يؤكد القرآن كذلك أن القوة والغلبة لأهل الحق والعدل والإيمان مهما طال الزمان، ومهما تآمر الأعداء يقول تعالى: كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين. سورة البقرة: 249، ويقول تعالى: ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون إن في هذا لبلاغا لقوم عابدين. الأنبياء:105-106، ويقول تعالى: وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا. النور:55، وبقوة العقيدة والإيمان جعل الله لرسوله من بعد الضعف قوة، ومن القلة كثرة، ومن الفقر غنى، ومن الضيق سعة، لقد كان صلى الله عليه وسلم فردا فصار أمة، وكان أميا فعلم البشرية جمعاء يقول تعالى: وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما. النساء : 113، وكان صلى الله عليه وسلم قليل المال فصار بالله أغنى الأغنياء. قال تعالى: ألم يجدك يتيما فآوى ووجدك ضالا فهدى ووجدك عائلا فأغنى. الضحى:6-8، ويؤكد الرسول صلى الله عليه وسلم أن القوة ليست الشدة والغلبة الظاهرة أما القوة الحقيقية فهي قوة الإيمان والتحلي بمكارم الأخلاق. فيقول الرسول. صلى الله عليه وسلم: ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب. رواه: البخاري، أي أن القوي حقا هو من يلتزم بالأخلاق الحسنة، ويسيطر على غضبه فلا ينحرف في سلوكه. وهكذا يجب أن يكون المسلم في سلوكه، وهذه هي القوة الحقيقية التي ترتقي بالفرد والمجتمع، وجميع الإنسانية، أما القوة المادية فهي قوة منحرفة زائلة، لأنها لا تقوم على أساس متين يحميها، فهي قوة عارضة لا تلبث أن تزول كما وضحنا ذلك آنفا، إن كل قوة مادية تقوم على البطش والاستعلاء والقهر والظلم مصيرها إلى زوال لا محالة، لأن الله أقام الأرض والسماوات على قانون العدل، وكل من خالف هذا فهو إلى زوال، فهنيئا لأمة يسود فيها العدل والحق، وكما قيل: العدل أساس الملك، وكذلك فإن العدل أساس الأمن، وفي قصة موسى عليه السلام، وفي بعض مشاهد القصة، في أثناء الحديث عن موقفه عليه السلام مع ابنتي الرجل الصالح، وبعد أن سقى لهما، وبعد أن رجعا إلى أبيهما، وعلم الأب الصالح من ابنتيه شأن ذلك الرجل الذي سقا لهما من دون أن يعرفهما، لكنه لما رأى القوم يستضعفونهما أخذته الغيرة من ظلم القوم لهما فدخل وزاحم الرجال وسقى لهما مروءة منه، وكيف لا وهو من وقف في وجه الظلم، ووقف في وجه الظالمين، فكان بالأمس القريب يسير في شوارع مصر فإذا برجل يستغيث به من ظلم الفرعوني، فاندفع ليدفع الظالم عن ظلمه، ويغيث المستغيث الذي استجار به، فكان أن سقط ذاك الفرعوني ميتا من وكزة موسى له، ولكن موسى. عليه السلام. ما قصد أن يقتله بل قصد مجرد دفعه عن الرجل الإسرائيلي الذي استغاث بموسى، يصور القرآن هذا المشهد فيقول تعالى: ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته وهذا من عدوه فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه فوكزه موسى فقضى عليه قال هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين. قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم. قال رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيرا للمجرمين. القصص:15-17، ولكنه في مدين ينتفض لما رأى استضعاف القوم لابنتي الرجل الصالح، فأراد الرجل الصالح أن يعطيه أجرة سقيه ومكافأته على صنيعه فأرسل إليه إحدى ابنتيه تدعوه ليأخذ أجرته، وهنا رأت أمانته وحسن أخلاقه، حيث أمرها أن تسير خلفه حتى لا ينظر إليها، وأمرها أن ترشده الطريق بحجر تلقيه في الجهة التي يجب أن يتوجه إليها، فلما رجعت إلى أبيها قالت كما ذكره القرآن في قوله تعالى: قالت إحداهما يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين. القصص:26، حيث علمت قوته حين سقى لهما، قال المفسرون: نزع حجرا كان غطاء البئر لا يحمله إلا الرجال الأقوياء، فلما حمله بمفرده ظهرت قوته، ولما ذهبت إليه تدعوه لملاقاة أبيها رأت من أمانته وورعه، وهنا عرض عليه الرجل الصالح الزواج من إحدى ابنتيه، وهكذا فمن يتقي الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب، فهيأ الله لموسى عليه السلام. الخير والأمن والاستقرار وعوضه عما ترك خيرا، إنه النموذج القوي الذي استعمل قوته في نصرة الحق وحماية المستضعفين، وإغاثة الملهوف مهما كلفه ذلك، وهذه طباع المخلصين من عباد الله المؤمنين.