لم تكن الحضارة الإسلامية روحيةً فقط، أو أخلاقيةً بدون رخاء أو تكنولوجيا أو علم، وإنما كانت حضارةً جامعةً محيطةً؛ تحترم الحياة وتُلبي أشواق الإنسان وتطلعاته، تهتم بإيمانه وعقيدته، كما تهتم بمعاشه وواقعه، وتُغذي روحه وقلبه كما تُطعم بطنه وجسده، وتهتم بلباسه ومظهره كما ترعى أمانته وأدبه.
والإنسان المؤمن يزكيه نشاطه الحيوي، وعمله وجهده، وفي الأحاديث والآثار في هذه الحضارة ما يدفع إلى ذلك، ويرشد المسيرة الخيرة التي يحتاجها العالم.
عن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-: "نعم المال الصالح للمرء الصالح"( صحيح الأدب المفرد) المال الذي اكتُسب من حلالٍ وأُنفق في حلال يكون زيادةً في سعادة الأفراد والأمم، وقوة الشعوب والدول.
وروى الحسن عن سمرة بن جندب، قال رسول الله- صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-: "الحسب المالوالكرم التقوى".(سنن الترمذي)
وعن يحيى بن سعيد قال: سمعت سعيد بن المسيب يقول: "لا خير فيمن لا يريد جمع المال من حله، يكف به وجهه عن الناس، ويصل به رحمه، ويعطي منه حقه".
و قال أيضاً: "ينبغي للعاقل أن يحب حفظ المال في غير إمساك؛ فإنه من المروءة، يكف به وجهه، ويكرم نفسه، ويصل منه رحمه".
و عن القاسم بن محمد، قال: لما كان زمن عمر فكثُر المال، وحدثت الأعطية، وكف الناس عن طلب المعيشة، قال عمر: "أيها الناس.. أصلحوا معايشكم؛ فإن فيها صلاحًا لكم وصلة لغيركم".
ويروى أن يحيى بن سعيد بن المسيب ترك مالاً كثيراً فقال عند احتضاره: "اللهم إنك تعلم أني لم أجمعها – الدنيا - إلا لأصون بها ديني، وأصل بها رحمي، وأكف بها وجهي، وأقضي بها ديني، لا خير فيمن لا يجمع المال ليكف به وجهه، ويصل به رحمه، ويقضي به دينه، ويصون به دينه".
و قال أبو عبد الله الباهلي حدثنا أبي، قال: سمعت سفيان الثوري يقول: "كنا نكره المال للمؤمن، وأما اليوم فنعم الترس: المال للمؤمن".
و عن عروة بن الزبير، قال: قال الزبير: "إن المال فيه صنائع المعروف، وصلة الرحم، والنفقة في سبيل الله عز وجل، وعون على حسن الخلق، وفيه مع ذلك شرف الدنيا ولذتها".
وسأل رجل سعيد بن جبير عن نهي النبي- صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- عن إضاعة المال، قال: "هو أن يرزقك رزقًا حلالاً فتنفقه فيما حرَّم الله عليك".
و قال الأشعث بن قيس: "يا بَنِيّ.. أصلحوا المال لجفوة السلطان وشؤم الزمان"، وكتب الحسن إلى الحسين- رضي الله عنهما- يعيب عليه إعطاء الشعراء، فقال الحسين: إن خير المال ما وقي به العرض.
و قال عبد الملك لرجل من قريش: إنا نعد الحلم وإعطاء المال سؤددًا، ونعد القيام على المال وإصلاحه مروءة.
ولهذا كان نشاط المال في الأمة يرفع قيمتها، ويسد جوعتها، ويذكي قوتها، وكان جلب التجارة وإدارة المال لنفع الناس وعدم الإضرار بهم فضيلةً تُبارِك الرزق وتزكِّي المال، ولهذا جاء في الأثر: "الجالبمرزوق، والمحتكر ملعون"( السنن الكبرى للبيهقي - ضعيف) .
بل روي أن الرسول صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم بشر من يستورد الطعام وييسر على الناس بأجر كبير:
فعن ابن مسعود أن النبي- صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- قال: "أيما رجل جلب شيئاً إلى مدينة من مدائن المسلمين صابراً محتسباً فباعه بسعر يوم كان عند الله من الشهداء ( الكافي الشاف – ضعيف)
ولعلك تدرك أن القرآن يعتبر التجارة والعمل من أنواع البر (وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِيَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) المزمل: من الآية 20.
قال أبو نصر: قلتُ لمعافى: وترى الكداد على عياله محتسبًا؟ قال: وهل المحتسب غير هذا.
هل تسمع الأمة التي لا تجد اليوم ما تأكله والتي تسرق أموالها وتحتكر أرزاقها هذه التوجيهات وتسير على الطريق؟!، أم أنها قد صمت الآذان وأغلقت العقول ؟!
__________
التوحيد والاصلاح بـ"تصرف"
موقع مقالات اسلام ويب