لو أن الله هداني - للشيخ : ( سعيد بن مسفر )
إن الهداية منحة إلهية، يهبها الله لمن يشاء، فهي ليست أمنية يتمناها العبد، وينتظرها حتى تأتيه، بل هي إقبال على الطاعات، وابتعاد عن المعاصي والمنكرات، والمسارعة بالتوبة والأوبة والخضوع والانقياد، والقبول والاستسلام.
المسارعة إلى الله قبل الندم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.أيها الإخوة في الله! يقول الله عز وجل: وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [السجدة:13] ويقول عز وجل: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [يونس:99] ويقول عز وجل: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [القصص:56].اتصل بي شابٌ مؤمنٌ هداه الله ووفقه إلى الصراط المستقيم، وقال لي: إنه دعا أحد إخوانه في الله إلى الإيمان، وإلى الهداية والالتزام، فتعلل بهذه التعللات، واستشهد بهذه الآيات، وقال: إن الله لم يهده. فيقول لي الأخ: كيف أصنع به؟ وبماذا أجيب عليه؟ الإجابة على مثل هذا الذي يقول: إذا هداني الله اهتديت .. لو أن الله هداني لكنت مثلك أو أحسن منك؛ لكن لم يهدني الله إلى الآن.الجواب جاء في القرآن الكريم -وكأنه يعالج مثل هذه المشكلة، ويجيب على هذا التساؤل- في آخر سورة الزمر، يقول عز وجل: وَاتَّبِعُوا هذا أمر لكم أيها المكلفون أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ [الزمر:55] وأحسن ما أنزل هو كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم مِنْ قَبْلِ أي: فليس هناك مجال للتأخير أبداً، إن من يماطل أو يؤجل التوبة، لحظة واحدة خاسر؛ لأن التأجيل ليس من صالحه، التأجيل يعرضك لقضيتين خطيرتين: إما مفاجأتك بالقضاء والقدر على غير موعد، فتخسر خسارة كبيرة، وتندم ندامة لا تعوض، ولا تقوم لها الدنيا كلها، وإذا سلمت من الموت ولم تتب؛ فإنك تخسر خلال فترة التأجيل وقتاً ذهبياً من عمرك كان بإمكانك أن تستغله، وأن تملأه بالعمل الصالح، فالذي يماطل بالتوبة خاسر على الجانبين، ماذا يكسب عندما يظل بدون توبة؟ يكسب نوماً كثيراً، وأكلاً كثيراً، وشهوات كثيرة، ودنيا؟!!لا. بل إنه يخسر كل شيء، يقول الله عز وجل: وَمَاذَا عَلَيْهِمْ يعني: ماذا يضرهم لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً [النساء:39] يعني: ماذا ينقصهم ويضرهم لو أنهم ساروا على الخط الصحيح، والتزموا الإيمان بالله وباليوم الآخر، والإنفاق في سبيل الله .. ما الذي يضرهم؟! لا شيء، بل لهم لا عليهم، فالإنسان لا ينبغي له أن يؤجل التوبة وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ [الزمر:55] يعني: الموت، وسماه الله عذاباً لأنهم في دائرة العذاب .. الموت للكافر والفاجر والعاصي هو الانتقال من العذاب الأدنى إلى العذاب الأكبر، الذي قال الله فيه: وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [السجدة:21] فالعذاب الأدنى ما يناله الفاجر والعاصي من شقاء وضلال وقلق في هذه الدار، فإذا مات قال الله تعالى: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ [الزمر:54] من يستطيع أن ينصرك في تلك اللحظات؟ إذا مت ولقيت الله أيها العبد! ووجهك أسود، وصحفك سوداء، وعملك سيئ .. فمن ينصرك؟! هل المال ينصر في تلك اللحظات؟! الولد ينصر؟! هل المنصب والجاه، والملك والإدارة، والوزارة والإمارة؛ تنصر؟! لا. لا ناصر أبداً إلا الله.والله تعالى لا ينصر الكافر؛ لأنه قال: وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ [الروم:47] نصرهم في الدنيا والآخرة، أما الفجرة فلا ينصرهم الله، بل يخذلهم ويتخلى عنهم أحوج ما يكونون إليه.
الدعوة إلى الإنابة والرجوع إلى الله تعالى
وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ [الزمر:54] (وأنيبوا) أي: ارجعوا، والإنابة هي: سرعة التوبة، ليس تائباً فقط، بل منيباً مهرولاً إلى الله، مسرعاً لا يلوي على شيء، اتجاهه وعزمه وتصميمه في سيره إلى الله، في كل لحظة يتوب، يقول عليه الصلاة والسلام: (إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم مائة مرة) ويحسب له في المجلس الواحد الاستغفار سبعين مرة وهو الذي قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال الله تعالى: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً [الفتح:2] وكان في كل أوقاته يردد: أستغفر الله العظيم وأتوب إليه، كان رجوعاً أواباً.وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ [ق:31-32] يعني: الجنة لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ [ق:32] أواب يعني: رجاع، حفيظ: محافظ على طاعة الله، حريص عليها، يضن بها أعظم من ضنه بالدرهم والدينار مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ [ق:33-34] نسأل الله من فضله، وهذا هو الشرف والفضل يا أخي!إذا مت ورأيت في بيتك ملائكة الجنة معها كفن من الجنة، وجاءك ملك الموت، وقال لك: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً [الفجر:27-28] والله لا تحزن على شيء، تحزن على ماذا؟ على الزوجة؟ تحزن على واحدة والله سيعطيك في الجنة سبعين زوجة، الواحدة منهن خيرٌ من الدنيا وما عليها؟ والله ما عاد تذكر واحدة في هذه الدنيا إلا إن كانت صالحة، ويجعلها ربي معك في الجنة.أتحزن على عمارة أو بيت والله سيعطيك قصوراً في الجنة من در مجوف، طول القصر ستين ميلاً في السماء؟ أتحزن على مزرعتك والله يعطيك مزرعة في الجنة، الغصن الواحد من شجرة الجنة مائة عام يقطعها بصرك، وأنت جالس تبصرها على مسافة مائة عام؟!
تصوير المعرضين عن التوبة وتحسرهم بعد الموت
لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ [ق:32-33] منيب: خاشع خاضع لله، يبكي من خشية الله .. لا يتعاظم على الله .. لا يتعالى على أوامر الله، إنما يرتعد، يخاف، يوجل، يشفق، كأن النار ما خلقت إلا له، يتصور أن الناس كلهم ناجون وأنه هو الخاسر، ويتصور أن الناس كلهم صالحون وأنه هو الفاسق، ويتصور أن الناس كلهم سيدخلون الجنة وأنه في النار، ولهذا في قلبه مثل النار.لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ [ق:32-33] هذه صفات أهل الإيمان أربع صفات: ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ * لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ [ق:34-35].يقول الله عز وجل: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ [الزمر:53-55].مسرع بالسيارة، وفجأة بنشرت العجلة، ليس عندك حساب أو تخطيطات للموت، كل حساباتك للدنيا، كثير من الناس يموت وفي باله كل شيء إلا الموت، في باله الوظيفة، والزوجة، والعَشاء، والأولاد، ولكن أن يأتيه الموت بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ [الزمر:55] من غير أن تتصوروا أو تعقلوا.أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ [الزمر:56] أي: لئلا تقول نفسٌ، وهنا نفس نكرة، أن تقول أي نفس عند الموت يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ [الزمر:56] يتمنى ويتحسر ويتندم على ما فرط في جنب الله، ما الذي فرط فيه في جنب الله؟ إما بارتكاب معصية، أو بترك طاعة.(يا حسرتى) هل يريد أحدنا يا إخواني! أن يقول هذه الكلمة عند الموت؟ والله ليس هناك عقل عند الإنسان الذي يعيا إلا على المعاصي والذنوب، ونقول له: يا أخي! اتقِ الله لا تزنِ، لا ترابِ، لا تترك فريضة، لا تعق والديك، لا تقطع رحمك، يقول: لا. يعني: فهل تستمر حتى تموت؟ وبعد ذلك تأتيك التحسرات وتقول: (يا حسرتى) هل تنفعك هذه التحسرات؟ هل تغني عنك وتنفعك هذه الأشياء؟ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ [الزمر:57-58] إذا رأيت النار ومنزلها لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً [الزمر:58] يطلب فرصة ثانية، يطلب إمهالاً لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً [الزمر:58] يعني: رجعة إلى الدنيا فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [الزمر:58] أرجع فأعمل عملاً صحيحاً، اعمل الآن إن كنت صادقاً، هب أنك مت، وأنك دخلت القبر، وأنك رأيت مصيرك وقلت: ردني يا رب، فالآن .. ردك ربي، لا زلت حياً!وبعد ذلك قال: أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي [الزمر:57] هذا الشاهد من الآيات، مثل الذي يقول له: يا أخي! اتقِ الله، قال: لو أن الله هداني لكنت مثلك، هذا العذر يقوله الآن ويقوله إذا مات، يقول هذه الكلمة: يا رب! لو أنك هديتني لكنت مع الناس: لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [الزمر:57] قال الله عز وجل جواباً على هذا المكابر: بَلَى يا كذاب بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي [الزمر:59] أي: قد هديتك، قال المفسرون: معنى: (جاءتك آياتي) أي: هديتك إليها بآياتي.
حقيقة الهداية ومعناها
معنى الهداية أي: الدلالة، يعني: لو أن أحداً لقيك في الطريق يقول لك: أين مسجد اليحيى؟ فتقول له: هذا الطريق وتدله عليه، لكنه بدلاً من أن يأتي من هنا، ذهب من الطريق الأخرى، وبعد ذلك ظل يبحث عنه إلى نصف الليل، وبعد ذلك لقيك فيقول: يا أخي! أين مسجد اليحيى؟تقول: من أين جئت أنت؟قال: جئت من هنا.حسناً! ألم أقل لك أن تسير من هنا، هل أنا هديتك؟ بلى! قد هديتك إلى المسجد، قد دللتك على الطريق، لكنك خضت شرقاً، وأنا أقول لك: اتجه غرباً لتصل إلى المسجد، فالله عز وجل يقول: (( بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي ))[الزمر:59] أي: قد هديتك إليَّ ولكن كذبت بها وتنحيت، تسمع آيات الصلاة وترفضها، تسمع آيات الزكاة ولكن المال عندك أحب من الله، كثير من الناس ليست الزكاة في حسبانه وعنده آلاف الريالات، وعشرات الآلاف، ولا يتصور أن الزكاة تجب إلا على الأثرياء، وأصحاب الملايين، ومتى تزكي؟ قال: ليس عندي شيء، كيف ما عندك شيء؟ عندك النصاب، النصاب لا يخلو منه جيبك في سائر العام، من هو الذي يخلو منا جيبه خلال العام كله من (56) ريالاً؟ هذا هو النصاب، إذا بلغ في جيبك (56) ريالاً وحال عليها الحول، يعني: دارت السنة وفي جيبك (56) أو أكثر تجب عليك الزكاة.أبو بكر يقول: [والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه] أي: لاستبحت دماءهم من أجله، تأتيك آية الصوم والحج والبر، وترك الزنا .. الربا .. الحرام .. التبرج، هذه آيات الله جاءتك .. الله هداك، قال: اعمل هكذا ولا تعمل هكذا، هذا معناه أنه هداك، هذا معنى الهداية.
التصور الخاطئ لمعنى الهداية
بعض الناس يتصور أن معنى: (الله هداني) أي: أن يسلبك الإرادة ويجعلك إنساناً آلياً تعبد الله بدون اختيار! ليس لك جنة إذا سلب الله منك الاختيار، كيف يجعل الله لك جنة وأنت تعبده بدون اختيار؟ وهذا معنى قول الله عز وجل: وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا [السجدة:13] يعني: لو أردنا لسلبنا الإنسان القدرة على الاختيار، ولجعلناه آلياً في حركته يعبدنا بدون اختيار، ولكن هذه ليست حكمة الله؛ حكمة الله اقتضت أن يعطيه القدرة والاختيار، وجعل له جنة وناراً، والجنة والنار للإنس والجن من بين سائر الخلائق؛ الملائكة .. السماوات .. الأرض .. الشمس .. القمر .. الليل .. النهار .. النجوم .. الشجر .. الدواب .. الحجر .. البحار .. الأنهار، كم خلق الله في الأرض؟ لكن لا يدخل الجنة والنار شيء منها، كلها تؤدي دورها في الحياة لخدمة الإنسان؛ لأن الله عز وجل قال: وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ [الجاثية:13] فإذا أغلقت الحياة، فالحيوانات تصبح تراباً، والشمس تكور، والنجوم تكدر، والأنهار تفجر، والبحار تسجر، وكلها تتغير ويأتي بك أنت يا (أبا اختيار) أنت الذي لك قدرة على أن تطيع، ولك قدرة على أن تعصي، فيقول: ماذا فعلت؟ أنا أعطيتك القدرة، وكرمتك، وفضلتك، وما جعلتك إنساناً آلياً، بل جعلتك سيد الكائنات، وجعلت لك القدرة على أن تسير في طريق الخير وطريق الشر، فماذا عملت؟ ماذا كنتم تعملون؟ وماذا أجبتم المرسلين؟ هذان سؤالان.فبعض الناس يتصور يقول: إن معنى الهداية أن الله ينزل ملكاً من الملائكة، ويربط في رقبتك حبلاً ويقول: سقه إلى المسجد كل صلاة، هذا ليس من حكمة الله؛ حكمة الله أنه بين لك الطريق، وأعطاك القدرة، وحين يسلبك القدرة يسلبك التكليف، انظروا حكمة الله، فالمجنون الذي ذهب عقله هل يعاقب؟ لا. لأنه ليس عنده القدرة على الاختيار، مسكين لا يدري: (رفع القلم عن ثلاثة) والقلم يعني: المؤاخذة والمسئولية، رفعت عن ثلاثة أصناف: (عن الصغير حتى يبلغ، والمجنون حتى يفيق، والنائم حتى يستيقظ) إذا أفطرت في رمضان ناسياً، كأن جئت إلى البيت وأكلت أرزاً ولحماً، ولما أكملت تذكرت: كيف أكلتُ وأنا صائم؟ يقول عليه الصلاة والسلام: (إنما أطعمه الله وسقاه) كل واشبع، لكن ليس عليك إثم، لماذا؟ لأنك أكلت وأنت ناس، والله لا يعاقبك وأنت ناس، إذا احتلمت في نهار رمضان وأنت صائم، فتقوم وتغتسل، ولا شيء عليك، لماذا؟ لأن الله سلبك الاختيار في تلك اللحظات، فأرغمك على فعل شيء من غير اختيار.كيف يرغمك على فعل شيء ثم يؤاخذك ؟ هل هذا معقول في حق الله وهو العدل؟ هل هذا معقول في حكم البشر الآن؟لو جئت من الخميس إلى الجولة، ووجدت رجل المرور يمنع الاتجاه إلى داخل الممساء، سيارات المرور واقفة، والإشارات شغالة، والعساكر يقولون: الاتجاه على المنهل، أنى اتجهت وجدت العسكري واقفاً يقول: لماذا تأتي من هنا؟ تقول للعسكر: ردوني، لا. أنت غلطان، هات مائة ريال، معقول يفعل المرور هذا، مدير المرور معقول أنه يسد الخط الداخل إلى أبها ، وحولوا الناس على طريق الطائف، والذي يأتيكم فخذوا منه جزاء؟ ليس معقولاً، ولو كان مجنوناً، وإذا فعل ذلك مدير المرور، ماذا نقول له؟ هل نطيعه؟ لا. بل نقول: والله لا نعطيك، لماذا؟ لأننا ما أخطأنا، أنت الذي أجبرتنا أن نمشي من هذا الخط وتريد أن نعطيك نقوداً، والله لا نعطيك نقوداً ولو دخلنا السجن؟فهل يعقل أن الله عز وجل يجبرك على سلوك طريق معين ثم بعد ذلك يدخلك النار؟ لا. متى يجوز للمرور أن يعاقبك؟إذا وضع لك لوحة وفيها علامة إكس، وبالعربي تحتها ممنوع الوقوف، وأتيت ووقفت، يأتي يمسكُ السيارة ولا يفكها إلا بثلاثمائة ريال، ولما تأتي، لماذا قيدت أو أمسكت السيارة يا مرور؟ قال: انظر اللوحة، تقول: والله أنا آسف ضع عني هذه المرة، يقول: لا. هات ثلاثمائة، فتعطيه، ولا تقدر أن تتكلم عليه بكلمة واحدة؛ لأنك مخطئ، رأيت الإشارة واللوحة وجلست متحدياً للنظم والتعليمات، فتستحق الجزاء.
جعل الله المرء مختاراً للخير والشر؛ لقيام الحجة عليه
إن الله تبارك وتعالى -وله المثل الأعلى- أعطاك طريقين: طريقاً باتجاه اليمين وله علامات: صلاة .. صيام .. زكاة، هذه لوحات، علامات الطريق، وطريقاً باتجاه الشمال ممنوع الاتجاه إليه .. خطر .. خط أحمر: الزنا خطر، الحرام خطر، وأتى أحد الناس وقال: يريد أن يسلك هذا الطريق، امش في الطريق هذه، انظر هذا الاتجاه الصحيح، قال: لا. أريد أن أغني، لماذا تغني؟ الآخرة مستأخرة، حسناً! غن، لكن بعد ذلك والله ستخرج هذه الأغنية دماً من ضلعك كما جاء في حديث عمرو بن قرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن هذا وأمثاله يقومون يوم القيامة عرايا لا يستترون بهدبة، كلما قاموا صرعوا، ولهم عواء كعواء الكلاب) يعوي مثلما كان يعوي في الدنيا على الجنس، يعوي على الغناء، يعوي في النار ويضرب بالسياط، ويقيد بالسلاسل والأغلال، ولا حول ولا قوة إلا بالله!فالله عز وجل يجيب على هذا وأمثاله ممن يحتجون بأن الله ما هداهم، قال الله تعالى: بلى! والله هديناك؛ هديناك يوم أن خلقناك بالفطرة، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة) ما هي الفطرة؟ الفطرة هي الإسلام، ولهذا قال: (فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه) ولم يقل: أو يمسلمانه؛ لأنه مسلم في الأصل، لكن أبواه يجعلانه إما يهودياً أو نصرانياً أو مجوسياً، يعني: على دين الأبوين، وهو مسلم، وفي صحيح البخاري يقول عليه الصلاة والسلام في الحديث القدسي: (إن الله يقول: إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين) أي: أخرجتهم عن الحنيفية السمحاء، التي هي الدين الإسلامي، فالله خلقك وأودع فيك سلوكاً إسلامية، وركب طبيعتك على الإسلام، لتقوم عليك الحجة أكثر، أنزل لك كتاباً، وأرسل لك رسولاً، ومكنك من سلوك طريق الخير، وعدم سلوك طريق الشر، فلو أن أحداً من الناس، بمجرد ما يؤذن للصلاة يريد أن يصلي، لكن أصابه الله بمرض في قدميه، لا يستطيع أن يمدها، ما رأيكم في الإسلام، يقول: اذهب صل غصباً عنك، وإذا قعدت في البيت نجازيك بجزاء؟ ما دام أن الله عز وجل عطل فيك القدرة على أن تأتي إلى المسجد فصل في البيت، والمريض يصلي في بيته، فأركان الصلاة أربعة عشر ركناً، منها: القيام، لكن مقيد مع القدرة، لو صلى أحدُ الناس جالساً وهو يستطيع أن يقوم فصلاته باطلة، لكن إذا مرض فالذي أمرضه هو الله، حكم عليه بالمرض، والله أمره بالصلاة قائماً، فكيف يعاقبه إذا لم يصل قائماً وهو الذي أمرضه؟ فيسقط عنه التكليف بالقيام، صل قاعداً، ما استطاع أن يصلي قاعداً، فيصلي على جنب، ما استطاع على جنب فيومئ إيماءً بعينه.وآخر -مثلاً- بمجرد ما يرى المرأة في الشارع، ويريد أن ينظر بعينه، من قدرة الله أن ركب له بابين (أوتوماتيك) على العين يغطي العين بهما، فتقول: يا رب! والله لم أستطع أن أغطي عيني، بل يجب أن تغض بصرك، لو أن أحداً أراد أن يغض، ولما غض تفتحت عيونه، فالله لا يحاسبه، لماذا؟ لأنه ليس من اختياره، ولكن في قدرته أن يغض بصره.فالله تعالى يقول: يا من يدعي أن الله ما هداه: بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي [الزمر:59] بلى قد هديتك، بلى قد دللتك عليَّ، ولكن بدلاً من أن تأخذ آياتي هذه وتهتدي وتعمل بها كذبت، فتركت القرآن، وتركت السنة، وملت إلى الأغاني والمنكرات والمعاصي والأفلام، وصرت عبداً للشيطان يركب على رقبتك، ويذهب بك في كل حفرة ومتاهة، وإذا قال له أحد شيئاً، قال: إذا هداني الله، كيف إذا هداك؟ قد هداك: بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ [الزمر:59].
علم الله بمآل المرء إلى شقي أو سعيد هو علم سابق لا سائق
وآخر يقول: ربما أن الله كتبني يوم أمر الملك بكتابة رزقي وأجلي وعملي، وشقي أو سعيد، أنني شقي، قلنا له: لماذا تتوقع أنك شقي؟ لماذا لا تتوقع أنك سعيد؟ لِمَ تحتمل الخيار الأسوأ ما دامت القضية محتملة؟ومعنى الكتابة هنا أي: سبق العلم لا الإلزام؛ لأن الكتابة كما يقول العلماء سابقة لا سائقة، يعني: أن الله علم أنك سوف تأتي وتفجر، وتكون نهايتك بعد فجورك النار، فكتب أنك شقي، وليس معنى هذا أن الله كتبك أنك شقي أنك لا تستطيع أن تطيع الله، فسبق العلم صفة من صفات الله، إذ أن الإنسان إذا كان لا يعلم الذي في المستقبل والله لا يعلم، ففي هذه الحالة سيستوي الإنسان مع الله؛ وهذا محال، من الذي يعلم ما الذي يصير غداً؟ إنه الله، هذه صفة كمال في الرب؛ أنه يعلم ما سيحدث في المستقبل، فالله يعلم أنه سيأتي أحد من الناس ويعيش، ويكون عمله سيئاً وتكون نهايته أن يكون شقياً، فكتب عليه علماً وأزلاً أنه سيكون شقياً بما علمه الله من عمله، لا بما جبره الله وألزمه أنه لا يكون إلا عاصياً، فهذا يقول: ربما أن الله كتب عليَّ أن أكون شقياً، ولهذا أصبح مع الأشقياء، أتعرفون ما مَثَلُ هذا؟مثل هذا كمدرس في بداية العام الدراسي، تعرفون أن المدرسين وبعض الموظفين تقدر لهم العلاوة الدورية على ضوء تقييمهم، على ضوء تقرير الكفاءة في آخر السنة، مدير المدرسة يأتي بنقاط التقييم ويقيس المدرس يشرِّحه واحدة واحدة: مظهره، أداؤه، دوامه، إخلاصه، تفانيه، إنتاجه، ويأتي به ويضع له كل شيء، بعض المدراء يضع بالكريك، لكل المدرسين ستة ستة ستة، وهو لا يساوي صفراً، ولكن يقول: يا شيخ! الله الرزاق وهو كريم، ولذلك لا يعرف الطيب من البطال بهذا التقييم، التقييم أمانة في عنقك أيها المدير، فلا تظلم الدولة فتعطي أحدهم تقييماً وهو لا يستحق، ولا تظلم المواطن أو المدرس فتعطيه تقييماً أقل مما يستحق، أعطه ما يستحقه من أجل أن يكون هناك تفاضل بين الناس، عندما يأتي المدرس الممتاز ويأخذ علاوة أكثر بـ(5%)، ويأتي المدرس الجيد جداً ويأخذ علاوة (4%) من راتبه، ويأخذ المدرس الجيد (3%)، والبقية محرومون -أي: المتوسط والضعيف- يأتي هذا الذي أخذ متوسطاً السنة المقبلة فيأخذ ممتازاً ويأخذ علاوة، لكن عندما تضع للضعيف (100%)، والممتاز (100%)، قال ذاك: والله إني أجتهد، وإن فلاناً بليداً وأنه مثلي، إذاً.. نصير بلداء سواء، ما دام القضية سواء، فيأتي المدير بنقاط التقييم ويضعها، وفي نهاية السنة يعطى للموظف العلاوة الدورية، على ضوء عدد العلامات، فهناك أحد المدرسين من أول السنة لا يحضر في طابور الصباح، ولا يأتي الحصة الأولى إلا وقد ضاعت نصفها، وقبل أن تصفر بربع ساعة يخرج على الباب، ويتلفت على المراقب، وبعد أن تصفر يتهرب، ويجلس في الإدارة، وبعد ذلك صفرت والمدير يقول له: قد بدأت الحصة يا إخوان، قال: حسناً! ويمشي بتباطؤ، يريد أن يصل إلى الفصل بعد ربع ساعة، وإذا دخل، قال: ما عندكم يا أولاد؟ من الذي عنده خبر جديد؟ هل سمعتم أخباراً جديدة؟ قالوا: يا أستاذ! حصة قرآن، قال: صحيح قرآن، لكن أولاً نرى ما هي الأخبار الجديدة، وهو يهمه أن يفوت الحصة بأي وسيلة، وبعد ذلك جاءه أحد المدرسين من زملائه، قال له: يا أخي! أنت مهمل في دوامك، وأدائك، وتدريسك، فلماذا هذا الإهمال؟ قال: ربما المدير يضعني آخر السنة ضعيفاً، ولهذا سوف أكون ضعيفاً من الآن، لماذا أتعب نفسي، وفي الأخير يضعني ضعيفاً في آخر السنة؟ أنا سوف أرقد، أنت فقط تحضر وتتعب وتشتغل وفي الأخير تجد نفسك في آخر السنة ضعيفاً، بالله ما رأيكم في هذا المدرس أهو مجنون أو عاقل؟ مجنون، نقول لك: يا مدرس! أنت واجبك أن تعمل، وواجب المدير أن ينصف، وأن يعطيك بالميزان، مثلما تعمل تأخذ.أما أن تهمل خوفاً من أن يضعك المدير ضعيفاً فهذا غلط.ومثال آخر يقرب المعنى أكثر: مدرس دخل على طلابه، من أول العام الدراسي، وبدأ يصنفهم إلى مجموعات وفئات: الجيدين يضعهم في الوراء، والكسالى يقربهم منه من أجل أن يعطيهم مزيداً من الاهتمام، ويركز عليهم، حتى ينتشلهم من وضعهم، إلى وضع أحسن، وبعد ذلك دخل عليه يوماً من الأيام مدير المدرسة، واختبر الطلاب ورأى مستواهم، انبسط، وقال له: يا أخي! الطلابُ عندك كم؟ قال: ثلاثون طالباً، قال: كم تتوقع نسبة النجاح فيها، وكم تتوقع نسبة الرسوب؟ فالمدرس بحكم معرفته -قد درسهم وعرفهم واحداً واحداً، وعرف الطيب والبطال- قال: أتوقع أن ينجح ثمانية وعشرون طالباً، وهناك اثنان ربما رسبوا، وهو يعرفهم المدرس، فواحد من طلاب الفصل، لما سمع الكلمة، ترك المذاكرة والدروس، ولا يحل واجباته، ولما جاء آخر السنة وسقط، قالوا له: مالك سقطت؟ قال: إن المدير قال في أول السنة: إن هناك اثنين سيسقطون، فتوقعت أني واحدٌ منهم، فلم أتعب نفسي بالمذاكرة، وبعد ذلك أسقط في آخر السنة، ما دام أن هناك اثنين سيسقطون ربما أني منهم، حسناً! لماذا ما يمكن أن تكون من الثمانية والعشرين الذين سينجحون؟لكن انهزام الإنسان أمام شهواته، وحبه للخلود والراحة والأغاني، والأكلات والنومات والتمشيات، هذا يجعله يقول ربما أكون شقياً، لكن لو أنه أخذ بالعزيمة واحتمل أن يكون -إن شاء الله- سعيداً، وبعد ذلك كون الإنسان شقياً أو سعيداً في الأزل، هذا ليس من اختصاصنا، هذه ليست داخلة في دائرة اهتماماتنا، ما هو اختصاصك أنت؟ اختصاصك أن تطيع الله ولا تعصه فقط، وعندك يقين بعد هذا أن الله لا يظلم مثقال ذرة.أما أن تجلس وتبحث في علم الله، وماذا كتبتني يا رب، شقياً أم سعيداً؟ هذا ليس من شأنك، أنت عبد خلقك الله لعبادته، وبين لك الطريق إليه، وأعطاك القدرة على السير في الطريق، سر في الطريق، فعندك عقيدة ومن ضمن صفات الله العدل إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ [النساء:40] .. فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ [آل عمران:195] لا يضيع الله عملَ عامل، فقط امش في الخط الصحيح، واعمل عملاً ووفر فيه شروطَ القبول، وهي: الإخلاص لله، والمتابعة لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.وابتعد عن شيء ثالث مهم يهمله الناس، لا ينفعك العمل في الآخرة إلا بانتفاء الموانع وإبعاد المبطلات؛ لأنك قد تعمل عملاً صالحاً، أردت به وجه الله مخلصاً، وسرت به على هدي رسول الله مقتدياً، ولكن بعدما فعلته أبطلته ونسفته، كيف تنسف العمل؟بمبطلات كثيرة، منها: الشرك، والرياء، والمنّ والأذى .. تصل إلى ثلاثين مبطلاً، وسوف يكون هذا الموضوع دروساً بإذن الله بعنوان: مبطلات العمل، ما هو الذي يبطل العمل؟ تعمل عملاً حسناً؛ لكن بعدما تنتهي ترجع وتنسفه، يعني: كرجل يصلي صلاة حسنة، ثم يذهب يخبر بها الناس، أو يرائي بها فإنه ينسفها، وأحدهم يتصدق صدقة ويخفيها، وبعد ذلك يذهب ويمنُّ بها فيبطل صدقته: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى [البقرة:264] تؤذي هذا كلما تصدقت عليه، أو تمن عليه كلما لقيته، فدورك ومسئوليتك أن تعمل عملاً صالحاً، وتترك السيئات والمعاصي، وبعد ذلك يكون عندك يقين وجزم على أن الله لا يظلم أبداً: لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ [الحشر:20].هذا الجواب قلته لأخي الكريم! الذي سألني، وأقوله لكم ليكون جواباً حاضراً في أذهانكم على من يقول: لو أن الله هداني.نقول له: قد هداك الله، لكنك لا تريد أن تهتديَ: وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا [لقمان:23] .. وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ [النمل:70] .. إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ [النحل:128].كنت أود هذه الليلة، أن يكون الكلام على سبب من أسباب عذاب القبر؛ لأنه بقي عندنا سببان، لكن كثرة الأسئلة، وبمراجعتها وجدت أنها مهمة جداً، وأن إهمالها ليس فيه مصلحة؛ فإن الأسئلة تنبع من حاجة، فهذا الذي يسأل سؤالاً، معنى ذلك أن في قلبه حاجة، ويريد أن يجاب على سؤاله، فوجدت أن الضرورة تقتضي أن أجيب على الأسئلة، والموضوع الذي كان ينبغي أن نأخذه في هذه الليلة نؤجله إلى الأيام القادمة بإذن الله عز وجل.
إن الهداية منحة إلهية، يهبها الله لمن يشاء، فهي ليست أمنية يتمناها العبد، وينتظرها حتى تأتيه، بل هي إقبال على الطاعات، وابتعاد عن المعاصي والمنكرات، والمسارعة بالتوبة والأوبة والخضوع والانقياد، والقبول والاستسلام.
المسارعة إلى الله قبل الندم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.أيها الإخوة في الله! يقول الله عز وجل: وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [السجدة:13] ويقول عز وجل: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [يونس:99] ويقول عز وجل: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [القصص:56].اتصل بي شابٌ مؤمنٌ هداه الله ووفقه إلى الصراط المستقيم، وقال لي: إنه دعا أحد إخوانه في الله إلى الإيمان، وإلى الهداية والالتزام، فتعلل بهذه التعللات، واستشهد بهذه الآيات، وقال: إن الله لم يهده. فيقول لي الأخ: كيف أصنع به؟ وبماذا أجيب عليه؟ الإجابة على مثل هذا الذي يقول: إذا هداني الله اهتديت .. لو أن الله هداني لكنت مثلك أو أحسن منك؛ لكن لم يهدني الله إلى الآن.الجواب جاء في القرآن الكريم -وكأنه يعالج مثل هذه المشكلة، ويجيب على هذا التساؤل- في آخر سورة الزمر، يقول عز وجل: وَاتَّبِعُوا هذا أمر لكم أيها المكلفون أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ [الزمر:55] وأحسن ما أنزل هو كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم مِنْ قَبْلِ أي: فليس هناك مجال للتأخير أبداً، إن من يماطل أو يؤجل التوبة، لحظة واحدة خاسر؛ لأن التأجيل ليس من صالحه، التأجيل يعرضك لقضيتين خطيرتين: إما مفاجأتك بالقضاء والقدر على غير موعد، فتخسر خسارة كبيرة، وتندم ندامة لا تعوض، ولا تقوم لها الدنيا كلها، وإذا سلمت من الموت ولم تتب؛ فإنك تخسر خلال فترة التأجيل وقتاً ذهبياً من عمرك كان بإمكانك أن تستغله، وأن تملأه بالعمل الصالح، فالذي يماطل بالتوبة خاسر على الجانبين، ماذا يكسب عندما يظل بدون توبة؟ يكسب نوماً كثيراً، وأكلاً كثيراً، وشهوات كثيرة، ودنيا؟!!لا. بل إنه يخسر كل شيء، يقول الله عز وجل: وَمَاذَا عَلَيْهِمْ يعني: ماذا يضرهم لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً [النساء:39] يعني: ماذا ينقصهم ويضرهم لو أنهم ساروا على الخط الصحيح، والتزموا الإيمان بالله وباليوم الآخر، والإنفاق في سبيل الله .. ما الذي يضرهم؟! لا شيء، بل لهم لا عليهم، فالإنسان لا ينبغي له أن يؤجل التوبة وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ [الزمر:55] يعني: الموت، وسماه الله عذاباً لأنهم في دائرة العذاب .. الموت للكافر والفاجر والعاصي هو الانتقال من العذاب الأدنى إلى العذاب الأكبر، الذي قال الله فيه: وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [السجدة:21] فالعذاب الأدنى ما يناله الفاجر والعاصي من شقاء وضلال وقلق في هذه الدار، فإذا مات قال الله تعالى: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ [الزمر:54] من يستطيع أن ينصرك في تلك اللحظات؟ إذا مت ولقيت الله أيها العبد! ووجهك أسود، وصحفك سوداء، وعملك سيئ .. فمن ينصرك؟! هل المال ينصر في تلك اللحظات؟! الولد ينصر؟! هل المنصب والجاه، والملك والإدارة، والوزارة والإمارة؛ تنصر؟! لا. لا ناصر أبداً إلا الله.والله تعالى لا ينصر الكافر؛ لأنه قال: وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ [الروم:47] نصرهم في الدنيا والآخرة، أما الفجرة فلا ينصرهم الله، بل يخذلهم ويتخلى عنهم أحوج ما يكونون إليه.
الدعوة إلى الإنابة والرجوع إلى الله تعالى
وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ [الزمر:54] (وأنيبوا) أي: ارجعوا، والإنابة هي: سرعة التوبة، ليس تائباً فقط، بل منيباً مهرولاً إلى الله، مسرعاً لا يلوي على شيء، اتجاهه وعزمه وتصميمه في سيره إلى الله، في كل لحظة يتوب، يقول عليه الصلاة والسلام: (إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم مائة مرة) ويحسب له في المجلس الواحد الاستغفار سبعين مرة وهو الذي قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال الله تعالى: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً [الفتح:2] وكان في كل أوقاته يردد: أستغفر الله العظيم وأتوب إليه، كان رجوعاً أواباً.وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ [ق:31-32] يعني: الجنة لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ [ق:32] أواب يعني: رجاع، حفيظ: محافظ على طاعة الله، حريص عليها، يضن بها أعظم من ضنه بالدرهم والدينار مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ [ق:33-34] نسأل الله من فضله، وهذا هو الشرف والفضل يا أخي!إذا مت ورأيت في بيتك ملائكة الجنة معها كفن من الجنة، وجاءك ملك الموت، وقال لك: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً [الفجر:27-28] والله لا تحزن على شيء، تحزن على ماذا؟ على الزوجة؟ تحزن على واحدة والله سيعطيك في الجنة سبعين زوجة، الواحدة منهن خيرٌ من الدنيا وما عليها؟ والله ما عاد تذكر واحدة في هذه الدنيا إلا إن كانت صالحة، ويجعلها ربي معك في الجنة.أتحزن على عمارة أو بيت والله سيعطيك قصوراً في الجنة من در مجوف، طول القصر ستين ميلاً في السماء؟ أتحزن على مزرعتك والله يعطيك مزرعة في الجنة، الغصن الواحد من شجرة الجنة مائة عام يقطعها بصرك، وأنت جالس تبصرها على مسافة مائة عام؟!
تصوير المعرضين عن التوبة وتحسرهم بعد الموت
لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ [ق:32-33] منيب: خاشع خاضع لله، يبكي من خشية الله .. لا يتعاظم على الله .. لا يتعالى على أوامر الله، إنما يرتعد، يخاف، يوجل، يشفق، كأن النار ما خلقت إلا له، يتصور أن الناس كلهم ناجون وأنه هو الخاسر، ويتصور أن الناس كلهم صالحون وأنه هو الفاسق، ويتصور أن الناس كلهم سيدخلون الجنة وأنه في النار، ولهذا في قلبه مثل النار.لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ [ق:32-33] هذه صفات أهل الإيمان أربع صفات: ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ * لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ [ق:34-35].يقول الله عز وجل: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ [الزمر:53-55].مسرع بالسيارة، وفجأة بنشرت العجلة، ليس عندك حساب أو تخطيطات للموت، كل حساباتك للدنيا، كثير من الناس يموت وفي باله كل شيء إلا الموت، في باله الوظيفة، والزوجة، والعَشاء، والأولاد، ولكن أن يأتيه الموت بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ [الزمر:55] من غير أن تتصوروا أو تعقلوا.أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ [الزمر:56] أي: لئلا تقول نفسٌ، وهنا نفس نكرة، أن تقول أي نفس عند الموت يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ [الزمر:56] يتمنى ويتحسر ويتندم على ما فرط في جنب الله، ما الذي فرط فيه في جنب الله؟ إما بارتكاب معصية، أو بترك طاعة.(يا حسرتى) هل يريد أحدنا يا إخواني! أن يقول هذه الكلمة عند الموت؟ والله ليس هناك عقل عند الإنسان الذي يعيا إلا على المعاصي والذنوب، ونقول له: يا أخي! اتقِ الله لا تزنِ، لا ترابِ، لا تترك فريضة، لا تعق والديك، لا تقطع رحمك، يقول: لا. يعني: فهل تستمر حتى تموت؟ وبعد ذلك تأتيك التحسرات وتقول: (يا حسرتى) هل تنفعك هذه التحسرات؟ هل تغني عنك وتنفعك هذه الأشياء؟ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ [الزمر:57-58] إذا رأيت النار ومنزلها لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً [الزمر:58] يطلب فرصة ثانية، يطلب إمهالاً لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً [الزمر:58] يعني: رجعة إلى الدنيا فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [الزمر:58] أرجع فأعمل عملاً صحيحاً، اعمل الآن إن كنت صادقاً، هب أنك مت، وأنك دخلت القبر، وأنك رأيت مصيرك وقلت: ردني يا رب، فالآن .. ردك ربي، لا زلت حياً!وبعد ذلك قال: أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي [الزمر:57] هذا الشاهد من الآيات، مثل الذي يقول له: يا أخي! اتقِ الله، قال: لو أن الله هداني لكنت مثلك، هذا العذر يقوله الآن ويقوله إذا مات، يقول هذه الكلمة: يا رب! لو أنك هديتني لكنت مع الناس: لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [الزمر:57] قال الله عز وجل جواباً على هذا المكابر: بَلَى يا كذاب بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي [الزمر:59] أي: قد هديتك، قال المفسرون: معنى: (جاءتك آياتي) أي: هديتك إليها بآياتي.
حقيقة الهداية ومعناها
معنى الهداية أي: الدلالة، يعني: لو أن أحداً لقيك في الطريق يقول لك: أين مسجد اليحيى؟ فتقول له: هذا الطريق وتدله عليه، لكنه بدلاً من أن يأتي من هنا، ذهب من الطريق الأخرى، وبعد ذلك ظل يبحث عنه إلى نصف الليل، وبعد ذلك لقيك فيقول: يا أخي! أين مسجد اليحيى؟تقول: من أين جئت أنت؟قال: جئت من هنا.حسناً! ألم أقل لك أن تسير من هنا، هل أنا هديتك؟ بلى! قد هديتك إلى المسجد، قد دللتك على الطريق، لكنك خضت شرقاً، وأنا أقول لك: اتجه غرباً لتصل إلى المسجد، فالله عز وجل يقول: (( بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي ))[الزمر:59] أي: قد هديتك إليَّ ولكن كذبت بها وتنحيت، تسمع آيات الصلاة وترفضها، تسمع آيات الزكاة ولكن المال عندك أحب من الله، كثير من الناس ليست الزكاة في حسبانه وعنده آلاف الريالات، وعشرات الآلاف، ولا يتصور أن الزكاة تجب إلا على الأثرياء، وأصحاب الملايين، ومتى تزكي؟ قال: ليس عندي شيء، كيف ما عندك شيء؟ عندك النصاب، النصاب لا يخلو منه جيبك في سائر العام، من هو الذي يخلو منا جيبه خلال العام كله من (56) ريالاً؟ هذا هو النصاب، إذا بلغ في جيبك (56) ريالاً وحال عليها الحول، يعني: دارت السنة وفي جيبك (56) أو أكثر تجب عليك الزكاة.أبو بكر يقول: [والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه] أي: لاستبحت دماءهم من أجله، تأتيك آية الصوم والحج والبر، وترك الزنا .. الربا .. الحرام .. التبرج، هذه آيات الله جاءتك .. الله هداك، قال: اعمل هكذا ولا تعمل هكذا، هذا معناه أنه هداك، هذا معنى الهداية.
التصور الخاطئ لمعنى الهداية
بعض الناس يتصور أن معنى: (الله هداني) أي: أن يسلبك الإرادة ويجعلك إنساناً آلياً تعبد الله بدون اختيار! ليس لك جنة إذا سلب الله منك الاختيار، كيف يجعل الله لك جنة وأنت تعبده بدون اختيار؟ وهذا معنى قول الله عز وجل: وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا [السجدة:13] يعني: لو أردنا لسلبنا الإنسان القدرة على الاختيار، ولجعلناه آلياً في حركته يعبدنا بدون اختيار، ولكن هذه ليست حكمة الله؛ حكمة الله اقتضت أن يعطيه القدرة والاختيار، وجعل له جنة وناراً، والجنة والنار للإنس والجن من بين سائر الخلائق؛ الملائكة .. السماوات .. الأرض .. الشمس .. القمر .. الليل .. النهار .. النجوم .. الشجر .. الدواب .. الحجر .. البحار .. الأنهار، كم خلق الله في الأرض؟ لكن لا يدخل الجنة والنار شيء منها، كلها تؤدي دورها في الحياة لخدمة الإنسان؛ لأن الله عز وجل قال: وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ [الجاثية:13] فإذا أغلقت الحياة، فالحيوانات تصبح تراباً، والشمس تكور، والنجوم تكدر، والأنهار تفجر، والبحار تسجر، وكلها تتغير ويأتي بك أنت يا (أبا اختيار) أنت الذي لك قدرة على أن تطيع، ولك قدرة على أن تعصي، فيقول: ماذا فعلت؟ أنا أعطيتك القدرة، وكرمتك، وفضلتك، وما جعلتك إنساناً آلياً، بل جعلتك سيد الكائنات، وجعلت لك القدرة على أن تسير في طريق الخير وطريق الشر، فماذا عملت؟ ماذا كنتم تعملون؟ وماذا أجبتم المرسلين؟ هذان سؤالان.فبعض الناس يتصور يقول: إن معنى الهداية أن الله ينزل ملكاً من الملائكة، ويربط في رقبتك حبلاً ويقول: سقه إلى المسجد كل صلاة، هذا ليس من حكمة الله؛ حكمة الله أنه بين لك الطريق، وأعطاك القدرة، وحين يسلبك القدرة يسلبك التكليف، انظروا حكمة الله، فالمجنون الذي ذهب عقله هل يعاقب؟ لا. لأنه ليس عنده القدرة على الاختيار، مسكين لا يدري: (رفع القلم عن ثلاثة) والقلم يعني: المؤاخذة والمسئولية، رفعت عن ثلاثة أصناف: (عن الصغير حتى يبلغ، والمجنون حتى يفيق، والنائم حتى يستيقظ) إذا أفطرت في رمضان ناسياً، كأن جئت إلى البيت وأكلت أرزاً ولحماً، ولما أكملت تذكرت: كيف أكلتُ وأنا صائم؟ يقول عليه الصلاة والسلام: (إنما أطعمه الله وسقاه) كل واشبع، لكن ليس عليك إثم، لماذا؟ لأنك أكلت وأنت ناس، والله لا يعاقبك وأنت ناس، إذا احتلمت في نهار رمضان وأنت صائم، فتقوم وتغتسل، ولا شيء عليك، لماذا؟ لأن الله سلبك الاختيار في تلك اللحظات، فأرغمك على فعل شيء من غير اختيار.كيف يرغمك على فعل شيء ثم يؤاخذك ؟ هل هذا معقول في حق الله وهو العدل؟ هل هذا معقول في حكم البشر الآن؟لو جئت من الخميس إلى الجولة، ووجدت رجل المرور يمنع الاتجاه إلى داخل الممساء، سيارات المرور واقفة، والإشارات شغالة، والعساكر يقولون: الاتجاه على المنهل، أنى اتجهت وجدت العسكري واقفاً يقول: لماذا تأتي من هنا؟ تقول للعسكر: ردوني، لا. أنت غلطان، هات مائة ريال، معقول يفعل المرور هذا، مدير المرور معقول أنه يسد الخط الداخل إلى أبها ، وحولوا الناس على طريق الطائف، والذي يأتيكم فخذوا منه جزاء؟ ليس معقولاً، ولو كان مجنوناً، وإذا فعل ذلك مدير المرور، ماذا نقول له؟ هل نطيعه؟ لا. بل نقول: والله لا نعطيك، لماذا؟ لأننا ما أخطأنا، أنت الذي أجبرتنا أن نمشي من هذا الخط وتريد أن نعطيك نقوداً، والله لا نعطيك نقوداً ولو دخلنا السجن؟فهل يعقل أن الله عز وجل يجبرك على سلوك طريق معين ثم بعد ذلك يدخلك النار؟ لا. متى يجوز للمرور أن يعاقبك؟إذا وضع لك لوحة وفيها علامة إكس، وبالعربي تحتها ممنوع الوقوف، وأتيت ووقفت، يأتي يمسكُ السيارة ولا يفكها إلا بثلاثمائة ريال، ولما تأتي، لماذا قيدت أو أمسكت السيارة يا مرور؟ قال: انظر اللوحة، تقول: والله أنا آسف ضع عني هذه المرة، يقول: لا. هات ثلاثمائة، فتعطيه، ولا تقدر أن تتكلم عليه بكلمة واحدة؛ لأنك مخطئ، رأيت الإشارة واللوحة وجلست متحدياً للنظم والتعليمات، فتستحق الجزاء.
جعل الله المرء مختاراً للخير والشر؛ لقيام الحجة عليه
إن الله تبارك وتعالى -وله المثل الأعلى- أعطاك طريقين: طريقاً باتجاه اليمين وله علامات: صلاة .. صيام .. زكاة، هذه لوحات، علامات الطريق، وطريقاً باتجاه الشمال ممنوع الاتجاه إليه .. خطر .. خط أحمر: الزنا خطر، الحرام خطر، وأتى أحد الناس وقال: يريد أن يسلك هذا الطريق، امش في الطريق هذه، انظر هذا الاتجاه الصحيح، قال: لا. أريد أن أغني، لماذا تغني؟ الآخرة مستأخرة، حسناً! غن، لكن بعد ذلك والله ستخرج هذه الأغنية دماً من ضلعك كما جاء في حديث عمرو بن قرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن هذا وأمثاله يقومون يوم القيامة عرايا لا يستترون بهدبة، كلما قاموا صرعوا، ولهم عواء كعواء الكلاب) يعوي مثلما كان يعوي في الدنيا على الجنس، يعوي على الغناء، يعوي في النار ويضرب بالسياط، ويقيد بالسلاسل والأغلال، ولا حول ولا قوة إلا بالله!فالله عز وجل يجيب على هذا وأمثاله ممن يحتجون بأن الله ما هداهم، قال الله تعالى: بلى! والله هديناك؛ هديناك يوم أن خلقناك بالفطرة، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة) ما هي الفطرة؟ الفطرة هي الإسلام، ولهذا قال: (فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه) ولم يقل: أو يمسلمانه؛ لأنه مسلم في الأصل، لكن أبواه يجعلانه إما يهودياً أو نصرانياً أو مجوسياً، يعني: على دين الأبوين، وهو مسلم، وفي صحيح البخاري يقول عليه الصلاة والسلام في الحديث القدسي: (إن الله يقول: إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين) أي: أخرجتهم عن الحنيفية السمحاء، التي هي الدين الإسلامي، فالله خلقك وأودع فيك سلوكاً إسلامية، وركب طبيعتك على الإسلام، لتقوم عليك الحجة أكثر، أنزل لك كتاباً، وأرسل لك رسولاً، ومكنك من سلوك طريق الخير، وعدم سلوك طريق الشر، فلو أن أحداً من الناس، بمجرد ما يؤذن للصلاة يريد أن يصلي، لكن أصابه الله بمرض في قدميه، لا يستطيع أن يمدها، ما رأيكم في الإسلام، يقول: اذهب صل غصباً عنك، وإذا قعدت في البيت نجازيك بجزاء؟ ما دام أن الله عز وجل عطل فيك القدرة على أن تأتي إلى المسجد فصل في البيت، والمريض يصلي في بيته، فأركان الصلاة أربعة عشر ركناً، منها: القيام، لكن مقيد مع القدرة، لو صلى أحدُ الناس جالساً وهو يستطيع أن يقوم فصلاته باطلة، لكن إذا مرض فالذي أمرضه هو الله، حكم عليه بالمرض، والله أمره بالصلاة قائماً، فكيف يعاقبه إذا لم يصل قائماً وهو الذي أمرضه؟ فيسقط عنه التكليف بالقيام، صل قاعداً، ما استطاع أن يصلي قاعداً، فيصلي على جنب، ما استطاع على جنب فيومئ إيماءً بعينه.وآخر -مثلاً- بمجرد ما يرى المرأة في الشارع، ويريد أن ينظر بعينه، من قدرة الله أن ركب له بابين (أوتوماتيك) على العين يغطي العين بهما، فتقول: يا رب! والله لم أستطع أن أغطي عيني، بل يجب أن تغض بصرك، لو أن أحداً أراد أن يغض، ولما غض تفتحت عيونه، فالله لا يحاسبه، لماذا؟ لأنه ليس من اختياره، ولكن في قدرته أن يغض بصره.فالله تعالى يقول: يا من يدعي أن الله ما هداه: بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي [الزمر:59] بلى قد هديتك، بلى قد دللتك عليَّ، ولكن بدلاً من أن تأخذ آياتي هذه وتهتدي وتعمل بها كذبت، فتركت القرآن، وتركت السنة، وملت إلى الأغاني والمنكرات والمعاصي والأفلام، وصرت عبداً للشيطان يركب على رقبتك، ويذهب بك في كل حفرة ومتاهة، وإذا قال له أحد شيئاً، قال: إذا هداني الله، كيف إذا هداك؟ قد هداك: بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ [الزمر:59].
علم الله بمآل المرء إلى شقي أو سعيد هو علم سابق لا سائق
وآخر يقول: ربما أن الله كتبني يوم أمر الملك بكتابة رزقي وأجلي وعملي، وشقي أو سعيد، أنني شقي، قلنا له: لماذا تتوقع أنك شقي؟ لماذا لا تتوقع أنك سعيد؟ لِمَ تحتمل الخيار الأسوأ ما دامت القضية محتملة؟ومعنى الكتابة هنا أي: سبق العلم لا الإلزام؛ لأن الكتابة كما يقول العلماء سابقة لا سائقة، يعني: أن الله علم أنك سوف تأتي وتفجر، وتكون نهايتك بعد فجورك النار، فكتب أنك شقي، وليس معنى هذا أن الله كتبك أنك شقي أنك لا تستطيع أن تطيع الله، فسبق العلم صفة من صفات الله، إذ أن الإنسان إذا كان لا يعلم الذي في المستقبل والله لا يعلم، ففي هذه الحالة سيستوي الإنسان مع الله؛ وهذا محال، من الذي يعلم ما الذي يصير غداً؟ إنه الله، هذه صفة كمال في الرب؛ أنه يعلم ما سيحدث في المستقبل، فالله يعلم أنه سيأتي أحد من الناس ويعيش، ويكون عمله سيئاً وتكون نهايته أن يكون شقياً، فكتب عليه علماً وأزلاً أنه سيكون شقياً بما علمه الله من عمله، لا بما جبره الله وألزمه أنه لا يكون إلا عاصياً، فهذا يقول: ربما أن الله كتب عليَّ أن أكون شقياً، ولهذا أصبح مع الأشقياء، أتعرفون ما مَثَلُ هذا؟مثل هذا كمدرس في بداية العام الدراسي، تعرفون أن المدرسين وبعض الموظفين تقدر لهم العلاوة الدورية على ضوء تقييمهم، على ضوء تقرير الكفاءة في آخر السنة، مدير المدرسة يأتي بنقاط التقييم ويقيس المدرس يشرِّحه واحدة واحدة: مظهره، أداؤه، دوامه، إخلاصه، تفانيه، إنتاجه، ويأتي به ويضع له كل شيء، بعض المدراء يضع بالكريك، لكل المدرسين ستة ستة ستة، وهو لا يساوي صفراً، ولكن يقول: يا شيخ! الله الرزاق وهو كريم، ولذلك لا يعرف الطيب من البطال بهذا التقييم، التقييم أمانة في عنقك أيها المدير، فلا تظلم الدولة فتعطي أحدهم تقييماً وهو لا يستحق، ولا تظلم المواطن أو المدرس فتعطيه تقييماً أقل مما يستحق، أعطه ما يستحقه من أجل أن يكون هناك تفاضل بين الناس، عندما يأتي المدرس الممتاز ويأخذ علاوة أكثر بـ(5%)، ويأتي المدرس الجيد جداً ويأخذ علاوة (4%) من راتبه، ويأخذ المدرس الجيد (3%)، والبقية محرومون -أي: المتوسط والضعيف- يأتي هذا الذي أخذ متوسطاً السنة المقبلة فيأخذ ممتازاً ويأخذ علاوة، لكن عندما تضع للضعيف (100%)، والممتاز (100%)، قال ذاك: والله إني أجتهد، وإن فلاناً بليداً وأنه مثلي، إذاً.. نصير بلداء سواء، ما دام القضية سواء، فيأتي المدير بنقاط التقييم ويضعها، وفي نهاية السنة يعطى للموظف العلاوة الدورية، على ضوء عدد العلامات، فهناك أحد المدرسين من أول السنة لا يحضر في طابور الصباح، ولا يأتي الحصة الأولى إلا وقد ضاعت نصفها، وقبل أن تصفر بربع ساعة يخرج على الباب، ويتلفت على المراقب، وبعد أن تصفر يتهرب، ويجلس في الإدارة، وبعد ذلك صفرت والمدير يقول له: قد بدأت الحصة يا إخوان، قال: حسناً! ويمشي بتباطؤ، يريد أن يصل إلى الفصل بعد ربع ساعة، وإذا دخل، قال: ما عندكم يا أولاد؟ من الذي عنده خبر جديد؟ هل سمعتم أخباراً جديدة؟ قالوا: يا أستاذ! حصة قرآن، قال: صحيح قرآن، لكن أولاً نرى ما هي الأخبار الجديدة، وهو يهمه أن يفوت الحصة بأي وسيلة، وبعد ذلك جاءه أحد المدرسين من زملائه، قال له: يا أخي! أنت مهمل في دوامك، وأدائك، وتدريسك، فلماذا هذا الإهمال؟ قال: ربما المدير يضعني آخر السنة ضعيفاً، ولهذا سوف أكون ضعيفاً من الآن، لماذا أتعب نفسي، وفي الأخير يضعني ضعيفاً في آخر السنة؟ أنا سوف أرقد، أنت فقط تحضر وتتعب وتشتغل وفي الأخير تجد نفسك في آخر السنة ضعيفاً، بالله ما رأيكم في هذا المدرس أهو مجنون أو عاقل؟ مجنون، نقول لك: يا مدرس! أنت واجبك أن تعمل، وواجب المدير أن ينصف، وأن يعطيك بالميزان، مثلما تعمل تأخذ.أما أن تهمل خوفاً من أن يضعك المدير ضعيفاً فهذا غلط.ومثال آخر يقرب المعنى أكثر: مدرس دخل على طلابه، من أول العام الدراسي، وبدأ يصنفهم إلى مجموعات وفئات: الجيدين يضعهم في الوراء، والكسالى يقربهم منه من أجل أن يعطيهم مزيداً من الاهتمام، ويركز عليهم، حتى ينتشلهم من وضعهم، إلى وضع أحسن، وبعد ذلك دخل عليه يوماً من الأيام مدير المدرسة، واختبر الطلاب ورأى مستواهم، انبسط، وقال له: يا أخي! الطلابُ عندك كم؟ قال: ثلاثون طالباً، قال: كم تتوقع نسبة النجاح فيها، وكم تتوقع نسبة الرسوب؟ فالمدرس بحكم معرفته -قد درسهم وعرفهم واحداً واحداً، وعرف الطيب والبطال- قال: أتوقع أن ينجح ثمانية وعشرون طالباً، وهناك اثنان ربما رسبوا، وهو يعرفهم المدرس، فواحد من طلاب الفصل، لما سمع الكلمة، ترك المذاكرة والدروس، ولا يحل واجباته، ولما جاء آخر السنة وسقط، قالوا له: مالك سقطت؟ قال: إن المدير قال في أول السنة: إن هناك اثنين سيسقطون، فتوقعت أني واحدٌ منهم، فلم أتعب نفسي بالمذاكرة، وبعد ذلك أسقط في آخر السنة، ما دام أن هناك اثنين سيسقطون ربما أني منهم، حسناً! لماذا ما يمكن أن تكون من الثمانية والعشرين الذين سينجحون؟لكن انهزام الإنسان أمام شهواته، وحبه للخلود والراحة والأغاني، والأكلات والنومات والتمشيات، هذا يجعله يقول ربما أكون شقياً، لكن لو أنه أخذ بالعزيمة واحتمل أن يكون -إن شاء الله- سعيداً، وبعد ذلك كون الإنسان شقياً أو سعيداً في الأزل، هذا ليس من اختصاصنا، هذه ليست داخلة في دائرة اهتماماتنا، ما هو اختصاصك أنت؟ اختصاصك أن تطيع الله ولا تعصه فقط، وعندك يقين بعد هذا أن الله لا يظلم مثقال ذرة.أما أن تجلس وتبحث في علم الله، وماذا كتبتني يا رب، شقياً أم سعيداً؟ هذا ليس من شأنك، أنت عبد خلقك الله لعبادته، وبين لك الطريق إليه، وأعطاك القدرة على السير في الطريق، سر في الطريق، فعندك عقيدة ومن ضمن صفات الله العدل إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ [النساء:40] .. فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ [آل عمران:195] لا يضيع الله عملَ عامل، فقط امش في الخط الصحيح، واعمل عملاً ووفر فيه شروطَ القبول، وهي: الإخلاص لله، والمتابعة لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.وابتعد عن شيء ثالث مهم يهمله الناس، لا ينفعك العمل في الآخرة إلا بانتفاء الموانع وإبعاد المبطلات؛ لأنك قد تعمل عملاً صالحاً، أردت به وجه الله مخلصاً، وسرت به على هدي رسول الله مقتدياً، ولكن بعدما فعلته أبطلته ونسفته، كيف تنسف العمل؟بمبطلات كثيرة، منها: الشرك، والرياء، والمنّ والأذى .. تصل إلى ثلاثين مبطلاً، وسوف يكون هذا الموضوع دروساً بإذن الله بعنوان: مبطلات العمل، ما هو الذي يبطل العمل؟ تعمل عملاً حسناً؛ لكن بعدما تنتهي ترجع وتنسفه، يعني: كرجل يصلي صلاة حسنة، ثم يذهب يخبر بها الناس، أو يرائي بها فإنه ينسفها، وأحدهم يتصدق صدقة ويخفيها، وبعد ذلك يذهب ويمنُّ بها فيبطل صدقته: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى [البقرة:264] تؤذي هذا كلما تصدقت عليه، أو تمن عليه كلما لقيته، فدورك ومسئوليتك أن تعمل عملاً صالحاً، وتترك السيئات والمعاصي، وبعد ذلك يكون عندك يقين وجزم على أن الله لا يظلم أبداً: لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ [الحشر:20].هذا الجواب قلته لأخي الكريم! الذي سألني، وأقوله لكم ليكون جواباً حاضراً في أذهانكم على من يقول: لو أن الله هداني.نقول له: قد هداك الله، لكنك لا تريد أن تهتديَ: وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا [لقمان:23] .. وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ [النمل:70] .. إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ [النحل:128].كنت أود هذه الليلة، أن يكون الكلام على سبب من أسباب عذاب القبر؛ لأنه بقي عندنا سببان، لكن كثرة الأسئلة، وبمراجعتها وجدت أنها مهمة جداً، وأن إهمالها ليس فيه مصلحة؛ فإن الأسئلة تنبع من حاجة، فهذا الذي يسأل سؤالاً، معنى ذلك أن في قلبه حاجة، ويريد أن يجاب على سؤاله، فوجدت أن الضرورة تقتضي أن أجيب على الأسئلة، والموضوع الذي كان ينبغي أن نأخذه في هذه الليلة نؤجله إلى الأيام القادمة بإذن الله عز وجل.