هي من أبرز مطاعن مفكري الغرب ضد الرسول، وقد تشككوا في أسباب محاربة الرسول لليهود ومن ثم إجلائهم عن المدينة، ولكن الوقائع تثبت من الوجهة العقلية والشرعية كيف كان المصطفى صلى الله عليه وسلم عادلاً في حكمه وتصرفه، إزاء ما فعلوا وغدروا بالمسلمين.
كثير من كتابات المستشرقين ومطاعنهم كانت موجهة نحو ما فعله الرسول مع اليهود من: محاصرة، وطرد، ونفي، وأسر، وسبي، وقتل. وأبرز هؤلاء المستشرقين كان متأثرًا بما بثه اليهود من دعاية مضادة ضد الإسلام؛ فيكون من المفيد التعرض بشكل تفصيلي بعض الشيء لغزوات الرسول - صلى الله عليه وسلم - ضد اليهود، وما حدث فيها. وهذا يكون وشيج الصلة بالمبحث السابق عن التعامل مع غير المسلمين، فهو يوضح بجلاء نماذج تفصيلية لتعامل الرسول مع غير المسلمين بشكل عام، واليهود بشكل خاص في الحرب، فلم يكن الأمر شهوة للقتل والانتقام، وطمعًا بما في أيدي اليهود من مال وأرض وسلاح، بقدر ما كان إحقاقًا للعدل، فلا يشترط أن تكون الرحمة مقتصرة فقط على العطف والشفقة، وإنما الرحمة مرتبطة في الأساس بالعدالة، ومن العدالة معاقبة الغادر والظالم وناقض العهود. وهذا ما سنستعرضه من خلال عرض أحداث الغزوة من واقع كتب السيرة الموثقة، ومن ثم مناقشة ما حدث على مستوى: الأسباب، والنتائج، والدلالات.
محاربة بني قينقاع وإجلاؤهم:
وقد كانوا أشجع اليهود، ولديهم حي خاص منهم في داخل المدينة، وكانوا يعملون صاغة وحرفيين، ويملكون آلات الحرب، وقد قاموا باستفزارات كثيرة ضد المسلمين، منها السخرية من المسلمين إذا دخلوا سوقهم، والتعرض للنساء المسلمين، وقد صبر الرسول والمسلمون على أذاهم، بل وتمادوا بأن تحدوا الرسول، وقد نصحهم الرسول بعد غزوة بدر بقوله: يا معشر يهود أسلموا قبل أن يصيبكم مثل ما أصاب قريشا. فقالوا له: يا محمد، لا يغرنك من نفسك أنك قتلت نفرًا من قريش، كانوا أغمارًا لا يعرفون القتال، إنك لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس وأنك لم تلق مثلنا. وقد صبر عليهم الرسول في ذلك [1].
وكانت المواجهة، بأن ذهبت امرأة من المسلمين إلى سوقهم لبيع شيء لديها، فرادوها على كشف وجهها، فأبت، فربط أحدهم طرف ثوبها إلى ظهرها، فلما وقفت انكشفت سوأتها، فضحكوا منها، فصاحت، فأسرع رجل من المسلمين لنصرتها فقتل اليهودي، فاجتمع عليه اليهود فقتلوه. ثم وصل الخبر إلى الرسول في المدينة المنورة، فحاصرهم الرسول خمسة عشر يومًا، ثم أجلاهم إلى الشام، وقد قبل وساطة رأس المنافقين عبد الله بن أبي بن سلول فيهم، وكان قد أسلم قبل نحو الشهر، فعامله بالمراعاة، ووهبهم له، وقبض منهم الرسول أموالهم[2].
إن الموقف يدل على خسة أخلاقية عظيمة من اليهود تتمثل في: تحديهم للرسول علانية بالقتال، وسخريتهم من قدرات المسلمين القتالية رغم انتصار المسلمين في بدر، ثم تعمدهم الاستهزاء بالمسلمين نساء ورجالا، وأخيرًا ما فعلوه مع المسلمة؛ إن جريمة هتك العرض أشد من القتل، فاستحقوا ما لقوا.
محاربة " بني النضير " وإجلاؤهم:
لقد أجلى الرسول صلى الله عليه وسلم بني النضير لأنهم غدروا به، وما حدث أنه صلى الله عليه وسلم خرج إلى بني النضير في دية القتيلين من بني عامر اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضمري، للجوار الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عقد لهما، وكان بين بني النضير وبني عامر عقد وحلف. فلما أتاهم رسول الله، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني النضير يستعين بهم في دية هذين القتيلين من بني عامر اللذين قتلهما عمرو بن أمية للعهد الذي كان صلى الله عليه وسلم أعطاهما، وكان بين بني النضير وبين بني عامر عهد وحلف، فلما أتاهم صلى الله عليه وسلم قالوا: نعم يا أبا القاسم نعينك على ما أحببت. ثم خلا بعضهم ببعض فقالوا: إنكم لن تجدوا الرجل على مثل حاله هذه - ورسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنب جداًر من بيوتهم قاعد - فمن رجل يعلو على هذا البيت فيلقي عليه صخرة ويريحنا منه؟ فانتدب لذلك عمرو بن جحاش بن كعب، فقال: أنا لذلك، فصعد ليلقي عليه صخرة كما قال، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه، فيهم: أبو بكر، وعمر، وعلي.
فأتى رسول الله الخبر من السماء بما أراد القوم، فقام وخرج راجعاً إلى المدينة، فلما استلبث (بقي) النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه، قاموا في طلبه فلقوا رجلاً مقبلاً من المدينة فسألوه عنه، فقال: رأيته داخلاً المدينة، فأقبل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتهوا إليه، فأخبرهم الخبر بما كانت يهود أرادت من الغدر به. فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم محمد بن مسلمة يأمرهم بالخروج من جواره وبلده، فبعث إليهم أهل النفاق يثبتونهم ويحرضونهم على المقام، ويعدونهم النصر، فقويت عند ذلك نفوسهم، وحمى حيي بن أخطب وبعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم لا يخرجون، ونابذوه بنقض العهود، فعند ذلك أمر الناس بالخروج إليهم.
فحاصروهم خمس عشرة ليلة، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتهيؤ لحربهم والمسير إليهم، واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم وذلك في شهر ربيع الأول[3].
من خلال أحداث هذه القصة نلاحظ عدة أمور:
• إن اليهود نقض العهد مرتين: الأولى: عندما قتلوا رجلين من بني عامر وبينهم وبين بني عامر حلف واتفاق. والثانية: عندما تآمروا لقتل الرسول بأن يرتقي أحدهم جدارًا فوقه، ويرميه بحجر.
• تدخّل أهل النفاق وهم المسلمون الذين أظهروا الإسلام وبطنوا الكفر والتآمر ضد الرسول وصحبه، فاستمع اليهود لهم، وحمي زعيمهم حيي بن أخطب، وقرروا مواجهة المسلمين وقتالهم. وهذا الخطأ الثاني، فقد كانت الفرصة معهم لتداوي المسألة، ولكنهم - لخستهم ونذالتهم - ظلوا يتآمرون، ويريدون إيذاء المسلمين.
• حاصرهم المسلمون، وأجلوهم، فخرجوا وهم يخربون بيوتهم، حاملين ما خف حمله وغلا ثمنه.
• لو شاء النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون، لانتقموا منهم، ولكنهم سمحوا لهم بالخروج، بالرغم من أن الخائن عقابه القتل والخزي.
محاربة بني قريظة وخيبر وإجلاؤهم:
قَدَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب برايته إلى بني قريظة، وابتدرها الناس، فسار على بن أبي طالب، حتى إذا دنا من الحصون سمع منها مقالة قبيحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فرجع حتى لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالطريق، فقال: يا رسول الله، لا عليك أن لا تدنو من هؤلاء الأخابث؛ قال: لم؟ أظنك سمعت منهم لي أذى؟ قال: نعم يا رسول الله؛ قال: لو رأوني لم يقولوا من ذلك شيئا. فلما دنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من حصونهم. قال: يا إخوان القردة، هل أخزاكم الله وأنزل بكم نقمته؟ قالوا: يا أبا القاسم، ما كنت جهولا [4]. وحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسا وعشرين ليلة، حتى جهدهم الحصار، وقذف الله في قلوبهم الرعب. وقد كان حيي بن أخطب دخل مع بني قريظة في حصنهم، حين رجعت عنهم قريش وغطفان، وفاء لكعب بن أسد بما كان عاهده عليه[5].
والسبب في هذه الغزوة: غدر يهود بني قريظة بالمسلمين أثناء حصار الكفار للمدينة المنورة، وقد سعوا إلى التعاون مع الكفار من أجل الهجوم المزدوج على الرسول والمسلمين، بل السعي إلى أخذ النساء والذراري من حصن حسان بن ثابت - رضي الله عنه - رهينة لإذلال المسلمين بعد ذلك. وقد كان عقاب هؤلاء بعد حصارهم أن يحكم فيهم زعيم الخزرج سعد بن معاذ، وقد ظنوا أنه حليف سابق لهم، ولكن سعد - رضي الله عنه - حكم فيهم أن: يقتل الرجال، وتسبى الذرية، وتقسم الأموال. فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سموات.
ونفس الأمر ينطبق على يهود خيبر، فقد كانت وكر الدس والتآمر، فأهلها حزبوا الأحزاب، وحرضوا - سابقًا - بني قريظة على الغدر والخيانة، واتصلوا بالمنافقين وبغطفان وأعراب البادية ضد المسلمين، ووضعوا خطة لاغتيال الرسول صلى الله عليه وسلم وإزاء ذلك حاصرهم الرسول، فسقطوا مهزومين، ما بين قتلى وأسرى [6].
وخلاصة القول في أمر علاقة الرسول صلى الله عليه وسلم باليهود:
• تعامل معهم الرسول بكل أمانة وعهد، وتشهد على ذلك وثيقته الموقعة معهم، والتي فيها من العهود والأمانات الكثير ومن أهم بنودها: أنهم مع المؤمنين أمة واحدة، ولكل فئة دينها، وحقها في إقامة شعائرها، وأن على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم، وبينهم النصح والإرشاد، والنصر للمظلوم، واليهود متفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين، وإن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة، وبينهم النصر على كل من يداهم يثرب، وعدم حماية الظالم والآثم من الجانبين [7].
• مادامت الأمور بهذه الوضوح، والبنود مدونة، والصحف شاهدة، فلماذا غدر اليهود بالمسلمين؟ ولماذا يهاجم الرسول الذي تصرف معهم بمنطق رئيس الدولة الذي يحمي دولته من تهديدات أقلية وافدة عليها، إن سائر أحداث الغزوات يسبقها: تآمر من اليهود ضد شخص الرسول، أو ضد أحد المسلمين أو المسلمات، أو تحالف مع الأعداء للهجوم على الرسول.
• لقد طبّق عليهم الرسول صلى الله عليه وسلم حكم الله تعالى في القرآن الكريم، جزاء نكالاً على ما قدموا.
ولا نذهب بعيدًا، ويهود دولة إسرائيل لا يحترمون عهدًا، ولا يقيمون للمسلمين والعرب وزنًا، ويتعاملون بروح الأنفة، وسبحان الله، تتشابه أحداث التاريخ القديم مع أحداث التاريخ المعاصر، في سلوكيات اليهود: خسة وغدر ونذالة، وتآمر ضد المسلمين. لا نقول ذلك افتئاتًا، ولكن نقوله - وتذكره البشرية جمعاء - من خلال وثائق بروتوكلات حكماء صهيون التي عبرت عن مؤامرة كاملة للسيطرة على العالم وتدمير الدين وقيمه وعقائده، وهذا أمر يطول المجال لشرحه، وفي الأبحاث والكتب المنشورة شرقًا وغربًا ما يغني.
[1] الرحيق المختوم، مرجع سابق، ص216. واللفظ من رواية سنن أبي داوود. وانظر أيضًا: السيرة النبوية لابن هشام، ج1، ص552.
[2] زاد المعاد، ج2، ص 114- 116.
[3] البداية والنهاية، ابن كثير، دار المعارف، بيروت، ط3، 1980م، ص1920. وكذلك السيرة النبوية لابن هشام، القسم الثاني، ص190 – 191.
[4] انظر: السيرة النبوية لابن هشام، القسم الثاني، ص 233 - 247.
[5] المصدر السابق، ص235.
[6] انظر تفصيلاً: الرحيق المختوم، ص334- 344. والسيرة النبوية لابن هشام، ج2. فتح خيبر.
[7] انظر تفصيلاً: زاد المعاد، ج2، ص 102، 103. وابن هشام، ج1، بنود معاهدة الرسول مع بني عوف
كثير من كتابات المستشرقين ومطاعنهم كانت موجهة نحو ما فعله الرسول مع اليهود من: محاصرة، وطرد، ونفي، وأسر، وسبي، وقتل. وأبرز هؤلاء المستشرقين كان متأثرًا بما بثه اليهود من دعاية مضادة ضد الإسلام؛ فيكون من المفيد التعرض بشكل تفصيلي بعض الشيء لغزوات الرسول - صلى الله عليه وسلم - ضد اليهود، وما حدث فيها. وهذا يكون وشيج الصلة بالمبحث السابق عن التعامل مع غير المسلمين، فهو يوضح بجلاء نماذج تفصيلية لتعامل الرسول مع غير المسلمين بشكل عام، واليهود بشكل خاص في الحرب، فلم يكن الأمر شهوة للقتل والانتقام، وطمعًا بما في أيدي اليهود من مال وأرض وسلاح، بقدر ما كان إحقاقًا للعدل، فلا يشترط أن تكون الرحمة مقتصرة فقط على العطف والشفقة، وإنما الرحمة مرتبطة في الأساس بالعدالة، ومن العدالة معاقبة الغادر والظالم وناقض العهود. وهذا ما سنستعرضه من خلال عرض أحداث الغزوة من واقع كتب السيرة الموثقة، ومن ثم مناقشة ما حدث على مستوى: الأسباب، والنتائج، والدلالات.
محاربة بني قينقاع وإجلاؤهم:
وقد كانوا أشجع اليهود، ولديهم حي خاص منهم في داخل المدينة، وكانوا يعملون صاغة وحرفيين، ويملكون آلات الحرب، وقد قاموا باستفزارات كثيرة ضد المسلمين، منها السخرية من المسلمين إذا دخلوا سوقهم، والتعرض للنساء المسلمين، وقد صبر الرسول والمسلمون على أذاهم، بل وتمادوا بأن تحدوا الرسول، وقد نصحهم الرسول بعد غزوة بدر بقوله: يا معشر يهود أسلموا قبل أن يصيبكم مثل ما أصاب قريشا. فقالوا له: يا محمد، لا يغرنك من نفسك أنك قتلت نفرًا من قريش، كانوا أغمارًا لا يعرفون القتال، إنك لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس وأنك لم تلق مثلنا. وقد صبر عليهم الرسول في ذلك [1].
وكانت المواجهة، بأن ذهبت امرأة من المسلمين إلى سوقهم لبيع شيء لديها، فرادوها على كشف وجهها، فأبت، فربط أحدهم طرف ثوبها إلى ظهرها، فلما وقفت انكشفت سوأتها، فضحكوا منها، فصاحت، فأسرع رجل من المسلمين لنصرتها فقتل اليهودي، فاجتمع عليه اليهود فقتلوه. ثم وصل الخبر إلى الرسول في المدينة المنورة، فحاصرهم الرسول خمسة عشر يومًا، ثم أجلاهم إلى الشام، وقد قبل وساطة رأس المنافقين عبد الله بن أبي بن سلول فيهم، وكان قد أسلم قبل نحو الشهر، فعامله بالمراعاة، ووهبهم له، وقبض منهم الرسول أموالهم[2].
إن الموقف يدل على خسة أخلاقية عظيمة من اليهود تتمثل في: تحديهم للرسول علانية بالقتال، وسخريتهم من قدرات المسلمين القتالية رغم انتصار المسلمين في بدر، ثم تعمدهم الاستهزاء بالمسلمين نساء ورجالا، وأخيرًا ما فعلوه مع المسلمة؛ إن جريمة هتك العرض أشد من القتل، فاستحقوا ما لقوا.
محاربة " بني النضير " وإجلاؤهم:
لقد أجلى الرسول صلى الله عليه وسلم بني النضير لأنهم غدروا به، وما حدث أنه صلى الله عليه وسلم خرج إلى بني النضير في دية القتيلين من بني عامر اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضمري، للجوار الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عقد لهما، وكان بين بني النضير وبني عامر عقد وحلف. فلما أتاهم رسول الله، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني النضير يستعين بهم في دية هذين القتيلين من بني عامر اللذين قتلهما عمرو بن أمية للعهد الذي كان صلى الله عليه وسلم أعطاهما، وكان بين بني النضير وبين بني عامر عهد وحلف، فلما أتاهم صلى الله عليه وسلم قالوا: نعم يا أبا القاسم نعينك على ما أحببت. ثم خلا بعضهم ببعض فقالوا: إنكم لن تجدوا الرجل على مثل حاله هذه - ورسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنب جداًر من بيوتهم قاعد - فمن رجل يعلو على هذا البيت فيلقي عليه صخرة ويريحنا منه؟ فانتدب لذلك عمرو بن جحاش بن كعب، فقال: أنا لذلك، فصعد ليلقي عليه صخرة كما قال، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه، فيهم: أبو بكر، وعمر، وعلي.
فأتى رسول الله الخبر من السماء بما أراد القوم، فقام وخرج راجعاً إلى المدينة، فلما استلبث (بقي) النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه، قاموا في طلبه فلقوا رجلاً مقبلاً من المدينة فسألوه عنه، فقال: رأيته داخلاً المدينة، فأقبل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتهوا إليه، فأخبرهم الخبر بما كانت يهود أرادت من الغدر به. فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم محمد بن مسلمة يأمرهم بالخروج من جواره وبلده، فبعث إليهم أهل النفاق يثبتونهم ويحرضونهم على المقام، ويعدونهم النصر، فقويت عند ذلك نفوسهم، وحمى حيي بن أخطب وبعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم لا يخرجون، ونابذوه بنقض العهود، فعند ذلك أمر الناس بالخروج إليهم.
فحاصروهم خمس عشرة ليلة، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتهيؤ لحربهم والمسير إليهم، واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم وذلك في شهر ربيع الأول[3].
من خلال أحداث هذه القصة نلاحظ عدة أمور:
• إن اليهود نقض العهد مرتين: الأولى: عندما قتلوا رجلين من بني عامر وبينهم وبين بني عامر حلف واتفاق. والثانية: عندما تآمروا لقتل الرسول بأن يرتقي أحدهم جدارًا فوقه، ويرميه بحجر.
• تدخّل أهل النفاق وهم المسلمون الذين أظهروا الإسلام وبطنوا الكفر والتآمر ضد الرسول وصحبه، فاستمع اليهود لهم، وحمي زعيمهم حيي بن أخطب، وقرروا مواجهة المسلمين وقتالهم. وهذا الخطأ الثاني، فقد كانت الفرصة معهم لتداوي المسألة، ولكنهم - لخستهم ونذالتهم - ظلوا يتآمرون، ويريدون إيذاء المسلمين.
• حاصرهم المسلمون، وأجلوهم، فخرجوا وهم يخربون بيوتهم، حاملين ما خف حمله وغلا ثمنه.
• لو شاء النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون، لانتقموا منهم، ولكنهم سمحوا لهم بالخروج، بالرغم من أن الخائن عقابه القتل والخزي.
محاربة بني قريظة وخيبر وإجلاؤهم:
قَدَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب برايته إلى بني قريظة، وابتدرها الناس، فسار على بن أبي طالب، حتى إذا دنا من الحصون سمع منها مقالة قبيحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فرجع حتى لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالطريق، فقال: يا رسول الله، لا عليك أن لا تدنو من هؤلاء الأخابث؛ قال: لم؟ أظنك سمعت منهم لي أذى؟ قال: نعم يا رسول الله؛ قال: لو رأوني لم يقولوا من ذلك شيئا. فلما دنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من حصونهم. قال: يا إخوان القردة، هل أخزاكم الله وأنزل بكم نقمته؟ قالوا: يا أبا القاسم، ما كنت جهولا [4]. وحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسا وعشرين ليلة، حتى جهدهم الحصار، وقذف الله في قلوبهم الرعب. وقد كان حيي بن أخطب دخل مع بني قريظة في حصنهم، حين رجعت عنهم قريش وغطفان، وفاء لكعب بن أسد بما كان عاهده عليه[5].
والسبب في هذه الغزوة: غدر يهود بني قريظة بالمسلمين أثناء حصار الكفار للمدينة المنورة، وقد سعوا إلى التعاون مع الكفار من أجل الهجوم المزدوج على الرسول والمسلمين، بل السعي إلى أخذ النساء والذراري من حصن حسان بن ثابت - رضي الله عنه - رهينة لإذلال المسلمين بعد ذلك. وقد كان عقاب هؤلاء بعد حصارهم أن يحكم فيهم زعيم الخزرج سعد بن معاذ، وقد ظنوا أنه حليف سابق لهم، ولكن سعد - رضي الله عنه - حكم فيهم أن: يقتل الرجال، وتسبى الذرية، وتقسم الأموال. فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سموات.
ونفس الأمر ينطبق على يهود خيبر، فقد كانت وكر الدس والتآمر، فأهلها حزبوا الأحزاب، وحرضوا - سابقًا - بني قريظة على الغدر والخيانة، واتصلوا بالمنافقين وبغطفان وأعراب البادية ضد المسلمين، ووضعوا خطة لاغتيال الرسول صلى الله عليه وسلم وإزاء ذلك حاصرهم الرسول، فسقطوا مهزومين، ما بين قتلى وأسرى [6].
وخلاصة القول في أمر علاقة الرسول صلى الله عليه وسلم باليهود:
• تعامل معهم الرسول بكل أمانة وعهد، وتشهد على ذلك وثيقته الموقعة معهم، والتي فيها من العهود والأمانات الكثير ومن أهم بنودها: أنهم مع المؤمنين أمة واحدة، ولكل فئة دينها، وحقها في إقامة شعائرها، وأن على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم، وبينهم النصح والإرشاد، والنصر للمظلوم، واليهود متفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين، وإن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة، وبينهم النصر على كل من يداهم يثرب، وعدم حماية الظالم والآثم من الجانبين [7].
• مادامت الأمور بهذه الوضوح، والبنود مدونة، والصحف شاهدة، فلماذا غدر اليهود بالمسلمين؟ ولماذا يهاجم الرسول الذي تصرف معهم بمنطق رئيس الدولة الذي يحمي دولته من تهديدات أقلية وافدة عليها، إن سائر أحداث الغزوات يسبقها: تآمر من اليهود ضد شخص الرسول، أو ضد أحد المسلمين أو المسلمات، أو تحالف مع الأعداء للهجوم على الرسول.
• لقد طبّق عليهم الرسول صلى الله عليه وسلم حكم الله تعالى في القرآن الكريم، جزاء نكالاً على ما قدموا.
ولا نذهب بعيدًا، ويهود دولة إسرائيل لا يحترمون عهدًا، ولا يقيمون للمسلمين والعرب وزنًا، ويتعاملون بروح الأنفة، وسبحان الله، تتشابه أحداث التاريخ القديم مع أحداث التاريخ المعاصر، في سلوكيات اليهود: خسة وغدر ونذالة، وتآمر ضد المسلمين. لا نقول ذلك افتئاتًا، ولكن نقوله - وتذكره البشرية جمعاء - من خلال وثائق بروتوكلات حكماء صهيون التي عبرت عن مؤامرة كاملة للسيطرة على العالم وتدمير الدين وقيمه وعقائده، وهذا أمر يطول المجال لشرحه، وفي الأبحاث والكتب المنشورة شرقًا وغربًا ما يغني.
[1] الرحيق المختوم، مرجع سابق، ص216. واللفظ من رواية سنن أبي داوود. وانظر أيضًا: السيرة النبوية لابن هشام، ج1، ص552.
[2] زاد المعاد، ج2، ص 114- 116.
[3] البداية والنهاية، ابن كثير، دار المعارف، بيروت، ط3، 1980م، ص1920. وكذلك السيرة النبوية لابن هشام، القسم الثاني، ص190 – 191.
[4] انظر: السيرة النبوية لابن هشام، القسم الثاني، ص 233 - 247.
[5] المصدر السابق، ص235.
[6] انظر تفصيلاً: الرحيق المختوم، ص334- 344. والسيرة النبوية لابن هشام، ج2. فتح خيبر.
[7] انظر تفصيلاً: زاد المعاد، ج2، ص 102، 103. وابن هشام، ج1، بنود معاهدة الرسول مع بني عوف