القوي المتين جل جلاله
قال تعالى: ﴿وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ [الحج: 40].
نزلتْ هذه الآية في النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه؛ حيث كانوا في أول الإسلام ممنوعين مِن قتال الكفار، ومأمورين بالصبر عليهم لحكمة إلهية؛ فلما هاجروا إلى المدينة، وأُوذوا وحصل لهم منعة وقوة أُذن لهم بالقتال؛ فقال الله: ﴿ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾ [الحج: 39، 40]، فإننا إن نصَرْنا الله تعالى باتباع أوامره واجتناب نواهيه، وفِعْل ما يُرضيه؛ فإن الله تعالى ناصِرُنا على عدوِّنا مهما قلَّ عدَدُنا وعُدَدُنا، ومهما عظُم عَدَدُهم وعُدَدُهم؛ وقال تعالى: ﴿فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ﴾ [هود: 66]، وقال تعالى: ﴿كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ [المجادلة: 21]، فسبحانه كامل القوة، كاملُ العزة.
• ومِن كمال قوته وعزَّته أنَّ نواصي الخلق بيديه، وأنه لا يتحرك متحرِّكٌ، ولا يسكن ساكنٌ، إلا بإرادته ومشيئته، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن.
• ومِن كمال قوته أنه رفع السماوات بلا عمَدٍ؛ قال تعالى: ﴿لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [غافر: 57]، وقال تعالى: ﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ * هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ [لقمان: 10، 11].
جبال الهيمالايا: يبلغ ارتفاعها اثني عشر ألف متر، ولها قاعدة تغوص تحت الأرض بعمق أربعة وعشرين ألف متر، فجميع جبال الأرض ثلثها فوق الأرض وثلثاها تحت الأرض، فمَن الذي خلَقَها؟ ومَن الذي جعلها أوتادًا للأرض لئلا تميد بنا؟ ومن الذي جعلها مصدَّات للرياح؟ ومن الذي جعلها مستودعًا للكنوز؟ إنه القوي المتين جل جلاله.
• ومن كمال قوته أنه يمسك السماء أن تقع على الأرض، ولو تركها ما قدر أحد على إمساكها؛ قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا﴾ [فاطر: 41].
• ومن كمال قوَّته أن في كونه وخلقه عجائبَ وأسرارًا، مهما عظُمتْ قوى الأرض لن يستطيعوا لها تفسيرًا، إلا إذا شاء الله.
يسمع الكثير عن مثلث برمودا، الذي هو سِرٌّ من أسرار الله في أرضه، طائرات عملاقة تطير فوقه فتسقط في المياه بلا أي خبرٍ يُعرف عنها، وبواخر عملاقة كذلك، كل ذلك مردُّه إلى أنَّ الله قويٌّ عزيز.
• قال تعالى: ﴿اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ﴾ [الشورى: 19].
• وقال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ﴾ [الذاريات: 58].
فمِن أعظم آثار قوة الله جل جلاله: تكفُّله برزق جميع الخلائق، وهذا ما لا يقوى عليه إلا الله.
قال العلامة السعدي رحمه الله: "ومن قوَّته أن أوصَل رزقه إلى جميع العالم..."[1].
معنى الاسم في حق الله:
(القوي) جل جلاله: هو الذي لا يغلبه غالب، ولا يفوته هارب، ولا يَردُّ قضاءه رادٌّ، ينفذ أمرُه ويمضي قضاؤه في خلقِه، شديد عقابه لمن كفَر بآياته وجحد حججه"[2].
(القوي) جل جلاله: هو الذي تتصاغر كل قوة أمام قوته، ويتضاءل كل عظيم أمام عظمته.
(القوي) جل جلاله: هو الذي يُعطي القوة بحكمته لمن يشاء، ويسلبها ممن يشاء، فبينما الرجل في أوج قوته وكامل صحته إذ بالمرض يدهمه؛ فلا يقوى أن يصلب عوده أو يرفع رأسه، ويضعف عن حمل أقل الأشياء.
ويأتي القوي في كتاب الله تعالى في سياقين:
الأول: الإخبار عن تدمير الظالمين والمذنبين.
الثاني: سياق النصر والتأييد والتفريج للمؤمنين والمستضعفين.
وهل هناك فرق بين القوي والقادر والمتين؟
الحقيقة أنه لا فرق، إلا أنَّ القوي هو: "الكامل القدرة على الشيء، تقول: هو القادر على حمله، فإن زدْتَه وصفًا قلت: هو القوي على حمله"[3].
وأما المتين: قال الغزالي: "والمتانة تدل على شدة القوة لله تعالى..."[4].
وقال الخطابي: "المتين: الشديد القويُّ الذي لا تنقطع قوته، ولا تلحقه في أفعاله مشقَّة، ولا يمسه لغوب"[5].
حق القوي المتين جل جلاله:
1-أن تستمدَّ قوتك منه وحده، معتقدًا أنه لا حول ولا قوة إلا بالله:
قال تعالى: ﴿وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ﴾ [البقرة: 165]، فالقوة الحقيقية كلها لله، لا تُستمدُّ إلا منه، وهذه حقيقةٌ سوف يُدركها الغافلون يوم يرون عذاب الله بأبصارهم فيعلمون حينئذٍ علمًا جازمًا أن القوة لله جميعًا، وقد عميتْ أبصارهم في الدنيا عن رؤية شواهد قوَّته ودلائل قدرته، فعلَّقوا قلوبهم بما لا يُعطي ولا يمنع ولا يرفع، ولا يملك لنفسه فضلًا عن غيره شيئًا.
فالقوة كلها لله، والعزيز مَنْ أعزَّه، والذليل مَنْ أذلَّه، والقوي من قوَّاه، والمنصور مَن نصره، والمخذول مَن خذله؛ قال تعالى: ﴿وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ﴾ [هود: 52].
وسألت فاطمة النبي صلى الله عليه وسلم أن يُعطيها خادمًا؛ فقال لها: ((ألا أدُلُّكِ على ما هو خَيْرٌ لكِ مِنْ خادِمٍ؟ تُسبِّحينَ ثلاثًا وثلاثين، وتَحْمَدِين ثلاثًا وثلاثين، وتُكبِّرين أرْبَعًا وثلاثين، حين تأْخُذِين مَضْجَعَكِ))[6].
ولذلك ما أجمل أن يُردِّد العبد: "لا حول ولا قوة إلا بالله"، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالإكثار منها، فقال: ((أكثِرْ مِن لا حول ولا قوة إلا بالله، فإنها كنزٌ مِن كُنوز الجنة))[7].
وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سمِع المؤذِّن قال مثل ما يقول، حتى إذا بلغ: "حي على الصلاة، حي على الفلاح" قال: ((لا حولَ ولا قوَّة َإلا بالله))[8].
ذلك لأنَّ فِعْل الخير من المسارعة إلى الصلاة، والحرص على الفلاح، لا يكون إلا بأن يمنحك الله القوة على ذلك.
وهي في نفس الوقت كلمة إسلام واستسلام، وتفويض وتوكُّل؛ معناها: أنه لا تحوُّل للعبد مِن معصية إلى طاعة، ولا مِن مرض إلى صحة، ولا مِن وهن إلى قوة، ولا مِن نقص إلى زيادة إلا بالله؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ألا أدُلُّكَ على كلمة من تحت العرش من كَنْز الجنة؟ تقول: لا حَوْلَ ولا قُوَّةَ إلا بالله، فيقول الله: أسلَمَ عبدي واستسلَمَ))[9].
ومَن قال هذه الكلمة مستشعرًا معناها، عاملًا بمقتضاها مِن التوكُّل على الله، وصِدْق الاعتماد عليه، هُدِي وكُفِي ووُقِي، وكان مِن أقوى الناس وأحسنهم حالًا ومآلًا، وفي الأثر: "مَنْ سَرَّهُ أن يكون أقوى الناس فليتوكَّل على الله، ومن سَرَّه أن يكون من أغنى الناس فليكُنْ بما في يد الله أوْثَقَ منه بما في يده"[10].
2- ألا يطغى الإنسان بقوَّته، وينسى ضعفه وعجزه:
كثير مِن الناس يُعطيه الله تعالى القوة والمنعة والمال والجاه، فيَطْغى ويستكبر في الأرض، وينسى بدايته وعجزه، وينسى قدرة الله وقهره وبطشه، وقد حكى الله تعالى لنا عن كثيرٍ مِن هؤلاء، منهم قوم هود:
قال الله: ﴿فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ﴾ [فصلت: 15]، فماذا كانتْ عاقبة أمرهم؟
﴿فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ﴾ [فصلت: 16].
فالعاقلُ لا يتجاوز قدره؛ بل عليه أن ينتهزَ فرصة قوَّته وشبابه ويجعلها في الطاعة، كما عليه أن يبذل قوته في الخير، والدفاع عن الحق، ونصرة الضعيف، وإنصاف المظلوم.
3- ألا يدبَّ اليأس إلى قلبك:
لأنك تتعامل مع القوي المتين جل جلاله، الذي لا يعجزه شيء، ولا يغلبه ولا يفوته هارب؛ ولهذا كان اليأسُ من روح الله من صفات الكافرين؛ ﴿إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾ [يوسف: 87].
4- ألا يكون خوفك إلا منه:
لأنَّ قوته سبحانه وتعالى فوق كل قوة، وليس أقوى مِن القويِّ أحدٌ، فكيف تخاف أحدًا أكثر مِن خوفك مِن الله؟!
وكيف تخشى سطوة أمير أو مدير أكثر مِن خشيتك لله، والله تعالى يقول: ﴿فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ﴾ [المائدة: 44]، ويقول: ﴿فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: 175].
فلا بد أن تُحقِّق الخوف الحقيقي مِن القويِّ جل جلاله كعلامة مِن علامات إيمانك؛ ولهذا قال الإمام أحمد لرجل وقد شكا إليه من الخوف: "لو صَحَحْتَ لم تخَفْ أحدًا"[11].
5- ألا تطلب النصرة إلا منه:
لأن النصر الحقيقي لا يكون إلا مِن عند الله لعباده المؤمنين الذين نصروا دينه بقلوبهم وأقوالهم وأفعالهم، فاستحقوا بذلك نصر ربهم؛ قال تعالى: ﴿وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ [الحج: 40]، فليس النصر للأقوى سلاحًا، ولا للأكثر عددًا؛ وإنما لمن آمن بالله القويِّ وتعلَّق به؛ قال الله: ﴿وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [الأنفال: 10].
لقد أنزل الله الملائكة يوم بدر، ووظيفتها بثُّ البُشرى والطُّمَأْنينة في قلوب المؤمنين ليس أكثر، فإن الله تعالى ناصرٌ عباده المؤمنين بقوته القاهرة وقدرته الباهرة؛ قال الله تعالى: ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [الأنفال: 9، 10].
هذه عقيدة راسخة عند مَن آمن بالله القويِّ، فهو يعمل كل ما يقدر عليه دون أن يعتمد على نفسه؛ بل على قوة مَن آمن به وجاهد في سبيله.
حين جاء الأحزاب لحصار المدينة وتآمروا لكسر شوكة المؤمنين، وأحكموا كيدهم سِرًّا وعلانيةً، أرسل الله القويُّ عليهم ريحًا عاتية اقتلعتْ خيامهم، وقلبتْ قدورهم، وأطفأتْ نيرانهم؛ قال تعالى: ﴿وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا﴾ [الأحزاب: 25].
6-أن نعمل جاهدين على تحصيل القوة (مع الأمانة):
قال تعالى: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ﴾ [الأنفال: 60]، وقال صلى الله عليه وسلم: ((ألَا إنَّ القُوَّةَ الرَّمْيُ))[12]؛ فالله تعالى يُحب القوة والأقوياء؛ الأقوياء في إيمانهم وأجسادهم وعلمهم وتعاطيهم وأخذهم وسائر أمورهم؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: ((المؤمنُ القويُّ خَيْرٌ وأحَبُّ إلى الله مِن المؤمن الضعيف، وفي كُلٍّ خيرٌ، احرِصْ على ما ينفَعُكَ، واسْتعِن بالله ولا تعجزْ))[13].
والله تعالى يكره القوة المبنية على الطغيان والظلم؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: ((لا قُدِّسَتْ أُمَّةٌ لا يأخُذُ الضعيفُ فيها حقَّه غيرَ مُتَعْتَعٍ))[14]، وقوله: ((غير مُتَعْتَعٍ))؛ أي: من غير أن يُصيبَه أذًى يُقلِقُه ويُزعجه[15].
فلا بد مع القوة مِن الأمانة: ﴿يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ﴾ [القصص: 26].
إن قوَّةً بغير أمانة كفيلةٌ بأن تنتج الطغاة في الأرض، وتنشُر الظلمَ والعدوان، وإن أمانةً مع ضَعْفٍ كفيلةٌ بأن تُفسِد من حيث أردْتَ الإصلاح، فلا بد لنا - إن أردْنا النهوض - مِن هاتين الصفتين: القوة والأمانة[16].
وقد عرفنا القوة، أما الأمانة فـ"ترجع إلى خشية الله، وألا نشتري بآياته ثمنًا قليلًا، وترك خشية الناس..."[17].
7- دعاء الله تعالى باسمه القويِّ والمتين: فاللهم إنا نسألك باسمك القويِّ:
♦ أن تُوفِّقنا إلى طاعاتك، وتُعيننا على مرضاتك، وتأخُذ بنواصينا إلى طريق جناتك.
♦ وتنصرنا على أعدائك، وأن تُعيننا على ضَعْف نفوسنا ووهن قلوبنا، وأن تجعلنا مِن الصادقين.
♦ اللهم إنا نسألك باسمك القوي أن تنتقمَ مِن الظالمين، اللهم أَرِنا فيهم عجائبَ قُدرتكَ.
♦ اللهم إنا نسألك باسمك القوي أن تشفي صُدور قومٍ مؤمنين.
اللهم آمين.
[1] تفسير السعدي.
[2] تفسير الطبري، وتفسير ابن كثير.
[3] تفسير أسماء الله الحسنى؛ الزجاج.
[4] المقصد الأسنى.
[5] شأن الدعاء.
[6] رواه مسلم.
[7] رواه ابن حبان، وصححه الألباني.
[8] رواه أحمد، وصحَّحه الألباني في الصحيحة.
[9] رواه الحاكم، وصححه الألباني في صحيح الجامع.
[10] ذكره ابن تيمية في الفتاوى، ولا تصحُّ نسبتُه إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ انظر: الضعيفة.
[11] هنيئًا لمن عرف ربَّه، بتصرُّف يسير.
[12] رواه مسلم.
[13] رواه مسلم.
[14] رواه ابن ماجه، وصححه الألباني.
[15] حاشية السندي على سنن ابن ماجه.
[16] هنيئًا لمن عرف ربَّه.
[17] مجموع الفتاوى: ابن تيمية.
الالوكة
قال تعالى: ﴿وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ [الحج: 40].
نزلتْ هذه الآية في النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه؛ حيث كانوا في أول الإسلام ممنوعين مِن قتال الكفار، ومأمورين بالصبر عليهم لحكمة إلهية؛ فلما هاجروا إلى المدينة، وأُوذوا وحصل لهم منعة وقوة أُذن لهم بالقتال؛ فقال الله: ﴿ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾ [الحج: 39، 40]، فإننا إن نصَرْنا الله تعالى باتباع أوامره واجتناب نواهيه، وفِعْل ما يُرضيه؛ فإن الله تعالى ناصِرُنا على عدوِّنا مهما قلَّ عدَدُنا وعُدَدُنا، ومهما عظُم عَدَدُهم وعُدَدُهم؛ وقال تعالى: ﴿فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ﴾ [هود: 66]، وقال تعالى: ﴿كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ [المجادلة: 21]، فسبحانه كامل القوة، كاملُ العزة.
• ومِن كمال قوته وعزَّته أنَّ نواصي الخلق بيديه، وأنه لا يتحرك متحرِّكٌ، ولا يسكن ساكنٌ، إلا بإرادته ومشيئته، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن.
• ومِن كمال قوته أنه رفع السماوات بلا عمَدٍ؛ قال تعالى: ﴿لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [غافر: 57]، وقال تعالى: ﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ * هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ [لقمان: 10، 11].
جبال الهيمالايا: يبلغ ارتفاعها اثني عشر ألف متر، ولها قاعدة تغوص تحت الأرض بعمق أربعة وعشرين ألف متر، فجميع جبال الأرض ثلثها فوق الأرض وثلثاها تحت الأرض، فمَن الذي خلَقَها؟ ومَن الذي جعلها أوتادًا للأرض لئلا تميد بنا؟ ومن الذي جعلها مصدَّات للرياح؟ ومن الذي جعلها مستودعًا للكنوز؟ إنه القوي المتين جل جلاله.
• ومن كمال قوته أنه يمسك السماء أن تقع على الأرض، ولو تركها ما قدر أحد على إمساكها؛ قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا﴾ [فاطر: 41].
• ومن كمال قوَّته أن في كونه وخلقه عجائبَ وأسرارًا، مهما عظُمتْ قوى الأرض لن يستطيعوا لها تفسيرًا، إلا إذا شاء الله.
يسمع الكثير عن مثلث برمودا، الذي هو سِرٌّ من أسرار الله في أرضه، طائرات عملاقة تطير فوقه فتسقط في المياه بلا أي خبرٍ يُعرف عنها، وبواخر عملاقة كذلك، كل ذلك مردُّه إلى أنَّ الله قويٌّ عزيز.
• قال تعالى: ﴿اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ﴾ [الشورى: 19].
• وقال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ﴾ [الذاريات: 58].
فمِن أعظم آثار قوة الله جل جلاله: تكفُّله برزق جميع الخلائق، وهذا ما لا يقوى عليه إلا الله.
قال العلامة السعدي رحمه الله: "ومن قوَّته أن أوصَل رزقه إلى جميع العالم..."[1].
معنى الاسم في حق الله:
(القوي) جل جلاله: هو الذي لا يغلبه غالب، ولا يفوته هارب، ولا يَردُّ قضاءه رادٌّ، ينفذ أمرُه ويمضي قضاؤه في خلقِه، شديد عقابه لمن كفَر بآياته وجحد حججه"[2].
(القوي) جل جلاله: هو الذي تتصاغر كل قوة أمام قوته، ويتضاءل كل عظيم أمام عظمته.
(القوي) جل جلاله: هو الذي يُعطي القوة بحكمته لمن يشاء، ويسلبها ممن يشاء، فبينما الرجل في أوج قوته وكامل صحته إذ بالمرض يدهمه؛ فلا يقوى أن يصلب عوده أو يرفع رأسه، ويضعف عن حمل أقل الأشياء.
ويأتي القوي في كتاب الله تعالى في سياقين:
الأول: الإخبار عن تدمير الظالمين والمذنبين.
الثاني: سياق النصر والتأييد والتفريج للمؤمنين والمستضعفين.
وهل هناك فرق بين القوي والقادر والمتين؟
الحقيقة أنه لا فرق، إلا أنَّ القوي هو: "الكامل القدرة على الشيء، تقول: هو القادر على حمله، فإن زدْتَه وصفًا قلت: هو القوي على حمله"[3].
وأما المتين: قال الغزالي: "والمتانة تدل على شدة القوة لله تعالى..."[4].
وقال الخطابي: "المتين: الشديد القويُّ الذي لا تنقطع قوته، ولا تلحقه في أفعاله مشقَّة، ولا يمسه لغوب"[5].
حق القوي المتين جل جلاله:
1-أن تستمدَّ قوتك منه وحده، معتقدًا أنه لا حول ولا قوة إلا بالله:
قال تعالى: ﴿وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ﴾ [البقرة: 165]، فالقوة الحقيقية كلها لله، لا تُستمدُّ إلا منه، وهذه حقيقةٌ سوف يُدركها الغافلون يوم يرون عذاب الله بأبصارهم فيعلمون حينئذٍ علمًا جازمًا أن القوة لله جميعًا، وقد عميتْ أبصارهم في الدنيا عن رؤية شواهد قوَّته ودلائل قدرته، فعلَّقوا قلوبهم بما لا يُعطي ولا يمنع ولا يرفع، ولا يملك لنفسه فضلًا عن غيره شيئًا.
فالقوة كلها لله، والعزيز مَنْ أعزَّه، والذليل مَنْ أذلَّه، والقوي من قوَّاه، والمنصور مَن نصره، والمخذول مَن خذله؛ قال تعالى: ﴿وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ﴾ [هود: 52].
وسألت فاطمة النبي صلى الله عليه وسلم أن يُعطيها خادمًا؛ فقال لها: ((ألا أدُلُّكِ على ما هو خَيْرٌ لكِ مِنْ خادِمٍ؟ تُسبِّحينَ ثلاثًا وثلاثين، وتَحْمَدِين ثلاثًا وثلاثين، وتُكبِّرين أرْبَعًا وثلاثين، حين تأْخُذِين مَضْجَعَكِ))[6].
ولذلك ما أجمل أن يُردِّد العبد: "لا حول ولا قوة إلا بالله"، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالإكثار منها، فقال: ((أكثِرْ مِن لا حول ولا قوة إلا بالله، فإنها كنزٌ مِن كُنوز الجنة))[7].
وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سمِع المؤذِّن قال مثل ما يقول، حتى إذا بلغ: "حي على الصلاة، حي على الفلاح" قال: ((لا حولَ ولا قوَّة َإلا بالله))[8].
ذلك لأنَّ فِعْل الخير من المسارعة إلى الصلاة، والحرص على الفلاح، لا يكون إلا بأن يمنحك الله القوة على ذلك.
وهي في نفس الوقت كلمة إسلام واستسلام، وتفويض وتوكُّل؛ معناها: أنه لا تحوُّل للعبد مِن معصية إلى طاعة، ولا مِن مرض إلى صحة، ولا مِن وهن إلى قوة، ولا مِن نقص إلى زيادة إلا بالله؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ألا أدُلُّكَ على كلمة من تحت العرش من كَنْز الجنة؟ تقول: لا حَوْلَ ولا قُوَّةَ إلا بالله، فيقول الله: أسلَمَ عبدي واستسلَمَ))[9].
ومَن قال هذه الكلمة مستشعرًا معناها، عاملًا بمقتضاها مِن التوكُّل على الله، وصِدْق الاعتماد عليه، هُدِي وكُفِي ووُقِي، وكان مِن أقوى الناس وأحسنهم حالًا ومآلًا، وفي الأثر: "مَنْ سَرَّهُ أن يكون أقوى الناس فليتوكَّل على الله، ومن سَرَّه أن يكون من أغنى الناس فليكُنْ بما في يد الله أوْثَقَ منه بما في يده"[10].
2- ألا يطغى الإنسان بقوَّته، وينسى ضعفه وعجزه:
كثير مِن الناس يُعطيه الله تعالى القوة والمنعة والمال والجاه، فيَطْغى ويستكبر في الأرض، وينسى بدايته وعجزه، وينسى قدرة الله وقهره وبطشه، وقد حكى الله تعالى لنا عن كثيرٍ مِن هؤلاء، منهم قوم هود:
قال الله: ﴿فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ﴾ [فصلت: 15]، فماذا كانتْ عاقبة أمرهم؟
﴿فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ﴾ [فصلت: 16].
فالعاقلُ لا يتجاوز قدره؛ بل عليه أن ينتهزَ فرصة قوَّته وشبابه ويجعلها في الطاعة، كما عليه أن يبذل قوته في الخير، والدفاع عن الحق، ونصرة الضعيف، وإنصاف المظلوم.
3- ألا يدبَّ اليأس إلى قلبك:
لأنك تتعامل مع القوي المتين جل جلاله، الذي لا يعجزه شيء، ولا يغلبه ولا يفوته هارب؛ ولهذا كان اليأسُ من روح الله من صفات الكافرين؛ ﴿إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾ [يوسف: 87].
4- ألا يكون خوفك إلا منه:
لأنَّ قوته سبحانه وتعالى فوق كل قوة، وليس أقوى مِن القويِّ أحدٌ، فكيف تخاف أحدًا أكثر مِن خوفك مِن الله؟!
وكيف تخشى سطوة أمير أو مدير أكثر مِن خشيتك لله، والله تعالى يقول: ﴿فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ﴾ [المائدة: 44]، ويقول: ﴿فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: 175].
فلا بد أن تُحقِّق الخوف الحقيقي مِن القويِّ جل جلاله كعلامة مِن علامات إيمانك؛ ولهذا قال الإمام أحمد لرجل وقد شكا إليه من الخوف: "لو صَحَحْتَ لم تخَفْ أحدًا"[11].
5- ألا تطلب النصرة إلا منه:
لأن النصر الحقيقي لا يكون إلا مِن عند الله لعباده المؤمنين الذين نصروا دينه بقلوبهم وأقوالهم وأفعالهم، فاستحقوا بذلك نصر ربهم؛ قال تعالى: ﴿وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ [الحج: 40]، فليس النصر للأقوى سلاحًا، ولا للأكثر عددًا؛ وإنما لمن آمن بالله القويِّ وتعلَّق به؛ قال الله: ﴿وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [الأنفال: 10].
لقد أنزل الله الملائكة يوم بدر، ووظيفتها بثُّ البُشرى والطُّمَأْنينة في قلوب المؤمنين ليس أكثر، فإن الله تعالى ناصرٌ عباده المؤمنين بقوته القاهرة وقدرته الباهرة؛ قال الله تعالى: ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [الأنفال: 9، 10].
هذه عقيدة راسخة عند مَن آمن بالله القويِّ، فهو يعمل كل ما يقدر عليه دون أن يعتمد على نفسه؛ بل على قوة مَن آمن به وجاهد في سبيله.
حين جاء الأحزاب لحصار المدينة وتآمروا لكسر شوكة المؤمنين، وأحكموا كيدهم سِرًّا وعلانيةً، أرسل الله القويُّ عليهم ريحًا عاتية اقتلعتْ خيامهم، وقلبتْ قدورهم، وأطفأتْ نيرانهم؛ قال تعالى: ﴿وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا﴾ [الأحزاب: 25].
6-أن نعمل جاهدين على تحصيل القوة (مع الأمانة):
قال تعالى: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ﴾ [الأنفال: 60]، وقال صلى الله عليه وسلم: ((ألَا إنَّ القُوَّةَ الرَّمْيُ))[12]؛ فالله تعالى يُحب القوة والأقوياء؛ الأقوياء في إيمانهم وأجسادهم وعلمهم وتعاطيهم وأخذهم وسائر أمورهم؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: ((المؤمنُ القويُّ خَيْرٌ وأحَبُّ إلى الله مِن المؤمن الضعيف، وفي كُلٍّ خيرٌ، احرِصْ على ما ينفَعُكَ، واسْتعِن بالله ولا تعجزْ))[13].
والله تعالى يكره القوة المبنية على الطغيان والظلم؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: ((لا قُدِّسَتْ أُمَّةٌ لا يأخُذُ الضعيفُ فيها حقَّه غيرَ مُتَعْتَعٍ))[14]، وقوله: ((غير مُتَعْتَعٍ))؛ أي: من غير أن يُصيبَه أذًى يُقلِقُه ويُزعجه[15].
فلا بد مع القوة مِن الأمانة: ﴿يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ﴾ [القصص: 26].
إن قوَّةً بغير أمانة كفيلةٌ بأن تنتج الطغاة في الأرض، وتنشُر الظلمَ والعدوان، وإن أمانةً مع ضَعْفٍ كفيلةٌ بأن تُفسِد من حيث أردْتَ الإصلاح، فلا بد لنا - إن أردْنا النهوض - مِن هاتين الصفتين: القوة والأمانة[16].
وقد عرفنا القوة، أما الأمانة فـ"ترجع إلى خشية الله، وألا نشتري بآياته ثمنًا قليلًا، وترك خشية الناس..."[17].
7- دعاء الله تعالى باسمه القويِّ والمتين: فاللهم إنا نسألك باسمك القويِّ:
♦ أن تُوفِّقنا إلى طاعاتك، وتُعيننا على مرضاتك، وتأخُذ بنواصينا إلى طريق جناتك.
♦ وتنصرنا على أعدائك، وأن تُعيننا على ضَعْف نفوسنا ووهن قلوبنا، وأن تجعلنا مِن الصادقين.
♦ اللهم إنا نسألك باسمك القوي أن تنتقمَ مِن الظالمين، اللهم أَرِنا فيهم عجائبَ قُدرتكَ.
♦ اللهم إنا نسألك باسمك القوي أن تشفي صُدور قومٍ مؤمنين.
اللهم آمين.
[1] تفسير السعدي.
[2] تفسير الطبري، وتفسير ابن كثير.
[3] تفسير أسماء الله الحسنى؛ الزجاج.
[4] المقصد الأسنى.
[5] شأن الدعاء.
[6] رواه مسلم.
[7] رواه ابن حبان، وصححه الألباني.
[8] رواه أحمد، وصحَّحه الألباني في الصحيحة.
[9] رواه الحاكم، وصححه الألباني في صحيح الجامع.
[10] ذكره ابن تيمية في الفتاوى، ولا تصحُّ نسبتُه إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ انظر: الضعيفة.
[11] هنيئًا لمن عرف ربَّه، بتصرُّف يسير.
[12] رواه مسلم.
[13] رواه مسلم.
[14] رواه ابن ماجه، وصححه الألباني.
[15] حاشية السندي على سنن ابن ماجه.
[16] هنيئًا لمن عرف ربَّه.
[17] مجموع الفتاوى: ابن تيمية.
الالوكة