يا حسرة الغافلين
إنَّ الحمد لله تعالى نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران:102].
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء:1].
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب:70- 71].
أما بعد فإن أصدق الحديث كلام الله عز وجل وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
• عباد الله:
قال الله عز وجل ﴿ اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ * مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ * لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ ﴾ [الأنبياء: 1 - 3].
قال السعدي رحمه الله:
هذا تعجبٌ من حالةِ الناس، وأنَّه لا يَنْجَعُ فيهم تذكيرٌ، ولا يَرْعَوُنَ إلى نذيرٍ، وأنَّهم قَدْ قَرُبَ حِسَابُهُم، ومُجَازَاتُهم على أعمالهم الصالحةِ والطالحةِ، والحالُ أنَّهم في غفلةٍ معرضون، أي: غفلةٍ عمَّا خُلِقوا له، وإعراضٍ عما زُجِرُوا به. كأنَّهم للدنيا خُلقوا، وللتَّمَتُّعِ بَها وُلِدُوا، وأنَّ الله تعالى لا يَزالُ يجدِّدُ لهم التذكيرَ والوعظَ، ولا يزالون في غَفْلَتِهم وإعراضهم، ولهذا قال: ﴿ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ ﴾ [الأنبياء: 2] يُذَكِّرُهُم ما يَنْفَعُهُمْ ويَحُثُّهُمْ عليه، وما يَضُرُّهُم ويُرَهِّبُهم منه ﴿ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ ﴾ [الأنبياء: 2] سماعًا، تقومُ عليهم به الحجةُ، ﴿ وَهُمْ يَلْعَبُونَ * لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ ﴾ [الأنبياء: 2، 3] أي: قلوبُهم غافلةٌ مُعْرِضَةٌ لاهيةٌ بمطالبها الدنيوية، وأبدانُهم لاعبةٌ، قد اشتغلوا بتناولِ الشهواتِ والعملِ بالباطلِ، والأقوالِ الرَّدِيَّةِ، مع أنَّ الذي ينبغي لهم أنْ يكونوا بغيرِ هذه الصفة، تُقْبِلُ قُلُوبُهُم على أمرِ الله ونهيه، وتستمِعُه استماعًا، تَفْقَهُ المرادَ منه، وتسعى جوارحُهم في عبادةِ رَبِّهم التي خُلقوا لأجلها، ويجعلونَ القيامةَ والحسابَ والجزاءَ نُصْبَ أَعْيُنِهِم، فبذلك يَتِمُّ لهم أمرُهُم، وتستقيمُ أحوالهُم، وتزكوا أعمالهُم[1].
ففي هذه الآيات يخبرنا ربنُّا جل في علاه عن داء خطير إذا أصاب الناسَ فتك بهم وشتت أمرهم وجعل عاقبتهم إلى العذب الأليم والخسران المبين إلا وهو الغفلة عمَّا خُلِقوا له، والغفلة عمَّا هم مقبلون عليه من الحساب الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة ولا مثقال ذرة من خير أو شر إلا وهو محاسب عليها ﴿ يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴾ [المجادلة: 6].
إنَّ الغفلةَ هي تركُ الشيء والسهو عنه مع التذكُّرِ له، وقيل: هي متابعة النفس على شهواتها.
والغفلة غير النسيان، لأن النسيان تركُ للشيء أيضًا ولكن عن غير تعمد، أما الغفلة فهي ترك للشيء والسهو عنه عن تعمد.
ولذلك تجاوز الله عز وجل عن النسيان ولم يتجاوز عن الغفلة، عن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما، أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال:"إنَّ اللهَ تَجاوزَ عن أُمتي الخطأ، والنسيانَ، وما استكرهوا عليه"[2].
ولقد أنذر الله عباده هذا الداء الفتَّاك وبيَّن أن عاقبته الحسرة والندامة حيث لا ينفع الندم، قال المولى تعالى ﴿ وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [مريم:39].
أي: أَنْذِرْهُم هذا اليومَ حيثُ يَتَحَسَّرُ الإنسانُ لعدم إعدادِ الذاتِ لهذا اليوم، فيتحسَّرُ حَسْرَةً ويندمُ ندمًا تتقطعُ منه القلوب حيث لا تنفع الحسرةُ ولا الندمُ، فلا سبيلَ للرجوع وتحصيل المفقود، قال تعالى ﴿ وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ﴾ [ق:19:22]، فاليوم وأنت في الدنيا هذا وقت العمل، وغدًا وقت الحساب، ولا أشدَّ وأعظم حسرة من أن يفوتك رضا الله وتبوء بسخطه والنار.
• عباد الله:
إن جماعَ الشرِّ الغفلةُ والشهوةُ؛ فالغفلةُ عن الله والدار الآخرة تَسُدُّ بابَ الخير الذي هو الذكرُ واليقظةُ، والشهوةُ تفتح باب الشرِّ والسهوِ والخوفِ؛ فيبقى القلبُ مغمورًا فيما يهواه ويخشاه غافلا عن الله مريدًا لغيره، ساهيًا عن ذكره.
فأعظم مصيبةٍ وأشدُّ بليةٍ أنْ يَغْفُلَ الإنسانُ عمَّا هو مطلوبٌ منه مقبُلٌ عليه مسئولًا عنه، فتراه مغمورَ القلبِ في شهوات الدنيا ولذاتها، قال تعالى في حق الكافرين ﴿ بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ ﴾ [المؤمنون:63]، وقال عز وجل ﴿ فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ ﴾ [المؤمنون:54]، أي: اتركهم فيما يغمر قلوبَهم مِنْ حُبِّ المالِ والبنينَ المانعِ لهم من المسارعةِ في الخيرات والأعمالِ الصالحةِ.
وقال تعالى ﴿ قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ ﴾ [الذاريات11]، فهم في غمرةٍ عنها أي فيما يَغْمُرُ قلوبهم من حبِّ الدنيا ومتاعها ساهون عَنْ أَمِرِ الآخرةِ وما خلقوا له[3].
ولقد بيَّن الله عاقبة الغفلة حين ذكر حال الكافرين وما حلِّ بهم من العذاب الأليم والخسران المبين، قال تعالى ﴿ إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [يونس 8]، وقال عز وجل ﴿ فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ ﴾ [الأعراف: 136]، وقال ربُّ العزة ﴿ وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ ﴾ [الأنبياء:97].
• أيها المسلمون:
إن الحديث عن الغفلة ليس حديثًا عن أقوام خارج المساجد أو ليسوا بيننا، بل هذا الحديث موجهٌ لنا، لأنفسنا لنعالجها قبل أن نعالج الآخرين، ولننصح لأنفسنا قبل نصح الآخرين، فما أكثر المواعظ الذي تُلقى والآيات التي تُتْلى، والأحاديث التي تُسمع، ولكن هل من مستجيب؟
قال الله عز وجل في وصف حال أهل الغفلة ﴿ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ﴾ [الأعراف: 179].
إنَّ أعظمَ الغفلةِ أنْ تغفلَ عن ربِّك ومولاك، فتجعل له النصيب الأدنى من وقتك، والحظ الأبخس من قلبك، فالدنيا قد ملكت عليك وقتك وقلبك، أما ربُّ العزة فأقل القليل، حتى هذا القليل الذي تؤديه إلى ربِّك أنت فيه مهمومًا بالدنيا، تقف في الصلاة بين يدي ربك وقلبك مغمورٌ في الدنيا وجمع المال وما ربِحت وما خسِرت من المال.
قال تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴾ [المنافقون: 9]، فالخاسر: الذي يَغْفُلُ عن ذِكر الله، المغبُونُ: الذي تضيعُ أيَّامُه وتضيعُ لياليه وسنواتُه وأشهرُه وساعاتُه وأوقاتُه، قد شَغَلَ عمره بكلِّ قيلَ وقالَ وكلِّ غادٍ ورائحٍ، شَغَلَ نفسه بما لا يعنيه إلا ما كان من ذكر الله عز وجل، الذي يهمه وينفعه في الدنيا والآخرة فتراه مشغولاً عنه غافلا.
يقول ابن القيم رحمه الله:
الذكر أصلُ موالاة الله عز وجل ورأسُها، والغفلةُ أصلُ معاداة الله ورأسُها، فإنَّ العبدَ لا يزالُ يذكرُ ربَّه عزَّ وجلَّ حتى يحبَّه اللهُ فيواليه، ولا يزالُ العبدُ في غفلةٍ عن ربِّه حتى يبغضَهُ اللهُ فَيُعَادِيه[4].
فيا حسرة الغافلين عن ذكر الله! يا حسرة الغافلين بالملاهي! ويا حسرة الغافلين بالأغاني! ويا حسرة الغافلين بالأفلام! ويا حسرة الغافلين والغافلات بالمسلسلات!
والغفلة عن الله سببٌ للغفلة عن يوم القيامة يومِ العرض الأكبر يومِ الآزفة، هذا اليومُ الذي تدنو في الشمس من الرؤوس، وتتقطع فيه الأرحام، فلا والدٌ ينفع ولا والدةٌ تدفع قال تعالى ﴿ فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ * فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ ﴾ [المؤمنون: 101 - 104].
فأي حسرة وأي خسارة وأي ندامة حيث لا ندمٌ ينفع.
• عباد الله:
إن الغافل عن نفسه هو الغافلُ عن ذنوبه، الغافلُ عن أعماله، يجمع المصائبَ تِلْوَ المصائب، والبلايا مع البلايا، والفتن مع الفتنِ، والعظائم مع العظائم، وهو لا يدري ما تجمَّع عليه وما تَحَصَّلَ له من سوء عاقبة ما اجترحته يداه، ونطق به لسانه، ومشت إليه قدماه أو نظرت إليه عيناه، أو سمعته أذناه، فلا يبالي أأصبحَ مطيعاً أم عاصياً، أمضى ومشى إلى طاعة الله أم إلى معصيته.
فحالُ هؤلاء كحاطب ليل يجمع كلِّ غثٍّ وسمين، ساهيًا غافلا عما ينفعه وما يضره، والعاقل هو الذي يتنبه ويلزم غرس الصالحين.
فالذين يتذكَّرون هم أصحاب القلوب الحية والسليمة، الذين يُسَائِلون أنفسهم في كل حركة وخطوة وكلمة وصمت وذهابٍ وإيابٍ وغُدُوٍّ ورواحٍ: ماذا أرادوا بهذا؟ ولأجل من؟ وما الغاية؟ وما الطريق؟ وما النتيجة؟ وكيف العاقبة؟ وهل يباعدُ من الله أم يقرِّبُ منه؟ أما الغافل والجاهل وأما المنافق فهو لا يبالي بذلك أبداً، عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: " إِنَّ الْمُؤْمِنَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَأَنَّهُ قَاعِدٌ تَحْتَ جَبَلٍ يَخَافُ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ وَإِنَّ الْفَاجِرَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَذُبَابٍ مَرَّ عَلَى أَنْفِهِ فَقَالَ بِهِ هَكَذَا "[5].
نسأل الله عز وجل أن ينبِّهانا من غفلتنا إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلِّ اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلِّم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير المرسلين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله الطيبين وصحابته الغر الميامين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وبعد:
• عباد الله:
إن أعظم أسباب الغفلة الانهماك في طلب الدنيا وتحصيلها والسعي في تنعيم الجسد من مأكل ومشرب وملبس ومسكن ومنصب، وكلُّ ذلك مآله إلى الديدان والنتن، وهذا هو الغبن والسفه الحقيقي.
وفي هذا قيل [6]:
زِيادَةُ المرءِ فِي دُنياهُ نُقْصانُ
وَرِبْحُهُ غيرَ مَحْضِ الْخَيْرِ خُسْرانُ
وكلُّ وِجدانِ حَظٍّ لا ثَباتَ له
فإنَّ معناهُ في التحقيقِ فُقدانُ
يا عامرًا لِخَرابِ الدارِ مُجْتَهِدًا
باللهِ هلْ لِخرابِ العُمرِ عُمرانُ
ويَا حريصًا على الأموالِ تَجمعُها
أُنْسِيتَ أنَّ سُرورَ المالِ أحْزانُ
زَعِ الفُؤادَ عنِ الدنيا وزينَتِها
فصَفْوُها كَدَرٌ والوَصْلُ هُجْرانُ
يا خادمَ الجسمِ كمْ تَشقَى بِخِدْمَتِهِ
أتَطلُبُ الرِّبْحَ فيما فيه خُسرانُ
أقْبِلْ على النفسِ واسْتكمِلْ فَضائِلَها
فَأَنْتَ بالنفسِ لا بالجسمِ إنسانُ[7]
كان عمرُ بنُ عبد العزيز يتمثَّل بهذه الآبيات[8]:
أَيَقْظَانُ أَنْتَ الْيَوْمَ أَمْ أَنْتَ نَائِمُ
كَيْفَ يُطِيقُ النَّوْمَ حَيْرَانُ هَائِمُ
فَلَوْ كُنْتُ يَقْظَانَ الْغَداةِ لَحرَّقتْ
مَدَامِعَ عَيْنَيْكَ الدُّمُوعُ السَّوَاجِمُ
بَلْ أَصْبَحْتَ فِي النَّوْمِ الطَّوِيلِ وَقَدْ دَنَت
إِلَيْكَ أُمُورٌ مُفْظِعَاتٌ عَظَائِمُ
نَهَارُكَ يَا مَغْرورُ سَهْوٌ وَغَفْلَةٌ
وَلَيْلُكَ نَوْمٌ وَالرَّدَى لَكَ لَازِمُ
يَغُرَّكَ مَا يَفْنَى وَتَشْغَلُ بِالْمُنَى
كَمَا غُرَّ بِاللَّذَّاتِ فِي النَّوْمِ حَالِمُ
وَتَشْغَلُ فِي مَا سَوْفَ تَكْرَهُ عِبْأَهُ
كَذَلِكَ فِي الدُّنْيَا تَعِيشُ الْبَهَائِمُ
فإن كانت النفس والقلب وإن كان الفؤاد والعقل يحمل هماً في طاعة الله ومرضاته، والاشتغال بعبادته والخوفَ من عذابه فتلك والله نفسُ إنسان، وإن كانت نفساً لا همَّ لها إلا الأكلُ والشربُ والنكاحُ والنومُ فتلك نفسُ بهيمةٍ إذ البهائمُ تشاركه في هذا.
• عباد الله:
لقد حثَّنا نبينا صلى الله عليه وسلم على اغتنام الفرص قبل ضياعها، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ: شَبَابَكَ قَبْلَ هِرَمِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَغِنَاءَكَ قَبْلَ فَقْرِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ، وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ "[9].
فإذا استحكمت فينا الغفلةُ وتملكتنا شهوات الدنيا؛ فاتتنا غنائمُ الحياة فلم ننتبه إلا عند الموت، وفاتتنا غنيمة الصحة فلم ننتبه إلا عند المرض، وفاتتنا غنيمة الفراغ فلم ننتبه إلا عند الانشغال، وفاتتنا غنيمةُ الشباب فلم ننتبه إلا عند الهِرَمِ، وفاتتنا غنيمةُ الغنى فلم نُفِق إلا حالَ الفقرِ.
فالغافلون هم الذين يتنبهون عند الفوات كما قال رب العزة سبحانه عند الموت قال تعالى ﴿ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴾ [المؤمنون: 99، 100] فهذا أول موقفٍ ينتبه فيه الغافلون.
والموقف الثاني يوم القيامة، قال عز وجل ﴿ وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [مريم:39].
فلنبادر عباد الله إلى التوبة والأوبة إلى ربِّ العزة سبحانه ولنجعل النهاية نُصبَ أعيننا، ولنجعل هذه الوصية التي ذكر ابن عباس رضي الله عنهما أنه ما انتفع بوصية انتفاعه بها.
يقول ابن عباس رضي الله عنهما: " ما اتعظت بشيء بعدما سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم كما اتعظت بكتاب كتبه علي عليه السلام إلي، وكان كتابه: أما بعد. فإن المرء يسره درك ما لم يكن ليفوته، ويسوؤه فوتُ ما لم يكن ليدركه. فليكن سُرُورُكَ بِما نِلْتَ مِنْ أمرِ آخرتك. وليكن أسفك على ما فاتكَ مِنْ ذلك. وما نِلْتَ من الدنيا فلا تَنْعَم بِه فَرِحًا، وما فاتك منها فلا تُكْثِرْ عليه جزعاً، وَلْيَكُنْ هَمُّكَ لما بعدَ الموتِ"[10].
نسأل الله عز وجل أن يُنَبِّهَنَا مِنْ غفلتنا وأن يجعلنا من التآبين الأوابين، وصلِّ اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلِّم.
[1] تفسير السعدي 1/ 518.
[2] أخرجه الحاكم في المستدرك (2801)، وقال: صحيح على شرط البخاري ومسلم، وصححه الألباني في الإرواء والمشكاة.
[3] انظر بتصرف: الزهد والورع والعبادة لابن تيمية ص35.
[4] الوابل الصيب ص81.
[5] أخرجه البخاري (6308).
[6] هذه الأبيات لأبي الفتح البستي، ولد في بست سنة 330 هـ، وتوفي 400 هـ / 1010م، ولد في «بست وتعرف اليوم بمدينة لشكر كاه، افغانستان وإليها نسبته.
[7] رسائل الثعالبي ص43.
[8] الأيام والليالي لابن أبي الدنيا ص39.
[9] أخرجه الحاكم في المستدرك (7846)، والبيهقي في الآداب (809)، وصححه الأباني في الجامع (1077).
[10] نثر الدر، لأبي سعد منصور بن الحسين الآبي 1/ 191.
الالوكة
إنَّ الحمد لله تعالى نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران:102].
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء:1].
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب:70- 71].
أما بعد فإن أصدق الحديث كلام الله عز وجل وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
• عباد الله:
قال الله عز وجل ﴿ اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ * مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ * لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ ﴾ [الأنبياء: 1 - 3].
قال السعدي رحمه الله:
هذا تعجبٌ من حالةِ الناس، وأنَّه لا يَنْجَعُ فيهم تذكيرٌ، ولا يَرْعَوُنَ إلى نذيرٍ، وأنَّهم قَدْ قَرُبَ حِسَابُهُم، ومُجَازَاتُهم على أعمالهم الصالحةِ والطالحةِ، والحالُ أنَّهم في غفلةٍ معرضون، أي: غفلةٍ عمَّا خُلِقوا له، وإعراضٍ عما زُجِرُوا به. كأنَّهم للدنيا خُلقوا، وللتَّمَتُّعِ بَها وُلِدُوا، وأنَّ الله تعالى لا يَزالُ يجدِّدُ لهم التذكيرَ والوعظَ، ولا يزالون في غَفْلَتِهم وإعراضهم، ولهذا قال: ﴿ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ ﴾ [الأنبياء: 2] يُذَكِّرُهُم ما يَنْفَعُهُمْ ويَحُثُّهُمْ عليه، وما يَضُرُّهُم ويُرَهِّبُهم منه ﴿ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ ﴾ [الأنبياء: 2] سماعًا، تقومُ عليهم به الحجةُ، ﴿ وَهُمْ يَلْعَبُونَ * لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ ﴾ [الأنبياء: 2، 3] أي: قلوبُهم غافلةٌ مُعْرِضَةٌ لاهيةٌ بمطالبها الدنيوية، وأبدانُهم لاعبةٌ، قد اشتغلوا بتناولِ الشهواتِ والعملِ بالباطلِ، والأقوالِ الرَّدِيَّةِ، مع أنَّ الذي ينبغي لهم أنْ يكونوا بغيرِ هذه الصفة، تُقْبِلُ قُلُوبُهُم على أمرِ الله ونهيه، وتستمِعُه استماعًا، تَفْقَهُ المرادَ منه، وتسعى جوارحُهم في عبادةِ رَبِّهم التي خُلقوا لأجلها، ويجعلونَ القيامةَ والحسابَ والجزاءَ نُصْبَ أَعْيُنِهِم، فبذلك يَتِمُّ لهم أمرُهُم، وتستقيمُ أحوالهُم، وتزكوا أعمالهُم[1].
ففي هذه الآيات يخبرنا ربنُّا جل في علاه عن داء خطير إذا أصاب الناسَ فتك بهم وشتت أمرهم وجعل عاقبتهم إلى العذب الأليم والخسران المبين إلا وهو الغفلة عمَّا خُلِقوا له، والغفلة عمَّا هم مقبلون عليه من الحساب الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة ولا مثقال ذرة من خير أو شر إلا وهو محاسب عليها ﴿ يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴾ [المجادلة: 6].
إنَّ الغفلةَ هي تركُ الشيء والسهو عنه مع التذكُّرِ له، وقيل: هي متابعة النفس على شهواتها.
والغفلة غير النسيان، لأن النسيان تركُ للشيء أيضًا ولكن عن غير تعمد، أما الغفلة فهي ترك للشيء والسهو عنه عن تعمد.
ولذلك تجاوز الله عز وجل عن النسيان ولم يتجاوز عن الغفلة، عن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما، أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال:"إنَّ اللهَ تَجاوزَ عن أُمتي الخطأ، والنسيانَ، وما استكرهوا عليه"[2].
ولقد أنذر الله عباده هذا الداء الفتَّاك وبيَّن أن عاقبته الحسرة والندامة حيث لا ينفع الندم، قال المولى تعالى ﴿ وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [مريم:39].
أي: أَنْذِرْهُم هذا اليومَ حيثُ يَتَحَسَّرُ الإنسانُ لعدم إعدادِ الذاتِ لهذا اليوم، فيتحسَّرُ حَسْرَةً ويندمُ ندمًا تتقطعُ منه القلوب حيث لا تنفع الحسرةُ ولا الندمُ، فلا سبيلَ للرجوع وتحصيل المفقود، قال تعالى ﴿ وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ﴾ [ق:19:22]، فاليوم وأنت في الدنيا هذا وقت العمل، وغدًا وقت الحساب، ولا أشدَّ وأعظم حسرة من أن يفوتك رضا الله وتبوء بسخطه والنار.
• عباد الله:
إن جماعَ الشرِّ الغفلةُ والشهوةُ؛ فالغفلةُ عن الله والدار الآخرة تَسُدُّ بابَ الخير الذي هو الذكرُ واليقظةُ، والشهوةُ تفتح باب الشرِّ والسهوِ والخوفِ؛ فيبقى القلبُ مغمورًا فيما يهواه ويخشاه غافلا عن الله مريدًا لغيره، ساهيًا عن ذكره.
فأعظم مصيبةٍ وأشدُّ بليةٍ أنْ يَغْفُلَ الإنسانُ عمَّا هو مطلوبٌ منه مقبُلٌ عليه مسئولًا عنه، فتراه مغمورَ القلبِ في شهوات الدنيا ولذاتها، قال تعالى في حق الكافرين ﴿ بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ ﴾ [المؤمنون:63]، وقال عز وجل ﴿ فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ ﴾ [المؤمنون:54]، أي: اتركهم فيما يغمر قلوبَهم مِنْ حُبِّ المالِ والبنينَ المانعِ لهم من المسارعةِ في الخيرات والأعمالِ الصالحةِ.
وقال تعالى ﴿ قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ ﴾ [الذاريات11]، فهم في غمرةٍ عنها أي فيما يَغْمُرُ قلوبهم من حبِّ الدنيا ومتاعها ساهون عَنْ أَمِرِ الآخرةِ وما خلقوا له[3].
ولقد بيَّن الله عاقبة الغفلة حين ذكر حال الكافرين وما حلِّ بهم من العذاب الأليم والخسران المبين، قال تعالى ﴿ إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [يونس 8]، وقال عز وجل ﴿ فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ ﴾ [الأعراف: 136]، وقال ربُّ العزة ﴿ وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ ﴾ [الأنبياء:97].
• أيها المسلمون:
إن الحديث عن الغفلة ليس حديثًا عن أقوام خارج المساجد أو ليسوا بيننا، بل هذا الحديث موجهٌ لنا، لأنفسنا لنعالجها قبل أن نعالج الآخرين، ولننصح لأنفسنا قبل نصح الآخرين، فما أكثر المواعظ الذي تُلقى والآيات التي تُتْلى، والأحاديث التي تُسمع، ولكن هل من مستجيب؟
قال الله عز وجل في وصف حال أهل الغفلة ﴿ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ﴾ [الأعراف: 179].
إنَّ أعظمَ الغفلةِ أنْ تغفلَ عن ربِّك ومولاك، فتجعل له النصيب الأدنى من وقتك، والحظ الأبخس من قلبك، فالدنيا قد ملكت عليك وقتك وقلبك، أما ربُّ العزة فأقل القليل، حتى هذا القليل الذي تؤديه إلى ربِّك أنت فيه مهمومًا بالدنيا، تقف في الصلاة بين يدي ربك وقلبك مغمورٌ في الدنيا وجمع المال وما ربِحت وما خسِرت من المال.
قال تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴾ [المنافقون: 9]، فالخاسر: الذي يَغْفُلُ عن ذِكر الله، المغبُونُ: الذي تضيعُ أيَّامُه وتضيعُ لياليه وسنواتُه وأشهرُه وساعاتُه وأوقاتُه، قد شَغَلَ عمره بكلِّ قيلَ وقالَ وكلِّ غادٍ ورائحٍ، شَغَلَ نفسه بما لا يعنيه إلا ما كان من ذكر الله عز وجل، الذي يهمه وينفعه في الدنيا والآخرة فتراه مشغولاً عنه غافلا.
يقول ابن القيم رحمه الله:
الذكر أصلُ موالاة الله عز وجل ورأسُها، والغفلةُ أصلُ معاداة الله ورأسُها، فإنَّ العبدَ لا يزالُ يذكرُ ربَّه عزَّ وجلَّ حتى يحبَّه اللهُ فيواليه، ولا يزالُ العبدُ في غفلةٍ عن ربِّه حتى يبغضَهُ اللهُ فَيُعَادِيه[4].
فيا حسرة الغافلين عن ذكر الله! يا حسرة الغافلين بالملاهي! ويا حسرة الغافلين بالأغاني! ويا حسرة الغافلين بالأفلام! ويا حسرة الغافلين والغافلات بالمسلسلات!
والغفلة عن الله سببٌ للغفلة عن يوم القيامة يومِ العرض الأكبر يومِ الآزفة، هذا اليومُ الذي تدنو في الشمس من الرؤوس، وتتقطع فيه الأرحام، فلا والدٌ ينفع ولا والدةٌ تدفع قال تعالى ﴿ فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ * فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ ﴾ [المؤمنون: 101 - 104].
فأي حسرة وأي خسارة وأي ندامة حيث لا ندمٌ ينفع.
• عباد الله:
إن الغافل عن نفسه هو الغافلُ عن ذنوبه، الغافلُ عن أعماله، يجمع المصائبَ تِلْوَ المصائب، والبلايا مع البلايا، والفتن مع الفتنِ، والعظائم مع العظائم، وهو لا يدري ما تجمَّع عليه وما تَحَصَّلَ له من سوء عاقبة ما اجترحته يداه، ونطق به لسانه، ومشت إليه قدماه أو نظرت إليه عيناه، أو سمعته أذناه، فلا يبالي أأصبحَ مطيعاً أم عاصياً، أمضى ومشى إلى طاعة الله أم إلى معصيته.
فحالُ هؤلاء كحاطب ليل يجمع كلِّ غثٍّ وسمين، ساهيًا غافلا عما ينفعه وما يضره، والعاقل هو الذي يتنبه ويلزم غرس الصالحين.
فالذين يتذكَّرون هم أصحاب القلوب الحية والسليمة، الذين يُسَائِلون أنفسهم في كل حركة وخطوة وكلمة وصمت وذهابٍ وإيابٍ وغُدُوٍّ ورواحٍ: ماذا أرادوا بهذا؟ ولأجل من؟ وما الغاية؟ وما الطريق؟ وما النتيجة؟ وكيف العاقبة؟ وهل يباعدُ من الله أم يقرِّبُ منه؟ أما الغافل والجاهل وأما المنافق فهو لا يبالي بذلك أبداً، عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: " إِنَّ الْمُؤْمِنَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَأَنَّهُ قَاعِدٌ تَحْتَ جَبَلٍ يَخَافُ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ وَإِنَّ الْفَاجِرَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَذُبَابٍ مَرَّ عَلَى أَنْفِهِ فَقَالَ بِهِ هَكَذَا "[5].
نسأل الله عز وجل أن ينبِّهانا من غفلتنا إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلِّ اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلِّم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير المرسلين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله الطيبين وصحابته الغر الميامين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وبعد:
• عباد الله:
إن أعظم أسباب الغفلة الانهماك في طلب الدنيا وتحصيلها والسعي في تنعيم الجسد من مأكل ومشرب وملبس ومسكن ومنصب، وكلُّ ذلك مآله إلى الديدان والنتن، وهذا هو الغبن والسفه الحقيقي.
وفي هذا قيل [6]:
زِيادَةُ المرءِ فِي دُنياهُ نُقْصانُ
وَرِبْحُهُ غيرَ مَحْضِ الْخَيْرِ خُسْرانُ
وكلُّ وِجدانِ حَظٍّ لا ثَباتَ له
فإنَّ معناهُ في التحقيقِ فُقدانُ
يا عامرًا لِخَرابِ الدارِ مُجْتَهِدًا
باللهِ هلْ لِخرابِ العُمرِ عُمرانُ
ويَا حريصًا على الأموالِ تَجمعُها
أُنْسِيتَ أنَّ سُرورَ المالِ أحْزانُ
زَعِ الفُؤادَ عنِ الدنيا وزينَتِها
فصَفْوُها كَدَرٌ والوَصْلُ هُجْرانُ
يا خادمَ الجسمِ كمْ تَشقَى بِخِدْمَتِهِ
أتَطلُبُ الرِّبْحَ فيما فيه خُسرانُ
أقْبِلْ على النفسِ واسْتكمِلْ فَضائِلَها
فَأَنْتَ بالنفسِ لا بالجسمِ إنسانُ[7]
كان عمرُ بنُ عبد العزيز يتمثَّل بهذه الآبيات[8]:
أَيَقْظَانُ أَنْتَ الْيَوْمَ أَمْ أَنْتَ نَائِمُ
كَيْفَ يُطِيقُ النَّوْمَ حَيْرَانُ هَائِمُ
فَلَوْ كُنْتُ يَقْظَانَ الْغَداةِ لَحرَّقتْ
مَدَامِعَ عَيْنَيْكَ الدُّمُوعُ السَّوَاجِمُ
بَلْ أَصْبَحْتَ فِي النَّوْمِ الطَّوِيلِ وَقَدْ دَنَت
إِلَيْكَ أُمُورٌ مُفْظِعَاتٌ عَظَائِمُ
نَهَارُكَ يَا مَغْرورُ سَهْوٌ وَغَفْلَةٌ
وَلَيْلُكَ نَوْمٌ وَالرَّدَى لَكَ لَازِمُ
يَغُرَّكَ مَا يَفْنَى وَتَشْغَلُ بِالْمُنَى
كَمَا غُرَّ بِاللَّذَّاتِ فِي النَّوْمِ حَالِمُ
وَتَشْغَلُ فِي مَا سَوْفَ تَكْرَهُ عِبْأَهُ
كَذَلِكَ فِي الدُّنْيَا تَعِيشُ الْبَهَائِمُ
فإن كانت النفس والقلب وإن كان الفؤاد والعقل يحمل هماً في طاعة الله ومرضاته، والاشتغال بعبادته والخوفَ من عذابه فتلك والله نفسُ إنسان، وإن كانت نفساً لا همَّ لها إلا الأكلُ والشربُ والنكاحُ والنومُ فتلك نفسُ بهيمةٍ إذ البهائمُ تشاركه في هذا.
• عباد الله:
لقد حثَّنا نبينا صلى الله عليه وسلم على اغتنام الفرص قبل ضياعها، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ: شَبَابَكَ قَبْلَ هِرَمِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَغِنَاءَكَ قَبْلَ فَقْرِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ، وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ "[9].
فإذا استحكمت فينا الغفلةُ وتملكتنا شهوات الدنيا؛ فاتتنا غنائمُ الحياة فلم ننتبه إلا عند الموت، وفاتتنا غنيمة الصحة فلم ننتبه إلا عند المرض، وفاتتنا غنيمة الفراغ فلم ننتبه إلا عند الانشغال، وفاتتنا غنيمةُ الشباب فلم ننتبه إلا عند الهِرَمِ، وفاتتنا غنيمةُ الغنى فلم نُفِق إلا حالَ الفقرِ.
فالغافلون هم الذين يتنبهون عند الفوات كما قال رب العزة سبحانه عند الموت قال تعالى ﴿ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴾ [المؤمنون: 99، 100] فهذا أول موقفٍ ينتبه فيه الغافلون.
والموقف الثاني يوم القيامة، قال عز وجل ﴿ وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [مريم:39].
فلنبادر عباد الله إلى التوبة والأوبة إلى ربِّ العزة سبحانه ولنجعل النهاية نُصبَ أعيننا، ولنجعل هذه الوصية التي ذكر ابن عباس رضي الله عنهما أنه ما انتفع بوصية انتفاعه بها.
يقول ابن عباس رضي الله عنهما: " ما اتعظت بشيء بعدما سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم كما اتعظت بكتاب كتبه علي عليه السلام إلي، وكان كتابه: أما بعد. فإن المرء يسره درك ما لم يكن ليفوته، ويسوؤه فوتُ ما لم يكن ليدركه. فليكن سُرُورُكَ بِما نِلْتَ مِنْ أمرِ آخرتك. وليكن أسفك على ما فاتكَ مِنْ ذلك. وما نِلْتَ من الدنيا فلا تَنْعَم بِه فَرِحًا، وما فاتك منها فلا تُكْثِرْ عليه جزعاً، وَلْيَكُنْ هَمُّكَ لما بعدَ الموتِ"[10].
نسأل الله عز وجل أن يُنَبِّهَنَا مِنْ غفلتنا وأن يجعلنا من التآبين الأوابين، وصلِّ اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلِّم.
[1] تفسير السعدي 1/ 518.
[2] أخرجه الحاكم في المستدرك (2801)، وقال: صحيح على شرط البخاري ومسلم، وصححه الألباني في الإرواء والمشكاة.
[3] انظر بتصرف: الزهد والورع والعبادة لابن تيمية ص35.
[4] الوابل الصيب ص81.
[5] أخرجه البخاري (6308).
[6] هذه الأبيات لأبي الفتح البستي، ولد في بست سنة 330 هـ، وتوفي 400 هـ / 1010م، ولد في «بست وتعرف اليوم بمدينة لشكر كاه، افغانستان وإليها نسبته.
[7] رسائل الثعالبي ص43.
[8] الأيام والليالي لابن أبي الدنيا ص39.
[9] أخرجه الحاكم في المستدرك (7846)، والبيهقي في الآداب (809)، وصححه الأباني في الجامع (1077).
[10] نثر الدر، لأبي سعد منصور بن الحسين الآبي 1/ 191.
الالوكة