من علامات صحة القلب
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه إن الدنيا قد ترحلت مدبرة وإن الآخرة قد ترحلت مقبلة ولكل منهما بنون فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا فإن اليوم عمل ولا حساب وغدا حساب ولا عمل
وكلما صح القلب من مرضه ترحل إلى الآخرة وقرب منها حتى يصير من أهلها وكلما مرض القلب واعتل آثر الدنيا واستوطنها حتى يصير من أهلها
ومن علامات صحة القلب أنه لا يزال يضرب على صاحبه حتى ينيب إلى الله ويخبت إليه ويتعلق به تعلق المحب المضطر إلى محبوبه الذي لا حياة له ولا فلاح ولا نعيم ولا سرور إلا برضاه وقربه والأنس به فبه يطمئن وإليه يسكن وإليه يأوي وبه يفرح وعليه يتوكل وبه يثق وأياه يرجو وله يخاف فذكره قوته وغذاؤه ومحبته والشوق إليه حياته ونعيمه ولذته وسروره والالتفاف إلى غيره والتعلق بسواه داؤه والرجوع اليه دواؤه
فإذا حصل له ربه سكن إليه واطمأن به وزال ذلك الاضطراب والقلق وانسدت تلك الفاقة فإن في القلب فاقة لا يسدها شيء سوى الله تعالى أبدا وفيه شعث لا يلمه غير الإقبال عليه وفيه مرض لا يشفيه غير الإخلاص له وعبادته وحده فهو دائما يضرب على صاحبه حتى يسكن ويطمئن إلى الهه ومعبوده فحينئذ يباشر روح الحياة ويذوق طعمها ويصير له حياة أخرى غير حياة الغافلين المعرضين عن هذا الأمر الذي له خلق الخلق ولأجله خلقت الجنة والنار وله أرسلت الرسل ونزلت الكتب ولو لم يكن جزاء إلا نفس وجوده لكفى به جزاء وكفى بفوته حسرة وعقوبة
قال بعض العارفين مساكين أهل الدينا خرجوا من الدنيا وما ذاقوا أطيب ما فيها قيل وما أطيب ما فيها قال محبة الله والأنس به والشوق إلى لقائه والتنعم بذكره وطاعته
وقال آخر إنه ليمر بي أوقات أقول فيها إن كان أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفي عيش طيب
وقال آخر والله ما طابت الدنيا إلا بمحبته وطاعته ولا الجنة إلا برؤيته ومشاهدته
وقال أبو الحسين الوراق حياة القلب في ذكر الحي الذي لا يموت والعيش الهني الحياة مع الله تعالى لا غير ولهذا كان الفوت عند العارفين بالله أشد عليهم من الموت لأن الفوت انقطاع عن الحق والموت انقطاع عن الخلق فكم بين الانقطاعين
وقال آخر من قرت عينه بالله تعالى قرت به كل عين ومن لم تقر عينه بالله تقطع قلبه على الدنيا حسرات
وقال يحيى بن معاذ من سر بخدمة الله سرت الأشياء كلها بخدمته ومن قرت عينه بالله قرت عيون كل أحد بالنظر إليه
ومن علامات صحة القلب أن لا يفتر عن ذكر ربه ولا يسأم من خدمته ولا يأنس بغيره إلا بمن يدله عليه ويذكره به ويذاكره بهذا الأمر
ومن علامات صحته أنه إذا فاته ورده وجد لفواته ألما أعظم من تألم الحريص بفوات ماله وفقده
ومن علامات صحته أنه يشتاق إلى الخدمة كما يشتاق الجائع إلى الطعام والشراب
ومن علامات صحته أنه إذا دخل في الصلاة ذهب عنه همه وغمه بالدنيا واشتد عليه خروجه منها ووجد فيها راحته ونعيمه وقرت عينه وسرور قلبه
ومن علامات صحته أن يكون همه واحدا وأن يكون في الله
ومن علامات صحته أن يكون أشح بوقته أن يذهب ضائعا من أشد الناس شحا بماله
ومنها أن يكون اهتمامه بتصحيح العمل أعظم منه بالعمل فيحرص على الإخلاص فيه والنصحية والمتابعة والإحسان ويشهد مع ذلك منة الله عليه فيه وتقصيره في حق الله
فهذه ست مشاهد لا يشهدها إلا القلب الحي السليم
وبالجملة فالقلب الصحيح هو الذي همه كله في الله وحبه كله له وقصده له وبدنه له وأعماله له ونومه له ويقظته له وحديثه والحديث عنه أشهى إليه من كل حديث وأفكاره تحوم على مراضيه ومحابه الخلوة به آثر عنده من الخلطة إلا حيث تكون الخلطة أحب إليه وأرضى له قرة عينه به وطمأنينته وسكونه إليه فهو كلما وجد من نفسه التفاتا إلى غيره تلا عليها
(يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية )
فهو يردد عليها الخطاب بذلك ليسمعه من ربه يوم لقائه فينصبغ القلب بين يدي إلهه ومعبوده الحق بصبغة العبودية فتصير العبودية صفة له وذوقا لا تكلفا فيأتي بها توددا وتحببا وتقربا كما يأتي المحب المقيم في محبة محبوبه بخدمته وقضاء أشغاله
فكلما عرض له أمر من ربه أو نهي أحس من قلبه ناطقا ينطق لبيك وسعديك إني سامع مطيع ممتثل ولك علي المنة في ذلك والحمد فيه عائد إليك
وإذا أصابه قدر وجد من قلبه ناطقا يقول أنا عبدك ومسكينك وفقيرك وأنا عبدك الفقير العاجز الضعيف المسكين وأنت ربي العزيز الرحيم لا صبر لي إن لم تصبرني ولا قوة لي إن لم تحملني وتقوني لا ملجأ لي منك إلا إليك ولا مستعان لي إلا بك ولا انصراف لي عن بابك ولا مذهب لي عنك
فينطرح بمجموعه بين يديه ويعتمد بكليته عليه فإن أصابه بما يكره قال رحمة أهديت إلي ودواء نافع من طبيب مشفق وإن صرف عنه ما يحب قال شرا صرف عني
أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا قلوبا صحيحة خاشعة منيبة راضية مرضية ترجو رحمته وتخاف عذابه إنه هو الرحمن الرحيم وان لا يجعل الدنيا اكبر همنا .
مصدر شبكة الدعوة والتبليغ
__________________