تؤكد الرؤية الإسلامية التربوية في كل يوم رسوخها وأحقيتها في أن تحتل منزلة الصدارة بين النظريات التربوية في العالم أجمع , بل منذ بدء الخليقة , كيف لا وهي التي استلهمت قواعدها وبنيانها من وحي لايأتيه الباطل من بين يديه ومن خلفه تنزيل من حكيم حميد
ومهما تغيرت ظواهر الواقع الحياتي والمعيشي , فإن الإسلام يعرض رؤيته النظرية قابلة للتطبيق والنجاح , إذ نظريته التربوية صالحة لكل زمان ومكان ولا يزال المنهج الإسلامي يحوي الكثير والكثير من العناصر والفروض الصحيحة الثابتة والتي يمكننا كل يوم استنباطها واستحداثها عبر دراستنا لمفردات هذا المنهج الإيماني الرسالي الذي اساسه القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة والذي علمنا كيفية تطبيقه هذا النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم
ومن فروع النظرية التربوية عموما ما يختص بالعقاب التربوي , وقد اختلفت فيه الرؤى وتباينت أمامه التفسيرات , وفي النظرية الإسلامية وضعت فرضية العقاب محاطة بضوابط واضحة وشرائط مبينة , فحين لاتفلح التنبيهات , ولا تؤثر القدوة , ولاتنفع الموعظة , ولا يعلم الصبر , فنحن أمام عملية حزم لازمة للتأكيد على الثوابت ورد الانحراف إلى السبيل القويم , والعقوبة ليست ضرورة لكل شخص . فقد يستغنى شخص بالقدوة وبالموعظة ، فلا يحتاج في حياته كلها إلى عقاب . ولكن الناس كلهم ليسوا كذلك بلا ريب . ففيهم من يحتاج إلى الشدة مرة أو مرات
وقد اختلفت النظريات التربوية في رؤيتها للعقاب كأسلوب تربوي مؤثر , وتباينت معالجتها له , وتقاطعت في بعض تفسيراتها حوله .
وتعد النظرية المثالية من أشهر الفلسفات التي فسرت مضمون العقاب , وتقوم هذه النظرية المثالية على أن وجود الأشياء الخارجية يتوقف على وجود ما يدركها , فإن انعدم الإدراك استحال فهم الأشياء ..
وفسرت هذه النظرية العقاب للأطفال اعتقادا منها أن الطفل لم يزل بعد غير قادر وغير ناضج , وبالتالي فعليه أن يطيع طاعة عمياء ويتصرف وفق قواعد خارجية موضوعة سلفا , دون أن يعرف لها معنى أو مغزى , وذلك باعتبار أن الراشدين وحدهم هم الذين يعرفون ما ينبغي أن يكون , ولأن الهوة سحيقة بين الأطفال والكبار.
ومن هنا كان للنظرية المثالية قسوة شديدة في الأخذ بالعقاب كأسلوب تربوي , إذ أن العقل عندهم لا يستقيم إلا مع قمع نشاط الجسم , وهذا لا يتم إلا بالعقاب البدني لإشعار الطفل بالعجز تجاه الخطأ , أو بالعقاب النفسي لإشعار الطفل بالإثم والذنب تجاه المخالفة .
ونستطيع أن نتبين فشل هذه النظرية في استخدام العقاب كأسلوب تربوي من جهات مختلفة , إذ إن المقدمة الأساسية لتلك النظرية هي مقدمة خاطئة لذاتها , لأن وجود الأشياء لا يتوقف على معرفتها , فالأعمى والأصم والغافل والساهي والنائم يعيش بين الأشياء , ثم ماذا عن الغيب والأشياء ا لعلوية والوحي وغيره , والذي لا يتعلق بالإدراك ؟ !
إن الصواب أن نقول : إن معرفة بعض الأشياء يتوقف على إدراكها وإدراك كينونتها , وبعضها الأخر تتوقف معرفته على التصديق بوجوده والإيمان بذلك .
كذلك نستطيع أن نلمس خطأ تفسير هذه النظرية في تفسير العقاب واستخدامه , فإن للطفل نفس وروح , وعقل وإدراك , يكافئ عمره وتجربته, ولا بد للعقاب أن يُستخدم استخداما علاجيا لا قمعيا .
نوع أخر من النظريات التربوية هي النظريات الواقعية تلك التي تقوم على أساس عقلي محض , أو طبيعي محض , فالتعليم عندهم هو الاهتمام بواقع الحياة , والواقع عندهم هو مصدر الحقائق , فبالتالي التربية عندهم تتمثل في إعطاء معلومات كاملة حول الواقع ..
وهؤلاء يفسرون العقاب على إنه سلطة وظيفية وسيطة بين المربي والطفل فيضعفون من قيمة العقاب بصورة مبالغ فيها , ويتحدثون عن كون العقاب حيوانية ولا إنسانية , وينادون إلى أن يحل محله الإقناع والمناقشة .
وهذه النظريات - التي يتبناها الغرب في كثير من الأحيان - , تبدو سلبياتها واضحة : فالإنسان ليس مجرد وعاء للعلم , ومعلوماته ليست مجرد فهم للوجود , وإنما الإنسان روح تحتاج إلى غذاء , ونفس تحتاج إلى تزكية , ومشاعر تحتاج إلى تقنين, كما أن العقاب ليس بالضرورة شئ حيواني أو لا إنساني , وإنما قد يكون له أثر إيجابي في كثير من الأحيان إذا اُحسن استخدامه .
وأما التصور الإسلامي : فهو تصور وسطي للكون والحياة والإنسان , فهو يرى أن التربية هى : " عملية تقويم لأخلاق الإنسان وعاداته و طباعه وأفكارة ليكون تعامله مع ما يحيط به تعاملا نموذجيا راقيا ويوثق في ذاك الوقت علاقته بربه وخالقه" .
والعقاب في الإسلام إنما هو يقوم على هدف التقويم والسعي لإعادة السلوك المائل إلى استقامته , ولا يعتمد الإسلام العقاب بطريقة همجية , وإنما يؤكد على تناسب أنواع العقوبة مع أنواع الخطأ , والتي تبدأ من عقوبة النظرة , والكلمة , والتوبيخ , إلى بعض العقوبات الأشد قسوة , كالضرب الخفيف , والمنع من الإنفاق وغيره ..
ووضعت الشريعة الإسلامية أصولاً لتطبيق العقاب على الطفل , بتهيئة الجو المناسب لتعليمة وتربيته إبتداءً , ثم أمرت بالرحمة والتسامح والعفو , ثم أمرت بالتفهيم والتعليم للخطأ , وأمرت بتعريف العقوبة مع الخطأ , وأمرت بإقناع الطفل لاعتبار سلوكه سلوكا خاطئا .
وأما العقاب العام الذي يوقع على الكبار كذلك فلا ينظر الإسلام للعقوبة على اعتبارها أول خاطر يخطر على قلب المربي ولا أقرب سبيل . فالموعظة هي المقدمة ، والدعوة إلى عمل الخير ، والصبر الطويل على انحراف النفوس لعلها تستجيب .
قال سبحانه : " ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين ؟ ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن ، فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم " , " واصبر على ما يقولون "
ولكن الواقع المشهود أن هناك من لا يصلح معهم ذلك ، أو يزدادون انحرافا كلما زيد لهم في الوعظ والإرشاد . وليس من الحكمة أن نتجاهل وجود هؤلاء أو نتصنع الرقة الزائـدة فنستنكر الشدة عليهم , ولنحذر أن نجعل من وسيلتنا في تربية النفوس أن نجاريها في انحرافاتها ونتلمس لها الأعذار . فان ذلك نفسه يبعث على الانحراف ويزيد عدد المنحرفين ! ومن هنا كان لابد من الحزم في التربية لصالحهم هم أنفسهم قبل صالح الآخرين . ومن الحزم استخدام العقوبة أو التهديد باستخدامها في بعض الأحيان .
والمنهج القرآني في التخويف من العقاب حين يعالج ذلك اتبع جميع وسائل التربية فلم يترك منفذا في النفس لا يصل إليه . إنه يستخدم القدوة والموعظة ، والترغيب والثواب ويستخدم التخويف والترهيب بجميع درجاته من أول التهديد إلى التنفيذ . فهو مرة يهدد بعدم رضاء الله وان كان له فعله الشديد في نفوس المؤمنين : " ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ، ولا يكونوا كالذين أُوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون . " , ومــرة بغضـب الله , ومرة بحرب الله ورسوله إن لم يترك الربا ، ومرة بعقاب الآخرة ، ومرة بالعقاب في الدنيا , فهي درجات متفاوتة لأصناف من الناس .
والعقاب في المنهج الإسلامي يتلازم مع إنشاء الدافعية النفسية كخلفية له , فهو إن أخطأ في حق دينه أو نفسه فهو عاص يجب أن يتوب , وإن كان خطؤه يستحق عقوبة فيلزم أن تكون العقوبة مصحوبة بتوبة واعتراف بالجرم والخطأ , ومن ثم يكون للعقوبة أثر التطهير , ومن الأعمال في الإسلام برغم كونه مخالفة ماليس عليه عقوبة دنيوية وهو كثير , ويترك فيه المرء لقلبه وقدرته على تطويع نفسه ليطهر نفسه بالعودة لربه .
إن هذا كله يجعل العقاب التربوي في ا لنظرة الإسلامية يتميز بالتكامل والوسطية وشمولية النظرة .
ومن ثم كان نجاح العملية العقابية التربوية في الإسلام نجاحا مرموقا سواء على مستوى الأطفال أو الكبار , حيث لا يتخرج المرء مثاليا لا يرى الحقائق , ولا واقعيا لا يبالي بالمشاعر , بل يراعي كونه روح وجسد , ويدين بالعبودية والولاء لله وحده , وبالتبعية للوحي المنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم , الذي يضئ له طريقه راشدا حكيم