أمرنا الله عز وجل بشكره، والشكر يكون باللسان وبالقلب وبكل الجوارح.. قال تعالى: «وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ» (البقرة: 172). وحين قعد الشيطان لابن آدم قعد له على طريق الشكر ليصده عنه، ويجعله من غير الشاكرين.. «قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ» (الأعراف: 16 و17).
وحقيقة الشكر ألا نعصي الله بنعمه. ونعمه علينا لا تُعدّ ولا تُحصى.. قال تعالى: «وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ» (إبراهيم: 34).
والشكر يكون بالعمل.. قال تعالى: «اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ» (سبأ: 13).
وإذا كان المولى عز وجل قد جعل الناس سبباً لقضاء حوائج بعضهم البعض، ونفع بعضهم البعض، وإنعام بعضهم على البعض، وإحسان بعضهم لبعض.. فلا يَظُنُ ظانٌّ أن ذلك خارج عن إرادة الله المستحق الحقيقي للشكر.. قال تعالى: «وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ» (النحل: 53 و54).
ومن عظيم فضله تعالى أن وَجَّهَ إلى شكر الناس، وجعل ذلك من شكره، وكان من لا يشكر الناس لا يشكر الله، بل اعتبر كفران نعمة الوالدين من أشد كفران النعمة، تماماً كما جعل طاعة الوالدين من طاعة الله.. قال تعالى: «أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ» لقمان: 14... «وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا» (الإسراء: 23).
والمؤمن يشهد نعمة الله عليه فيحمده ويشكره ولا ينسب لأحدٍ على الحقيقة فضلاً لأن الفضل كله بيد الله، ومع ذلك إذا قَدَّم أحدٌ له معروفاً أو إحساناً فإنه يشكره في الله ويحبه في الله.
والإنسان المنعم على غيره والمحسن لغيره يتذكر فضل الله عليه أن أكسبه هذه المحامد لا بحوله ولا بقوته ولكن بحول الله وقوته، فإذا ما مدحه المادحون انقبض ونظر إلى نفسه بعين التقصير والذم.. وحريٌّ به أن يستحي من الله إذ مُدِح بما مَنَّ الله به عليه.
قال ابن عطاء الله في حكمه: «إذا أراد الله أن يُظهر فضله عليك، خلَقَ ونسب إليك».
وفي الدعاء المأثور عند وقوع المدح: «اللهم اجعلني خيراً مما يظنون واغفر لي ما لا يعلمون» أخذٌ بالأحوط كي لا تغتر النفس وتظن في قدراتها الظنون!
أما الكامل المكمّل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فله المدح كله وله الشكر كله وله الثناء كله.. وكيف لا، وقد مدحه رب العالمين فقال: «وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ» (القلم: 4).
وأما كعب بن زهير فقد أنشده عند إسلامه قصيدته التي مطلعها:
بَانَتْ سُعَادُ فَقَلْبِي الْيَوْمَ مَتْبُولُ ... مُتَيَّمٌ إِثْرَهَا لَمْ يُفْدَ مَكْبُولُ
وَمَا سُعَادُ غَدَاةَ الْبَيْنِ إِذْ ظَعَنُوا ... إِلا أَغَنٌّ غَضِيضُ الطَّرْفِ مَكْحُولُ
تَجْلُو عَوَارِضَ ذِي ظَلْمٍ إِذَا ابْتَسَمَتْ ... كَأَنَّهَا مُنْهَلٌّ بِالْكَأْسِ مَعْلُولُ
ثم قال:
أُنْبِئْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ أَوْعَدَنِي ... وَالْعَفْوُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ مَأْمُولُ
فَقَدْ أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ مُعْتَذِرًا ... وَالْعُذْرُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ مَقْبُولُ
مَهْلًا رَسُولَ الَّذِي أَعْطَاكَ نَافِلَةَ ... الْقُرْآنِ فِيهَا مَوَاعِيظٌ وَتَفْصِيلُ
لَا تَأْخُذَنِّي بِأَقْوَالِ الْوُشَاةِ وَلَمْ ... أُجْرِمْ وَلَوْ كَثُرَتْ عَنِّي الْأَقَاوِيلُ
وفيها قال:
إِنَّ الرَّسُولَ لَنُورٌ يُسْتَضَاءُ بِهِ ... وَصَارِمٌ مِنْ سُيُوفِ اللَّهِ مَسْلُولُ
فِي فِتْيَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ قَالَ قَائِلُهُمْ ... بِبَطْنِ مَكَّةَ لَمَّا أَسْلَمُوا زُولُوا
زَالُوا فَمَا زَالَ الْكَأْسُ وَلا كُشُفٌ ... عِنْدَ اللِّقَاءِ وَلا مَيْلٌ مَعَازِيلُ