جلست وحيداُ في زاوية التأمل .. ألتمس وأنقب الأسرار في أعماق البشر .. فهالني الأمر بقدر أفقدني العقل .. ولقد أبحرت عميقاُ وأنا أرجو الوصول إلى سواحل الحقيقة .. وكنت أبحث عن ترياق يشفي الداء في سلوكيات الإنسان .. وهي سلوكيات قد تشوهت كثيراُ عبر سنين وحقب .. ثم وقفت حائراً وعاجزا في تفسير وتبرير أسباب العلل والخلل .. فكان لا بد من إقرار باليأس والفشل .. فهو ذلك الإنسان الذي يماثل الطلاسم جدلاُ حين يوضع تحت التمحيص والمجاهر .. وقد حير الأولين والآخرين بسلوكياته تلك المفرطة في الجدل والغرابة .. أجتهدت كثيراُ ثم نالتني أخيراُ حالة اليأس والضجر .. كما وأنني لم أجد سنداُ يؤكد السلامة في نوايا البشر .. بل وجدت تلك الحماقات التي تلصق بالأجيال تلو الأجيال دون مرحلة تضع حداُ لحالات الفشل .. وقد أصبح الإنسان هو ذلك المصاب بداء التمسك والعناد والتطرف .. بجانب الإستماتة الأعمى للأفكار والمعتقدات والفكر .. وذلك دون سانحة تعني المراجعة وإعادة النظر لكشف الصواب والخطأ .. وقد أصبحت سمة الإنسان في هذا العصر هي العناد والإصرار بالمواقف جدلاُ دون الهوادة .. فالإنسان قد أصبح ذلك الكائن الفالت المتعنت الذي يتخذ العناد سلاحاُ في كل مسارات الحياة .. وهو بمواقفه تلك المتعددة المترددة يماثل الهلام إضطراباُ وجنوناُ .. فإنسان العصر لا يعرف الثبوت والرسوخ بالقدر الذي يجاري موازنات العقل والمنطق السليم !. وهو في نفس الوقت ذلك الكائن المستبد المتطرف بآرائه وأفكاره مهما كانت معدلات الخطأ أو الصواب .. والشائبة الكبرى تتمثل حين يدعي البعض العلم والمعرفة بغيرعلم أو معرفة .. وقد يمتطي المكابرة فرساُ حتى يثبت فرية المزاعم .. وقد يتمادى في ضلاله وحماقاته لمجرد المكايدة والمكابرة والعناد .. وقد يكون لفطرة الإنسان دور حين يميل لإثبات المكانة والمواقف الشخصية على حساب الحقائق .. وعند ذلك يقع المحك الذي يغم الصدور .. وقد تعددت الصور في أحوال اليوم .. حيث أصبحت الساحات مليئة بالتناقضات الفكرية المنفرة للنفوس .. ونجد صيحات التطرف والتمسك تملأ الأرض ضجيجاُ .. وكلها صيحات خلف سياج الفرية والضلال .. وذلك البعض يظل سجيناُ لأفكاره الخاطئة حتى مشارف القبور .. وتمثل ثمار تلك الأفكار المتطرفة خراباُ ودماراُ لسلامة المجتمعات .. وقد كثرت تلك الجماعات التي تحمل أفكار التطرف في هذا العصر .. وهي كالمهرالجامح الذي يفقد الكوابح في لحظات الطيش والتهور .. وفي إعتقادي الراسخ أن الأغلبية من أمم اليوم تتمثل في جماعات تحتمي بسياجها الفكرية الخاصة .. ثم تذود عنها باطلاُ أو حقاُ مما يسبب الشتات والتفرقة بين خلايا المجتمعات .. وهؤلاء نجدهم يرتكبون الحماقات بالتمسك والتطرف .. ولا يجعلون المرونة سبيلاُ بالأخذ والعطاء .. وهي تلك المرونة التي تماثل المنخل في إسقاط الطالح وإبقاء الصالح .. ونعت التطرف قد يطال كل أبناء آدم إلا الأنبياء والرسل .. فهؤلاء على هداية من الرحمن .. وقد صدق الخالق العليم حين وصف الإنسان بأنه كان أكثر شئ جدلاُ .. ويتجلى ذلك الجدل عند كل ناصية من نواصي الحياة .. كما يتجلى عند مناقشة فكر من الأفكار أو مداولة نظرية من النظريات والمعتقدات .. حتى ولو كانت تلك المعتقدات هي رسالة السماء .. فذلك الإنسان من صفاته الغريبة أن يشوه ويربك الحسابات .. ويبدل المعاني بالقدر الذي يرضي طموحاته .. وتلك الربكة تكون كبيرة وخطيرة حين يتعلق الأمر بالدين والمعتقدات .. حيث نجد أن البعض يصول ويجول في متاهات الدين والعقيدة وهو أجهل الجهلاء .. كما تفشت حالة الإفتاء بغيرعلم في معظم الأرجاء .. فنجد جماعات تسرف وتسهب بالإفتاء دون فقه أوعلم أو دراية .. وبالتالي فإن الأرض قد ملئت بتناقضات الأحكام الشرعية التي تناقض بعضها البعض .. وقد تضاربت إلإفتاءات في الأحكام .. كما تضاربت في رميات التكفير والتنصير والتمجيس .. هؤلاء يحللون أحكاماُ ثم يزعمون أنها من الكتاب والسنة .. وهؤلاء يحرمون نفس الأحكام ثم يزعمون أنها من الكتاب والسنة .. هؤلاء يكفرون من لا يواليهم في الطريقة والمنهج .. ثم يبيحون القتل والدماء .. وقد يأتون بأدلة ما أنزل الله بها من سلطان .. وأخرون يرون العكس في أحكام هؤلاء .. ويرون أن التكفير في حد ذاته كفر وجريرة كبيرة .. صور من الإفتاء تفقد المصداقية لدى علماء وفقهاء اليوم .. بل تشكك في سلامة المنهج الإسلامي في حد ذاته .. وألسن الحال لدى الناس بدأت تسأل في حيرة أيهم على الحق والصواب وأيهم على الباطل والضلال ؟؟ .. وقد بلغ الأمر حداُ يفوق كل التخيلات .. حيث يفتي البعض بحكم يناقض الكتاب والسنة ويحلل قتل النفس التي حرم الله بحجة الإختلاف وعدم الموالاة والإتباع .. أو بفرية التكفير والإلحاد بغير دليل وبرهان .. أو بحجة الإختلاف في الأحكام الشرعية وعدم التوافق والتطابق .. وقد تفشت فرية التكفير والإقصاء في هذا العصر بدرجة التطرف والجنون .. وهنالك من يزعم عدم أحقية الآخرين في حمل كنية المسلم .. ويرى أنه هو الوحيد الأحق الذي يجوز له أن يحمل ذلك الاسم ! .. وهنا نجد أن الأمر يخرج من نطاق الترويج للدين الحنيف إلى نطاق التشويه بالدين .
ــــــــــــ
الكاتب السوداني / عمر عيسى محمد أحمد
الكاتب السوداني / عمر عيسى محمد أحمد