أثر الجهاد في رمضان يشهد التّاريخ الإسلاميّ أنَّ أغلب المعارك والغزوات الإسلاميّة في شهر رمضان كانت تُكلَّل بالفوز والانتصار. من هنا حرص الرسول الكريم - صلَّى الله عليه وسلَّم - أن تكون بعضُ غزواته في شهر رمضان؛ تقربًا إلى الله - عزَّ وجلَّ - وإرشادًا للمسلمين في سبيل الاسـتعداد لاحتمال الشّـدائد في الجهاد، وتجتمع -عند المجاهد الصّائم- مجاهـدةُ النّفس ومجاهدةُ الأعداء ؛ فإنِ انتصر قطف انتصارين: هما الانتصار على رغباتِ النّفس، والانتصار على الأعداء، وإذا استُشْهِد لقِيَ اللهَ - تعالى- وهو صائم، وتحقَّق فيه قولُ الله تبارك وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} .[١][٢] أشهر الغزوات الإسلاميّة في شهر رمضان ليس من شأن الصّيام أنْ يُقعد عن العمل، فقد كان من قَدَر الله لهذه الأمّة أنْ تخوضَ معظمَ معاركها سواء في عصرِ النّبي -صلّى الله عليه وسلّم- أو بعده في شهر الصّيام، والصّيام من أضخم الأعمال، فكيف يليقُ بأمّة هذا حالها أنْ تعدّ شهر الصّيام شهر الكسل والدّعة والرّاحة، وإعلاء لقيمة الجهاد على ركن الصّيام نفسه، فقد كان النّبي -صلّى الله عليه وسلّم- يأمر أصحابه -رضي الله عنهم- بالفطر إذا دنوا من عدوّهم؛ ليتقوّوا على قتاله، والفطر عند اللّقاء من أسباب القوّة، والثّابت أنّ الغزوات الإسلاميّة في شهر رمضان هما غزوتان لا ثالثة لهما: غزوةُ بدر الكبرى، وفتحُ مكة. غزوة بدر الكبرى خرج المسلمون بقيادة رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - في السّابع عشر من رمضان من السّنة الثّانية للهجرة، ليعترضوا قافلة لقريش، يقودها أبو سفيان، ولكنّ أبا سفيان غَيّرَ طريقه إلى السّاحل، واستنفر أهل مكّة، فخرجوا لمحاربة المسلمين، والتقى الجمعان قرب عين بدر. ونصرَ اللهُ رسولَه والمؤمنين رغم قلّة عددهم وعدّتهم مقارنة بالمشركين، وقد ارتفعت معنويّات المسلمين بهذا النّصر، وعلت مكانتهم عند القبائل التي لم تُعلن إسلامها بعد، واهتزّت قريش في أعماقها، وخسرت كبار صناديدها وأعمدة الكفر فيها، وأخذت تعدّ للثّأر والانتقام. وخلال سنة تحقّقت للمسلمين في المدينة عوامل أمن خارجيّة وداخليّة، فقبائل غطفان وسليم التي كانت تعدّ لمهاجمة المسلمين بلغها انتصار المسلمين في بدر وتحرّكهم بعد ذلك لضربها، فخافت، وتركت ديارها، وخلّفت غنائم كثيرة للمسلمين، كما أجلى المسلمون بني قينقاع إحدى قبائل اليهود لكيدهم بالمسلمين وعدوانيّتهم. فكانت تلك الغزوة حدًا فاصلًا بين الحقّ والباطل، وبعد تحقّق الانتصار في هذه الغزوة أصبح للمسلمين قوّة لا يستهان بها في أعين الكفّار يحسبون لها ألف حسابٍ ولا يجرؤون على تجاهلهم، بعد أن كانوا مستضعفين لا ينظر إليهم، بل ويُستهان بهم.[٣] فتح مكة فتح مكة أو الفتح الأعظم من أعظم الغزوات الإسلاميّة في شهر رمضان. والدّافع لتلك الغزوة نقض قريش لصلح الحديبيّة الذي كان بينهم وبين المسلمي، خرج -صلّى الله عليه وسلّم- في العاشر من رمضان من السّنة الثّامنة للهجرة في عشرة آلاف مقاتل، وعندما أصبحوا على مشارف مكّة، كان أبو سفيان يتجسّس الأخبار خارج مكّة ، فلقيه العبّاس، ونصحه بأنْ يأتيَ معه ليطلب له الأمان من الرّسول، فجاء معه، ولمّا دخلا عليه قال الرّسول الأمين مخاطباً أبا سفيان: "ويحك يا أبا سفيان! ألم يأنِ لك أنْ تعلم أنْ لا إله إلا الله؟.. ألم يأنِ لك أن تعلم أنّي رسول الله؟.. قال: فشهد بشهادة الحقِّ وأسلمَ.".[٤] وعندما وصل الرّسول إلى مكّة، وكان قد قسّم الجيش إلى عدة أقسام لدخولها، نادى أبو سفيان في أهل مكّة: "يا أهل قريش إنّ محمداً قد جاءكم بما لم يأتكم به من قبل، فمن دخل بيتَ أبي سفيان فهو آمن، ومن دخل بيته فهو آمن، ومن دخل المسجدَ فهو آمن".[٤] فهرع النّاس إلى بيوتهم وإلى المسجد وإلى بيت أبي سفيان. فدخل الرّسولُ وأصحابُه مكة من جميع جهاتها مكبّرين مهلّلين، ولم يتجاوز قتلى هذا الفتح من الطّرفين عشرات قليلة بسبب الاستعدادات الحربيّة النّاجحة التي اتّخذها النّبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- لهذه المعركة، وأقبل الرسول إلى الحجر الأسود فاستلمه ثم طاف بالبيت، وكانت في يده قوس يطعن بها الأصنام المنصوبة حول الكعبة وهو يردّد قوله تعالى: "وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا".[٥] ثم أمر بلالًا أنْ يصعد فيؤذّن للصّلاة على ظهر الكعبة وقريش تسمع، لتتحوّل مكّة إلى حاضرة إسلاميّة جديدة للدّولة النّاشئة