بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله ربّ العالمين .
اللهمّ صلّ على سيدّنا محمّد وعلى آله وأزواجه وذريّته وأصحابه
وإخوانه من الأنبياء والمرسلين والصّدّيقين
والشُّهداء والصَّالحين وعلى أهل الجنّة وعلى الملائكة
وباركْ عليه وعليهم وسلّم كما تحبه وترضاه يا الله آمين.
قال تعالى :
[مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرَادَ الْآَخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19) كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآَخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (21) ]( سورة ألإسراء ).
جاء في تفسير البيضاوي رحمه الله تعالى وغفر له ولوالديه ولجميع المسلمين آمين.
{ مَّن كَانَ يُرِيدُ العاجلة } مقصوراً عليها همّه ، { عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ } قيد المعجل والمعجل له : بالمشيئة والإِرادة ، لأنَّه لا يجد كلّ متمن ما يتمناه ، ولا كلّ واجد جميع ما يهواه ، وليعلم أنَّ الأمرَ بالمشيئة ، والهم فضل ، و : { لَمَنِ نُرِيدُ } بدل من له بدل البعض ، وقرىء « ما يشاء » والضمير فيه لله تعالى حتى يطابق المشهورة ، وقيل : { لِمَنْ } فيكون مخصوصاً ، بمن أراد الله تعالى به ذلك ، وقيل الآية : في المنافقين ، كانوا يراءون المسلمين ، ويغزون معهم ، ولم يكن غرضهم إلا مساهمتهم في الغنائم ونحوها ، { ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يصلاها مَذْمُومًا مَّدْحُورًا } مطروداً من رحمة الله تعالى .
{ وَمَنْ أَرَادَ الأخرة وسعى لَهَا سَعْيَهَا } حقَّها من السَّعي وهو : الإِتيان بما أمر به ، والانتهاء عمَّا نهى عنه ، لا التقرب بما يخترعون بآرائهم ، وفائدة اللام : اعتبار النِّيَّة والإِخلاص ، { وَهُوَ مُؤْمِنٌ } إيماناً صحيحاً ، لا شرك معه ، ولا تكذيب ، فإنه العمدة ، { فَأُوْلَئِكَ } الجامعون للشروط الثلاثة ، { كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا } من الله تعالى : أي مقبولاً عنده ، مثاباً عليه ، فإنَّ شكر الله : الثواب على الطاعة .
{ كُلاًّ } كلّ واحد من الفريقين ، والتنوين بدل من المضاف إليه ، { نُّمِدُّ } بالعطاء مرَّة بعد أخرى ، ونجعل آنفه مدداً لسالفه ، { هَؤُلاء وَهَؤُلاء } بدل من { كُلاًّ } ، { مِنْ عَطَاء رَبّكَ } من معطاه ، متعلق بــ : { نُّمِدُّ } ، { وَمَا كَانَ عَطَاء رَبّكَ مَحْظُورًا } ممنوعاً : لا يمنعه في الدُّنيا من مؤمن ولا كافر : تفضلاً .
{ انظر كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ } في الرزق ، وانتصاب : { كَيْفَ } بــ : { فَضَّلْنَا } على الحال ، { وَلَلأَخِرَةُ أَكْبَرُ درجات وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً } أي التفاوت في الآخرة أكبر ، لأنَّ التفاوت فيها : بالجنَّة ودرجاتها ، والنار ودركاتها .
{ لاَّ تَجْعَل مَعَ الله إلها ءاخَرَ } الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم ، والمراد به : أمته ، أو لكلِّ أحد ، { فَتَقْعُدَ } فتصير ، من قولهم : شحذ الشفرة ، حتى قعدت كأنها حربة ، أو فتعجز من قولهم : قعد عن الشيء إذا عجز عنه ، { مَذْمُومًا مَّخْذُولاً } جامعاً على نفسك الذم ، من الملائكة والمؤمنين ، والخذلان من الله تعالى ، ومفهومه : أنَّ المُوحد يكون ممدوحاً ، منصوراً .
وجاء في تفسير الرازي رحمه الله تعالى وغفر له ولوالديه ولجميع المسلمين آمين.
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : قال القفال رحمه الله : هذه الآية ، داخلة في معنى قوله : { وَكُلَّ إنسان ألزمناه طائره فِى عُنُقِهِ } [ الإسراء : 13 ] ومعناه : أنَّ الكمالَ في الدُّنيا قسمان .
فمنهم : من يريد ، بالذي يعمله : الدنيا ومنافعها والرياسة فيها ، فهذا يأنف من الانقياد للأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، والدخول في طاعتهم والإجابة لدعوتهم ، إشفاقاً من زوال الرياسة عنه ، فهذا قد جعل طائر نفسه شؤماً : لأنه في قبضة الله تعالى ، فيؤتيه الله في الدُّنيا منها قدراً ، لا كما يشاء ذلك الإنسان ، بل كما يشاء الله : إلا أنَّ عاقبته ، جهنم يدخلها فيصلاها ، بحرِّها ، مذموماً ملوماً مدحوراً ، منفياً مطروداً من رحمة الله تعالى .
وفي لفظ هذه الآية فوائد :
الفائدة الأولى : أنَّ العقاب : عبارة عن مضّرة ، مقرونة بالإهانة والذّم ، بشرط أن تكون دائمة وخالية عن شوب المنفعة ، فقوله : { ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يصلاها } إشارة إلى : المضرة العظيمة ، وقوله : { مَذْمُومًا } إشارة إلى : الإهانة والذّم ، وقوله : { مَّدْحُورًا } إشارة إلى : البعد والطرد عن رحمة الله ، وهي تفيد كون تلك المضرة : خالية عن شوب النفع والرحمة ، وتفيد كونها : دائمة وخالية عن التبدل بالراحة والخلاص .
الفائدة الثانية : أنَّ من الجهال ، مَنْ إذا ساعدته الدُّنيا : اغتر بها ، وظنَّ أنَّ ذلك لأجل كرامته على الله تعالى .
وأنه تعالى : بين أنَّ مساعدة الدُّنيا ، لا ينبغي أن يستدل بها : على رضا الله تعالى ، لأنَّ الدُّنيا ، قد تحصل ، مع أنَّ عاقبتها ، هي المصير إلى عذاب الله وإهانته ، فهذا الإنسان أعماله : تشبه طائر السّوء ، في لزومها له ، وكونها سائقة له إلى أشد العذاب .
الفائدة الثالثة : قوله تعالى : { لِمَن نُّرِيدُ } يدل على : أنه لا يحصل الفوز بالدُّنيا ، لكلِّ أحد ، بل كثير من الكفار والضُّلال ، يعرضون عن الدين ، في طلب الدنيا ، ثمَّ يبقون محرومين عن الدُّنيا وعن الدين ، وهذا أيضاً : فيه زجر عظيم لهؤلاء الكفار الضُّلال ، الذين يتركون الدين ، لطلب الدنيا ، فإنه ربما فاتتهم الدُّنيا ، فهم : الأخسرون أعمالاً ، الذين ضل سعيهم في الحياة الدُّنيا ، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً .
وأما القسم الثاني : وهو قوله تعالى : { وَمَنْ أَرَادَ الأخرة وسعى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ } فشرط تعالى فيه شروطاً ثلاثة :
الشرط الأول : أنْ يريد بعمله الآخرة : أي ثواب الآخرة ، فإنه إنْ لم تحصل هذه الإرادة ، وهذه النِّيَّة ، لم ينتفع بذلك العمل ، لقوله تعالى : { وَأَن لَّيْسَ للإنسان إِلاَّ مَا سعى } [ النجم : 39 ] ، ولقوله عليه الصلاة والسلام : { « إنما الأعمال بالنيات » } ولأنَّ المقصود من الأعمال : استنارة القلب ، بمعرفة الله تعالى ومحبته ، وهذا لا يحصل إلا إنْ نوى بعمله : عبودية الله تعالى وطلب طاعته .
والشرط الثاني : قوله : { وسعى لَهَا سَعْيَهَا } وذلك هو : أنْ يكون العمل ، الذي يتوصل به ، إلى الفوز بثواب الآخرة ، من الأعمال التي بها ينال ثواب الآخرة ، ولا يكون كذلك إلا إذا كان ، من باب القرب والطاعات ، وكثير من الناس : يتقربون إلى الله تعالى بأعمال باطلة ، فإنَّ الكفار : يتقربون إلى الله تعالى ، بعبادة الأوثان ، ولهم فيه تأويلان :
التأويل الأول : يقولون : إله العالم : أجل وأعظم ، من أنْ يقدر الواحد منا ، على إظهار عبوديته وخدمته ، فليس لنا هذا القدر والدرجة ، ولكن غاية قدرنا : أن نشتغل بعبودية بعض المقربين ، من عباد الله تعالى ، مثل أنْ نشتغل : بعبادة كوكب أو عبادة ملك من الملائكة ، ثم إنَّ الملك والكوكب ، يشتغلون بعبادة الله تعالى ، فهؤلاء يتقربون إلى الله تعالى بهذا الطريق ، إلا أنه ، لما كان فاسداً في نفسه : لا جرم ، لم يحصل الانتفاع به .
والتأويل الثاني لهم : أنهم قالوا : نحن اتخذنا هذه التماثيل ، على صور الأنبياء والأولياء ، ومرادنا من عبادتها : أن تصير أولئك الأنبياء والأولياء ، شفعاء لنا عند الله تعالى . وهذا الطريق أيضاً فاسد ، وأيضاً : نقل عن الهند : أنهم يتقربون إلى الله تعالى ، بقتل أنفسهم تارة ، وبإحراق أنفسهم أخرى ، ويبالغون في تعظيم الله تعالى ، إلا أنه لما كان الطريق فاسداً : لا جرم لم ينتفع به ، وكذلك القول في جميع فرق المبطلين ، الذين يتقربون إلى الله تعالى ، بمذاهبهم الباطلة ، وأقوالهم الفاسدة ، وأعمالهم المنحرفة ، عن قانون الصدق والصواب .
والشرط الثالث : قوله تعالى : { وَهُوَ مُؤْمِنٌ } وهذا الشرط معتبر ، لأنَّ الشرط ، في كون أعمال البر ، موجبة للثواب : تقدم الإيمان ، فإذا لم يوجد الشرط ، لم يحصل المشروط ، ثم إنه تعالى : أخبر أنَّ عند حصول هذه الشرائط ، يصير السَّعي مشكوراً ، والعمل مبروراً .
واعلم : أنَّ الشَّكر ، عبارة عن مجموع أمور ثلاثة :
اعتقاد كونه محسناً ، في تلك الأعمال ، والثناء عليه بالقول ، والإتيان بأفعال تدل على كونه معظماً ، عن ذلك الشاكر .
والله تعالى : يعامل المطيعين ، بهذه الأمور الثلاثة ، فإنه تعالى عالم ، بكونهم محسنين في تلك الأعمال ، وأنه تعالى يثني عليهم بكلامه ، وأنه تعالى يعاملهم بمعاملات ، دالة على كونهم معظمين عند الله تعالى .
وإذا كان مجموع هذه الثلاثة حاصلاً : كانوا مشكورين على طاعاتهم من قبل الله تعالى .
[مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرَادَ الْآَخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19) كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآَخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (21) ]( سورة ألإسراء ).
جاء في تفسير البيضاوي رحمه الله تعالى وغفر له ولوالديه ولجميع المسلمين آمين.
{ مَّن كَانَ يُرِيدُ العاجلة } مقصوراً عليها همّه ، { عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ } قيد المعجل والمعجل له : بالمشيئة والإِرادة ، لأنَّه لا يجد كلّ متمن ما يتمناه ، ولا كلّ واجد جميع ما يهواه ، وليعلم أنَّ الأمرَ بالمشيئة ، والهم فضل ، و : { لَمَنِ نُرِيدُ } بدل من له بدل البعض ، وقرىء « ما يشاء » والضمير فيه لله تعالى حتى يطابق المشهورة ، وقيل : { لِمَنْ } فيكون مخصوصاً ، بمن أراد الله تعالى به ذلك ، وقيل الآية : في المنافقين ، كانوا يراءون المسلمين ، ويغزون معهم ، ولم يكن غرضهم إلا مساهمتهم في الغنائم ونحوها ، { ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يصلاها مَذْمُومًا مَّدْحُورًا } مطروداً من رحمة الله تعالى .
{ وَمَنْ أَرَادَ الأخرة وسعى لَهَا سَعْيَهَا } حقَّها من السَّعي وهو : الإِتيان بما أمر به ، والانتهاء عمَّا نهى عنه ، لا التقرب بما يخترعون بآرائهم ، وفائدة اللام : اعتبار النِّيَّة والإِخلاص ، { وَهُوَ مُؤْمِنٌ } إيماناً صحيحاً ، لا شرك معه ، ولا تكذيب ، فإنه العمدة ، { فَأُوْلَئِكَ } الجامعون للشروط الثلاثة ، { كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا } من الله تعالى : أي مقبولاً عنده ، مثاباً عليه ، فإنَّ شكر الله : الثواب على الطاعة .
{ كُلاًّ } كلّ واحد من الفريقين ، والتنوين بدل من المضاف إليه ، { نُّمِدُّ } بالعطاء مرَّة بعد أخرى ، ونجعل آنفه مدداً لسالفه ، { هَؤُلاء وَهَؤُلاء } بدل من { كُلاًّ } ، { مِنْ عَطَاء رَبّكَ } من معطاه ، متعلق بــ : { نُّمِدُّ } ، { وَمَا كَانَ عَطَاء رَبّكَ مَحْظُورًا } ممنوعاً : لا يمنعه في الدُّنيا من مؤمن ولا كافر : تفضلاً .
{ انظر كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ } في الرزق ، وانتصاب : { كَيْفَ } بــ : { فَضَّلْنَا } على الحال ، { وَلَلأَخِرَةُ أَكْبَرُ درجات وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً } أي التفاوت في الآخرة أكبر ، لأنَّ التفاوت فيها : بالجنَّة ودرجاتها ، والنار ودركاتها .
{ لاَّ تَجْعَل مَعَ الله إلها ءاخَرَ } الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم ، والمراد به : أمته ، أو لكلِّ أحد ، { فَتَقْعُدَ } فتصير ، من قولهم : شحذ الشفرة ، حتى قعدت كأنها حربة ، أو فتعجز من قولهم : قعد عن الشيء إذا عجز عنه ، { مَذْمُومًا مَّخْذُولاً } جامعاً على نفسك الذم ، من الملائكة والمؤمنين ، والخذلان من الله تعالى ، ومفهومه : أنَّ المُوحد يكون ممدوحاً ، منصوراً .
وجاء في تفسير الرازي رحمه الله تعالى وغفر له ولوالديه ولجميع المسلمين آمين.
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : قال القفال رحمه الله : هذه الآية ، داخلة في معنى قوله : { وَكُلَّ إنسان ألزمناه طائره فِى عُنُقِهِ } [ الإسراء : 13 ] ومعناه : أنَّ الكمالَ في الدُّنيا قسمان .
فمنهم : من يريد ، بالذي يعمله : الدنيا ومنافعها والرياسة فيها ، فهذا يأنف من الانقياد للأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، والدخول في طاعتهم والإجابة لدعوتهم ، إشفاقاً من زوال الرياسة عنه ، فهذا قد جعل طائر نفسه شؤماً : لأنه في قبضة الله تعالى ، فيؤتيه الله في الدُّنيا منها قدراً ، لا كما يشاء ذلك الإنسان ، بل كما يشاء الله : إلا أنَّ عاقبته ، جهنم يدخلها فيصلاها ، بحرِّها ، مذموماً ملوماً مدحوراً ، منفياً مطروداً من رحمة الله تعالى .
وفي لفظ هذه الآية فوائد :
الفائدة الأولى : أنَّ العقاب : عبارة عن مضّرة ، مقرونة بالإهانة والذّم ، بشرط أن تكون دائمة وخالية عن شوب المنفعة ، فقوله : { ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يصلاها } إشارة إلى : المضرة العظيمة ، وقوله : { مَذْمُومًا } إشارة إلى : الإهانة والذّم ، وقوله : { مَّدْحُورًا } إشارة إلى : البعد والطرد عن رحمة الله ، وهي تفيد كون تلك المضرة : خالية عن شوب النفع والرحمة ، وتفيد كونها : دائمة وخالية عن التبدل بالراحة والخلاص .
الفائدة الثانية : أنَّ من الجهال ، مَنْ إذا ساعدته الدُّنيا : اغتر بها ، وظنَّ أنَّ ذلك لأجل كرامته على الله تعالى .
وأنه تعالى : بين أنَّ مساعدة الدُّنيا ، لا ينبغي أن يستدل بها : على رضا الله تعالى ، لأنَّ الدُّنيا ، قد تحصل ، مع أنَّ عاقبتها ، هي المصير إلى عذاب الله وإهانته ، فهذا الإنسان أعماله : تشبه طائر السّوء ، في لزومها له ، وكونها سائقة له إلى أشد العذاب .
الفائدة الثالثة : قوله تعالى : { لِمَن نُّرِيدُ } يدل على : أنه لا يحصل الفوز بالدُّنيا ، لكلِّ أحد ، بل كثير من الكفار والضُّلال ، يعرضون عن الدين ، في طلب الدنيا ، ثمَّ يبقون محرومين عن الدُّنيا وعن الدين ، وهذا أيضاً : فيه زجر عظيم لهؤلاء الكفار الضُّلال ، الذين يتركون الدين ، لطلب الدنيا ، فإنه ربما فاتتهم الدُّنيا ، فهم : الأخسرون أعمالاً ، الذين ضل سعيهم في الحياة الدُّنيا ، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً .
وأما القسم الثاني : وهو قوله تعالى : { وَمَنْ أَرَادَ الأخرة وسعى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ } فشرط تعالى فيه شروطاً ثلاثة :
الشرط الأول : أنْ يريد بعمله الآخرة : أي ثواب الآخرة ، فإنه إنْ لم تحصل هذه الإرادة ، وهذه النِّيَّة ، لم ينتفع بذلك العمل ، لقوله تعالى : { وَأَن لَّيْسَ للإنسان إِلاَّ مَا سعى } [ النجم : 39 ] ، ولقوله عليه الصلاة والسلام : { « إنما الأعمال بالنيات » } ولأنَّ المقصود من الأعمال : استنارة القلب ، بمعرفة الله تعالى ومحبته ، وهذا لا يحصل إلا إنْ نوى بعمله : عبودية الله تعالى وطلب طاعته .
والشرط الثاني : قوله : { وسعى لَهَا سَعْيَهَا } وذلك هو : أنْ يكون العمل ، الذي يتوصل به ، إلى الفوز بثواب الآخرة ، من الأعمال التي بها ينال ثواب الآخرة ، ولا يكون كذلك إلا إذا كان ، من باب القرب والطاعات ، وكثير من الناس : يتقربون إلى الله تعالى بأعمال باطلة ، فإنَّ الكفار : يتقربون إلى الله تعالى ، بعبادة الأوثان ، ولهم فيه تأويلان :
التأويل الأول : يقولون : إله العالم : أجل وأعظم ، من أنْ يقدر الواحد منا ، على إظهار عبوديته وخدمته ، فليس لنا هذا القدر والدرجة ، ولكن غاية قدرنا : أن نشتغل بعبودية بعض المقربين ، من عباد الله تعالى ، مثل أنْ نشتغل : بعبادة كوكب أو عبادة ملك من الملائكة ، ثم إنَّ الملك والكوكب ، يشتغلون بعبادة الله تعالى ، فهؤلاء يتقربون إلى الله تعالى بهذا الطريق ، إلا أنه ، لما كان فاسداً في نفسه : لا جرم ، لم يحصل الانتفاع به .
والتأويل الثاني لهم : أنهم قالوا : نحن اتخذنا هذه التماثيل ، على صور الأنبياء والأولياء ، ومرادنا من عبادتها : أن تصير أولئك الأنبياء والأولياء ، شفعاء لنا عند الله تعالى . وهذا الطريق أيضاً فاسد ، وأيضاً : نقل عن الهند : أنهم يتقربون إلى الله تعالى ، بقتل أنفسهم تارة ، وبإحراق أنفسهم أخرى ، ويبالغون في تعظيم الله تعالى ، إلا أنه لما كان الطريق فاسداً : لا جرم لم ينتفع به ، وكذلك القول في جميع فرق المبطلين ، الذين يتقربون إلى الله تعالى ، بمذاهبهم الباطلة ، وأقوالهم الفاسدة ، وأعمالهم المنحرفة ، عن قانون الصدق والصواب .
والشرط الثالث : قوله تعالى : { وَهُوَ مُؤْمِنٌ } وهذا الشرط معتبر ، لأنَّ الشرط ، في كون أعمال البر ، موجبة للثواب : تقدم الإيمان ، فإذا لم يوجد الشرط ، لم يحصل المشروط ، ثم إنه تعالى : أخبر أنَّ عند حصول هذه الشرائط ، يصير السَّعي مشكوراً ، والعمل مبروراً .
واعلم : أنَّ الشَّكر ، عبارة عن مجموع أمور ثلاثة :
اعتقاد كونه محسناً ، في تلك الأعمال ، والثناء عليه بالقول ، والإتيان بأفعال تدل على كونه معظماً ، عن ذلك الشاكر .
والله تعالى : يعامل المطيعين ، بهذه الأمور الثلاثة ، فإنه تعالى عالم ، بكونهم محسنين في تلك الأعمال ، وأنه تعالى يثني عليهم بكلامه ، وأنه تعالى يعاملهم بمعاملات ، دالة على كونهم معظمين عند الله تعالى .
وإذا كان مجموع هذه الثلاثة حاصلاً : كانوا مشكورين على طاعاتهم من قبل الله تعالى .
ورأيت في كتب المعتزلة
أنَّ جعفر بن حرب ، حضر عنده ، واحدٌ منْ أهلِّ السُّنة وقال :
الدليل على : أنَّ الإيمان ، حصل بخلق الله تعالى : أنا نشكر الله على الإيمان ، ولو لم يكن الإيمان حاصلاً بإيجاده ، لامتنع أنْ نشكره عليه ، لأنَّ مدح الإنسان وشكره ، على ما ليس من عمله قبيح .!!! قال الله تعالى : { وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ } [ آل عمران : 188 ] فعجز الحاضرون عن الجواب ؟؟؟، فدخل : ثمامة بن الأشرس وقال :
إنما نمدح الله تعالى ونشكره على ما أعطانا من القدرة والعقل ، وإنزال الكتب وإيضاح الدلائل ، والله تعالى يشكرنا على فعل الإيمان ، قال تعالى : { فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا } ، قال : فضحك جعفر بن حرب وقال : صعب المسألة فسهلت .
واعلم أن قولنا : مجموع القدرة ، مع الداعي : يوجب الفعل كلام واضح ، لأنه تعالى هو الذي أعطى الموجب التام ، لحصول الإيمان ، فكان هو المُستحق للشكر ، ولما حصل الإيمان للعبد ، وكان الإيمان موجباً للسعادة التامة ، صار العبد أيضاً مشكوراً ، ولا منافاة بين الأمرين .
المسألة الثانية : اعلم أنَّ كلّ من أتى بفعل ، فإما أنْ يقصد بذلك الفعل : تحصيل خيرات الدُّنيا ، أو تحصيل خيرات الآخرة ، أو يقصد به مجموعهما ، أو لم يقصد به واحداً منهما ، هذا هو التقسيم الصحيح ، أما إنْ قصد به تحصيل الدُّنيا فقط أو تحصيل الآخرة فقط ، فالله تعالى ذكر حكم هذين القسمين في هذه الآية .
أما القسم الثالث : فهو ينقسم إلى ثلاثة أقسام ، لأنه : إما أن يكون طلب الآخرة راجحاً أو مرجوحاً ، أو يكون الطلبان متعادلين .
أما القسم الأول : وهو أن يكون طلب الآخرة راجحاً ، فهل يكون هذا العمل مقبولاً عند الله تعالى ، فيه بحث ، يحتمل أنْ يقال : إنه غير مقبول ، لما روي أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم ، حكى عن ربِّ العزَّة أنه قال : [ « أنا أغنى الأغنياء عن الشرك ، من عمل عملاً ، أشرك فيه غيري ، تركته وشريكه » ] 1*.
ــــــــــــــــــ
1* { يؤيده ما رواه مسلم : عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ مَنْ عَمِلَ عَمَلاً أَشْرَكَ فِيهِ مَعِى غَيْرِى تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ » }.
.
وأيضاً فطلب رضوان الله : إما أنْ يقال : إنه كان سبباً مستقلاً ، بكونه باعثاً على ذلك الفعل ، أو داعياً إليه ، وإما أنْ يقال : ما كان كذلك ، فإنْ كان الأول : امتنع أن يكون لغيره مدخل في ذلك البعث والدُّعاء ، لأنَّ الحكم ، إذا حصل مسنداً إلى سبب تام كامل ، امتنع أن يكون لغيره مدخل فيه ، وإن كان الثاني : فحينئذ يكون الحامل على ذلك الفعل والداعي إليه ذلك المجموع ، وذلك المجموع ليس هو طلب رضوان الله تعالى ، لأنَّ المجموع الحاصل من الشيء ، ومن غيره يجب كونه مغايراً لكلّ واحد من جزئيه ، فهذا القسم التحق بالقسم الذي كان الداعي إليه مغايراً لطلب رضوان الله تعالى ، فوجب أن يكون مقبولاً ، ويمكن أن يقال لما كان طلب الآخرة راجحاً ، على طلب الدنيا : تعارض المثل بالمثل ، فيبقى القدر الزائد داعية خالصة لطلب الآخرة ، فوجب كونه مقبولاً ، وأما إذا كان طلب الدُّنيا وطلب الآخرة متعادلين ، أو كان طلب الدُّنيا راجحاً فهذا ، قد اتفقوا على أنه غير مقبول ، إلا أنه على كلّ حال خير ، مما إذا كان طلب الدنيا خالياً بالكلية عن طلب الآخرة .
وأما القسم الرابع : وهو أنْ يقال : إنه أقدم على ذلك الفعل ، من غير داع ، فهذا بناء على أن صدور الفعل من القادر ، هل يتوقف على حصول الداعي أم لا ؟
فالذين يقولون : إنه متوقف ، قالوا هذا القسم : ممتنع الحصول ، والذين قالوا : إنه لا يتوقف ، قالوا : هذا الفعل لا أثر له في الباطن ، وهو محرّم في الظاهر : لأنه عبث ، والله أعلم .
ثم قال تعالى : { كُلاَّ } أي كلّ واحد من الفريقين ، والتنوين عوض من المضاف إليه : { نُّمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبّكَ } أي أنه تعالى : يمد الفريقين ، بالأموال ، ويوسع عليهما في الرزق ، مثل الأموال والأولاد ، وغيرهما من أسباب العزّ والزينة في الدُّنيا ، لأنَّ عطاءنا : ليس يضيق عن أحد : مؤمناً كان أو كافراً ، لأنَّ الكلّ مخلوقون في دار العمل ، فوجب إزاحة العذر ، وإزالة العلة عن الكل ، وإيصال متاع الدُّنيا إلى الكلّ ، على القدر الذي يقتضيه الصلاح ، فبين تعالى : أن عطاءه ، ليس بمحظور ، أي غير ممنوع ، يقال حظره يحظره ، وكلّ من حال بينه وبين شيء ، فقد حظره عليك .
ثم قال تعالى : { انظر كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ } وفيه قولان :
القول الأول : المعنى : انظر إلى عطائنا المباح ، إلى الفريقين في الدُّنيا ، كيف فضلنا بعضهم على بعض ، فأوصلناه إلى مؤمن ، وقبضناه عن مؤمن آخر ، وأوصلناه إلى كافر ، وقبضناه عن كافر آخر ، وقد بين تعالى وجه الحكمة في هذا التفاوت فقال : { نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِى الحياة الدنيا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ درجات لّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً } [ الزخرف : 32 ] ، وقال في آخر سورة الأنعام : { وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ درجات لّيَبْلُوَكُمْ فِيمَا ءاتاكم } [ الأنعام : 165 ] .
ثم قال : { وَلَلأَخِرَةُ أَكْبَرُ درجات وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً } والمعنى : أن تفاضل الخلق ، في درجات منافع الدنيا ، محسوس ، فتفاضلهم في درجات منافع الآخرة أكبر وأعظم ، فإنَّ نسبة التفاضل ، في درجات الآخرة ، إلى التفاضل في درجات الدنيا : كنسبة الآخرة إلى الدُّنيا ، فإذا كان الانسان تشتد رغبته في طلب فضيلة الدُّنيا ، فأنَّ تقوى رغبته في طلب فضيلة الآخرة أولى .
القول الثاني : أنَّ المراد : أنَّ الآخرة أعظم وأشرف من الدُّنيا ، والمعنى أنَّ المؤمنين يدخلون الجنة ، والكافرين يدخلون النار ، فيظهر فضل المؤمنين على الكافرين ، ونظيره قوله تعالى : { أصحاب الجنة يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً } [ الفرقان : 24 ] .
القول الثاني : أنَّ المراد : أنَّ الآخرة أعظم وأشرف من الدُّنيا ، والمعنى أنَّ المؤمنين يدخلون الجنة ، والكافرين يدخلون النار ، فيظهر فضل المؤمنين على الكافرين ، ونظيره قوله تعالى : { أصحاب الجنة يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً } [ الفرقان : 24 ] .
...................................