القول في معاصي القلب..
اعلم أن الصفات المذمومة في القلب كثيرة ، وطريق تطهير القلب من رذائلها طويلة ، وسبيل العلاج فيها غامض ، وقد اندرس بالكلية علمه وعمله لغفلة الخلق عن أنفسهم واشتغالهم بزخارف الدنيا.
وقد استقصينا ذلك كله في كتاب (إحياء علوم الدين) في ربع المهلكات وربع المنجيات ، ولكنا نحذرك ثلاثا من خبائث القلب هي الغالبة لي متفقهة العصر لتأخذ منها حذرك ، فإنها مهلكات في أنفسها ، وهي أمهات لجملة من الخبائب سواها: وهي الحسد ، والرياء ، والعجب.
فاجتهد في تطهير قلبك منها ، فإن قدرت عليها فتعلم كيفية الحذر من بقيتها من ربع المهلكات ، فإن عجزت عن هذا فأنت عن غيره أعجز.
ولا تظن أنك تسلم بنية صالحة في تعلم العلم وفي قلبك شيء من الحسد والرياء والعجب ، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (ثلاث مهلكات: شح مطاع وهوى متبع وإعجاب المرء بنفسه).
الحسد
أما الحسد: فهو متشعب من الشح ، فإن البخيل: هو الذي يبخل بما في يده على غيره ، والشحيح: هو الذي يبخل بنعمة الله تعالى وهي في خزائن قدرته تعالى لا في خزائنه على عباد الله ، فشحه أعظم ، والحسود: هو الذي يشق عليه إنعام الله تعالى من خزائن قدرته على عبد من عباده بعلم أو مال أو محبة في قلوب الناس أو حظ من الحظوظ ، حتى أنه ليحب زوالها عنه وإن لم يحصل له بذلك شيء من تلك النعمة ، فهذا منتهى الخبث فلذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب) ، والحسود هو المعذب الذي لا يُرحم ولا يزال في عذاب دائم في الدنيا إلى موته ، ولعذاب الآخرة أشد وأكبر.
بل لا يصل العبد إلى حقيقة الإيمان ما لم يحب لسائر الناس ما يحب لنفسه ، بل ينبغي أن يساهم المسلمين في السراء والضراء ، فالمسلمون كالبنيان الواحد يشد بعضه بعضا ، وكالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو اشتكى سائر الجسد ، فإن كنت لا تصادف هذا من قلبك فاشتغالك بطلب التخلص من الهلاك أهم من اشتغالك بنوادر الفروع وعلم الخصومات.
الرياء
وأما الرياء: فهو الشرك الخفي وهو أحد الشركين ، وذلك طلب المنزلة في قلوب الخلق لتنال بها الجاه والحشمة ، وحب الجاه من الهوى المتبع المهلك ، وفيه هلك أكثر الناس ، فما أهلك الناس إلا الناس ، ولو أنصف الناس حقيقة لعلموا أن أكثر ما هم فيه من العلوم والعبادات فضلا عن أعمال العادات ليس يحملهم عليه إلا مراءاة الناس ، وهي محبطة للأعمال كما ورد الخبر: (أن الشهيد يؤمر به يوم القيامة إلى النار فيقول: يا رب استشهدت في سبيلك فيقول الله تعالى: بل أردت أن يقال إنك شجاع وقد قيل ذلك وذلك أجرك) - وكذلك يقال للعالم والحاج والقارئ.
العجب والكبر والفخر
وأما العجب والكبر والفخر: فهو الداء العضال ، وهو نظر العبد إلى نفسه بعين العز والاستعظام ، وإلى غيره بعين الاحتقار والذل ، ونتيجته على اللسان أن يقول: أنا وأنا كما قال إبليس اللعين: (أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين) وثمرته في المجالس الترفع والتقدم وطلب التصدر فيها ، وفي المحاورة الاستنكاف من أن يرد كلامه عليه.
والمتكبر: هو الذي إن وعظ أنِف أو وعظ عنّف ، فكل من رأى نفسه خيرا من أحد من خلق الله تعالى فهو متكبر.
بل ينبغي لك أن تعلم أن الخيّر من هو خيّر عند الله في دار الآخرة ، وذلك غيب وهو موقوف على الخاتمة ، فاعتقادك في نفسك أنك خير من غيرك جهل محض ، بل ينبغي ألا تنظر إلى أحد إلا وترى أنه خير منك ، وأن الفضل له على نفسك ، فإن رأيت صغيرا قلت: هذا لم يعص الله وأنا عصيته فلا شك أنه خير مني ، وإن رأيت كبيرا قلت هذا قد عبد الله قبلي فلا شك أنه خير مني ، وإن كان عالما قلت: هذا قد أعطى ما لم أعط وبلغ ما لم أبلغ وعلم ما جهلت فكيف أكون مثله ، وإن كان جاهلا قلت: هذا قد عصى الله بجهل وأنا عصيته بعلم فحجة الله على آكد وما أدري بم يختم لي وبم يختم له؟ وإن كان كافرا قلت: لا أدري عسى أن يسلم ويختم له بخير العمل وينسل بإسلامه من الذنوب كما تنسل الشعرة من العجين وأما أنا ـ والعياذ بالله ـ فعسى أن يضلني الله فأكفر فيختم لي بشر العمل فيكون غدا هو من المقربين وأنا أكون من المبعدين.
فلا يخرج الكبر من قلبك إلا بأن تعرف أن الكبير من هو كبير عند الله تعالى ، وذلك موقوف على الخاتمة وهي مشكوك فيها ، فيشغلك خوف الخاتمة عن أن تتكبر مع الشك فيها على عباد الله تعالى ، فيقينك وإيمانك في الحال لا يناقض تجويزك التغير في الاستقبال ، فإن الله مقلب القلوب يهدي من يشاء ويضل من يشاء.
المرجع كتاب:بداية الهداية للشافعي: