إلى أختي المسلمة: أين دورك في نهضة الأمة؟
الإسلام شريعة السماء، ونور الأرض، وهداية البشر، وجمال الوجود، وزاد طيب في الحياة، للذَّكر والأنثى، للرجل والمرأة، للشاب والفتاة ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾ [النحل: 97].
وبنت الإسلام، هي نَبْت الإسلام، وهي أُمُّ المسلمين، حاملة النور "خرج مني نور، أضاءت منه قصور الشام"؛ صحيح، ومَضْرب المثَلِ في الحياء "كان - صلَّى الله عليه وسلَّم - أشدَّ حياء من العذراء في خِدْرها"، ومدرسة الأخلاق في الحياة.
الأُمُّ مَدْرَسَةٌ إِذَا أَعْدَدْتَهَا
أَعْدَدْتَ شَعْبًا طَيِّبَ الأَعْرَاقِ
الأخت المسلمة يجب أن تعتز بدينها، وتتزيَّن بالْتزامها، وتعمل لإرضاء ربِّها، وتفخر بمن سبق من أخواتها وأمهاتها.
انظري أختي المسلمة دور هاجر - عليها السلام - مع زوجها الخليل إبراهيم - عليه السَّلام - في إرساء اليقين، وبناء الثِّقة في الله، وإقامة شعائر الله، ﴿ إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 158].
انظري أختي المسلمة دور أُمِّ موسي وهي تستقبل وحي الله لها، فتقاوم النَّفس والهوى، وحتى الطبيعة البشرية، وتُلْقِي بفلذة كبدها موسي - عليه السَّلام - في البحر؛ طاعة لربِّها، وإيفاءً بوعد الله لها: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [القصص: 7]، الذي تحقق؛ ﴿ فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [القصص: 13].
انظري أختي المسلمة دور خديجة بنت خُوَيلد - رضي الله عنها - مع زوجها الحبيب - صلى الله عليه وسلَّم - في التأسيس للإسلام وبنائه.
انظري أختي المسلمة دور سُميَّة في إطلاق أول شعاع للإيمان، وإشعال أول شرارة للشهادة، وتقديم أول روح طاهرة صابرة في سبيل الله.
انظري أختي المسلمة دور أُمِّ سلمة - رضي الله عنها - مع زوجها الأوَّل في الهجرة، كيف صنَعَت وماذا عَمِلَت، ومع زوجها الثاني الحبيب - صلَّى الله عليه وسلَّم - في الحديبية، كيف صنعت؟ وماذا عملت؟!
انظري أختي المسلمة دور أسماء - رضي الله عنها - ذات النِّطاقين - وهي في الشهر التاسع كيف صنعت مع أبيها؟ وماذا عَمِلت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الهجرة؟
انظري أختي المسلمة دور آسية امرأة فرعون كيف واجهت الفساد، وقاومت العناد، وآمنت بالله ربِّ العباد، فضرب الله بها المثَل في القرآن للمؤمنين والعباد: ﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ [التحريم: 11].
نماذج مضيئة:
• سُميَّة - رضي الله عنها - أمُّ عمَّار بن ياسر، أوَّل شهيدة في الإسلام، وهي ممَّن بذلوا أرواحهم لإعلاء كلمة الله - عزَّ وجلَّ - وهي من المبايعات الصابرات الخَيِّرات اللاَّتي احتمَلْن الأذى في ذات الله، كانت سمية من الأوَّلين الذين دخلوا في الدِّين الإسلامي، وسابِعَةَ سبعة ممن اعتنقوا الإسلام بمكة بعد الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأبي بكر الصِّدِّيق وبلال وصُهَيب وخبَّاب وعمَّار ابنها، فرسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قد منعه عَمُّه مِن أذى قومه؟، أمَّا أبو بكر الصِّديق فقد منَعَه قومه، أمَّا الباقون فقد ذاقوا أصناف العذاب، وأُلْبِسوا أَدْرُعَ الحديد، وصُهِروا تحت لهيب الشمس الحارقة؛ عن مجاهد قال: أول شهيد استشهد في الإسلام سميَّة أمُّ عمار، قال: وأول من أظهر الإسلامَ رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأبو بكر، وبلالٌ، وصهيب، وخبَّاب، وعمار، وسُمَيَّة أم عمار وزوجها؟، كانت سمية أمَةً لأبي حذيفة بن المغيرة بن عبدالله بن عمر بن مَخْزوم، تزوَّجَت من حليفه ياسر بن عامر بن مالك بن كنانة بن قيس العنسي.
• خديجة بنت خويلد، أُمُّ المؤمنين - رضي الله عنها وأرضاها -: هي أوَّل زوجات النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأمُّ أولاده، وخيرة نسائه، خطَبَها حمزة بن عبدالمطلب لابن أخيه مِن عمِّها عمرو بن أسد بن عبدالعُزَّى، وتمَّ الزواج قبل البعثة بخمس عشرة سنة وللنبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - 25 سنة، بينما كان عمرها 40 سنة، وعاش الزَّوجان حياة كريمة هانئة، وقد رزقهما الله بسِتَّة من الأولاد: القاسم وعبدالله وزينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة.
وكانت خديجة - رضي الله عنها - تحبُّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - حبًّا شديدًا، وتعمل على نيل رضاه والتقرُّب منه، حتى إنها أهدَتْه غلامها زيد بن حارثة لما رأت من ميله إليه.
وعند البعثة كان لها دورٌ مُهمٌّ في تثبيت النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - والوقوف معه، بما آتاها الله من رُجْحان عقْل، وقوَّة الشخصيَّة، فقد أُصيب - عليه الصَّلاة والسَّلام - بالرعب حين رأى جبريل أوَّل مرَّة، فلما دخل على خديجة قال: ((زمِّلوني، زمِّلوني))، ولمَّا ذهب عنه الفزع قال: ((لقد خشيتُ على نفسي))، فطَمْأَنَتْه قائلةً: "كلاَّ والله، لا يُخْزيك الله أبدًا، فوَالله إنَّك لتَصِل الرَّحِم، وتَصْدق الحديث، وتحمل الكَلَّ، وتُكْسِب المَعْدوم، وتقْري الضَّيف، وتُعين على نوائب الحق"؛ رواه البخاري، ثم انطلقَتْ به إلى ورقة بن نوفل؛ ليبشِّره باصطفاء الله له خاتمًا للأنبياء - عليهم السَّلام.
ولما علمت - رضي الله عنها - بذلك لم تتردَّد لحظةً في قَبول دعوته، لتكون أوَّل مَن آمن برسول الله وصدَّقه، ثم قامت معه تُسانده في دعوته، وتؤانسه في وَحْشته، وتُذَلِّل له المصاعب، فكان الجزاء من جنس العمل؛ بشارة الله لها ببيت في الجنة من قصَب، لا صخَب فيه ولا نصَب؛ رواه البخاري ومسلم.
ويقول عنها: ((إني قد رُزِقْت حُبَّها))؛ رواه مسلم، ويقول: ((آمنَتْ بي إذْ كفر بي الناس، وصدَّقَتْني إذْ كذَّبَني الناس، وواسَتْني بمالها إذْ حرَمني الناس، ورزقني الله - عزَّ وجلَّ - ولدَها إذْ حرَمَني أولاد النِّساء))؛ رواه أحمد.
وعندما جاءت جثامة المُزَنية لتزور النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أحسَنَ استقبالها، وبالَغَ في الترحيب بها، حتى قالت عائشة - رضي الله عنها -: "يا رسول الله، تُقْبِل على هذه العجوز هذا الإقبال؟"، فقال: ((إنها كانت تأتينا زمَنَ خديجة؛ وإنَّ حُسْن العهد من الإيمان))؛ رواه الحاكم، وكان - صلَّى الله عليه وسلَّم - إذا ذبح الشَّاة يقول: ((أَرْسِلوا بها إلى أصدقاء خديجة))؛ رواه مُسْلم.
وكان النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - إذا سمع صوت هالة أُخْت خديجة، تذكَّر صوت زوجته، فيرتاح لذلك، كما ثبت في الصحيحين.
وقد بيَّن النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - فضلها حين قال: ((أفضل نساء أهل الجنَّة خديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمَّد، وآسية بنت مُزاحم امرأة فرعون، ومريم ابنة عمران - رضي الله عنهنَّ أجمعين -))؛ رواه أحمد، وبيَّن أنها خير نساء الأرض في عصرها في قوله: ((خير نسائها مريم بنت عمران، وخير نسائها خديجة بنت خويلد))؛ متفق عليه.
• أمُّ سلمة: هي أم المؤمنين، هندُ بنتُ أبي أُمَيَّةَ حُذيفةَ بنِ المغيرةِ المخزوميَّةُ القرشية، المشهورة بكنيتها أُمِّ سلمة، وهي بنت عمِّ خالد بن الوليد - رضي الله عنه.
كانت أم سلمة - رضي الله عنها - من الجيل الأوَّل الذي أسلم مبكِّرا في مكَّة، ونالت في ذلك ما ناله المؤمنون من صنوف الأذى وألوان العذاب، حتى أَذِن الله للمؤمنين بالهجرة الأولى إلى الحبشة، لتنطلق هي وزوجها عبدالله بن عبدالأسد المخزومي مهاجِرَيْن في سبيل الله، فارَّيْن بدينهم من أذى قريشٍ واضطهادها، مُحْتَمِيَيْن بحِمى النجاشي الملك العادل.
ولَمَّا أرادت تلك الأسرة أن تُهاجر إلى المدينة، واجَهَت الكثير من المصاعب والابتلاءات، فقد تسامع قومُها بنو المغيرة بِتَأهُّبها وزَوْجِها للرَّحيل، فقالوا لزوجها: "هذه نفسك غلبْتنا عليها، فعلامَ نَتْرُكك تأخذ أُمَّ سلمة وتسافر بها؟"، فنَزَعوا خِطام البعير من يده، وأخذوها منه، فغضب لذلك بنو عبدالأسد قومُ زوجها، وقالوا: "والله لا نترك ابننا عندها؛ إذْ نزَعْتموها من صاحبنا"، فتجاذبوا الولد بينهم حتى خلعوا يده، وانطلق به بنو عبدالأسد، وظلَّت أُمُّ سلمة عند بني المغيرة، وانطلق الزوج مهاجرًا وَحْده.
وهكذا تفرَّق شمل الأسرة، وابتُليت بلاءً عظيمًا، فالزوج هاجر إلى المدينة، والزوجة عند أهلها في مكة، والولد مع أهل أبيه، مما كان له عظيم الأثر على نَفْس أُمِّ سلمة - رضي الله عنها - فكانت تخرج كُلَّ يوم إلى بطحاء مكَّة تبكي، وتتألم لما أصابها، وظلَّت على حالها قرابة سنة، حتى مرَّ بها رجل من قومها وهي تبكي، فرحمها ورقَّ لحالها، فانطلق إلى قومه قائلاً لهم: "ألا تُطْلِقون سبيل هذه المسكينة؟ فإنكم فرَّقتم بينها وبين زوجها وبين ولدها"، فأجابوه لذلك، وقالوا لها: "الْحَقِي بزوجك إن شِئْت".
ولما سمع بنو عبدالأسد ذلك رَدُّوا عليها ولدها، فانطلقت من فورها إلى مَكَّة، وفي غزوة أُحُدٍ أُصيب زوجها بجرح عميق، وبعد شهور تُوفِّي - رضي الله عنه - متأثِّرًا بجرحه، وهذا ابتلاء آخَرُ يصيب أُمَّ سلمة، بعد رحيل زوجها من الدنيا، تاركًا وراءه أربعة من الأولاد، هم: برَّة وسلمة، وعمر، ودرَّة، وكان رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يفكِّر في أمر تلك المرأة الكريمة، المؤمنة الصادقة، الوفيَّة الصابرة، فتقدَّم لها وتزوَّجها؛ مُكافأة ومواساة لها، ورعاية لأبنائها.
تقول أمُّ سلمة - رضي الله عنها -: سمعتُ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: ((ما من مسلم تصيبه مصيبة فيقول ما أمَره الله ﴿ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ﴾ [البقرة: 156]، اللهم أْجُرني في مصيبتي واخْلُف لي خيرًا منها، إلاَّ أخلف الله له خيرًا منها))، فلمَّا مات أبو سلمة قُلْتُ:أيُّ المسلمين خير من أبي سلمة؟ أوَّل بيت هاجر إلى رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ثم إنِّي قُلْتُها، فأَخْلَف الله لي رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قالت: أرسل إليَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - حاطِبَ بن أبي بلتعة يخطبني له، فقلتُ: إني كبيرة السنِّ، وأنا غَيُور - أيْ: تَغار من ضَرائرها من النِّساء - وذاتُ عيال، فقال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أنا أكبر مِنْك، وأمَّا الغَيْرة فيُذْهِبها الله - عزَّ وجلَّ - وأمَّا العيال فإلى الله ورسوله))؛ رواه مسلم، فتزوَّجها النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - في شوال سنة أربع من الهجرة.
وقد أخذت أم سلمة حظًّا وافرًا من أنوار النبوَّة وعلومها، حتى غدَتْ ممن يُشار إليها بالبنان فقهًا وعلمًا، بل كان الصحابة يَفِدون إليها ويستفتونها في العديد من المسائل، ويحتَكِمون إليها عند الاختلاف، ومن ذلك أنَّ أبا هريرة وابن عباس اختلفا في عِدَّة المُتوفَّى عنها زوجها إذا وضَعَت حملها، فقال أبو هريرة: لها أن تتزوَّج، وقال ابن عباس: بل تعتدُّ أبعد الأجلين، فبعثوا إلى أُمِّ سلمة، فقضت بصحَّة رأي أبي هريرة - رضي الله عنهم.
وكانت - رضي الله عنها - من النِّساء العاقلات النَّاضجات، يشهد لهذا ما حدَث يوم الحُدَيبية بعد كتابة الصُّلح، حين أمر رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أصحابه بالتَّحلُّل من نسُكِهم، وحثَّهم على النَّحْر ثم الحَلْق، فشقَّ ذلك على الصحابة الكرام، ولم يفعلوا، فدخل رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - على أم سلمة مغضبًا، فذكر لها ما كان من أمر المسلمين وإعراضهم عن أمره، ففطنت - رضي الله عنها - إلى سبب إعراضهم وعدم امتثالهم، فقالت للنبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: يا رسول الله، أتحبُّ أن يمتثلوا لأمرك؟ اخرج، فلا تُكَلِّم أحدًا منهم كلمة حتى تنحر بُدْنَك وتَدْعُوَ حالِقَك فيحلقك، فقام وخرج، ولم يكلِّم أحدًا حتى نحر بُدْنَه، ودعا حالقه فحلقه، فلما رأى الناسُ ذلك قاموا فنَحَروا، فجعل بعضهم يحلق بعضًا.
قال الإمام ابن حجر: "وإشارتها على النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - يوم الحديبية، تدلُّ على وُفور عقلها، وصواب رأيها".
•أم سليم: زواجها في الإسلام لم يتكرَّر في التاريخ مِثْلُه، كيف؟! عن أنس - رضي الله عنه - قال: "خطب أبو طلحة أُمَّ سُليم قبل أن يسلم، فقالت: أما إنِّي فيك لَراغبة، وما مِثْلُك يُرَد، ولكنك رجل كافر، وأنا امرأة مُسْلمة، فإن تُسْلم فذاك مَهْري، لا أسأل غيره، فأسلم وتزوَّجها.
وفي رواية عند الحاكم أن أبا طلحة خطب أُمَّ سليم - يعني قبل أن يسلم - فقالت: يا أبا طلحة، أَلَسْتَ تعلم أنَّ إلهك الذي تَعْبد نبت من الأرض، نجَرَها حبشي بني فلان، إنْ أنت أسلَمْت لا أريد من الصَّدَاق غيره، قال: حتى أنظر في أمري، فذهب، فجاء، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنَّ مُحمدًا رسول الله، فقالت: يا أنس، زَوِّج أبا طلحة.
فانظر كيف أن أم سليم بذلَتْ نفسها في سبيل دينها ومبدئها، وكيف أنها استعملت الحكمة للوصول إلى هدفها؟! فهي من جهة بيَّنَت له ضلال ما هو عليه من عبادة الأشجار والأوثان، وذلك ما تستقبحه الطبائع السليمة، ومن جهة ثانية مدَحَتْه بما فيه من الخصال الطيِّبة، وأثنت عليه بقولها: "مثلك لا يرد"؛ أيْ: إن فيك من صفات الرُّجولة والحَسَب والجاه ما يدعو للزَّواج منك، لولا هذه الخصلة من الكفر، ثم لم تقف عند هذا الحدِّ، بل رغَّبَتْه في الزَّواج منها بأن أسقَطَت مهرها مُقابل إسلامه، فكانت بذلك أوَّل امرأة جَعَلت مهرها إسلام زوجها، فصارت سببًا في دخول أبي طلحة في الإسلام، فحازت بذلك على الفضيلة التي وعد بها رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - بقوله: ((فوالله، لأَنْ يهدي الله بك رجلاً واحدًا خيرٌ لك من أن يكون لك حمر النعم)).
فقد كانت من عُقلاء النِّساء، كيف؟! موقف يدلُّ على عقْل راجح، وحكمة بالغة، وصبر جميل.
عن أنس بن مالك قال: كان لأبي طلحة ابْنٌ يشتكي، فخرج أبو طلحة، فقُبِض الصَّبِي، فلما رجع أبو طلحة، قال: ما فعل ابني؟ قالت أُمُّ سليم: هو أَسْكَنُ مما كان، فقَرَّبت إليه العَشاء فتعشى، ثم أصاب منها، فلمَّا فرغ، قالت: واروا الصبي، فلما أصبح أبو طلحة، أتى النبيَّ فأخبره، فقال: ((أعرستم الليلة؟))، قال: نعم، قال: ((اللهم بارك لهما في ليلتهما))، فولدَتْ غُلامًا، فقال لي أبو طلحة: احفظه حتى تأتي به رسول الله، فأتى به النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وبعثَتْ معه تمرات، فأخذه النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وقال: ((أمعه شيء؟)) قلت: تمرات، فأخذها النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فمَضَغها، ثم أخذ من فِيه، فجعل في فِي الصَّبي، وحنَّكَه به، وسَمَّاه عبدالله، وقيل: كان مِن نَسْلِه تسعة من الأبناء يَقْرؤون القرآن ويُصلُّون في مسجد رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم.
وأخرج ابن سعد بسند صحيح أنَّ أُمَّ سليم اتَّخذت خَنجرًا يوم حُنَين، فقال أبو طلحة: يا رسول الله، هذه أُمُّ سليم معها خنجر، فقالت: اتَّخذتُه إن دنا مِنِّي أحدٌ من المشركين بقَرْتُ بطنه.
• رُفَيدة الأسلمية: أَوَّل طبيبة ميدانية، ذكر ابن سَعْد في "الطبقات" أنَّه لما أُصيب سعد بن معاذ يوم الخندق، قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((اجعَلُوه في خيمة رُفَيدة التي في المسجد، حتى أعوده من قريب))، إنها خيمة الخير، لقد ارتَبَط اسمها بخيمتها مع كُلِّ غزوة من الغزوات، ولقد ظهرت خيمة رفيدة من يوم أحُد، تستضيف الجرحى، وتضمِّد جراحهم، وتُسْعِفهم وتواسيهم، كانت قارئة، كاتبة، ذات ثروة، قد استهوَتْها حِرْفة التمريض، وتفوَّقَت فيها، وعُرِفَت بين الناس قاطبة، كانت كريمة وسخيَّة.
أوَّل ظهورها عندما عاد المسلمون من بَدْر منتصرين، كان بينهم بعض الجَرْحى؛ فمِنْهم مَن عالجه أهله، ومنهم مَن لم يكن له مال ولا سكن ولا أهل، تطوَّعَت رُفَيدة - رضي الله عنها - لخِدْمة هؤلاء بإسعافهم وتضميد جراحهم، ومداواتهم وتقديم الغذاء لهم، فنصَبَت في المسجد خيمة، وحمَلَت معها أدواتها وعقاقيرها، وعكفت على علاجهم أيَّامًا حتى برئوا، واندملت جراحُهم.
وأضحت خيمة رفيدة علَمًا، لقد كانت هذه الخيمة في ناحية من مسجد رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أشبه بالمستشفى، فيه الأَسِرَّة، والعقاقير، والأربطة، والضمادات، وأدوات الجراحة، ويعاونها في عمَلِها بعض نساء الصحابة - رضي الله عنهن.
كانت تخرج في الغزوات، وتنقل معها خيمتها وكُلَّ أدواتها فوق ظهور الجمال، ثم تقيمها بإزاء مُعَسكر المسلمين ومعها الصحابيَّات الفُضْلَيات؛ لأن هذا العمل يحتاج إلى يد حانية، وقلب عطوف، وكلمة مشجعة.
أمَّا الأعجب والأغرب في عمَلِها، فهو إنفاقها عليه مِن حُرِّ مالها متطوِّعة بالجهد والمال في سبيل الله، وإن كانت لا تَرُدُّ يدَ باذل بالمساعدة، هذه الصُّورة المشرِّفة بارَكها الرسول - صلوات الله وسلامه عليه - وبارك صاحبتها وأيَّدَها.
إن وراء الجيوش جيوشًا كثيرة تُعِدُّها وتمدُّها وتُعَزِّزها، حتى تثبت وتنتصر، وفي عصورنا الحديثة أصبحت الحاجة إلى النِّساء في القيام بهذه المهام ضرورة لا يُستغنى عنها، كل ذلك يستدعى أن تتعلَّم المرأة المُسْلمة شؤون التَّمريض والإسعافات.
هذه صورة مشْرِقة ومشرِّفة لما كانت عليه النِّساء المؤمنات، وأتمنى أن نكمل المسيرة التي بدؤوها.
• المرأة في فلسطين الحبيبة، شهيدة أم الشهداء، كيف ربَّت وجاهدت؟!كيف بذَلَت وناضلت؟! كيف صبرت وصابرَتْ؟ كيف أعطت من ذاتها ورُوحها ومالها وفلذة أكبادها، بل وحياتها، فداءً للإسلام والمسلمين؟! تُخرِّج الشُّرفاء، وتُقاوم الأعداء، تواجه الحصار، وتقدِّم للأمة كلَّ يوم أحرارًا.
أختي المسلمة، أمام أمْرِ الله المؤمنُ والمؤمنة سواء؛ ﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا ﴾ [الأحزاب: 36].
المرأة والرجل شركاء في العمل والإصلاح والأجر:
أختي المسلمة، أمام جزاء الله المؤمن والمؤمنة سواء؛ ﴿ وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [التوبة: 72].
أختي المسلمة، أمام التقرُّب إلى الله بالفرائض الواجبة والأعمال المُقَرِّبة، المؤمن والمؤمنة سواء، كيف؟! ﴿ إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 35].
لقد خلق الله الناس من ذكرٍ وأُنْثى؛ ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾ [الحجرات: 13]، وأعَدَّ الجنة لمن يعمل صالحًا ذكرًا أو أُنثى؛ ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا ﴾ [النساء: 124]، والله يستجيب للذكر والأنثى؛ ﴿فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ ﴾ [آل عمران: 195].
ضِعَاف الإيمان يميِّزون بين الرجل والمرأة على أساس الذُّكورة والأنوثة، وهذه نظرة خاطئة بِنَصِّ القرآن الكريم، فالحكم هو العمل الصالح والتَّقوى لا غير، كما أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يتحَقَّقان إلاَّ في المجتمع المفتوح الذي يجعل المرأة تُسْهِم بدورها إلى جانب الرجل ﴿ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [التوبة: 71]، ودور المرأة في إصلاح المجتمع، وهو ما يبيِّن القرآن الكريم أنَّه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهَدْي الرسول الكريم في الحياة الاجتماعية لَهُو دليلٌ قاطع على أنَّ المرأة المسلمة كانت حاضرة إلى جانب الرَّجل، وعلى كُلِّ المستويات، ومع أنَّ ذهاب النِّساء إلى المسجد كان يثير غَيْرة الأزواج، فإنَّه لم يَجْرُؤ أحدٌ على مَنْع المؤمنات من مشاركة المؤمنين خير الصَّلوات الجماعية، وخير الاستماع إلى خُطَب الجمعة، بعد أن قال: ((لا تَمْنعوا إماء الله بيوت الله))؛ البخاري، جمعة 849.
وقد رُوِي أنَّ عمر بن الخطَّاب كان يختصم مع زوجته عاتكة؛ حيث كانت كثيرة الصلاة في المسجد، وكان عمر يقول لها: والله، إنَّكِ تَعْلمين أنِّي لا أُحبُّ هذا، فقالت: والله لا أنتهي حتىَّ تنهاني، قال: إني لا أنهاك، يقول الراوي: ولقد طُعِنَ عُمر وهي في المسجد.
إنَّ المُتَمعِّن في هذه المعاملة الطيِّبة للمرأة في العصور الإسلامية الأُولى، يجد أنَّ الرغبة النبوية في مشاركتها في إقامة الصَّلوات، والتعلُّم والتعليم، والدعوة إلى الله - دليلٌ قاطع على أن المرأة كانت تشارك مشاركة واسعة في النشاطات المختلفة، وهي في حدِّ ذاتها دعوة إلى إصلاح المجتمع وتخفيف من أعباء الرَّجُل.
في فتح مكة بعد ثماني سنين من الهجرة إلى المدينة، وعند رجوعه لفَتْح مكة، هرب المجرمون خوفًا من حُكْم العدالة، وظَنُّوا أنَّ مصيرهم الذَّبح، لكن ابن هُبَيرة قد استجار بأُمِّ هانئ ابنة عمِّ الرسول، فأجارَتْه، فاعترض بعضُ الصَّحابة على هذا العهد النسوي، واحتجُّوا بالويلات التي ذاقوها من أمثال ابن هبيرة.
فجاءت أمُّ هانئ إلى النبي، فقالت: يا رسول الله، زعم ابن أُمِّي، تقصد شقيقها عَلِيًّا، أنه قاتِلٌ رجلاً قد أجَرْتُه، إنه ابن هُبَيرة يا رسول الله، فقال النبي: ((قد أجَرْنا من أجَرْتِ يا أم هانئ))؛ صحيح، أخرجه البخاري.
ها هو الرسول يحترم عهدًا أعطَتْه امرأة لأحد المطلوبين للعدالة، ولم يَخْذلها أبدًا، فهل يعتبر هؤلاء الذين يقولون: إن المرأة لا قيمة لها في الإسلام، وهم كثُر؟ وهل يتَّقون الله ويتَّبعون هَدْي النبي الكريم؟
عن مسلم بن عبيد أن أسماء بنت يزيد الأنصارية أتت النبي وهو جالس بين أصحابه، فقالت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، أنا وافدة النِّساء إليك، إن الله بعثَكَ إلى الرِّجال والنساء كافَّة، فآمنَّا بك وبإلهك، وإنا مَعْشر النِّساء محصورات مقصورات، قواعِدُ بيوتِكم، ومَقْضى شهواتكم، وحامِلات أولادكم... إلخ، ثم قالت: أفما نُشارككم في هذا الأَجْر والخير؟ فالتفت النبيُّ إلى أصحابه بوجهه كُلِّه، ثم قال لهم: ((هل سمعتم مقالة امرأة قطُّ أحسن من مساءلتها في أمر دينها من هذه؟)) فقالوا: يا رسول الله، ما ظننَّا أن امرأة تهتدي إلى مثل هذا؛ ابن الأثير"أُسْد الغابة"، جزء 5 صفحة 398.
كانت المرأة تعمل على عهد رسول الله، وتكتسب مالاً تَعُول به نفسها وزوجها وأولادها، فهذه زينب بنت عبدالله الثقفية زوجة عبدالله بن مسعود كانت امرأة تعمل وتنفق على زوجها وأولادها، جاءت إلى النبي فقالت له: إنِّي امرأة ذات صنعة، فأبيع، وليس لأولادي ولا لزوجي مالٌ، فيشغلونني عن الصدقة، فهل لي في النفقة عليهم أجْرٌ؟ فقال لها رسول الله: ((لك في ذلك أجْرُ ما أنفقت عليهم))؛ البخاري قصة أم سلمة مع قومها، نفقات، 4950
وكانت هناك امرأة بالمدينة يُقال لها: الحولاء العطَّارة، فكان النبي يأنس بها ويزورها، وكانت تبيع العطور، كان إذا دخل بيته قال: ((أين الحولاء العطارة؟ إني لأجد ريح العطارة، هل ابتَعْتم منها اليوم شيئًا))؛ ابن الأثير"أُسْد الغابة"، جزء 5 صفحة 432.
لكن في الزمن الذي نحياه اليوم، تطوُّرات سريعة، وصيحات جريئة، وقرارات مفاجئة، وأهداف مثيرة، وغايات خطيرة.
في الإسلام والالتزام بتعاليمه عاشت المرأة في عزَّة نَفْس، وشِدَّة حياء، وقمَّة عِفَّة، وصَوْن كرامة، ولم تَمْتهن نفسها مع حاجتها وفقرها، وآثرت أن تعمل بيديها في بيتها لِتَسُدَّ حاجتها، ولم تُلْجِئها الحاجة يومًا إلى مُخالطة الرجال، واختراق الصُّفوف، وكَشْف المحاسن، من أجْل لقمة العيش أو سَدِّ الحاجة، فأغناها الله من واسع فضله، ورزقها من حيث لا تحتسب، فمن يتَّق الله يجعل له مخرجًا، وليست المشكلة في توظيف المرأة، ومنحها فرصة عمل كريمة؛ لِبِناء حياة شريفة، فالعمل الشريف للمرأة العفيفة مَطْلب مهم، وقرار عادل، ولفتة كريمة، بل القضية الأهم، كيف تعمل المرأة؟ وأين تعمل؟ ومع من تعمل؟
إن الفُجور الغَرْبي، والجهل الشَّرقي، والصلف اليهودي يَعْتبر المرأة جسَدًا يجب إبراز مفاتنه، وكشف مَحاسنه، وفَضْح مكامنه، وتَعْرية معالمه، وهناك ضِعاف الإيمان، يريدون تدمير المرأة في بيتها، وتجريدها من مسؤولياتها،لماذا يَستشهدون بقول الله - تعالى -: ﴿ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ ﴾ [يوسف: 28]، ويتناسَوْن قوله: ﴿ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 35]؟ يحتجُّون بامرأتَيْ نوحٍ ولوط، ويغفلون امرأة فرعون وابنة عِمْران، هذا القصور في الفهم أدَّى إلى إعاقة حركة المُؤْمنات المُحْصَنات العفيفات، وإلى حرمان الدعوة والمجتمع من عطائهنَّ، فكان لا بدَّ أن تَشغل الساحةَ مَن لا علم، ولا تربية، ولا خلق ، ولا رسالة لهن، إلاَّ مَن رحم الله.
الأخت المسلمة، هي الابنة والأخت والزَّوجة والأُم، نصف المجتمع، وتقوم على رعاية النصف الآخر.
الأخت المسلمة، إنْ هِي نَضِجَت وأخلصَتْ تستطيع أن تزرع الخير، وتقتلع الشر، وتصلح التَّالف، وتعدل المعوجَّ، وتبني المتهدِّم.
الأخت المسلمة، إن هي علمَتْ وفهمت أجمل إبداعًا، وأعلى تركيزًا، وأرهف إحساسًا، وأكثر حماسًا، وأعظم تألُّقًا ونشاطًا.
الأخت المسلمة، إن هي آمنَتْ وفقهت، أعظم مسؤولية وأثقل تَبِعة، كيف؟ تَحْمل وتَلِد، ترضع وتربِّي، تقوم على شؤون البيت من ترتيب وتنظيم، من غسيل وتنظيف، من مودَّة وسكن - نصيب أكبر في متابعة الأولاد في غياب الزوج - وغيره! وفوق كُلِّ ذلك دورها مع زوجها في رسم خطة الحياة ومباشرة تنفيذها؛ لذلك حقُّها على الابن - كما ورد في الحديث الصحيح - ثلاث أضعاف حقِّ الوالد.
أختي المسلمة العفيفة، أين أَنْت من خديجة وعائشة وأُمِّ سلمة أُمَّهات المؤمنين؟ أين أنت من آسية امرأة فرعون وهي تُواجه الفساد والاستبداد؟ أين أنت من أُمِّ موسي - عليه السَّلام -؟ أين أنت من أُمِّ سليم التي رضيت أن يكون مَهْرها الإسلام؟! أين أنت من سمية بنت عمَّار أول شهيدة في الإسلام؟! أين أنت من رفيدة أول طبيبة في الإسلام؟! أين أنت من أُمِّك في فلسطين الأرض المباركة؟! أين أنت من أختك في غزَّة، أرض الكرامة والحرِّية والعزة؟!
أختي المسلمة العفيفة، أين أنت من نهضة الأُمَّة؟! أنت بنت الإسلام، وأنت نَبْت الإسلام، أنت الكلمة الطيِّبة، وأنت الشجرة المُثْمِرة، وأنت الجوهرة المكنونة، وأنت الدُّرة المكنونة، وأنت اللُّؤلؤة المضيئة التي لا تَحِلُّ لِسَارق، ولا تُباع لسفيه، ولا تعطى لوضيع، ولا تُهْدى لجاهل، ولا تُلْقَى على قارعة الطريق لتدوسها الأقدام، وتَزْدرِيَها الأعين، وتَلُوكَها الألسن، فأين أنت من نهضة الأمة؟!
أختي المسلمة العفيفة، لا بُدَّ أن تكون لك بصمة في نهضة الأُمَّة، تبدأ أوَّلاً من البيت، تربية الأبناء على أخلاق الإسلام، ومتطلبات الدِّين، ثم تنطلقين معهم بروحك وسَمْتك والْتزامك إلى المدارس والجامعات، إلى الدَّوائر والهيئات، إلى النوادي والمؤسَّسات، إلى المواقع والمنتديات، فتَبُثِّين النُّور، وتزرعين الأمل، وتُحْيِين المَوَات، وتؤسِّسين لنهضةٍ ملأَت الدُّنيا - كل الدنيا - عدلاً وعلمًا ونورًا وجمالاً.
أختي المسلمة العفيفة، أعلم أنَّ هناك أخَواتٍ مُجاهدات نشيطات مُخْلصات، يستنهضن الهِمَم، ويستَثِرْن العزائم، ويرفعن لواء الحقِّ أينما كانوا، وحيثُما وُجدوا، أحْسَبُهن كذلك، بارك الله فيهن، وأجزل العطاء لهن، وأدخلهن الفردوس الأعلى من الجنة مع خديجة وسمية و...
أختي المسلمة العفيفة، الأُمَّة في حاجة ماسَّة إليك اليومَ وكُلَّ يوم،كيف؟! عِفَّتك تَطْغى على سُفور الأُخْرَيات هداهُنَّ الله، وعلمك يُضِيء طريق الأخريات أكرمهنَّ الله، وفِقْهُك يأخذ بأيدي الأخريات أعزَّهن الله، وإقدامك وذاتيتك يُطْلق الحماس لدى الأخريات باركَهُن الله، فأنت القدوة في زمن غابت فيه القدوة، وأنت المَثَل في زمن ضاعت فيه المُثُل، ألا تستعيدين حقوقَكِ المنهوبة، ألا تسترجعين حرِّيتَك المسلوبة، ألا تبنين نهضتك المغيبة! هيا انهضي، وفي الله جاهِدي، ﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [العنكبوت: 69].
اللَّهم فَقِّهْنا في ديننا، وفَهِّمنا شِرْعة رَبِّنا، اللهم ارْزُقنا الإخلاص في القول والعمل، ولا تجعل الدُّنيا أكبر هَمِّنا، ولا مَبْلَغ علمنا، وصلِّ اللهم على سيِّدنا محمد وعلى أهله وصحبه وسلِّم، والحمد لله ربِّ العالمين.
المصدر
موقع الالوكة
الإسلام شريعة السماء، ونور الأرض، وهداية البشر، وجمال الوجود، وزاد طيب في الحياة، للذَّكر والأنثى، للرجل والمرأة، للشاب والفتاة ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾ [النحل: 97].
وبنت الإسلام، هي نَبْت الإسلام، وهي أُمُّ المسلمين، حاملة النور "خرج مني نور، أضاءت منه قصور الشام"؛ صحيح، ومَضْرب المثَلِ في الحياء "كان - صلَّى الله عليه وسلَّم - أشدَّ حياء من العذراء في خِدْرها"، ومدرسة الأخلاق في الحياة.
الأُمُّ مَدْرَسَةٌ إِذَا أَعْدَدْتَهَا
أَعْدَدْتَ شَعْبًا طَيِّبَ الأَعْرَاقِ
الأخت المسلمة يجب أن تعتز بدينها، وتتزيَّن بالْتزامها، وتعمل لإرضاء ربِّها، وتفخر بمن سبق من أخواتها وأمهاتها.
انظري أختي المسلمة دور هاجر - عليها السلام - مع زوجها الخليل إبراهيم - عليه السَّلام - في إرساء اليقين، وبناء الثِّقة في الله، وإقامة شعائر الله، ﴿ إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 158].
انظري أختي المسلمة دور أُمِّ موسي وهي تستقبل وحي الله لها، فتقاوم النَّفس والهوى، وحتى الطبيعة البشرية، وتُلْقِي بفلذة كبدها موسي - عليه السَّلام - في البحر؛ طاعة لربِّها، وإيفاءً بوعد الله لها: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [القصص: 7]، الذي تحقق؛ ﴿ فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [القصص: 13].
انظري أختي المسلمة دور خديجة بنت خُوَيلد - رضي الله عنها - مع زوجها الحبيب - صلى الله عليه وسلَّم - في التأسيس للإسلام وبنائه.
انظري أختي المسلمة دور سُميَّة في إطلاق أول شعاع للإيمان، وإشعال أول شرارة للشهادة، وتقديم أول روح طاهرة صابرة في سبيل الله.
انظري أختي المسلمة دور أُمِّ سلمة - رضي الله عنها - مع زوجها الأوَّل في الهجرة، كيف صنَعَت وماذا عَمِلَت، ومع زوجها الثاني الحبيب - صلَّى الله عليه وسلَّم - في الحديبية، كيف صنعت؟ وماذا عملت؟!
انظري أختي المسلمة دور أسماء - رضي الله عنها - ذات النِّطاقين - وهي في الشهر التاسع كيف صنعت مع أبيها؟ وماذا عَمِلت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الهجرة؟
انظري أختي المسلمة دور آسية امرأة فرعون كيف واجهت الفساد، وقاومت العناد، وآمنت بالله ربِّ العباد، فضرب الله بها المثَل في القرآن للمؤمنين والعباد: ﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ [التحريم: 11].
نماذج مضيئة:
• سُميَّة - رضي الله عنها - أمُّ عمَّار بن ياسر، أوَّل شهيدة في الإسلام، وهي ممَّن بذلوا أرواحهم لإعلاء كلمة الله - عزَّ وجلَّ - وهي من المبايعات الصابرات الخَيِّرات اللاَّتي احتمَلْن الأذى في ذات الله، كانت سمية من الأوَّلين الذين دخلوا في الدِّين الإسلامي، وسابِعَةَ سبعة ممن اعتنقوا الإسلام بمكة بعد الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأبي بكر الصِّدِّيق وبلال وصُهَيب وخبَّاب وعمَّار ابنها، فرسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قد منعه عَمُّه مِن أذى قومه؟، أمَّا أبو بكر الصِّديق فقد منَعَه قومه، أمَّا الباقون فقد ذاقوا أصناف العذاب، وأُلْبِسوا أَدْرُعَ الحديد، وصُهِروا تحت لهيب الشمس الحارقة؛ عن مجاهد قال: أول شهيد استشهد في الإسلام سميَّة أمُّ عمار، قال: وأول من أظهر الإسلامَ رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأبو بكر، وبلالٌ، وصهيب، وخبَّاب، وعمار، وسُمَيَّة أم عمار وزوجها؟، كانت سمية أمَةً لأبي حذيفة بن المغيرة بن عبدالله بن عمر بن مَخْزوم، تزوَّجَت من حليفه ياسر بن عامر بن مالك بن كنانة بن قيس العنسي.
• خديجة بنت خويلد، أُمُّ المؤمنين - رضي الله عنها وأرضاها -: هي أوَّل زوجات النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأمُّ أولاده، وخيرة نسائه، خطَبَها حمزة بن عبدالمطلب لابن أخيه مِن عمِّها عمرو بن أسد بن عبدالعُزَّى، وتمَّ الزواج قبل البعثة بخمس عشرة سنة وللنبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - 25 سنة، بينما كان عمرها 40 سنة، وعاش الزَّوجان حياة كريمة هانئة، وقد رزقهما الله بسِتَّة من الأولاد: القاسم وعبدالله وزينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة.
وكانت خديجة - رضي الله عنها - تحبُّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - حبًّا شديدًا، وتعمل على نيل رضاه والتقرُّب منه، حتى إنها أهدَتْه غلامها زيد بن حارثة لما رأت من ميله إليه.
وعند البعثة كان لها دورٌ مُهمٌّ في تثبيت النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - والوقوف معه، بما آتاها الله من رُجْحان عقْل، وقوَّة الشخصيَّة، فقد أُصيب - عليه الصَّلاة والسَّلام - بالرعب حين رأى جبريل أوَّل مرَّة، فلما دخل على خديجة قال: ((زمِّلوني، زمِّلوني))، ولمَّا ذهب عنه الفزع قال: ((لقد خشيتُ على نفسي))، فطَمْأَنَتْه قائلةً: "كلاَّ والله، لا يُخْزيك الله أبدًا، فوَالله إنَّك لتَصِل الرَّحِم، وتَصْدق الحديث، وتحمل الكَلَّ، وتُكْسِب المَعْدوم، وتقْري الضَّيف، وتُعين على نوائب الحق"؛ رواه البخاري، ثم انطلقَتْ به إلى ورقة بن نوفل؛ ليبشِّره باصطفاء الله له خاتمًا للأنبياء - عليهم السَّلام.
ولما علمت - رضي الله عنها - بذلك لم تتردَّد لحظةً في قَبول دعوته، لتكون أوَّل مَن آمن برسول الله وصدَّقه، ثم قامت معه تُسانده في دعوته، وتؤانسه في وَحْشته، وتُذَلِّل له المصاعب، فكان الجزاء من جنس العمل؛ بشارة الله لها ببيت في الجنة من قصَب، لا صخَب فيه ولا نصَب؛ رواه البخاري ومسلم.
ويقول عنها: ((إني قد رُزِقْت حُبَّها))؛ رواه مسلم، ويقول: ((آمنَتْ بي إذْ كفر بي الناس، وصدَّقَتْني إذْ كذَّبَني الناس، وواسَتْني بمالها إذْ حرَمني الناس، ورزقني الله - عزَّ وجلَّ - ولدَها إذْ حرَمَني أولاد النِّساء))؛ رواه أحمد.
وعندما جاءت جثامة المُزَنية لتزور النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أحسَنَ استقبالها، وبالَغَ في الترحيب بها، حتى قالت عائشة - رضي الله عنها -: "يا رسول الله، تُقْبِل على هذه العجوز هذا الإقبال؟"، فقال: ((إنها كانت تأتينا زمَنَ خديجة؛ وإنَّ حُسْن العهد من الإيمان))؛ رواه الحاكم، وكان - صلَّى الله عليه وسلَّم - إذا ذبح الشَّاة يقول: ((أَرْسِلوا بها إلى أصدقاء خديجة))؛ رواه مُسْلم.
وكان النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - إذا سمع صوت هالة أُخْت خديجة، تذكَّر صوت زوجته، فيرتاح لذلك، كما ثبت في الصحيحين.
وقد بيَّن النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - فضلها حين قال: ((أفضل نساء أهل الجنَّة خديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمَّد، وآسية بنت مُزاحم امرأة فرعون، ومريم ابنة عمران - رضي الله عنهنَّ أجمعين -))؛ رواه أحمد، وبيَّن أنها خير نساء الأرض في عصرها في قوله: ((خير نسائها مريم بنت عمران، وخير نسائها خديجة بنت خويلد))؛ متفق عليه.
• أمُّ سلمة: هي أم المؤمنين، هندُ بنتُ أبي أُمَيَّةَ حُذيفةَ بنِ المغيرةِ المخزوميَّةُ القرشية، المشهورة بكنيتها أُمِّ سلمة، وهي بنت عمِّ خالد بن الوليد - رضي الله عنه.
كانت أم سلمة - رضي الله عنها - من الجيل الأوَّل الذي أسلم مبكِّرا في مكَّة، ونالت في ذلك ما ناله المؤمنون من صنوف الأذى وألوان العذاب، حتى أَذِن الله للمؤمنين بالهجرة الأولى إلى الحبشة، لتنطلق هي وزوجها عبدالله بن عبدالأسد المخزومي مهاجِرَيْن في سبيل الله، فارَّيْن بدينهم من أذى قريشٍ واضطهادها، مُحْتَمِيَيْن بحِمى النجاشي الملك العادل.
ولَمَّا أرادت تلك الأسرة أن تُهاجر إلى المدينة، واجَهَت الكثير من المصاعب والابتلاءات، فقد تسامع قومُها بنو المغيرة بِتَأهُّبها وزَوْجِها للرَّحيل، فقالوا لزوجها: "هذه نفسك غلبْتنا عليها، فعلامَ نَتْرُكك تأخذ أُمَّ سلمة وتسافر بها؟"، فنَزَعوا خِطام البعير من يده، وأخذوها منه، فغضب لذلك بنو عبدالأسد قومُ زوجها، وقالوا: "والله لا نترك ابننا عندها؛ إذْ نزَعْتموها من صاحبنا"، فتجاذبوا الولد بينهم حتى خلعوا يده، وانطلق به بنو عبدالأسد، وظلَّت أُمُّ سلمة عند بني المغيرة، وانطلق الزوج مهاجرًا وَحْده.
وهكذا تفرَّق شمل الأسرة، وابتُليت بلاءً عظيمًا، فالزوج هاجر إلى المدينة، والزوجة عند أهلها في مكة، والولد مع أهل أبيه، مما كان له عظيم الأثر على نَفْس أُمِّ سلمة - رضي الله عنها - فكانت تخرج كُلَّ يوم إلى بطحاء مكَّة تبكي، وتتألم لما أصابها، وظلَّت على حالها قرابة سنة، حتى مرَّ بها رجل من قومها وهي تبكي، فرحمها ورقَّ لحالها، فانطلق إلى قومه قائلاً لهم: "ألا تُطْلِقون سبيل هذه المسكينة؟ فإنكم فرَّقتم بينها وبين زوجها وبين ولدها"، فأجابوه لذلك، وقالوا لها: "الْحَقِي بزوجك إن شِئْت".
ولما سمع بنو عبدالأسد ذلك رَدُّوا عليها ولدها، فانطلقت من فورها إلى مَكَّة، وفي غزوة أُحُدٍ أُصيب زوجها بجرح عميق، وبعد شهور تُوفِّي - رضي الله عنه - متأثِّرًا بجرحه، وهذا ابتلاء آخَرُ يصيب أُمَّ سلمة، بعد رحيل زوجها من الدنيا، تاركًا وراءه أربعة من الأولاد، هم: برَّة وسلمة، وعمر، ودرَّة، وكان رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يفكِّر في أمر تلك المرأة الكريمة، المؤمنة الصادقة، الوفيَّة الصابرة، فتقدَّم لها وتزوَّجها؛ مُكافأة ومواساة لها، ورعاية لأبنائها.
تقول أمُّ سلمة - رضي الله عنها -: سمعتُ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: ((ما من مسلم تصيبه مصيبة فيقول ما أمَره الله ﴿ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ﴾ [البقرة: 156]، اللهم أْجُرني في مصيبتي واخْلُف لي خيرًا منها، إلاَّ أخلف الله له خيرًا منها))، فلمَّا مات أبو سلمة قُلْتُ:أيُّ المسلمين خير من أبي سلمة؟ أوَّل بيت هاجر إلى رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ثم إنِّي قُلْتُها، فأَخْلَف الله لي رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قالت: أرسل إليَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - حاطِبَ بن أبي بلتعة يخطبني له، فقلتُ: إني كبيرة السنِّ، وأنا غَيُور - أيْ: تَغار من ضَرائرها من النِّساء - وذاتُ عيال، فقال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أنا أكبر مِنْك، وأمَّا الغَيْرة فيُذْهِبها الله - عزَّ وجلَّ - وأمَّا العيال فإلى الله ورسوله))؛ رواه مسلم، فتزوَّجها النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - في شوال سنة أربع من الهجرة.
وقد أخذت أم سلمة حظًّا وافرًا من أنوار النبوَّة وعلومها، حتى غدَتْ ممن يُشار إليها بالبنان فقهًا وعلمًا، بل كان الصحابة يَفِدون إليها ويستفتونها في العديد من المسائل، ويحتَكِمون إليها عند الاختلاف، ومن ذلك أنَّ أبا هريرة وابن عباس اختلفا في عِدَّة المُتوفَّى عنها زوجها إذا وضَعَت حملها، فقال أبو هريرة: لها أن تتزوَّج، وقال ابن عباس: بل تعتدُّ أبعد الأجلين، فبعثوا إلى أُمِّ سلمة، فقضت بصحَّة رأي أبي هريرة - رضي الله عنهم.
وكانت - رضي الله عنها - من النِّساء العاقلات النَّاضجات، يشهد لهذا ما حدَث يوم الحُدَيبية بعد كتابة الصُّلح، حين أمر رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أصحابه بالتَّحلُّل من نسُكِهم، وحثَّهم على النَّحْر ثم الحَلْق، فشقَّ ذلك على الصحابة الكرام، ولم يفعلوا، فدخل رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - على أم سلمة مغضبًا، فذكر لها ما كان من أمر المسلمين وإعراضهم عن أمره، ففطنت - رضي الله عنها - إلى سبب إعراضهم وعدم امتثالهم، فقالت للنبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: يا رسول الله، أتحبُّ أن يمتثلوا لأمرك؟ اخرج، فلا تُكَلِّم أحدًا منهم كلمة حتى تنحر بُدْنَك وتَدْعُوَ حالِقَك فيحلقك، فقام وخرج، ولم يكلِّم أحدًا حتى نحر بُدْنَه، ودعا حالقه فحلقه، فلما رأى الناسُ ذلك قاموا فنَحَروا، فجعل بعضهم يحلق بعضًا.
قال الإمام ابن حجر: "وإشارتها على النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - يوم الحديبية، تدلُّ على وُفور عقلها، وصواب رأيها".
•أم سليم: زواجها في الإسلام لم يتكرَّر في التاريخ مِثْلُه، كيف؟! عن أنس - رضي الله عنه - قال: "خطب أبو طلحة أُمَّ سُليم قبل أن يسلم، فقالت: أما إنِّي فيك لَراغبة، وما مِثْلُك يُرَد، ولكنك رجل كافر، وأنا امرأة مُسْلمة، فإن تُسْلم فذاك مَهْري، لا أسأل غيره، فأسلم وتزوَّجها.
وفي رواية عند الحاكم أن أبا طلحة خطب أُمَّ سليم - يعني قبل أن يسلم - فقالت: يا أبا طلحة، أَلَسْتَ تعلم أنَّ إلهك الذي تَعْبد نبت من الأرض، نجَرَها حبشي بني فلان، إنْ أنت أسلَمْت لا أريد من الصَّدَاق غيره، قال: حتى أنظر في أمري، فذهب، فجاء، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنَّ مُحمدًا رسول الله، فقالت: يا أنس، زَوِّج أبا طلحة.
فانظر كيف أن أم سليم بذلَتْ نفسها في سبيل دينها ومبدئها، وكيف أنها استعملت الحكمة للوصول إلى هدفها؟! فهي من جهة بيَّنَت له ضلال ما هو عليه من عبادة الأشجار والأوثان، وذلك ما تستقبحه الطبائع السليمة، ومن جهة ثانية مدَحَتْه بما فيه من الخصال الطيِّبة، وأثنت عليه بقولها: "مثلك لا يرد"؛ أيْ: إن فيك من صفات الرُّجولة والحَسَب والجاه ما يدعو للزَّواج منك، لولا هذه الخصلة من الكفر، ثم لم تقف عند هذا الحدِّ، بل رغَّبَتْه في الزَّواج منها بأن أسقَطَت مهرها مُقابل إسلامه، فكانت بذلك أوَّل امرأة جَعَلت مهرها إسلام زوجها، فصارت سببًا في دخول أبي طلحة في الإسلام، فحازت بذلك على الفضيلة التي وعد بها رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - بقوله: ((فوالله، لأَنْ يهدي الله بك رجلاً واحدًا خيرٌ لك من أن يكون لك حمر النعم)).
فقد كانت من عُقلاء النِّساء، كيف؟! موقف يدلُّ على عقْل راجح، وحكمة بالغة، وصبر جميل.
عن أنس بن مالك قال: كان لأبي طلحة ابْنٌ يشتكي، فخرج أبو طلحة، فقُبِض الصَّبِي، فلما رجع أبو طلحة، قال: ما فعل ابني؟ قالت أُمُّ سليم: هو أَسْكَنُ مما كان، فقَرَّبت إليه العَشاء فتعشى، ثم أصاب منها، فلمَّا فرغ، قالت: واروا الصبي، فلما أصبح أبو طلحة، أتى النبيَّ فأخبره، فقال: ((أعرستم الليلة؟))، قال: نعم، قال: ((اللهم بارك لهما في ليلتهما))، فولدَتْ غُلامًا، فقال لي أبو طلحة: احفظه حتى تأتي به رسول الله، فأتى به النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وبعثَتْ معه تمرات، فأخذه النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وقال: ((أمعه شيء؟)) قلت: تمرات، فأخذها النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فمَضَغها، ثم أخذ من فِيه، فجعل في فِي الصَّبي، وحنَّكَه به، وسَمَّاه عبدالله، وقيل: كان مِن نَسْلِه تسعة من الأبناء يَقْرؤون القرآن ويُصلُّون في مسجد رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم.
وأخرج ابن سعد بسند صحيح أنَّ أُمَّ سليم اتَّخذت خَنجرًا يوم حُنَين، فقال أبو طلحة: يا رسول الله، هذه أُمُّ سليم معها خنجر، فقالت: اتَّخذتُه إن دنا مِنِّي أحدٌ من المشركين بقَرْتُ بطنه.
• رُفَيدة الأسلمية: أَوَّل طبيبة ميدانية، ذكر ابن سَعْد في "الطبقات" أنَّه لما أُصيب سعد بن معاذ يوم الخندق، قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((اجعَلُوه في خيمة رُفَيدة التي في المسجد، حتى أعوده من قريب))، إنها خيمة الخير، لقد ارتَبَط اسمها بخيمتها مع كُلِّ غزوة من الغزوات، ولقد ظهرت خيمة رفيدة من يوم أحُد، تستضيف الجرحى، وتضمِّد جراحهم، وتُسْعِفهم وتواسيهم، كانت قارئة، كاتبة، ذات ثروة، قد استهوَتْها حِرْفة التمريض، وتفوَّقَت فيها، وعُرِفَت بين الناس قاطبة، كانت كريمة وسخيَّة.
أوَّل ظهورها عندما عاد المسلمون من بَدْر منتصرين، كان بينهم بعض الجَرْحى؛ فمِنْهم مَن عالجه أهله، ومنهم مَن لم يكن له مال ولا سكن ولا أهل، تطوَّعَت رُفَيدة - رضي الله عنها - لخِدْمة هؤلاء بإسعافهم وتضميد جراحهم، ومداواتهم وتقديم الغذاء لهم، فنصَبَت في المسجد خيمة، وحمَلَت معها أدواتها وعقاقيرها، وعكفت على علاجهم أيَّامًا حتى برئوا، واندملت جراحُهم.
وأضحت خيمة رفيدة علَمًا، لقد كانت هذه الخيمة في ناحية من مسجد رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أشبه بالمستشفى، فيه الأَسِرَّة، والعقاقير، والأربطة، والضمادات، وأدوات الجراحة، ويعاونها في عمَلِها بعض نساء الصحابة - رضي الله عنهن.
كانت تخرج في الغزوات، وتنقل معها خيمتها وكُلَّ أدواتها فوق ظهور الجمال، ثم تقيمها بإزاء مُعَسكر المسلمين ومعها الصحابيَّات الفُضْلَيات؛ لأن هذا العمل يحتاج إلى يد حانية، وقلب عطوف، وكلمة مشجعة.
أمَّا الأعجب والأغرب في عمَلِها، فهو إنفاقها عليه مِن حُرِّ مالها متطوِّعة بالجهد والمال في سبيل الله، وإن كانت لا تَرُدُّ يدَ باذل بالمساعدة، هذه الصُّورة المشرِّفة بارَكها الرسول - صلوات الله وسلامه عليه - وبارك صاحبتها وأيَّدَها.
إن وراء الجيوش جيوشًا كثيرة تُعِدُّها وتمدُّها وتُعَزِّزها، حتى تثبت وتنتصر، وفي عصورنا الحديثة أصبحت الحاجة إلى النِّساء في القيام بهذه المهام ضرورة لا يُستغنى عنها، كل ذلك يستدعى أن تتعلَّم المرأة المُسْلمة شؤون التَّمريض والإسعافات.
هذه صورة مشْرِقة ومشرِّفة لما كانت عليه النِّساء المؤمنات، وأتمنى أن نكمل المسيرة التي بدؤوها.
• المرأة في فلسطين الحبيبة، شهيدة أم الشهداء، كيف ربَّت وجاهدت؟!كيف بذَلَت وناضلت؟! كيف صبرت وصابرَتْ؟ كيف أعطت من ذاتها ورُوحها ومالها وفلذة أكبادها، بل وحياتها، فداءً للإسلام والمسلمين؟! تُخرِّج الشُّرفاء، وتُقاوم الأعداء، تواجه الحصار، وتقدِّم للأمة كلَّ يوم أحرارًا.
أختي المسلمة، أمام أمْرِ الله المؤمنُ والمؤمنة سواء؛ ﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا ﴾ [الأحزاب: 36].
المرأة والرجل شركاء في العمل والإصلاح والأجر:
أختي المسلمة، أمام جزاء الله المؤمن والمؤمنة سواء؛ ﴿ وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [التوبة: 72].
أختي المسلمة، أمام التقرُّب إلى الله بالفرائض الواجبة والأعمال المُقَرِّبة، المؤمن والمؤمنة سواء، كيف؟! ﴿ إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 35].
لقد خلق الله الناس من ذكرٍ وأُنْثى؛ ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾ [الحجرات: 13]، وأعَدَّ الجنة لمن يعمل صالحًا ذكرًا أو أُنثى؛ ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا ﴾ [النساء: 124]، والله يستجيب للذكر والأنثى؛ ﴿فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ ﴾ [آل عمران: 195].
ضِعَاف الإيمان يميِّزون بين الرجل والمرأة على أساس الذُّكورة والأنوثة، وهذه نظرة خاطئة بِنَصِّ القرآن الكريم، فالحكم هو العمل الصالح والتَّقوى لا غير، كما أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يتحَقَّقان إلاَّ في المجتمع المفتوح الذي يجعل المرأة تُسْهِم بدورها إلى جانب الرجل ﴿ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [التوبة: 71]، ودور المرأة في إصلاح المجتمع، وهو ما يبيِّن القرآن الكريم أنَّه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهَدْي الرسول الكريم في الحياة الاجتماعية لَهُو دليلٌ قاطع على أنَّ المرأة المسلمة كانت حاضرة إلى جانب الرَّجل، وعلى كُلِّ المستويات، ومع أنَّ ذهاب النِّساء إلى المسجد كان يثير غَيْرة الأزواج، فإنَّه لم يَجْرُؤ أحدٌ على مَنْع المؤمنات من مشاركة المؤمنين خير الصَّلوات الجماعية، وخير الاستماع إلى خُطَب الجمعة، بعد أن قال: ((لا تَمْنعوا إماء الله بيوت الله))؛ البخاري، جمعة 849.
وقد رُوِي أنَّ عمر بن الخطَّاب كان يختصم مع زوجته عاتكة؛ حيث كانت كثيرة الصلاة في المسجد، وكان عمر يقول لها: والله، إنَّكِ تَعْلمين أنِّي لا أُحبُّ هذا، فقالت: والله لا أنتهي حتىَّ تنهاني، قال: إني لا أنهاك، يقول الراوي: ولقد طُعِنَ عُمر وهي في المسجد.
إنَّ المُتَمعِّن في هذه المعاملة الطيِّبة للمرأة في العصور الإسلامية الأُولى، يجد أنَّ الرغبة النبوية في مشاركتها في إقامة الصَّلوات، والتعلُّم والتعليم، والدعوة إلى الله - دليلٌ قاطع على أن المرأة كانت تشارك مشاركة واسعة في النشاطات المختلفة، وهي في حدِّ ذاتها دعوة إلى إصلاح المجتمع وتخفيف من أعباء الرَّجُل.
في فتح مكة بعد ثماني سنين من الهجرة إلى المدينة، وعند رجوعه لفَتْح مكة، هرب المجرمون خوفًا من حُكْم العدالة، وظَنُّوا أنَّ مصيرهم الذَّبح، لكن ابن هُبَيرة قد استجار بأُمِّ هانئ ابنة عمِّ الرسول، فأجارَتْه، فاعترض بعضُ الصَّحابة على هذا العهد النسوي، واحتجُّوا بالويلات التي ذاقوها من أمثال ابن هبيرة.
فجاءت أمُّ هانئ إلى النبي، فقالت: يا رسول الله، زعم ابن أُمِّي، تقصد شقيقها عَلِيًّا، أنه قاتِلٌ رجلاً قد أجَرْتُه، إنه ابن هُبَيرة يا رسول الله، فقال النبي: ((قد أجَرْنا من أجَرْتِ يا أم هانئ))؛ صحيح، أخرجه البخاري.
ها هو الرسول يحترم عهدًا أعطَتْه امرأة لأحد المطلوبين للعدالة، ولم يَخْذلها أبدًا، فهل يعتبر هؤلاء الذين يقولون: إن المرأة لا قيمة لها في الإسلام، وهم كثُر؟ وهل يتَّقون الله ويتَّبعون هَدْي النبي الكريم؟
عن مسلم بن عبيد أن أسماء بنت يزيد الأنصارية أتت النبي وهو جالس بين أصحابه، فقالت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، أنا وافدة النِّساء إليك، إن الله بعثَكَ إلى الرِّجال والنساء كافَّة، فآمنَّا بك وبإلهك، وإنا مَعْشر النِّساء محصورات مقصورات، قواعِدُ بيوتِكم، ومَقْضى شهواتكم، وحامِلات أولادكم... إلخ، ثم قالت: أفما نُشارككم في هذا الأَجْر والخير؟ فالتفت النبيُّ إلى أصحابه بوجهه كُلِّه، ثم قال لهم: ((هل سمعتم مقالة امرأة قطُّ أحسن من مساءلتها في أمر دينها من هذه؟)) فقالوا: يا رسول الله، ما ظننَّا أن امرأة تهتدي إلى مثل هذا؛ ابن الأثير"أُسْد الغابة"، جزء 5 صفحة 398.
كانت المرأة تعمل على عهد رسول الله، وتكتسب مالاً تَعُول به نفسها وزوجها وأولادها، فهذه زينب بنت عبدالله الثقفية زوجة عبدالله بن مسعود كانت امرأة تعمل وتنفق على زوجها وأولادها، جاءت إلى النبي فقالت له: إنِّي امرأة ذات صنعة، فأبيع، وليس لأولادي ولا لزوجي مالٌ، فيشغلونني عن الصدقة، فهل لي في النفقة عليهم أجْرٌ؟ فقال لها رسول الله: ((لك في ذلك أجْرُ ما أنفقت عليهم))؛ البخاري قصة أم سلمة مع قومها، نفقات، 4950
وكانت هناك امرأة بالمدينة يُقال لها: الحولاء العطَّارة، فكان النبي يأنس بها ويزورها، وكانت تبيع العطور، كان إذا دخل بيته قال: ((أين الحولاء العطارة؟ إني لأجد ريح العطارة، هل ابتَعْتم منها اليوم شيئًا))؛ ابن الأثير"أُسْد الغابة"، جزء 5 صفحة 432.
لكن في الزمن الذي نحياه اليوم، تطوُّرات سريعة، وصيحات جريئة، وقرارات مفاجئة، وأهداف مثيرة، وغايات خطيرة.
في الإسلام والالتزام بتعاليمه عاشت المرأة في عزَّة نَفْس، وشِدَّة حياء، وقمَّة عِفَّة، وصَوْن كرامة، ولم تَمْتهن نفسها مع حاجتها وفقرها، وآثرت أن تعمل بيديها في بيتها لِتَسُدَّ حاجتها، ولم تُلْجِئها الحاجة يومًا إلى مُخالطة الرجال، واختراق الصُّفوف، وكَشْف المحاسن، من أجْل لقمة العيش أو سَدِّ الحاجة، فأغناها الله من واسع فضله، ورزقها من حيث لا تحتسب، فمن يتَّق الله يجعل له مخرجًا، وليست المشكلة في توظيف المرأة، ومنحها فرصة عمل كريمة؛ لِبِناء حياة شريفة، فالعمل الشريف للمرأة العفيفة مَطْلب مهم، وقرار عادل، ولفتة كريمة، بل القضية الأهم، كيف تعمل المرأة؟ وأين تعمل؟ ومع من تعمل؟
إن الفُجور الغَرْبي، والجهل الشَّرقي، والصلف اليهودي يَعْتبر المرأة جسَدًا يجب إبراز مفاتنه، وكشف مَحاسنه، وفَضْح مكامنه، وتَعْرية معالمه، وهناك ضِعاف الإيمان، يريدون تدمير المرأة في بيتها، وتجريدها من مسؤولياتها،لماذا يَستشهدون بقول الله - تعالى -: ﴿ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ ﴾ [يوسف: 28]، ويتناسَوْن قوله: ﴿ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 35]؟ يحتجُّون بامرأتَيْ نوحٍ ولوط، ويغفلون امرأة فرعون وابنة عِمْران، هذا القصور في الفهم أدَّى إلى إعاقة حركة المُؤْمنات المُحْصَنات العفيفات، وإلى حرمان الدعوة والمجتمع من عطائهنَّ، فكان لا بدَّ أن تَشغل الساحةَ مَن لا علم، ولا تربية، ولا خلق ، ولا رسالة لهن، إلاَّ مَن رحم الله.
الأخت المسلمة، هي الابنة والأخت والزَّوجة والأُم، نصف المجتمع، وتقوم على رعاية النصف الآخر.
الأخت المسلمة، إنْ هِي نَضِجَت وأخلصَتْ تستطيع أن تزرع الخير، وتقتلع الشر، وتصلح التَّالف، وتعدل المعوجَّ، وتبني المتهدِّم.
الأخت المسلمة، إن هي علمَتْ وفهمت أجمل إبداعًا، وأعلى تركيزًا، وأرهف إحساسًا، وأكثر حماسًا، وأعظم تألُّقًا ونشاطًا.
الأخت المسلمة، إن هي آمنَتْ وفقهت، أعظم مسؤولية وأثقل تَبِعة، كيف؟ تَحْمل وتَلِد، ترضع وتربِّي، تقوم على شؤون البيت من ترتيب وتنظيم، من غسيل وتنظيف، من مودَّة وسكن - نصيب أكبر في متابعة الأولاد في غياب الزوج - وغيره! وفوق كُلِّ ذلك دورها مع زوجها في رسم خطة الحياة ومباشرة تنفيذها؛ لذلك حقُّها على الابن - كما ورد في الحديث الصحيح - ثلاث أضعاف حقِّ الوالد.
أختي المسلمة العفيفة، أين أَنْت من خديجة وعائشة وأُمِّ سلمة أُمَّهات المؤمنين؟ أين أنت من آسية امرأة فرعون وهي تُواجه الفساد والاستبداد؟ أين أنت من أُمِّ موسي - عليه السَّلام -؟ أين أنت من أُمِّ سليم التي رضيت أن يكون مَهْرها الإسلام؟! أين أنت من سمية بنت عمَّار أول شهيدة في الإسلام؟! أين أنت من رفيدة أول طبيبة في الإسلام؟! أين أنت من أُمِّك في فلسطين الأرض المباركة؟! أين أنت من أختك في غزَّة، أرض الكرامة والحرِّية والعزة؟!
أختي المسلمة العفيفة، أين أنت من نهضة الأُمَّة؟! أنت بنت الإسلام، وأنت نَبْت الإسلام، أنت الكلمة الطيِّبة، وأنت الشجرة المُثْمِرة، وأنت الجوهرة المكنونة، وأنت الدُّرة المكنونة، وأنت اللُّؤلؤة المضيئة التي لا تَحِلُّ لِسَارق، ولا تُباع لسفيه، ولا تعطى لوضيع، ولا تُهْدى لجاهل، ولا تُلْقَى على قارعة الطريق لتدوسها الأقدام، وتَزْدرِيَها الأعين، وتَلُوكَها الألسن، فأين أنت من نهضة الأمة؟!
أختي المسلمة العفيفة، لا بُدَّ أن تكون لك بصمة في نهضة الأُمَّة، تبدأ أوَّلاً من البيت، تربية الأبناء على أخلاق الإسلام، ومتطلبات الدِّين، ثم تنطلقين معهم بروحك وسَمْتك والْتزامك إلى المدارس والجامعات، إلى الدَّوائر والهيئات، إلى النوادي والمؤسَّسات، إلى المواقع والمنتديات، فتَبُثِّين النُّور، وتزرعين الأمل، وتُحْيِين المَوَات، وتؤسِّسين لنهضةٍ ملأَت الدُّنيا - كل الدنيا - عدلاً وعلمًا ونورًا وجمالاً.
أختي المسلمة العفيفة، أعلم أنَّ هناك أخَواتٍ مُجاهدات نشيطات مُخْلصات، يستنهضن الهِمَم، ويستَثِرْن العزائم، ويرفعن لواء الحقِّ أينما كانوا، وحيثُما وُجدوا، أحْسَبُهن كذلك، بارك الله فيهن، وأجزل العطاء لهن، وأدخلهن الفردوس الأعلى من الجنة مع خديجة وسمية و...
أختي المسلمة العفيفة، الأُمَّة في حاجة ماسَّة إليك اليومَ وكُلَّ يوم،كيف؟! عِفَّتك تَطْغى على سُفور الأُخْرَيات هداهُنَّ الله، وعلمك يُضِيء طريق الأخريات أكرمهنَّ الله، وفِقْهُك يأخذ بأيدي الأخريات أعزَّهن الله، وإقدامك وذاتيتك يُطْلق الحماس لدى الأخريات باركَهُن الله، فأنت القدوة في زمن غابت فيه القدوة، وأنت المَثَل في زمن ضاعت فيه المُثُل، ألا تستعيدين حقوقَكِ المنهوبة، ألا تسترجعين حرِّيتَك المسلوبة، ألا تبنين نهضتك المغيبة! هيا انهضي، وفي الله جاهِدي، ﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [العنكبوت: 69].
اللَّهم فَقِّهْنا في ديننا، وفَهِّمنا شِرْعة رَبِّنا، اللهم ارْزُقنا الإخلاص في القول والعمل، ولا تجعل الدُّنيا أكبر هَمِّنا، ولا مَبْلَغ علمنا، وصلِّ اللهم على سيِّدنا محمد وعلى أهله وصحبه وسلِّم، والحمد لله ربِّ العالمين.
المصدر
موقع الالوكة