتى في خطبهم ووصاياهم وأمثالهم، يسعفهم في هذا الحفظ ذاكرة قوية تأنس بموسيقى الشعر وأوزانه، خاصة، واعتادت ذلك حتى صارت سجية من سجاياهم ، وطبيعة متأصلة فيهم، فضلاً عن حبهم للشعر وعنايتهم الفائقة بروايته وتناقله، لأنه ديوان مناقبهم، وسجل حياتهم وانتصاراتهم، ولم يكن لهم - كما يقول ابن رشيق - علم أصح منه. فلا غرو أن يكون دعامة السّامرعندهم، ومدارَ حلقات القوم لديهم، في مواسمهم وندواتهم، وقد أدى ذلك أيضاً إلى ظهور حلقات من الشعراء الرواة، الذين يأخذ بعضهم عن بعض، مما يمكن أن يسمى اليوم بالمدارس الشعرية، وأشهرها تلك التي تبد أ بأوس بن حجر، وعنه أخذ الشعر ورواه زهير ابن أبي سلمى. ولزهير راويتان: ابنه كعب، والحطيئة، وكان هدبة بن الخشرم ر ا وية الحطيئة، وعن هدبة تلقن الشعر ورواه جميل بن معمر، صاحب بثينة، وراوية جميل هو كثير عزة، الذي يُعد آخر من اجتمع له الشعر والرواية.
و « لما جاء الإسلام شغل العرب والمسلمون عن الشعر بالغزو والفتوح. ولما اطمأنوا بالأمصار، واستقرت دولتهم، راجعوا رواية الشعر - كما يقول ابن سلام - فلم يؤولو ا إلى ديوان مدون، ولا كتاب مكتوب. وألفوا ذلك وقد هلك من العرب من هلك بالموت والقتل، فحفظوا أقل ذلك، وذهب عليهم منه كثير».
ومع ذلك، فقد نشطت رواية الشعر في القرن الهجري الأول، لأسباب مختلفة، ولازمها بعد قليل نشاط حركة التدوين عامة، ونشأت طبقة من الرواة الذين يتخذون رواية الأخبار عن الجاهلية وأيامها. وكان من نتائج ذلك وجود شعر مفتعل صنعه الرواة الوضاعون، ونسبوه إلى شعراء جاهليين، سنداً لعصبية قبلية، أو رفداً للقصص والأخبار، أو إذاعة لنزعة شعوبية، أو إرهاصاً للبعثة النبوية.
وقد عرف بالوضع من رواة الكوفة: خلف الأحمر، وحماد الراوية، كما اشتهر - إلى جانبهم - رواة ثقات من أهل البصرة والكوفة: كالمفضل الضبي، والخليل بن أحمد الفراهيدي، وأبي عمرو بن العلاء، والفراء، وابن سلام، وغيرهم، ميزوا الشعر الصحيح من الشعر الزائف، وكان في مقدمة هؤلاء ابن سلام الجمحي الذي عالج هذا الموضوع مفصلاً في طبقاته، ومما قاله: وليس يشكل على أهل العلم زيادة الرواة، ولا ما وضعوا، ولا ما وضع المولدون. كما أن في كتاب «الأغاني» إشارات كثيرة إلى أشعار منحولة، وأخبار موضوعة، نص عليها أبو الفرج بعد أن تفحص رواياتها، ورجع إلى دواوين الشعراء أنفسهم.
ومع كل هذه الجهود، وغيرها، التي حرص أصحابها على تنقية الشعر القديم من الشوائب الزائفة، وإيصاله إلينا صحيحاً موثقاً، قام في العصر الحديث لفيف من المستشرقين والدارسين العرب يثيرون قضية النحل والانتحال في الشعر الجاهلي، ويشككون في صحة هذا الشعر، على تفاوت فيما بينهم، شططاً وتحاملاً، أو اعتدالاً وحياداً، وبلغ الأمر ذروته عند المستشرق الإنكليزي مرغليوث Margoliouth الذي نشر سنة 1925م مقالة له بعنوان «أصول الشعر ال عربي» أنكر فيها صحة الشعر الجاهلي جملة، وأقام مذهبه هذا على مزاعم وتصورات متناقضة، جعلت بعض المستشرقين أنفسهم ي ر دون عليه ويفندون آراءه، ومنهم جيمس لايل Lyalle ناشر المفضليات.
وفي مصر قام طه حسين يحذو حذو مرغليوث، حين نشر سنة 1926 كتابه «في الشعر الجاهلي» وضمنه آراء جريئة جعلت بعض العلماء والنقاد يردون عليه: كالرافعي، ومحمد فريد وجدي، ومحمد الخضري، ومحمد لطفي جمعة، ومحمد الخضر حسين.
وأدى ذلك إلى أن يعيد طه حسين النظر في كتابه، تعديلاً وحذفاً وزيادة، ويصدره في العام التالي 1927 بعنوان آخر: «في الأدب الجاهلي» بعد أن ضم إليه بحث النثر الجاهلي، وأفاض في شرح نظريته وتطبيقاتها، ووقف عند أسباب الوضع والنحل في الشعر ال عربي، كما أوضح أسباب الشك في الشعر الجاهلي، ودوافعه، ولخص ذلك بقوله: «إن الكثرة المطلقة - مما نسميه أدباً جاهلياً - ليست من الجاهلية في شيء، وإنما هي منحولة بعد ظهور الإسلام، فهي إسلامية تمثل حياة المسلمين وميولهم وأهواءهم، أكثر مما تمثل حياة الجاهليين».
ولم يسلم - مع ذلك - كتاب طه حسين الثاني من النقد والتفنيد. ومرت السنوات بعد ذلك، ولم يكتب لنظرية طه حسين وأمثاله القبول التام، وإن أيقظت الأذهان، ولفتت الأنظار إلى ضرورة التثبت من صحة الشعر الجاهلي، بل صحة كل شعر، قبل روايته أو الاستشهاد به.
ويضاف إلى ذلك ظهور كتب ودراسات جديدة زادت من توثيق الشعر الجاهلي وتصحيح ما صحّ منه، ونوّهت بكثير من مصادره الأصلية، وفي مقدمة هذه الكتب كتاب «مصادر الشعر الجاهلي» لناصر الدين الأسد. وقد وجد الباحثون المعاصرون بين أيديهم عدداً من مصادر الشعر الجاهلي التي جاءت عن طريق الرواة الأمناء الصادقين، الذين وقفوا جهودهم على التحري والتثبت، ولم يخف عليهم وجود شعر جاهلي منحول كشفوا جانباً منه.
ولقد حازت آثار أولئك الرواة القبول والتقدير، وعُدّت مصادر أساسية للشعر الجاهلي. وأهم هذه الآثار:
ـ دواوين الشعراء القدماء، التي جمعت في عصر التدوين: كزهير، والنابغة، وامرئ القيس.
ـ دواوين القبائل ال عربية: كديوان الهذليين، الذي لم يصل إلينا كاملاً.
ـ المجموعات الشعرية الموثوق بها: كالمعلقات وشروحها، والمفضليات، والأصمعيات، والنقائض وشروحها، والحماسات.
ـ كتب الأدب، واللغة، والنحو: كالبيان والتبيين، والحيوان، ومجالس ثعلب، وعيون الأخبار، والكامل، والأمالي. وكذلك بعض كتب المتأخرين التي احتفظت بكثير من الأشعار الجاهلية التي ضاعت أصولها: كخزانات الأدب، وشرح أبيات مغني اللبيب، وكلاهما للبغدادي، وشرح شواهد المغني للسيوطي.
ـ الكتب النقدية البلاغية: كالموشح، والصناعتين، والموازنة والوساطة.
ـ كتب التراجم والطبقات: كمعجم الشعراء، والمؤتلف والمختلف، وطبقات ابن سلاّم، والشعر والشعراء، والأغاني.
فهذه المصادر وأمثالها، تجعل بين أيدينا مادة وافرة للشعر الجاهلي، وهذه المادة غنية وكافية، لكي تهيئ للدارسين مجالاً واسعاً للبحث والتحليل والموازنة، في رحا ب أغراض ذلك ا لشعر وفنونه المختلفة.