أبو بكر الصديق رضي الله عنه فضله على الإسلام يأتي مباشرة بعد فضل رسول الله، ولا يدانيه فضل أحد من الصحابة، وما وصل الى مكانته أحد من الصحابة، ودليلنا على ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في ما معناه: «ما منكم من أحد إلا وكان له عندنا يد كافأناه بها إلا الصديق فإنا قد تركنا مكافأته لله عز وجل، سدوا الأبواب كلها التي تطل على المسجد إلا باب أبي بكر رضي الله عنه».. أي مكانة وأي فضل؟! لن أتكلم عن حياته وعن سبقه الى الإسلام من دون لحظة تردد، ولا عن تصديقه لكل شيء جاء به الرسول أو أي حدث وقع للرسول، ولا عن عطائه وهو الذي أعطى كل شيء يمكله لله ولما سأله الرسول: «ما تركت لأهلك يا أبا بكر؟» قال بلسان المؤمن الواثق: «تركت لهم الله ورسوله»، ولكن سأتكلم عن مواقف جعل الله الصديق سببا في تنفيذها وذلك لحماية الإسلام الوليد الجديد على البشرية في ذلك الزمان، وأرى أن الصديق قد أعده الله ورسوله لهذه اللحظات الفارقة في تاريخ الإسلام، وأول هذه المواقف هو لحظة الزلزال الشديد الذي زلزل قلوب المسلمين في ذلك الزمان، حتى كبار الصحابة لم يحتملوا هذه اللحظة، وأي لحظة تكون أشد من موت رسول الله وغيابه عن أعينهم، ولنا في حياة الناس عبرة، نحن عندما نفقد عزيزا علينا سواء كان أبا أو أما أو أخا أو أختا أو زوجا أو ابنا أو بنتا أو صديقا، فإن القلوب تحزن حزنا شديدا لفقد الحبيب، فدرجة التعلق تلعب دورا، فإذا كانت درجة التعلق كبيرة تكون صدمة الفقدان عنيفة وشديدة، ربما تغير مجرى حياة الإنسان، وهذا التغير إما أن يكون الى الخير وإما أن يكون الى الشر، فما بالنا برسول الله، نحن اليوم بيننا وبين وفاة الرسول اكثر من ألف واربعمائة عام، ومن شدة حبنا وتعلقنا بالرسول عندما نتذكر قصة وفاته صلى الله عليه وسلم تتزلزل قلوبنا وتدمع عيوننا، فما بالنا بالصحابة رضوان الله عليهم وقد عاشوا معه وسمعوا كلامه وتمتعوا بالنظر الى وجهه الكريم، وامتلأت قلوبهم وما شبعت من النظر اليه، فمنهم من كان لا يفارقه حتى عاتبهم الله بأن للرسول خصوصية فلا بد أن يتركوه لحياته الخاصة، حتما سيكون فقدان الرسول غير مصدق في لحظته، فيحتاج الموقف الى قلب ثابت قوي مطمئن بالإيمان، الإيمان بأن محمدا بشر رسول، يموت ويحيا كبقية البشر، قلب يؤمن تمام الإيمان بأن الله هو المعبود وليس محمد، وبأن الله حي لا يموت، فمن يكون غير الصديق، سبحان الله لحظة تحول الرجل المحب لرسول الله وصديقه الذي لم يفارقة طوال حياته الى رجل ثابت الإيمان، يقينه تام بأن محمدا قد مات، ثم خرج على الناس وقال لهم: «أيها الناس من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حيّ لا يموت»، ثم تلا قول الله تعالى: «وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ (آل عمران-144)». كأن هذه الآية الكريمة لم تنزل الا هذه اللحظة، وكأنها أنزلت لهذه اللحظة فقط، فكان أول من انقلب على عقبيه هو سيدنا عمر رضي لله عنه، القوي في كل شيء، ولكن فراق رسول الله زلزله زلزالا شديدا، فلما سمع ما قاله الصديق أيقن بأن الرسول قد مات، وكأنه يسمع هذه الآية لأول مرة، هذه من معجزات القرآن، لا تنقضي عجائبه، تقرأه وتعود إليه تحس كأنك ما قرأته من قبل، أي يقين وأي إيمان وقر في قلب الصديق، تلك لحظة من أهم لحظات الإسلام وما تبعها بعد ذلك من أحداث عظام، وخاصة حادثة سقيفة بني ساعدة، وهذا موقف آخر للصديق كان قويا حكيما في معالجته، لأنه موقف السيادة وقيادة المسلمين بعد رسول الله، موقف حدث والرسول مازال لم يوار الثرى، فتم بفضل الله وعونه للصديق وسيدنا عمر وأد فتنة كانت كفيلة بعصف كل ما بناه الرسول من بعثته حتى مماته، وانتقلت خلافة المسلمين الى الصديق من دون ان يحدث قتال او خلاف بين المسلمين، فما حدث في بداية الأمر في السقيفة كان خلافا في الرأي فقط حول قيادة المسلمين بعد الرسول، ولأن القلوب كانت مطمئنة بالإيمان، ولم تكن الدنيا هي همّهم بل هو موقف لحظي لا يخرج عن إطار العادي في الفكر البشري، فإن الأمر انتهى ومرّ بسلام. وسوف نتكلم بمشيئة الله تعالى في المقالة التالية عن موقفين آخرين عظيمين قام بهما الصديق، فتم بذلك وأد كل فتنة ظهرت بعد وفاة الرسول مباشرة، وانطلق الدين الجديد ليصل الى كل الدنيا حتى يومنا هذا، والله متم نوره ولو كره الكارهون.