أمثلة عن الإيثار
لقد ضرب لنا النبي صلى الله عليه وسلم أرفع الأمثلة في الإيثار.
1- روى البخاري عن سهل بن سعدٍ، قال: جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ببردةٍ، فقال سهل للقوم: أتدرون ما البُردة؟ فقال القوم: هي الشَّملة، فقال سهل: هي شملة منسوجة، فيها حاشيتها، فقالت: يا رسول الله، أكسوك هذه، فأخذها النبي صلى الله عليه وسلم محتاجًا إليها، فلبِسها، فرآها عليه رجل من الصحابة، فقال: يا رسول الله، ما أحسَنَ هذه! فاكسُنِيها، فقال: ((نعم))، فلما قام النبي صلى الله عليه وسلم لامَهُ أصحابه، قالوا: ما أحسنت حين رأيت النبي صلى الله عليه وسلم أخذها محتاجًا إليها ثم سألته إياها وقد عرفت أنه لا يُسأَل شيئًا فيمنعه، فقال: رجوتُ بركتها حين لبِسها النبي صلى الله عليه وسلم، لعلِّي أُكفَّن فيها؛ (البخاري - كتاب الأدب - حديث 6036).
2- روى البخاري عن جابر رضي الله عنه، قال: إنا يوم الخندق نحفِر، فعرَضت كُدْية شديدة (القطعة الصُّلبة من الأرض)، فجاؤوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: هذه كُدْية عرضت في الخندق، فقال: ((أنا نازل))، ثم قام وبطنه معصوب (مربوط) بحجَرٍ، ولبثنا ثلاثة أيامٍ لا نذوق ذواقًا، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم المِعول، فضرب فعاد كثيبًا (رملًا) أَهْيَل (غير متماسك)، أو أَهْيَم، فقلت: يا رسول الله، ائذَنْ لي إلى البيت، فقلت لامرأتي: رأيت بالنبي صلى الله عليه وسلم شيئًا ما كان في ذلك صبر، فعندكِ شيء؟ قالت: عندي شَعير وعَناق، فذبحت العَناق، وطحنت الشعير، حتى جعلنا اللحم في البُرمة (القِدر)، ثم جئت النبي صلى الله عليه وسلم والعجين قد انكسر، والبرمة بين الأثافي (الحجارة التي توضع عليها القدور) قد كادت أن تنضج، فقلت: طُعَيم لي، فقُمْ أنت يا رسول الله ورجل أو رجلان، قال: ((كم هو؟))، فذكرت له، قال: ((كثير طيِّب))، قال: ((قل لها: لا تنزع البرمة ولا الخبز من التنُّور حتى آتي))، فقال: قوموا، فقام المهاجرون والأنصار، فلما دخل على امرأته، قال: ويحَكِ، جاء النبي صلى الله عليه وسلم بالمهاجرين والأنصار ومن معهم، قالت: هل سألك؟ قلت: نَعم، فقال: ((ادخلوا ولا تضاغطوا))، فجعل يكسر الخبز، ويجعل عليه اللحم، ويخمر البرمة والتنور إذا أخذ منه، ويقرب إلى أصحابه، ثم ينزع، فلم يزل يكسر الخبز ويغرف حتى شبعوا، وبقي بقية، قال: ((كُلِي هذا وأهدي؛ فإن الناس أصابتهم مجاعة))؛ (البخاري حديث 4101).
3- روى مسلم عن المقداد، قال: أقبلتُ أنا وصاحبان لي وقد ذهبت أسماعنا وأبصارنا من الجَهد، فجعلنا نعرِض أنفسنا على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فليس أحد منهم يقبَلُنا، فأتينا النبي صلى الله عليه وسلم، فانطلق بنا إلى أهله، فإذا ثلاثة أعنزٍ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((احتلبوا هذا اللبن بيننا))، قال: فكنا نحتلب فيشرب كل إنسانٍ منا نصيبه، ونرفع للنبي صلى الله عليه وسلم نصيبه، قال: فيجيء من الليل فيسلِّم تسليمًا لا يوقظ نائمًا، ويُسمِع اليقظان، قال: ثم يأتي المسجد فيصلي، ثم يأتي شرابه فيشرب؛ (مسلم حديث 2055).
4- روى مسلم عن جابر بن عبدالله، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((طعام الواحد يكفي الاثنين، وطعام الاثنين يكفي الأربعة، وطعام الأربعة يكفي الثمانية))؛ (مسلم حديث 2059).
صور من إيثار الصحابة:
سوف نذكر بعضًا من إيثار الصحابة:
1- إيثار أبي بكر الصِّدِّيق رضي الله عنه:
روى أحمد عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما نفعني مالٌ قط ما نفعني مال أبي بكرٍ))، فبكى أبو بكرٍ وقال: هل أنا ومالي إلا لك يا رسول الله؛ (حديث صحيح) (مسند أحمد جـ 2 صـ 253).
روى الترمذي عن عمر بن الخطاب يقول: أمَرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتصدَّق، فوافق ذلك عندي مالًا، فقلت: اليوم أسبق أبا بكرٍ، إن سبقتُه يومًا، قال: فجئتُ بنصف مالي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما أبقيت لأهلك؟))، قلت: مثلَه، وأتى أبو بكرٍ بكل ما عنده، فقال: ((يا أبا بكرٍ، ما أبقيتَ لأهلك؟))، قال: أبقيتُ لهم الله ورسولَه، قلت: والله لا أسبقه إلى شيءٍ أبدًا؛ (حديث حسن) (صحيح الترمذي للألباني جـ 3 حديث 2902).
روى الترمذي عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما لأحدٍ عندنا يدٌ إلا وقد كافيناه، ما خلا أبا بكرٍ؛ فإن له عندنا يدًا يكافيه الله بها يوم القيامة، وما نفعني مال أحدٍ قط ما نفعني مال أبي بكرٍ، ولو كنتُ متخذًا خليلًا لاتخذت أبا بكرٍ خليلًا، ألا وإن صاحبكم خليل الله))؛ (حديث صحيح) (صحيح الترمذي للألباني حديث 2894).
قال عُروة بن الزبير: أسلم أبو بكر وله أربعون ألفًا، فأنفقها في سبيل الله، وأعتق سبعةً كلُّهم يُعذَّب في الله: أعتق بلالًا، وعامر بن فُهيرة، وزِنِّيرَة، والنهدية وابنتها، وجارية بني المؤمل، وأم عبيس؛ (الإصابة لابن حجر العسقلاني جـ 2 صـ 334).
• لما ردَّ أبو بكر جوار ابن الدغنة لقِيَه سفيهٌ من سفهاء قريشٍ وهو عامد إلى الكعبة، فحثا على رأسه ترابًا، قال: فمر بأبي بكرٍ الوليد بن المغيرة، أو العاص بن وائلٍ، قال: فقال أبو بكرٍ: ألا ترى إلى ما يصنع هذا السفيه؟ قال: أنت فعلت ذلك بنفسك، قال وهو يقول: أي ربِّ، ما أحلَمَك! أي ربِّ، ما أحلَمَك! أي ربِّ، ما أحلَمَك!؛ (سيرة ابن هشام جـ 1 صـ 306).
2- إيثار أبي طلحة الأنصاري رضي الله عنه:
أبو طلحة الأنصاري: زيد بن سهل الأنصاري رضي الله عنه، وهو زوج أم سليم والدةِ أنس بن مالك.
روى الشيخانِ عن أنس بن مالكٍ، قال: كان أبو طلحة أكثرَ أنصاريٍّ بالمدينة مالًا من نخلٍ، وكان أحب ماله إليه بيرحاء (حديقة)، وكانت مستقبل المسجد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخُلُها ويشرب من ماءٍ فيها طيبٍ، قال أنس: فلما نزلت: ﴿ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ﴾ [آل عمران: 92]، قام أبو طلحة فقال: يا رسول الله، إن الله يقول: ﴿ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ﴾ [آل عمران: 92]، وإن أحبَّ مالي إليَّ بيرحاء، وإنها صدقة لله، أرجو بِرَّها وذُخْرها عند الله؛ فضَعْها يا رسول الله حيث أراك الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بخٍ! ذلك مال رابح، أو رايح - شك عبد الله - وقد سمعتُ ما قلتَ، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين))، فقال أبو طلحة: أفعلُ يا رسول الله، فقسمها أبو طلحة في أقاربه، وفي بني عمِّه؛ (البخاري حديث 1461 / مسلم حديث 998).
روى البخاري عن أنسٍ رضي الله عنه، قال: لما كان يوم أُحدٍ انهزم الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم وأبو طلحة بين يدَيِ النبي صلى الله عليه وسلم مجوب به عليه بحجفةٍ له، وكان أبو طلحة رجلًا راميًا شديد (شديد وتر القوس) القد، يكسر يومئذٍ قوسين أو ثلاثًا، وكان الرجل يمر معه الجعبة من النبل، فيقول: ((انشُرْها لأبي طلحة))، فأشرف النبي صلى الله عليه وسلم ينظر إلى القوم، فيقول أبو طلحة: يا نبي الله، بأبي أنت وأمي، لا تُشرِف يصيبك سهم من سهام القوم، نَحْري دون نحرك؛ (البخاري حديث 3811).
3- إيثار نادر الوجود:
روى البخاري عن أنسٍ رضي الله عنه أنه قال: قدم علينا عبدالرحمن بن عوفٍ، وآخى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين سعد بن الربيع، وكان كثير المال، فقال سعد: قد علمَتِ الأنصار أني من أكثرها مالًا، سأقسم مالي بيني وبينك شطرينِ، ولي امرأتانِ، فانظر أعجبهما إليك فأطلقها، حتى إذا حلت تزوجتَها، فقال عبدالرحمن: بارَك الله لك في أهلك؛ (البخاري حديث 3781).
وفي رواية أخرى: قال عبدالرحمن بن عوفٍ: لا حاجة لي في ذلك، هل من سوقٍ فيه تجارة؟ قال: سوق قَيْنُقاع، قال: فغدا إليه عبدالرحمن، فأتى بأقطٍ وسمنٍ، قال: ثم تابع الغدو، فما لبث أن جاء عبدالرحمن عليه أثر صفرةٍ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تزوَّجْتَ؟))، قال: نعم، قال: ((ومن؟))، قال: امرأةً من الأنصار، قال: ((كم سُقْتَ؟))، قال: زِنَةَ نواةٍ من ذهبٍ، أو نواةً من ذهبٍ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((أولِمْ ولو بشاةٍ))؛ (البخاري حديث 2048).
4- إيثار طلحة بن عبيدالله رضي الله عنه:
روى البخاري عن قيسٍ، قال: رأيت يدَ طلحةَ شلَّاءَ، وقى بها النبيَّ صلى الله عليه وسلم يوم أُحدٍ؛ (البخاري حديث 4063).
5- إيثار الأشعريين رضي الله عنهم:
روى الشيخانِ عن أبي موسى، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزوِ (أي: فَنِيَ طعامهم)، أو قلَّ طعام عيالهم بالمدينة، جمعوا ما كان عندهم في ثوبٍ واحدٍ، ثم اقتسموه بينهم في إناءٍ واحدٍ بالسويَّة؛ فهم مني وأنا منهم))؛ (البخاري حديث 2486 / مسلم حديث 2500).
انظر أخي الكريم: كيف كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يؤثِر أحدهم أخاه على نفسه، حتى ولو كان الطعام قليلًا!
6- إيثار عائشة رضي الله عنها:
• روى البخاريُّ عن عمرو بن ميمونٍ الأودي، قال: رأيتُ عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: يا عبدالله بن عمر، اذهب إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، فقل: يقرأ عمر بن الخطاب عليكِ السلام، ثم سَلْها أن أدفن مع صاحبيَّ، قالت: كنت أريده لنفسي، فلأوثرنه اليوم على نفسي، فلما أقبل قال له: ما لديكَ؟ قال: أذنَتْ لك يا أمير المؤمنين، قال: ما كان شيء أهم إليَّ من ذلك المضجع، فإذا قُبضتُ فاحملوني، ثم سلِّموا، ثم قل: يستأذن عمر بن الخطاب، فإن أذنت لي فادفنوني، وإلا فردوني إلى مقابر المسلمين؛ (البخاري حديث 1392).
• روى مسلم عن عائشة: أنها قالت: جاءتني مسكينة تحمل ابنتين لها، فأطعمتها ثلاث تمراتٍ، فأعطت كل واحدةٍ منهما تمرةً، ورفعت إلى فيها تمرةً لتأكلها، فاستطعمتها ابنتاها، فشقَّتِ التمرة التي كانت تريد أن تأكلها بينهما، فأعجبني شأنها، فذكرتُ الذي صنعَتْ لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ((إن الله قد أوجب لها بها الجنة، أو أعتَقها بها من النار))؛ (مسلم جـ 4 كتاب البر حديث 2630).
• حدَّث الإمام مالك بن أنس: أنه بلَغه عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن مسكينًا سألها وهي صائمة، وليس في بيتها إلا رغيف، فقالت لمولاةٍ لها: أعطيه إياه، فقالت: ليس لكِ ما تُفطرين عليه، فقالت: أعطيه إياه، قالت: ففعلت، قالت: فلما أمسينا أهدى لنا أهل بيتٍ أو إنسان ما كان يهدي لنا شاةً وكفنها، فدعَتْني عائشة أم المؤمنين فقالت: كُلِي مِن هذا؛ هذا خيرٌ من قُرصك؛ (موطأ مالك - كتاب الصدقة - حديث 5).
7- إيثار عبدالله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما:
روى النسائيُّ بسنده عن نافع: أن ابنَ عمر اشتكى واشتهى عنبًا، فاشتُري له عنقود بدرهم، فجاء مسكين فسأل، فقال: أعطوه إياه، فخالف إنسان فاشتراه بدرهم، ثم جاء به إلى ابن عمر، فجاء المسكين فسأل، فقال: أعطوه إياه، ثم خالف إنسان فاشتراه بدرهم، ثم جاء به إليه، فأراد السائل أن يرجع فمُنع، ولو علم ابن عمر أنه ذلك العنقود ما ذاقه؛ لأن ما خرج لله لا يعود فيه؛ (الجامع لأحكام القرآن للقرطبي جـ 18 صـ 29 / الاستذكار لابن عبدالبر جـ 27 رقم 41652).
8- إيثار البراء بن مالك رضي الله عنه:
لما ذهَب خالدُ بن الوليد على رأس جيش لأبي بكر الصِّدِّيق إلى اليمامة لمحاربة المرتدين والقضاء على مسيلِمة الكذَّاب، الذي ادعى النبوة، ألجأ المسلمون المرتدين إلى حديقة الموت - وذلك لكثرة مَن قُتل فيها من المرتدين، حوالي 10 آلاف - وحاصرهم المسلمون فيها، فأمر البراءُ بن مالك أصحابه أن يحتملوه على تُرْسٍ، على أسنَّة رماحهم، ويلقوه في الحديقة، فاقتحم إليهم، وشدَّ عليهم، وقاتل حتى افتتح باب الحديقة.
فجُرح يومئذ بضعة وثمانين جرحًا؛ ولذلك أقام خالد بن الوليد عليه شهرًا يداوي جراحه؛ (سير أعلام النبلاء للذهبي جـ 1 صـ 196 / البداية والنهاية لابن كثير جـ 6 صـ 329: صـ 330).
9- إخوة بعضهم من بعض:
روى أبو نعيم عن مالك الداراني: أن عمرَ بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أخَذ أربعمائة دينار فجعلها في صرة، فقال للغلام: اذهب بها إلى أبي عُبيدةَ بن الجراح، ثم تلبَّثْ ساعة في البيت حتى تنظر ما يصنع؟ فذهب بها الغلام، فقال: يقول لك أمير المؤمنين: اجعل هذه في بعض حاجتك، فقال: وصَله الله ورحِمه، ثم قال: تعالي يا جاريةُ، اذهبي بهذه السبعة إلى فلان، وبهذه الخمسة إلى فلان، وبهذه الخمسة إلى فلان، حتى أنفَذها، فرجع الغلام إلى عمر رضي الله تعالى عنه وأخبره، فوجده قد أعد مثلها لمعاذ بن جبل، فقال: اذهب بها إلى معاذ، وتَلَهَّ في البيت ساعة حتى تنظر ما يصنع؟ فذهب بها إليه، فقال: يقول لك أمير المؤمنين: اجعل هذه في بعض حاجتك، فقال: رحمه الله ووصله، تعالَيْ يا جارية، اذهبي إلى بيت فلان بكذا، اذهبي إلى بيت فلان بكذا، فاطلعت امرأة معاذ، فقالت: ونحن والله مساكين فأعطِنا، ولم يبقَ في الخرقة إلا ديناران، فدحا بهما إليها، ورجع الغلام إلى عمر فأخبره، فسُرَّ بذلك، وقال: إنهم إخوة بعضهم من بعض؛ (حلية الأولياء لأبي نعيم جـ 1 صـ 237).
10- إيثار عجيب:
• خرَج عبدالله بن جعفر بن أبي طالب إلى ضَيْعة (أرض) له، فنزل على نخيل قوم، وفيه غلام أسود يعمل فيه؛ إذ أتى الغلامُ بقُوته، فدخل الحائط (الحديقة) كلب ودنا من الغلام، فرمى إليه الغلام بقرص فأكله، ثم رمى إليه الثاني والثالث فأكله، وعبدالله ينظر إليه، فقال: يا غلامُ، كم قوتك كل يوم؟ قال: ما رأيتَ! قال: فلمَ آثرتَ به هذا الكلب؟ قال: ما هي بأرضِ كلاب، إنه جاء من مسافة بعيدة جائعًا، فكرهت أن أشبَعَ وهو جائع! قال: فما أنت صانع اليوم؟ قال: أطوي يومي هذا، فقال عبدالله بن جعفر: أُلامُ على السخاء! إن هذا الغلامَ لأسخى مني، فاشترى الحائط (الحديقة) والغلام وما فيه من الآلات، فأعتَق الغلامَ ووهبه منه؛ (إحياء علوم الدين للغزالي جـ 3 صـ 258).
صورٌ مِن إيثار التابعين:
سوف نذكر بعضًا من إيثار التابعين:
1- الإيثار بشَرْبة ماء:
قال حُذَيفة العدوي: انطلقتُ يوم اليرموك أطلب ابن عم لي - ومعي شيء من الماء - وأنا أقول: إن كان به رَمَق سقَيْتُه، فإذا أنا به، فقلت له: أسقيك، فأشار برأسه: أنْ نَعم، فإذا أنا برجل يقول: آه! آه! فأشار إليَّ ابن عمي أنِ انطلق إليه، فإذا هو هشام بن العاص، فقلت: أسقيك؟ فأشار: أنْ نَعم، فسمع آخر يقول: آه! آه! فأشار هشام أنِ انطلق إليه، فجئته فإذا هو قد مات، فرجعت إلى هشام فإذا هو قد مات، فرجعت إلى ابن عمي فإذا هو قد مات؛ (تفسير القرطبي جـ 18 صـ 30 / إحياء علوم الدين للغزالي جـ 3 صـ 401).
2- الإيثار بالجوع:
اجتمَع عند أبي الحسن الأنطاكي نيِّف وثلاثون رجلًا بقرية من قرى الرَّي، ومعهم أرغفة معدودة، لا تُشبِع جميعهم، فكسروا الأرغفة وأطفؤوا السراج، وجلسوا للطعام، فلما رفع، فإذا الطعام بحاله، لم يأكل منه أحدٌ شيئًا؛ إيثارًا لصاحبه على نفسه؛ (تفسير القرطبي جـ 18 صـ 30 / إحياء علوم الدين للغزالي جـ 3 صـ 401).
فوائد الإيثار:
يمكِن أن نوجز فوائدَ الإيثار فيما يلي:
1) الإيثار دليلُ كمال الإيمان، وحُسن الإسلام.
2) الإيثار طريق موصل إلى محبة الله ورضوانه.
3) الإيثار سبيل الألفة والمودة بين المسلمين.
4) الإيثار دليلُ سَخاء النفس البشرية.
5) الإيثار مظهر من مظاهر حُسن الظن بالله تعالى.
6) الإيثار دليل علوِّ الهمة، والبُعد عن صفة الأنانية.
7) الإيثار يجلب البركة، وينمي الخير.
الإيثار طريق موصل إلى الفلاح؛ لأنه يَقِي الإنسانَ مِن داء الشح.
9) الإيثار مِن علامات حُسن الخاتمة للعبد المسلم.
10) الإيثار مِن علامات الرحمة التي تضمَن لصاحبها - بفضل الله تعالى - الجنةَ، وتُعتقه من النار؛ (موسوعة نضرة النعيم جـ 3 صـ 640).
أسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يجعل هذا العمل خالصًا لوجهه الكريم، وأن ينفَعَ به طلاب العلم في كل مكان، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
الالوكة