اتَّقُوا الرِّياءَ فإنَّهُ الشِّرْكُ الأصغر
.
الرِّياءُ من معاصي القلب ، وهو أَنْ يَقْصِدَ الإنسانُ بأعمال البِرِّ مَدْحَ النَّاسِ وإجلالَهم له .
والرِّياءُ يُحْبِـطُ ثوابَ العَمَلِ الذي قارَنه ، فإنْ رَجَعَ عن ريائهِ وتابَ أثناءَ العَمَلِ فما فَعَلَهُ بعدَ التَّوْبَةِ منه له ثوابُه . وأَيُّ عَمَلٍ من أعمال البِرِّ دَخَلَهُ الرِّياءُ فلا ثوابَ فيه سواءٌ أكانَ جَرَّدَ قَصْدَهُ للرِّياءِ أو قَرَنَ به قَصْدَ طَلَبِ الأجرِ من الله تعالى .
.
يقولُ الله تعالى في سورةِ البيِّنة (( وما أُمِرُوا إلَّا ليعبُدوا الله مُخْلِصِينَ له الدِّينَ حُنَفَاء )) .
معناه : فَرْضٌ على العبادِ أنْ يُخْلِصُوا عبادتَهم لله من الرِّياء ، فَرْضٌ عليهم أنْ يُخْلِصُوهَا لله وحدَه .
وفي سورة البقرة (( يا أيُّها الذينَ ءامنوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بالْمَنِّ والأَذَى كالذي يُنْفِقُ مالَه رِئاءَ النَّاس )) ..
معناه : إنَّ الذي يُنْفِقُ مالَه رِئاءَ النَّاس أيْ رِياءً وطَلَبًا للسُّمْعَةِ لا أجرَ له ..
وفي سورة النِّسَاءِ (( يُراءُونَ النَّاسَ ولا يَذْكُرُونَ الله إلَّا قليلا )) ..
وقال رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم :" أَوَّلُ النَّاسِ يُقْضَى لهمْ يومَ القيامةِ ثلاثة : رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ فأُتِيَ بهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا قال فما عَمِلْتَ فيها ؟؟، قال قاتلتُ فيكَ حتَّى اسْتُشْهِدْتُ قال كَذَبْتَ ولكنَّك قاتلتَ ليُقَالَ فلانٌ جَرِيءٌ فقد قيلَ ثمَّ أُمِرَ بهِ فَسُحِبَ على وَجْههِ حتَّى أُلْقِيَ في النَّارِ ، ورَجُلٌ تَعَلَّمَ العِلْمَ وعَلَّمَهُ وقَرَأَ القرءانَ فأُتِيَ بهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا قال فما عَمِلْتَ فيها ؟؟، قال تَعَلَّمْتُ العِلْمَ وعَلَّمْتُهُ وقَرَأْتُ فيكَ القرءانَ قال كَذَبْتَ ولكنَّك تَعَلَّمْتَ العِلْمَ ليقالَ عَالِمٌ وقَرَأْتَ القُرْءانَ ليقالَ قارئٌ فقد قيلَ ثمَّ أُمِرَ به فَسُحِبَ على وَجْههِ حتَّى أُلْقِيَ في النَّارِ ، ورَجُلٌ وَسَّعَ اللهُ عليهِ وأعطاهُ مِنْ أصنافِ المالِ كُلِّهِ فأُتِيَ به فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا قال فما عَمِلْتَ فيها ؟؟، قال ما تَرَكْتُ مِنْ سبيلٍ تُحِبُّ أنْ يُنْفَقَ فيها إلَّا أَنْفَقْتُ فيها لَكَ قال كَذَبْتَ ولكنَّك أنفقتَ مَالَكَ ليقالَ إنَّهُ جَوَادٌ فقد قيلَ ثمَّ أُمِرَ به فَسُحِبَ على وَجْههِ حتَّى أُلْقِيَ في النَّارِ " ..
رواه النَّسَائِيُّ في[(السُّنَنِ)/كتاب الجهاد]، والتِّرْمِذِيُّ في[(السُّنَنِ)/كتاب الزُّهد عن رسول الله]، واللَّفظُ للنَّسَائِيِّ ..
فالمرائي محرومٌ من الثَّواب ، وفوقَ ذلكَ عليه عقوبةٌ وعَذَابٌ في الآخرةِ إذا لم يسامحه الله . وزَعَمَ بعضُ الجُهَّالِ أَنَّ الشَّخْصَ إذا عَمِلَ حَسَنَةً مَعَ شخصٍ ثمَّ طَلَبَ منه الدُّعَاءَ فإنَّ ثوابَه يذهب . وهذا اعتقادٌ فاسدٌ باطلٌ غيرُ صحيح . . وزَعَمَ بعضُ الجُهَّالِ أَنَّ الذي يَتَصَدَّقُ على فقيرٍ يَنْقُصُ أَجْرُهُ إذا دَعَا له الفقيرُ . وهذا أيضًا اعتقادٌ فاسدٌ باطلٌ غيرُ صحيح .. فَمَنْ أَخْلَصَ نِيَّتَهُ لله تعالى وحدَه في أيِّ عَمَلٍ يحبُّه الله فلهُ بهِ عندَ الله تعالى ثوابٌ ، وأمَّا مَنْ لم يُخْلِصْ نِيَّتَهُ فليسَ له ثوابٌ مهما كانَ ذلكَ العملُ فيما يَرَى النَّاسُ كبيرًا وعظيمًا .
قال رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم :" إذا جَمَعَ اللهُ النَّاسَ يومَ القيامةِ ليومٍ لا رَيْبَ فيه نادَى منادٍ مَنْ كانَ أشركَ في عملٍ عَمِلَهُ لله أحدًا فلْيَطْلُبْ ثوابَه من عندِ غيرِ الله فإنَّ الله أغنى الشُّركَاءِ عن الشِّرْكِ " .. رواه التِّرْمِذِيُّ في[(السُّنَنِ)/كتاب تفسير القرءان عن رسول الله]..
هذا الحديثُ وَرَدَ في (صحيحِ مسلم) بلفظِ حديثٍ قدسيٍّ . ذلكَ أنَّ النبيَّ ، صلَّى الله عليه وسلَّم ، قال قال الله تعالى :" أنا أغنى الشُّركَاءِ عن الشِّرْكِ . مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فيه معي غيري تركتُه وشِرْكَهُ " .. أنظر[(صحيح مسلم)/كتاب الزُّهد والرَّقائق].
معنى الحديثَين واحدٌ ، وهو أنَّ مَنْ يعملُ عَمَلًا من أعمال الدِّينِ من صلاةٍ أو صيامٍ أو حَجٍّ أو صَدَقَةٍ أو جهادٍ أو قراءةِ قرءانٍ أو غيرِ ذلك فإنْ كانَ يَقْصِدُ بعملهِ هذا أنْ يمدحَه النَّاسُ أو يُنْظَرَ إليهِ نظرةَ الإجلالِ والتَّعْظِيمِ فلا ثوابَ له عند الله ولو نوَى إلى جانب ما نواه الثوابَ من الله ، إنَّما ثوابُه ما نواهُ من النَّاسِ ، وهو أنْ يمدحوه أو أنْ ينظروا إليه بعينِ الإجلال والتَّعظيم . هذا هو الرِّياء ، ويقالُ له الشِّرْكُ الأصغرُ ، وهو من أكبرِ الكبائر ، وهو المقصودُ بقول الله تعالى (( فَمَنْ كان يرجو لقاءَ رَبِّهِ فليعملْ عَمَلًا صَالِحًا ولا يُشْرِكْ بعبادةِ رَبِّهِ أحدًا ))[الكهف/110].. معناه ليتركِ الرِّياءَ ، الشِّرْكَ الأصغرَ ..
قال رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم :" اتَّقُوا الرِّياءَ فإنَّهُ الشِّرْكُ الأصغرُ " .. رواه ابنُ بَطَّال في شرحهِ على البُخَارِيِّ ..
ورِوايةُ أحمدَ في[(المسند)/مسند الأنصار]:" إنَّ أخوفَ ما أخافُ عليكم الشِّرْكُ الأصغرُ ، الرياءُ " ..
وعن يَعْلَى بنِ شَدَّادِ بنِ أَوْسٍ عن أبيهِ قال كُنَّا نَعُدُّ على عَهْدِ رسولِ الله أنَّ الرِّياءَ الشِّرْكُ الأصغرُ .. رواهُ الحاكمُ في[(المستدرَك)/كتاب الرِّقاق]وقال :" هذا حديثٌ صحيحُ الإسناد " .
.
ولا يجتمعُ الثَّوَابُ والرِّياءُ لحديثِ أبي داودَ والنَّسَائِيِّ بالإسنادِ الصَّحيحِ إلى أبي أُمَامَةَ قال : جاءَ رَجُلٌ إلى رسولِ الله ، صلَّى الله عليه وسلَّم ، فقال له :" يا رسولَ الله أَرَأَيْتَ رَجُلًا غَزَا يلتمسُ الأجرَ والذِّكْرَ مَا لَهُ ؟؟" .. قال :" لا شيءَ لَهُ " .. فأعادَها ثلاثًا ، كُلُّ ذلكَ يقول :" لا شيءَ لَهُ " .. ثمَّ قال له رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم :" إنَّ الله لا يَقْبَلُ مِنَ العَمَلِ إلَّا ما كانَ خالصًا له وما ابْتُغِيَ بهِ وَجْهُهُ " .. وجَوَّدَ الحافظُ إسنادَه ..
.
وعن جُنْدُبِ بنِ عبدِ الله بنِ سُفْيَانَ ، رضيَ الله عنه ، قال قال رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم :" مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ الله بهِ ومَنْ يُرائي يُرائي الله به " .. رواه البُخَارِيُّ في[(الصَّحيح)/كتاب الرِّقاق]..
ورَوَاهُ مسلمٌ من رِوايَةِ ابنِ عَبَّاسٍ ، رَضيَ الله عنهما ، بلفظ :" مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ الله بهِ ومَنْ راءى راءى اللهُ به " .. أنظر[(صحيح مسلم)/كتاب الزُّهد والرَّقائق]..
ومعنى " سَمَّعَ " ، بتشديدِ الميم ، أَظْهَرَ عَمَلَهُ للنَّاسِ رِياءً ..
" سَمَّعَ الله به " معناه فَضَحَهُ يومَ القيامة ..
وقولُه عليه الصَّلاةُ والسَّلام " مَنْ راءى " معناه مَنْ أَظْهَرَ للنَّاسِ العَمَلَ الصَّالِحَ ليَعْظُمَ عندَهم ..
" راءى اللهُ به " معناه أَظْهَرَ سَرِيرَتَهُ على رُؤُوسِ الخلائق .. معناه فَضَحَهُ ..
وعن أبي هُرَيْرَةَ ، رَضِيَ الله عنه ، قال قال رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم :" مَنْ تَعَلَّمَ عِلْمًا مِمَّا يُبْتَغَى بهِ وَجْهُ الله ، عَزَّ وجَلَّ ، لا يَتَعَلَّمُهُ إلَّا ليصيبَ بهِ عَرَضًا من الدُّنيا لم يَجِدْ عَرْفَ الْجَنَّةِ يومَ القيامة " ، يعني ريحَها .. رواه أبو داودَ في[(السُّنَنِ)/كتاب العلم]بإسنادٍ حَسَن .. معناه يتَعَلَّمُ العِلْمَ للسُّمْعَةِ ولكيْ يكونَ في أعينِ النَّاسِ عظيمًا .. وليسَ المرادُ أنَّه لا يَدْخُلُ الجَنَّةَ بالمرَّة ، بل بعدَ عذابٍ إنْ لم يَعْفُ الله عنه .. هذا هو المرادُ .. والمسلمُ لا بُدَّ أنْ يدخلَ الجَنَّةَ وإنْ أصابهُ قبلَ ذلكَ ما أصابه ..
ثمَّ إنَّ الذي يتقاعدُ عن العملِ الصَّالِحِ خَوْفَ أنْ يَقَعَ في الرِّياء هو ضعيفُ الهمَّة ، أمَّا قَوِيُّ الهمَّة فهو الذي يَكْبَحُ لِجَامَ نفسهِ عن الرِّياء ويثبُت على العملِ الصَّالح .
والحمدُ للهِ رَبِّ العالَمين