بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله
قالت أعرابية وهي تُرَقِّصُ ولدها:
يا حبذا ريح الولــدْ *** ريح الخزامــى في البلدْ
أهكذا كــل ولد *** أم لم يلـد قبلي أحـــدْ
إن حب الأم حب خالد لا تشوبه المعكرات ولا تنقص دفقاته الأيام، يصد الأب ويجفو الأخ، وتنفر الزوجة، ويتقلّب الصديق، ويلج بالهجران الحبيب، أما الأم فلا يمكن أن تتغير أو تتلوث بلوثات الهوى أو الغضب أو الأنفة ولا يمكن أن يغادر عصفور الحب أعشاش قلبها، وإن غضبت أو ضجرت فإلى جزيرة هادئة ترسو سفينتها، إنها سيدة الجميع، وست الحبايب، والجنيه الذهب الذي لا يُذهِبُ رونقه تقليب الأكف ومداولة الأصابع، والنور الذي لا ينضب، والماء العذب الزلال إذا اعتكرت الموارد أو قلت.
ليس هناك قلب يحوي الكمال البشري بكل صوره إلا قلب الأم، ولا يفطن إلى هذا الأمر إلا القليل. من هؤلاء النسوة تنبغ العبقرية وتولد المعجزة. إنّ الأم إذا عرفت كيف تصب أحاسيسها المرهفة في قلب صغيرها وزودت نفسه بأجمل الصفات وأعظمها، فإنها بذلك تصنع التاريخ وتغير مسار الحضارة. يقول أحد المبدعين:
"إنّ قُبْلة من أمي جعلتني فناناً"، أي أنها أرهفت حسّه وجعلته ذا نفس مشرقة تنظر إلى الوجود على أنه مجموعة أسرار تحتاج إلى قلب، وعقل يكتشفان كنهها.
ولذلك خاطب"إدمون روستان"الوالدات بأدب جَمّ ونَبَّههنّ على ما يحوينه من صفات يمكن أن تُصَيِّر الطفل الساذج رجلاً عظيماً يلج بوابة المجد ويقول:
"أيتها الوالدات: ليكن عطفكن ممزوجاً بالاحترام ولتكن القُبُلات التي تضعها شفاهكن على جبين الطفل باحتراس وحذر.
ولتملأ الخشية ضحككن.
ولترهبن من حملكن المستقبل هكذا فوق حجوركن.
ولتذكرن كلما أخذتن تلك الرؤوس الصغيرة بين أيديكن
تحاولن أن تقرأن ما في العيون البر يئة من أسرار.
إنكن قد تكن ممسكاتٍ عالماً بين أيديكن."
ما أجمل هذا النداء البسيط المليء بالمعاني السامية الدال على نفس مضيئة تعلمت الحنان والعطف واستشعرت العظمة الدفينة في قلوب الأمهات!
وجميل قول الشاعر يصف ضحكةً كرنين الحليّ تستهوي القلوب وتوقظ مصابيح الإحساس في النفوس، وما إخالها إلا ضحكة الأم تلك الضحكة التي لا يمكن أن تلونها تهويمات النفس وحظوظ الجسد:
ضـحكةٌ منـك صـوتها تغريـد *** العصـــــافيـر تستـفز القــلوبا
ضـحكة ردت المـشيب شبـاباً *** وأمـاتت مـن الوجـوه الشُّحوبا
ضـــــــحكـات كـأنـها نغمـاتٌ *** تـترك الغـافلَ الغـبـيَّ طَروبـا
تنزع الهم من ضلوع ذوي الهم *** وتحنـي علـى القـلوب القلـوبا
وقد حرص الإسلام على الأم ورفع شأنها وسعى في حماية حقها، وأكسبها مع قوة الأمومة قوة الشرع، وفُتحت أبواب السماوات لدعواتها، أما إنّ الأم سياج الدولة ولن تصح دولة ويكون لها شأن إلا إذا حمت حقوق الأم، وهيأت لها ما يجمل عقلها ونفسها، وبذلك يكون الجيل جيلاً صالحاً يحفظ الحقوق ويراعى الذمم ويحمي الحوْزة...
وإذا كانت الأم مصدر الإلهام وفتيل العبقرية في حال رضاها، فإنها كذلك في حال غضبها وسخطها؛ لأن الولد لا يتصور -أبداً- أن تكون أمه رسول شرٍ، مدمر، فيخرج نفسه من دائرة اليأس والألم ليعمل بجد واجتهاد حتى يكون ذا شأن تنظر إليه الأبصار وتشير نحوه الأصابع، فتنكسر شِرَّة الأم وتهدأ نفسها وتسعد بما حصله ولدها فتعود إليه هانئة راضية.
ومن طرائف الفيلسوف الأشهر"شوبنهور"أن أمه كانت تبغضه وتقسو عليه وتمنعه من الدخول إلى صالونها الأدبي، وفي أحد الأيام ركلته برجلها فسقط ثم نهض وقال كلمة حفظها التاريخ وصدقتها الآية:
"اذهبي حيثُ شئت وافعلي ما بدالك، ولكن لن يعرفك الناس إلا بأنك أمي، وقد كان".
ختاماً يقول شاعر إيطالي رقيق اسمه"أدمونددي أميشيس"مبيناً حق الأم، وهي مقطوعة رائعة تستحق أن تقرأها في هدأة، تحت ضوء خافت متصوراً هذه السيدة الجليلة ذات الشعر الأشيب التي عانت الآلام وتفجرت بالدماء لتخرج منها إلى نور الحياة، فتهرق دمعك صادقاً وتملأ نفسك بالأحاسيس الصادقة، وتتوجه إلى فراشها وتقبل قدميها وترفع يديك داعياً لها:
إن الزمان لا يقوى دائما على محو الجمال، ولا تُذبله الدموع والأحزان، فإن لأمي من العمر ستين عاماً.
وكلّما ازددت تحديقاً في وجهها ازدادت في عيني بهاء
كل حركة أو نظرة أو ابتسامة أو عمل منها
تلامس أعماق قلبي بعذوبة وحلاوة
أتمنى أن أصورها حينما تحني إلي وجهها
لكي أقبل ضفيرتها البيضاء
أو حينما تكون مريضة أو تعبة
وتخفي عني ألمها بابتسامة حنون
وددت لو أستطيع أن أستبدل حياة بحياة
فأهب أمي شبابي وقوتي
لأرى نفسي شيخاً هَرِماً
أراها من تضحيتي في عنفوان الشباب.
الكاتب : سلمان بن محمد العنزي