نعم، هذا مسجد قباء، أول مسجد بني في الإسلام.
يا لها من ذكريات!
تتهادى على مسرح النفوس.
ريا الحكايا.
وندى الحنين.
وصهيل الزمان.
وزئير الصحراء.
والسراب يلوح، والظلال تجيء وتروح.
ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقترب من المدينة.
وهذا مستشرف في أعلى النخلة يصيح:
يا أهل المدينة، هذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد وصل.
فتطير إليه قلوب المؤمنين، وتستنفر جموع المهللين المرحبين، بتشريف خير المرسلين.
وتخفق القلوب شوقًا وحنينًا إلى لقائه - صلى الله عليه وسلم -، وتستقبله الجواري بالدفوف:
طلع البدر علينا من ثنيات الوداع وجب الشكر علينا ما دعا لله داع أيها المبعوث فينا جئت بالأمر المطاع جئت شرفت المدينه مرحبًا يا خير داع |
ويتوقف الزمان عند هذا المكان، ليشاد فيه أول مسجد في تاريخ الإسلام والمسلمين.
وصل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى هذا المكان، وأسس هذا المسجد، فكان هو أول من وضع حجرًا في قبلته، ثم جاء أبو بكر بحجر فوضعه، ثم جاء عمر بحجر فوضعه إلى حجر أبي بكر، ثم أخذ الناس في البنيان.
عن الشموس بنت النعمان قالت: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - حين بنى مسجد قباء، يأتي بالحجر قد ألصقه إلى بطنه فيضعه، فيأتي الرجل يريد أن يقلَّه فلا يستطيع، حتى يأمره - صلى الله عليه وسلم - أن يدعه ويأخذ غيره.
وما زال البناء يرتفع، والصحابة الكرام كخلية النحل، عملًا دائبًا، تعلو وجوههم الفرحة والابتسامة، وهم يعملون بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حتى اكتمل بناء هذا المسجد الذي أسس على التقوى.
وقد أثنى الله تعالى على أهل قباء بقرآن يتلى إلى يوم القيامة، فقال جل شأنه: ﴿ لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ ﴾ [التوبة: 108].
وقد جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لهذا المسجد خاصية تفرد بها، فقد كان يزور قباء يوم السبت، وصارت تلك عادة أهل المدينة، حيث يذهبون إلى مسجد قباء يوم السبت للصلاة فيه، حتى يومنا هذا.
لهذا المسجد فضيلة ذكرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال (من تطهَّر في بيته، ثم أتى مسجد قباء، فصلى فيه صلاة، كان له كأجر عمرة) قال محدث العصر الشيخ ناصر الدين الألباني: حديث صحيح.
يقع هذا المسجد في جنوب غربي المدينة، ويبعد عن المسجد النبوي حوالي 5 كيلو مترات، فيه بئر تنسب إلى الصحابي الجليل أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه، وفي هذا المكان مبرك الناقة.
أترى هذه المآذن؟ كل مئذنة تقص عليك قصة أو حكاية، أربع مآذن، أخوات تسمر مع الدجى وتناجي النجوم في وقت السحَر.
وتليفت إلى قباب المسجد، هذه القباب تشعرك بأنها تخيم عليك بظلها الظليل، كأنها أم تحنو على أطفالها.
وفي تناغم المآذن مع القباب، يرتفع صوت كأنه مزمار من مزامير داود عليه السلام يتهادى مع تموجات الأثير في الليل الساجي والليل قد عسعس والصبح قد تنفس ليستقبل يومًا جديدًا، وفوجًا جديدًا من المحبين المشتاقين لهذا المسجد، يتهادى صوت المؤذن، فتشعر أن الأرض صعدت إلى السماء، أو أنها أصبحت ذات صلة بالسماء.
أترى هذه النخلات كيف تتمايل مع الريح متهامسة، تقص الواحدة على الأخرى حديث جداتهن من النخيل اللواتي شهدن مقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما يزال رنين الأناشيد في أسماعهن تنقله عبر الأجيال، تسمعه الآن في حفيف الريح، غضًّا طريًّا من حناجرَ ذوَّبها الحنين.
يا لها ذكريات تثير مكامن الشوق في شغاف القلوب المؤمنة.
اللهم ارزقنا زيارة المدينة المنورة، والصلاة في المسجد الشريف، والسلام عليه - صلى الله عليه وسلم -، وارزقنا الصلاة في مسجد قباء يا أرحم الراحمين.