الذكر المحفوظ
الحمد لله ربِّ العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وآله وسلَّم تسليمًا كثيرًا، أما بعد:
فإن الله عز وجل أخبَرَ في كتابه أنه قد أنزَل إلينا الذكرَ وتكفَّل بحفظه، فقال سبحانه: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [الحجر: 9]، وبيَّن سبحانه أنَّ الذكرَ المنزَّلَ شيئان: القرآنُ والسُّنةُ، فقال تعالى: ﴿ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [النحل: 44].
وأشبهُ شيءٍ بأَنْ يكونَ الذكرُ المنزَّل في هذا الموضعِ هو السُّنةَ؛ إذ هي بيانُ الكتابِ المنزَّلِ، وقد أَخبرَ سبحانه في هذه الآية أنه نزَّلَ الذِّكرَ لِتَبيِينِ المنزَّلِ؛ فكان المنزَّلُ أَمرينِ، أحدُهما بيانٌ للآخَر، وقد بانَ بالنصِّ والإجماع أنَّ السُّنة شارحةٌ مُبيِّنة للكتاب.
وفي كتابِ الله تعالى على ذلك دلالةٌ في قوله تعالى: ﴿ ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ ﴾ [آل عمران: 58]؛ ففرَّق سبحانه بين الآياتِ والذِّكرِ المنعوتِ بالحكمة، فكان دالًّا على أنَّ المنزَّلَ مِن عند الله تعالى أمران: آياتٌ قرآنية، وذكرٌ منعوتٌ بالحكمة، وقد جاء هذا أيضًا في قوله تعالى: ﴿ وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا ﴾ [الأحزاب: 34]، فأخبر سبحانه أنَّ المَتْلُوَّ في بُيوت النبوة آياتٌ قرآنية وحكمةٌ، وجعلها كلَّها ذِكرًا.
وكان مِن تفسيرِ العالِمينَ بالكتاب والسُّنة أنَّ الحكمةَ هي السُّنة النبوية، وكان عندهم شبهُ إجماعٍ على هذا المعنى، فإذا كان ذلك كذلك، تَبيَّنَ أن الذكرَ المنزَّلَ المحفوظَ هو الكتابُ والسُّنة المُبيِّنة؛ إذ لا يجوز أن يَبقى الكتابُ مُجْمَلًا دون تفسيرٍ وشرح، ولا يجوز أن يُحفَظ المُجمَلُ دونَ حفظِ المُبيِّنِ؛ إذ لا فائدة في حفظه دونَ بيانٍ وتفسير.
ولا يجوز أن يُحفَظ القرآنُ والسُّنة ويضيعَ معنى شيءٍ منهما، ومعنى الكتابِ والسُّنةِ لا يَستبينُ إلا باللُّغة التي بها أُنزِل الدين، وهي لغة العرب، فلُغَة العرب محفوظةٌ بحفظ الله تعالى للوَحيَينِ الكتابِ والسُّنةِ، وهي اللغة التي يستطيع أهلُها فهمَها بعد أكثر مِن أربعمائة وألفِ سنةٍ، دون حاجة إلى معاجم وتفاسير في معظمها، دون سائر اللغات التي يتعسَّر على أهلِها فهمُ ما سطَّرَه علماؤهم وأدباؤهم قبل مائتَي سنةٍ إلا بالمعاجم والشروح، ولله الحمد والمنَّة.
وكان مما جاء في الكتاب تسميتُه ذِكرًا: النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم، فقال عز وجل: ﴿ قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا * رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ﴾ [الطلاق: 10، 11]، وهذا تفسيرٌ لبعض العالِمينَ بالكتاب، يُؤيِّدُه ظاهرُ النص، وقال بعضهم: ليس الرسول هنا بدلًا مِن الذِّكر، وقدَّروا قبلَ ﴿ رَسُولًا ﴾ تقديراتٍ مختلفةً، ولكن الأخذَ بظاهر السياق أَوْلَى، والله أعلم.
وسُمِّي النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم ذكرًا؛ لأنه هو المُتكلِّم بالذكر الذي هو الكتاب والسُّنة، ﴿ إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ﴾ [النجم: 4]، كما رُوِّينا بالأسانيدِ المُتَّصِلة الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((ألا إِنِّي أُوتِيتُ الكتابَ ومثلَه معه))؛ [أخرجه أحمد: 17174، وأبو داود: 4604].
ولَمَّا كان صلى الله عليه وآله وسلم ذِكرًا، كان محفوظًا عن الناس؛ كما أخبر سبحانه: ﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ﴾ [المائدة: 67]؛ فحَفِظه اللهُ تعالى لِيُبَلِّغَ الدينَ، وقد بلَّغه وأدَّى الأمانةَ - بأبي هو وأمي عليه السلام - وكان مكانُه محفوظًا، ودِينُه لا يَفوتُ على أحدٍ طَلَبَه في حياته وبعد وفاته؛ فكان حِفْظُه صلى الله عليه وآله وسلم مِن حفظِ الذِّكر الذي تكفَّل اللهُ عز وجل به، حتى صار مكانُ قبرِه محفوظًا بِيَقِينٍ، دون سائر النبيِّين عليهم صلاةُ الله وسلامُه، وحتى صارَت أُمَّتُه محفوظةً مِن أن تُستَباحَ أو أنْ تَهلِكَ بعامَّةٍ؛ كما روِّينا عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((لا تزالُ طائفةٌ مِن أُمَّتي ظاهرِينَ على الحق، لا يضرُّهم مَن خذَلهم حتى يأتي أمرُ الله وهم كذلك))؛ [أخرجه البخاري: 7460، ومسلم: 1920].
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: ((إني سألتُ ربِّي لأمَّتي ألا يُهلِكَها بسَنَةٍ بعامَّةٍ، وألا يُسلِّط عليهم عدوًّا مِن سوى أنفسهم، فيستبيح بَيْضَتَهم، وإن ربِّي قال: يا محمد، إني إذا قضيتُ قضاءً فإنه لا يُرَدُّ، وإني أعطيتُك لأمَّتِك ألا أُهلِكَهم بسَنَة بعامَّة، وألا أُسلِّط عليهم عدوًّا مِن سوى أنفسهم يستبيح بيضتهم، ولو اجتمع عليهم مَن بأقطارها - أو قال: مَن بين أقطارها - حتى يكون بعضهم يُهلِك بعضًا، ويسبي بعضهم بعضًا))؛ [أخرجه مسلم: 2889]؛ فكانت هذه الأمةُ محفوظةً مرحومة بحفظ الله الذكرَ المُنزَّل للعالمين هدايةً ونورًا، والله تعالى أعلم.
الالوكة