وطأت أقدامنا بلاداً لم تخطر يوماَ على البال .. وما كان في الظن أن نرتادها ونحن في الحياة .. تلك الرحلة التي أزالت كل الثوابت الراسخة في الإعتقاد .. لقد أدخلتنا التجربة في حيرة قبل الممات .. فكم كنت واهماً في حياة كنت أقول أنها هي الحياة .. وكدت أن أرتحل عن الدنيا وأنا أفتقد الكثير والكثير من معطيات هي حق وملكية للأحياء .. تلك المعطيات المتاحة المرتاحة للآخرين دون المن والأذى .. وقد أفرط العمر في الغفلة حتى نفذ الرصيد هضماً وحرماناً .. وذاك مصير محتوم ومختوم في جبين البعض من أبـرياء الناس في العالم .. ذلك الحرمان الذي يواكب العمر من المهد للحد .. حيثيات وحقوق تمثل الأنفاس شهيقاً وزفيراً .. هي الفرض والأحقية لكل متواجد في الوجود .. لقد خدعتني مطية الجهل أن أمتطي حصان الغفلة والضياع طوال العمر .. كما خدعتني فرية الآخرين بأن الحياة تتماثل في أرجاء الأرض بنفس الوتيرة .. فأفنيت العمر في هامش الحياة وأنا أظن أن ذلك هو الصواب والحقيقة .. كنت أمارس حياة زيف وضياع وأهدر العمر في الهباء .. مجرد أوهام ظلت تعشش في خيالي .. البعض بل الأكثر من الناس في هفوة يتصور بأن حياة البشر في الكون تتماثل في الكم والنوع والحجم .. وبمقدار يراعي العدل والقسط .. ولكن تلك فرية تناقض الحقيقة جملة وتفصيلاَ .. وتؤكد بأن البون شاسع بين حياة أناس وأناس . ........... البداية قد نمت في أرحام الأحقاب السحيقة .. حيث ارهاصات الأجداد الذين ضلوا السبـيل عند الأجتهاد .. وكذلك كان للأقدار دور حين أوجدتنا في كنف الظلال دون الشعاب .. ورويداً ثم رويداَ كنا في أحضان العالم الثالث .. ذلك المسمى الذي يمثل قمة المهالك .. رمية تجلب الويلات والحسرات كما تجلب الغفلة في أوهام تواكب الأعمار.. ومع ذلك فهي شعوب العالم الثالث التي تدعي ما لا تملك من الحظوظ في الحياة .. وتبني حساباتها بغرور خارج نطاق العقل والتفكير.. ولو أنها أدركت حقيقة الحياة لدى الآخرين لما لبثت في العذاب المقيم .. تلك التجربة الفريدة التي أكدت لنا بأن الأمة الثالثة لا تعيش حياة السجية الرغدة كحال الأمم في بلاد التقدم والتحضر!!.. والأمر بـرمته أعظم وأكبـر من ملامة تطال الحكام والسلطات في بلاد المظالم .. أو من عتاب يطال القائمين بأمور الحال والأحوال .. أو من حجج تدين المفسدين فوق وجه الأرض .. بل هو ذاك الحصاد لثمار مذاقها العلقم كانت هدية الأجداد لنا .. هؤلاء الأجداد الذين أخفقوا كثيراً حين اختاروا المكان والزمان .. حيث رضوا بالتواجد عند مسقط الأرحام .. وكانت طموحاتهم هي تلك المتواضعة بمقدار الضحالة .. طموحات واهية لا تتعدى مقادم المناخر .. لقد رضوا بالقليل من حياة القناعة التي تكفي حتى حافة القبور.. ثم تمسكوا بتلك الفرية الخادعة حين أستكانوا خضوعاً وخنوعاَ لشعارات التضحية للوطنيات الزائفة .. هم هؤلاء الأجداد الذين كانوا الأساس في بوادر الهلاك .. ولكن كما يقال فإن دوام الحال من المحال .. فقد دارت الداوئر لتنسف الثوابت .. حيث أخيراً تجلت إهلالات العصر .. عصر التمرد عن المفاهيم الموروثة .. فظهرت أجيال الحداثة .. وهي أجيال تمتاز بـنوع من الحنكة والفراسة والمهارة العقلية الفائقة .. أجيال تسلقت مفاهيم العصرنة ولم تتمسك عمياء بمفاهيم الأجداد والقدماء .. حيث نزعات الوطنية الزائفة .. وقد أصبحت تلك النزعات غير ذي جدوى وغير ملحة في عصر الحداثة .. فهي مفاهيم بدأت تذوب في بـوتقة العولمة والإلتفاف .. كما بدأت تتنكر للثوابت والجذور .. وتلك الرحلة لبلاد الغربة قد أوجدت سانحة طيبة حيث كان اللقاء مع الإخوة والأبناء والأحفاد .. زمر من أجيال العصر التي تمردت عن أفكار الماضي بـعقليات سليمة وصحيحة .. أجيال شابة أستطاعت أن تنال قسطاَ من حياة الحداثة والرفاهة .. تلك الحياة المتنعمة التي لم تكن يوماَ متاحة في خواطر الأجداد .. فيا لها من تجربـة تنوء بـجرأة المهرة والأذكياء !! ................ تلك بلاد من بلاد الله .. بعيدة وشاسعة ومستحيلة الأبعاد والمسافات .. وفي نفس الوقت هي صعبـة المنال وصعبة اللحاق .. قد حبـاها الله بكل روافد الهناء .. وأذهب عنها ملزمات الدموع والدماء .. ولذلك فان الطائرة الميمونة كانت تجد وتلح بالإسراع نحوها .. تلاحق الشمس نحو الغروب لساعات وساعات .. وهي تريد فجراً أبى أن يتجلى .. وقد طال الليل حتى أصبح ذلك السرمدي .. فقلت في نفسي أن تلك البلاد قد لاتكون فيها شمس !!. وأخيراً خاب ظني وتجلت ملامح الفجر .. ويا له من فجر !!. بلاد حباها الله جمالاَ وأماناً ورخاءً .. الطبيعة فيها أختارت نسقاً يواكب سحر الخيال والجمال .. إنسانها غير الإنسان .. وأشجارها غير الأشجار .. وطيورها غير الطيور .. وعصافيرها غير العصافير .. وأجوائها غير الأجواء .. وتعاملات الناس فيها هي تلك المقدسة التي تمثل القمة في المثالية والأخلاقيات .. تعاملات تنكر سواقط الأمور وتوافق الإسلام في جوهرها نهجاَ وقولاً وفعلاً .. وقد يرى البعض أن الأمم في تلك البلاد ليست هي بـتلك المسلمة المتدينة .. ولكن رغم ذلك فإن تعاملات الناس فيها توافق نهج السماء دقة وحرصا .. فهي شعوب تصدق القول حين تقول .. وتتحرى الأمانة والعدل والإنصاف حين تحكم وتجول .. ومن سخرية الأحوال في بلاد الإسلام أن نفتقد مثل تلك السلوك الاسلامية القويمة في تعاملات الناس .. ثم نجدها متوفرة وصادقة في بلاد الإلحاد !.. في الماضي كنت أتساءل في حيرة كثيراً عن الأسباب التي أجبرت شعراء المهجر أن يغادروا الجنان في بـلاد الشام ؟. فإذا بتلك التجربة تؤكد لي بـأنهم كانوا على الحق في اختيار الزمان والمكان .. لقد طلبـوا الجديد من الحياة في الدنيا الجديدة فكان لهم ما أرادوا .. حيث علموا مكمن الأسرار في دنيا الأسرار .. وقد أثبتوا أنهم أهل مهارة في اختيار الجنان . ........ ( دالاس ) مدينة في الدنيا الجديدة .. توحي بإخلاص حين تقول ما تريد أن تقول .. وهي توجز القول دون اسهاب أو رياء .. وتصدق حين تبدي الدهشة والشفقة على أمم مازالت تلبس الأكفان .. كما تتعجب على أحوال أمم مازالت تسكن الخيام !. وهذا شاهد يقف عند حاجز البرزخ ليقول حروفاَ للحقيقة والتايخ .. وهي حروف أبذلها حتى أسقط عن كاهلي ثقل الأمانة .. وربـما ذات يوم قد تحدث هذه الحروف أثراً في جبين التاريخ ليفصح بكل صدق وأمانة . |