من العجائب التي أثارتني في صحيح البخاري هو نظام ترتيبه .. و آيته الكبرى هو ابتداؤه بحديث النيات ثم كتاب الوحي ثم الإيمان ثم العلم و هذه حقائق - مهما قلبت وجوه الرأي فيها و وضعتها تحت مجهر الحقيقة - وجدتها يأخذ بعضها برقاب بعض و ينتج بعضها بعضا كالحقيقة الحسابية في فن الرياضيات , ثم ختمه بكتاب التوحيد .. و بين هذه و هذا تعاليم الإسلام في القيم و الأخلاق و التشريع و العلاقات المختلفة , فكأنه يريد أن يقول لنا أن غاية المؤمن في الحياة هي توحيد الله تعالى و معرفته و هذا ما جاء عن ابن عباس في تفسير قول الله تعالى : وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴿56﴾ أي ليعرفون .. إنها المعرفة و إنه التوحيد الذي لا يلبث و قد أشرقت أنواره في قلب الإنسان و تعمقت معانيه في أبعاد عاقلته حتى تجده قد نشأ نشأة أخرى لها حقيقة خاصة و سمة خاصة و مذاق خاص , فلا تجمعه بتلك " النسخ " البشرية التائهة الشرود إلا جامعة واحدة هي الإنسانية , بيد أنها لا تزال تتفتق في أعماقه معانيها فتسمو به و ترتقي , و لا تزال تخبو شعلتها في قلوب تلك فتسفل و تنحط و ترتكس .. و قصة البخاري في عبقرية هذا النظام المتفرد في صحيحه تدور حول معنى واحد و تجري مجرى حقيقة واحدة و هي : أنك لن تصل إلى عمق التوحيد و لن تستطيع التلبس بمعانيه الدقيقة و أنت تخوض حركة الحياة و تعاني ملابسات الواقع : أفكارا و سلوكيات و أحداثاً و ارتباطات إلا بالتزام مقتضيات هذا التوحيد و تلك المعرفة المتعالية في شتى تجليات الحياة و مظاهر الإجتماع , فالعمل يزيد العلم نورا و جمالا و يزيد حقيقة التوحيد في العقل و الضمير رسوخا و تثبيتا , لتكون النتيجة العظيمة لكل هذا , أن هذا الإنسان يعيش في الأرض بقلب معلق بالسماء و من ثم يتسامى على أوهام مواضعات الناس فيدرك من جمال الحقيقة ما تكل دونه عقول الجاهليين و إن كانوا في ميزان الأرض عباقرة جهابذة .. و تلك هي معجزة الإسلام في إعادة صياغة الروح الإنساني .