الاستهزاء بالدين وأهله
الشيخ / إبراهيم بن صالح العجلان
إخوة الإيمان :
أن ترى العبد معظما لأوامر الله، منقادا لشريعته، صاغرا وراضيا لأحكام ملته، فهذا برهان على إيمانه، ومؤشر على تقواه، وصدق التدين في قلبه؛ {فلا وربك لا يُؤْمنُون حتى يُحكمُوك فيما شجر بيْنهُمْ ثُم لا يجدُوا في أنْفُسهمْ حرجا مما قضيْت ويُسلمُوا تسْليما} [النساء: 65]، {وما كان لمُؤْمنٍ ولا مُؤْمنةٍ إذا قضى اللهُ ورسُولُهُ أمْرا أنْ يكُون لهُمُ الخيرةُ منْ أمْرهمْ} [الأحزاب: 36].
وإذا كان تعظيمُ الله، والخوفُ من مقامه دليل الإيمان؛ {إنما المُؤْمنُون الذين إذا ذُكر اللهُ وجلتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال: 2]، فكذلك الاستهانةُ بالله ودينه ورسوله ناقض لذلك الإيمان، فلا يجتمعان، لا يجتمعان في قلب العبد أبدا : تعظيمُه لمقام ربه، واستهزاؤه بشرعه وشريعته.
فتعالوا - إخوة الإيمان - إلى حديثٍ مع هذا الناقض، الذي يقطع الإيمان ويزيله، ويُخرجُ صاحبه من قمم الإيمان إلى قُمْقم الكفر، مع هذا الناقض الذي علا دخانُه، واستبان لحنه، فزلتْ فيه أقدام، ولاكتْهُ أفواه وأقلام، حتى أصبح صوتُ الغمز، وحديثُ اللمز، على الدين وأهله، حديثا بائنا، وصوتا لم يعد خافتا.
وهذا - لعمر الله - طريق مزلقة مدحضة نحو دركات الكفر والنار - والعياذ بالله - وفي الحديث الصحيح : «وإن الرجل ليتكلمُ بالكلمة، ما يرى بها بأسا، يهوي بها في النار سبعين خريفا»؛ رواه الترمذي وغيره.
معاشر المؤمنين :
الاستهزاءُ بالدين مرض عضال، وشر ووبال، يفرقُ القلوب، ويزرعُ الإحن، ويُذكي نار الفتن، ويجرئ السفلة على القامات، ويشجع الجهال على الإغارة على مسلمات الشرع وقواطع الملة.
السخرية بالدين سمةُ المنافقين، وحيلة العاجزين، وبضاعة المفلسين.
أفاض القرآنُ وأسهب في حديث الاستهزاء وخبر المستهزئين، فشنع ربُنا هذا السفه وأثم، وكفر أهله وجرم، فالاستهزاءُ بالدين جرثومة قديمة غرسها أعداء الأنبياء : {ولقد اسْتُهْزئ برُسُلٍ منْ قبْلك} [الأنعام: 10]، {وكمْ أرْسلْنا منْ نبيٍ في الأولين * وما يأْتيهمْ منْ نبيٍ إلا كانُوا به يسْتهْزئُون} [الزُخرف: 6، 7]، ثم أشرف على سقْيها المنافقون؛ فقال الله عنهم: {قُل اسْتهْزئُوا إن الله مُخْرج ما تحْذرُون} [التوبة: 64].
بل إن المولى - سبحانه - قد جعل من أبرز سمات أهل النفاق سُخريتهم بأهل الإيمان؛ {الذين يلْمزُون المُطوعين من المُؤْمنين في الصدقات والذين لا يجدُون إلا جُهْدهُمْ فيسْخرُون منْهُمْ سخر اللهُ منْهُمْ ولهُمْ عذاب أليم} [التوبة: 79]،ولشناعة صنيع الساخرين؛ سماهم الله في كتابه بالمجرمين؛ {إن الذين أجْرمُوا كانُوا من الذين آمنُوا يضْحكُون} [المطففين: 29].
ولذا نهانا الله - سبحانه - عن مجالسة قطيع المستهزئين المتهكمين بالدين؛ {وقدْ نزل عليْكُمْ في الكتاب أنْ إذا سمعْتُمْ آيات الله يُكْفرُ بها ويُسْتهْزأُ بها فلا تقْعُدُوا معهُمْ حتى يخُوضُوا في حديثٍ غيْره}[النساء: 140]، وسماهم الله بالقوم الظالمين؛ {وإذا رأيْت الذين يخُوضُون في آياتنا فأعْرضْ عنْهُمْ حتى يخُوضُوا في حديثٍ غيْره وإما يُنْسينك الشيْطانُ فلا تقْعُدْ بعْد الذكْرى مع القوْم الظالمين} [الأنعام: 68].
خرج النبيُ - صلى الله عليه وسلم - لغزوة تبوك، فخرج معه بعضُ مرضى القلوب وأهل النفاق، فاجتمع نفر منهم فتجاسروا على الصحابة، وأخرجوا شيئا من أضغانهم تجاه هذا الدين وأهله، فقالوا : ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء، أرغب بطونا، ولا أكذب ألسنا، ولا أجبن عند اللقاء؛ فنزل فيهم قرآن يتلى : {ولئنْ سألْتهُمْ ليقُولُن إنما كُنا نخُوضُ ونلْعبُ قُلْ أبالله وآياته ورسُوله كُنْتُمْ تسْتهْزئُون * لا تعْتذرُوا قدْ كفرْتُمْ بعْد إيمانكُمْ} [التوبة: 65].
ولذا؛ أجمع علماءُ الأمة المحمدية على أن الاستهزاء بالله وبشرعه ورسوله مروق من الملة الإسلامية، وخروج من الدين بالكلية :
قال ابن حزم : صح بالنص أن كل من استهزئ بالله - تعالى - أو بملكٍ من الملائكة، أو بنبيٍ من الأنبياء، أو بآية من القرآن، أو بفريضة من فرائض الدين - فهي كلُها من آيات الله تعالى - من استهزئ بشيء منها بعد بلوغ الحُجة إليه، فهو كافر.
وقال العلامة ابن باز - رحمه الله -: "الاستهزاء بالإسلام أو بشيء منه كفر أكبر، ومن يستهزئ بأهل الدين، والمحافظين على الصلوات؛ من أجل دينهم، ومحافظتهم عليه، يعتبر مستهزئا بالدين". اهـ.
ولذا؛ كان علماء السنة - رحمهم الله - يعذرون بالجهل والتأويل في مسائل الشرك (فمن وقع في الشرك جاهلا أو متأولا، لا يكفر عينا)، بينما الاستهزاء بالدين لا يعذرون صاحبه؛ لأنه لا يُتصور وجودُ العذر فيه، فلا يمكن أن يسخر إنسان بالله أو برسوله أو بدينه، ثم يزعم أنه جاهل أو متأول.
إذا - إخوة الإيمان - من هزأ بنصٍ أو فريضةٍ، أو حكمٍ أو سنة أو شعيرة، فقد خلع جلباب الإيمان، وتوشح رداء الكفر؛ {ومنْ يتبدل الْكُفْر بالْإيمان فقدْ ضل سواء السبيل} [البقرة: 108].
أما الاستهزاء بأهل العلم، ومن ظاهرُهم الصلاحُ، ففيه تفصيل :
إن كانت السخرية لأجل أفعالهم، أو صفاتهم الخلْقية أو الخُلُقية، فهذا محرم؛ {يا أيُها الذين آمنُوا لا يسْخرْ قوم منْ قوْمٍ عسى أنْ يكُونُوا خيْرا منْهُمْ} [الحجرات: 11].
أما إن كانت السخرية، لأجل تحليهم بالسنة والسنن، أو مواظبتهم على الطاعات، فيسبُهم ويتنقصهم لأجل هذا الشيء، فهذه ردة عن الملة؛ لأن الاستهزاء هنا راجع حقيقة إلى الدين.
معاشر المسلمين :
وإذا ما دققنا النظر في حال المستهزئين، وبواعث الاستهزاء، نرى أنهم فئات وأشتات، اتحد هدفُهم، وتعددت مقاصدُهم، فأشدُ بواعث الاستهزاء خطرا، وأسرعُها مروقا من الدين، إذا كان الاستهزاءُ بسبب كُرْه هيمنة الدين وتعاليمه، فيعارض هؤلاء الكارهون لما نزل اللهُ، تشريعات الدين وتعاليمه بسلاح السخرية؛ لتهوينها، ومن ثم نبْذها.
فأحدُهم : يتهكم بالحجاب، وأنه يصادمُ إنسانية المرأة وهُويتها، ويعيقُها عن الحركة والعمل.
وآخر : يتندرُ من فتوى تحريم سفر المرأة بلا محرمٍ، مع أن النهي ليس من عنديات العالم واجتهاده، وإنما ثبت على لسان محمد - صلى الله عليه وسلم.
وثالث : يسخرُ من واقع المسلمين اليوم مع المرأة، حين عشعش لديهم مفهوم : «لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة»، مع أن هذا نص ثابت عن المعصوم - صلى الله عليه وسلم.
هذه الأقوال الساخرة المتندرة، ما أطلقتْ سهامها وسمومها إلا لأنها كرهتْ هذه التشريعات، وكُرْهُ ما نزل الله - قبل ذلك - إثم محبط للعمل، وإن لم يصاحبْه استهزاء؛ {ذلك بأنهُمْ كرهُوا ما أنْزل اللهُ فأحْبط أعْمالهُمْ} [محمد: 9].
*** ومن بواعث الاستهزاء :
النقمةُ على أهل الخير والصلاح، كما قال سلفُهم المتهكمون : {إنهُمْ أُناس يتطهرُون} [الأعراف: 82]؛ فبعض هؤلاء المستهترين مصاب بمرض حمى كُرْه مظاهر التدين، فيشرقُ بموضوع الهيئة، ويتأزمُ من الدعوة، ويتأففُ من حلقات القرآن، ثم ينطلقُ من هذا الكره لمظاهر الخير الموجودة في المجتمع، إلى الاستهزاء بالدين أو بالسنن، أو التندر من فتاوى العلماء المبنية على النصوص الصحيحة الصريحة.
*** ومن بواعث الاستهزاء أيضا :
حُبُ الظهور وتلميع الذات، للأسف أصبحت الجرأةُ على المسلمات، ومخالفةُ الفتاوى السائدة، والتهكُمُ على محافظة المجتمع، وغمزُ المطوعين من المؤمنين في الاحتساب - هي البضاعة الأسرع نحو الشهرة والاشتهار، وبعضُ إعلام اليوم قد فتح بابه ورحب لكل غامز ولامز، وعائب ومتحرر من قيود الشرع والشريعة، وإلى الله المشتكى.
*** ومن بواعث الاستهزاء بالدين أيضا :
التقليدُ الأعمى لأعداء شرع الإسلام، فبعضُ المستهزئين هم مقلدة، انبهروا بالحضارة الغربية، وفُتنُوا بحياتهم ومدنيتهم، فطفقوا يرددون أقوال مثقفيهم، ويُعيدون صدى أفكارهم، فتحْت شعار حقوق الإنسان، أصبحتْ إقامة الحدود، وتصليب المجرم وحشية وقسوة لا تليق بالإنسانية.
ثم اقرأ بعد ذلك ما شئت من التنقص والتبخيس لحدود الله، وأنها لا تناسب عالم اليوم، وأن هناك بدائل للعقوبات تناسب روح العصر، كما يزعمون ويتخيلون، وكأنهم أعلم بما يُصلح الخلق من رب الخلق؛ {ألا يعْلمُ منْ خلق وهُو اللطيفُ الخبيرُ} [الملك: 14].
*** ومن بواعث الاستهزاء أيضا :
الكبرُ والتعالي، وإذا عشعش هذا المرض في القلب وتمكن، رد صاحبُه الحق، واحتقر الخلْق، وانطلق يسخر من ورثة الأنبياء ودعوتهم وفتاواهم، ويصف من يخالفه بالرجعية والظلامية والسطحية.
يقول السفاريني : المستهزئ بغيره يرى فضْل نفسه بعين الرضا، ويرى نقْص غيره بعين الاحتقار؛ إذ لو لم يحتقرْه لما سخر منه، وقديما قال المتعالي الزاهي فرعونُ : {أمْ أنا خيْر منْ هذا الذي هُو مهين ولا يكادُ يُبينُ} [الزُخرف: 52].
*** ومن بواعث الاستهزاء بالدين أيضا :
إضحاكُ الآخرين؛ كما قال أشقياء المنافقين : {إنما كُنا نخُوضُ ونلْعبُ} [التوبة: 65].
الآن ترسمُ الكاريكاتيرات المبالغُ فيها، وغير الموجودة على الواقع؛ للتندُر والتنقص، يُصور الشابُ الذي يحيي شعيرة وفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بصورة الشاب الأبله الساذج المتخلف، الذي يدمر ويحطم كل شيء أمامه، وكأن وظيفة الحسْبة والاحتساب، هي ضربُ الآخرين والاعتداءُ عليهم.
وآخرُ يرسم ويتندر بمن يربط الزلازل والبراكين بالذنوب والمعاصي، فيقولُ : الزلازل في أعماق البحار هي من ذنوب الأسماك.
سخف وتسافل؛ {سخر اللهُ منْهُمْ} [التوبة: 79].
أما علم أولئك الساخرون أن كبار الصحابة وأئمة السلف - كعمر وابن مسعود وغيرهم - فهموا أن الكوارث الكونية هي نُذُر إلهية، ومصائبُ تحُلُ بسبب الذنوب والخطايا؛ {وما أصابكُمْ منْ مُصيبةٍ فبما كسبتْ} [الشُورى: 30].
وما زالت العلماء في كل عصر ومصر يحذرون من المعاصي عند نزول الكوارث؛ أخذا من ظواهر النصوص، وقبل ذلك نبيُنا - صلى الله عليه وسلم - حذر الناس من المحرمات، والزنا بالأخص، عند حصول الكسوف، فحين صلى بالناس صلاة الكسوف، التفت إليهم، وقال : «يا أمة محمد، إنه ليس أحد أغير من الله أن يزني عبدُه، أو أن تزني أمتُه».
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم : {ولا تتخذُوا آيات الله هُزُوا واذْكُرُوا نعْمة الله عليْكُمْ وما أنْزل عليْكُمْ من الكتاب والحكْمة يعظُكُمْ به واتقُوا الله واعْلمُوا أن الله بكُل شيْءٍ عليم}[البقرة: 231].
إخوة الإيمان :
إن الواجب على كل مسلم يرجو الله ويخافُ اليوم الآخر : أن يحذر زلة لسانه، أنْ يرخيه ضاحكا أو متهكما بالنصوص، أو الشعائر، أو الأحكام الشرعية؛ فرُب كلمةٍ يفغر الرجل بها فاه ضاحكا مقهقها، قد أسخط بها ربه، وانسلخ فيها من إسلامه، وقد بين المولى - سبحانه - أن الكفر يكون بكلمة؛ فقال - تعالى - عن المنافقين المستهزئين : {ولقدْ قالُوا كلمة الكُفْر وكفرُوا بعْد إسْلامهمْ} [التوبة: 74].
فواجب علينا - عباد الله - أن نعالج هذا التسافل المنشور، بالتحذير منه، وبيان شناعته، ومغبة إشاعته، وخطره على الإيمان والدين، مع الإعراض عن أهله ووعظهم، والنصح والقول لهم في أنفسهم قولا بليغا.
وأما أنت أيها المسلم الغيور على دينه، الكاره لجرأة المستهترين عليه، فلا تفْتُرْ ولا تتقهقر عن صلاحك وإصلاحك، ودعوتك واحتسابك، ولا تزيدك هذه المواقفُ والتساخف، إلا صلابة في الحق، وإصرارا على مقاومة الباطل.
نعم، نعلم أنه يضيق صدرُك بما يقولون ويسخرون؛ ولكن تيقن - أُخي - أن هذه المكدرات هي من الأذى الذي لا بد منه في سبيل الإصلاح والثبات.
وما يُصيبُ المؤمن من همٍ ولا حزن، ولا وصبٍ ولا نصبٍ ولا أذى، إلا كُفر به عنه، ولو سلم أحد من استهزاء الناس، لسلم منه خيرُ البشر - صلى الله عليه وسلم - : {وإذا رآك الذين كفرُوا إنْ يتخذُونك إلا هُزُوا} [الأنبياء:36].
الشيخ / إبراهيم بن صالح العجلان
إخوة الإيمان :
أن ترى العبد معظما لأوامر الله، منقادا لشريعته، صاغرا وراضيا لأحكام ملته، فهذا برهان على إيمانه، ومؤشر على تقواه، وصدق التدين في قلبه؛ {فلا وربك لا يُؤْمنُون حتى يُحكمُوك فيما شجر بيْنهُمْ ثُم لا يجدُوا في أنْفُسهمْ حرجا مما قضيْت ويُسلمُوا تسْليما} [النساء: 65]، {وما كان لمُؤْمنٍ ولا مُؤْمنةٍ إذا قضى اللهُ ورسُولُهُ أمْرا أنْ يكُون لهُمُ الخيرةُ منْ أمْرهمْ} [الأحزاب: 36].
وإذا كان تعظيمُ الله، والخوفُ من مقامه دليل الإيمان؛ {إنما المُؤْمنُون الذين إذا ذُكر اللهُ وجلتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال: 2]، فكذلك الاستهانةُ بالله ودينه ورسوله ناقض لذلك الإيمان، فلا يجتمعان، لا يجتمعان في قلب العبد أبدا : تعظيمُه لمقام ربه، واستهزاؤه بشرعه وشريعته.
فتعالوا - إخوة الإيمان - إلى حديثٍ مع هذا الناقض، الذي يقطع الإيمان ويزيله، ويُخرجُ صاحبه من قمم الإيمان إلى قُمْقم الكفر، مع هذا الناقض الذي علا دخانُه، واستبان لحنه، فزلتْ فيه أقدام، ولاكتْهُ أفواه وأقلام، حتى أصبح صوتُ الغمز، وحديثُ اللمز، على الدين وأهله، حديثا بائنا، وصوتا لم يعد خافتا.
وهذا - لعمر الله - طريق مزلقة مدحضة نحو دركات الكفر والنار - والعياذ بالله - وفي الحديث الصحيح : «وإن الرجل ليتكلمُ بالكلمة، ما يرى بها بأسا، يهوي بها في النار سبعين خريفا»؛ رواه الترمذي وغيره.
معاشر المؤمنين :
الاستهزاءُ بالدين مرض عضال، وشر ووبال، يفرقُ القلوب، ويزرعُ الإحن، ويُذكي نار الفتن، ويجرئ السفلة على القامات، ويشجع الجهال على الإغارة على مسلمات الشرع وقواطع الملة.
السخرية بالدين سمةُ المنافقين، وحيلة العاجزين، وبضاعة المفلسين.
أفاض القرآنُ وأسهب في حديث الاستهزاء وخبر المستهزئين، فشنع ربُنا هذا السفه وأثم، وكفر أهله وجرم، فالاستهزاءُ بالدين جرثومة قديمة غرسها أعداء الأنبياء : {ولقد اسْتُهْزئ برُسُلٍ منْ قبْلك} [الأنعام: 10]، {وكمْ أرْسلْنا منْ نبيٍ في الأولين * وما يأْتيهمْ منْ نبيٍ إلا كانُوا به يسْتهْزئُون} [الزُخرف: 6، 7]، ثم أشرف على سقْيها المنافقون؛ فقال الله عنهم: {قُل اسْتهْزئُوا إن الله مُخْرج ما تحْذرُون} [التوبة: 64].
بل إن المولى - سبحانه - قد جعل من أبرز سمات أهل النفاق سُخريتهم بأهل الإيمان؛ {الذين يلْمزُون المُطوعين من المُؤْمنين في الصدقات والذين لا يجدُون إلا جُهْدهُمْ فيسْخرُون منْهُمْ سخر اللهُ منْهُمْ ولهُمْ عذاب أليم} [التوبة: 79]،ولشناعة صنيع الساخرين؛ سماهم الله في كتابه بالمجرمين؛ {إن الذين أجْرمُوا كانُوا من الذين آمنُوا يضْحكُون} [المطففين: 29].
ولذا نهانا الله - سبحانه - عن مجالسة قطيع المستهزئين المتهكمين بالدين؛ {وقدْ نزل عليْكُمْ في الكتاب أنْ إذا سمعْتُمْ آيات الله يُكْفرُ بها ويُسْتهْزأُ بها فلا تقْعُدُوا معهُمْ حتى يخُوضُوا في حديثٍ غيْره}[النساء: 140]، وسماهم الله بالقوم الظالمين؛ {وإذا رأيْت الذين يخُوضُون في آياتنا فأعْرضْ عنْهُمْ حتى يخُوضُوا في حديثٍ غيْره وإما يُنْسينك الشيْطانُ فلا تقْعُدْ بعْد الذكْرى مع القوْم الظالمين} [الأنعام: 68].
خرج النبيُ - صلى الله عليه وسلم - لغزوة تبوك، فخرج معه بعضُ مرضى القلوب وأهل النفاق، فاجتمع نفر منهم فتجاسروا على الصحابة، وأخرجوا شيئا من أضغانهم تجاه هذا الدين وأهله، فقالوا : ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء، أرغب بطونا، ولا أكذب ألسنا، ولا أجبن عند اللقاء؛ فنزل فيهم قرآن يتلى : {ولئنْ سألْتهُمْ ليقُولُن إنما كُنا نخُوضُ ونلْعبُ قُلْ أبالله وآياته ورسُوله كُنْتُمْ تسْتهْزئُون * لا تعْتذرُوا قدْ كفرْتُمْ بعْد إيمانكُمْ} [التوبة: 65].
ولذا؛ أجمع علماءُ الأمة المحمدية على أن الاستهزاء بالله وبشرعه ورسوله مروق من الملة الإسلامية، وخروج من الدين بالكلية :
قال ابن حزم : صح بالنص أن كل من استهزئ بالله - تعالى - أو بملكٍ من الملائكة، أو بنبيٍ من الأنبياء، أو بآية من القرآن، أو بفريضة من فرائض الدين - فهي كلُها من آيات الله تعالى - من استهزئ بشيء منها بعد بلوغ الحُجة إليه، فهو كافر.
وقال العلامة ابن باز - رحمه الله -: "الاستهزاء بالإسلام أو بشيء منه كفر أكبر، ومن يستهزئ بأهل الدين، والمحافظين على الصلوات؛ من أجل دينهم، ومحافظتهم عليه، يعتبر مستهزئا بالدين". اهـ.
ولذا؛ كان علماء السنة - رحمهم الله - يعذرون بالجهل والتأويل في مسائل الشرك (فمن وقع في الشرك جاهلا أو متأولا، لا يكفر عينا)، بينما الاستهزاء بالدين لا يعذرون صاحبه؛ لأنه لا يُتصور وجودُ العذر فيه، فلا يمكن أن يسخر إنسان بالله أو برسوله أو بدينه، ثم يزعم أنه جاهل أو متأول.
إذا - إخوة الإيمان - من هزأ بنصٍ أو فريضةٍ، أو حكمٍ أو سنة أو شعيرة، فقد خلع جلباب الإيمان، وتوشح رداء الكفر؛ {ومنْ يتبدل الْكُفْر بالْإيمان فقدْ ضل سواء السبيل} [البقرة: 108].
أما الاستهزاء بأهل العلم، ومن ظاهرُهم الصلاحُ، ففيه تفصيل :
إن كانت السخرية لأجل أفعالهم، أو صفاتهم الخلْقية أو الخُلُقية، فهذا محرم؛ {يا أيُها الذين آمنُوا لا يسْخرْ قوم منْ قوْمٍ عسى أنْ يكُونُوا خيْرا منْهُمْ} [الحجرات: 11].
أما إن كانت السخرية، لأجل تحليهم بالسنة والسنن، أو مواظبتهم على الطاعات، فيسبُهم ويتنقصهم لأجل هذا الشيء، فهذه ردة عن الملة؛ لأن الاستهزاء هنا راجع حقيقة إلى الدين.
معاشر المسلمين :
وإذا ما دققنا النظر في حال المستهزئين، وبواعث الاستهزاء، نرى أنهم فئات وأشتات، اتحد هدفُهم، وتعددت مقاصدُهم، فأشدُ بواعث الاستهزاء خطرا، وأسرعُها مروقا من الدين، إذا كان الاستهزاءُ بسبب كُرْه هيمنة الدين وتعاليمه، فيعارض هؤلاء الكارهون لما نزل اللهُ، تشريعات الدين وتعاليمه بسلاح السخرية؛ لتهوينها، ومن ثم نبْذها.
فأحدُهم : يتهكم بالحجاب، وأنه يصادمُ إنسانية المرأة وهُويتها، ويعيقُها عن الحركة والعمل.
وآخر : يتندرُ من فتوى تحريم سفر المرأة بلا محرمٍ، مع أن النهي ليس من عنديات العالم واجتهاده، وإنما ثبت على لسان محمد - صلى الله عليه وسلم.
وثالث : يسخرُ من واقع المسلمين اليوم مع المرأة، حين عشعش لديهم مفهوم : «لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة»، مع أن هذا نص ثابت عن المعصوم - صلى الله عليه وسلم.
هذه الأقوال الساخرة المتندرة، ما أطلقتْ سهامها وسمومها إلا لأنها كرهتْ هذه التشريعات، وكُرْهُ ما نزل الله - قبل ذلك - إثم محبط للعمل، وإن لم يصاحبْه استهزاء؛ {ذلك بأنهُمْ كرهُوا ما أنْزل اللهُ فأحْبط أعْمالهُمْ} [محمد: 9].
*** ومن بواعث الاستهزاء :
النقمةُ على أهل الخير والصلاح، كما قال سلفُهم المتهكمون : {إنهُمْ أُناس يتطهرُون} [الأعراف: 82]؛ فبعض هؤلاء المستهترين مصاب بمرض حمى كُرْه مظاهر التدين، فيشرقُ بموضوع الهيئة، ويتأزمُ من الدعوة، ويتأففُ من حلقات القرآن، ثم ينطلقُ من هذا الكره لمظاهر الخير الموجودة في المجتمع، إلى الاستهزاء بالدين أو بالسنن، أو التندر من فتاوى العلماء المبنية على النصوص الصحيحة الصريحة.
*** ومن بواعث الاستهزاء أيضا :
حُبُ الظهور وتلميع الذات، للأسف أصبحت الجرأةُ على المسلمات، ومخالفةُ الفتاوى السائدة، والتهكُمُ على محافظة المجتمع، وغمزُ المطوعين من المؤمنين في الاحتساب - هي البضاعة الأسرع نحو الشهرة والاشتهار، وبعضُ إعلام اليوم قد فتح بابه ورحب لكل غامز ولامز، وعائب ومتحرر من قيود الشرع والشريعة، وإلى الله المشتكى.
*** ومن بواعث الاستهزاء بالدين أيضا :
التقليدُ الأعمى لأعداء شرع الإسلام، فبعضُ المستهزئين هم مقلدة، انبهروا بالحضارة الغربية، وفُتنُوا بحياتهم ومدنيتهم، فطفقوا يرددون أقوال مثقفيهم، ويُعيدون صدى أفكارهم، فتحْت شعار حقوق الإنسان، أصبحتْ إقامة الحدود، وتصليب المجرم وحشية وقسوة لا تليق بالإنسانية.
ثم اقرأ بعد ذلك ما شئت من التنقص والتبخيس لحدود الله، وأنها لا تناسب عالم اليوم، وأن هناك بدائل للعقوبات تناسب روح العصر، كما يزعمون ويتخيلون، وكأنهم أعلم بما يُصلح الخلق من رب الخلق؛ {ألا يعْلمُ منْ خلق وهُو اللطيفُ الخبيرُ} [الملك: 14].
*** ومن بواعث الاستهزاء أيضا :
الكبرُ والتعالي، وإذا عشعش هذا المرض في القلب وتمكن، رد صاحبُه الحق، واحتقر الخلْق، وانطلق يسخر من ورثة الأنبياء ودعوتهم وفتاواهم، ويصف من يخالفه بالرجعية والظلامية والسطحية.
يقول السفاريني : المستهزئ بغيره يرى فضْل نفسه بعين الرضا، ويرى نقْص غيره بعين الاحتقار؛ إذ لو لم يحتقرْه لما سخر منه، وقديما قال المتعالي الزاهي فرعونُ : {أمْ أنا خيْر منْ هذا الذي هُو مهين ولا يكادُ يُبينُ} [الزُخرف: 52].
*** ومن بواعث الاستهزاء بالدين أيضا :
إضحاكُ الآخرين؛ كما قال أشقياء المنافقين : {إنما كُنا نخُوضُ ونلْعبُ} [التوبة: 65].
الآن ترسمُ الكاريكاتيرات المبالغُ فيها، وغير الموجودة على الواقع؛ للتندُر والتنقص، يُصور الشابُ الذي يحيي شعيرة وفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بصورة الشاب الأبله الساذج المتخلف، الذي يدمر ويحطم كل شيء أمامه، وكأن وظيفة الحسْبة والاحتساب، هي ضربُ الآخرين والاعتداءُ عليهم.
وآخرُ يرسم ويتندر بمن يربط الزلازل والبراكين بالذنوب والمعاصي، فيقولُ : الزلازل في أعماق البحار هي من ذنوب الأسماك.
سخف وتسافل؛ {سخر اللهُ منْهُمْ} [التوبة: 79].
أما علم أولئك الساخرون أن كبار الصحابة وأئمة السلف - كعمر وابن مسعود وغيرهم - فهموا أن الكوارث الكونية هي نُذُر إلهية، ومصائبُ تحُلُ بسبب الذنوب والخطايا؛ {وما أصابكُمْ منْ مُصيبةٍ فبما كسبتْ} [الشُورى: 30].
وما زالت العلماء في كل عصر ومصر يحذرون من المعاصي عند نزول الكوارث؛ أخذا من ظواهر النصوص، وقبل ذلك نبيُنا - صلى الله عليه وسلم - حذر الناس من المحرمات، والزنا بالأخص، عند حصول الكسوف، فحين صلى بالناس صلاة الكسوف، التفت إليهم، وقال : «يا أمة محمد، إنه ليس أحد أغير من الله أن يزني عبدُه، أو أن تزني أمتُه».
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم : {ولا تتخذُوا آيات الله هُزُوا واذْكُرُوا نعْمة الله عليْكُمْ وما أنْزل عليْكُمْ من الكتاب والحكْمة يعظُكُمْ به واتقُوا الله واعْلمُوا أن الله بكُل شيْءٍ عليم}[البقرة: 231].
إخوة الإيمان :
إن الواجب على كل مسلم يرجو الله ويخافُ اليوم الآخر : أن يحذر زلة لسانه، أنْ يرخيه ضاحكا أو متهكما بالنصوص، أو الشعائر، أو الأحكام الشرعية؛ فرُب كلمةٍ يفغر الرجل بها فاه ضاحكا مقهقها، قد أسخط بها ربه، وانسلخ فيها من إسلامه، وقد بين المولى - سبحانه - أن الكفر يكون بكلمة؛ فقال - تعالى - عن المنافقين المستهزئين : {ولقدْ قالُوا كلمة الكُفْر وكفرُوا بعْد إسْلامهمْ} [التوبة: 74].
فواجب علينا - عباد الله - أن نعالج هذا التسافل المنشور، بالتحذير منه، وبيان شناعته، ومغبة إشاعته، وخطره على الإيمان والدين، مع الإعراض عن أهله ووعظهم، والنصح والقول لهم في أنفسهم قولا بليغا.
وأما أنت أيها المسلم الغيور على دينه، الكاره لجرأة المستهترين عليه، فلا تفْتُرْ ولا تتقهقر عن صلاحك وإصلاحك، ودعوتك واحتسابك، ولا تزيدك هذه المواقفُ والتساخف، إلا صلابة في الحق، وإصرارا على مقاومة الباطل.
نعم، نعلم أنه يضيق صدرُك بما يقولون ويسخرون؛ ولكن تيقن - أُخي - أن هذه المكدرات هي من الأذى الذي لا بد منه في سبيل الإصلاح والثبات.
وما يُصيبُ المؤمن من همٍ ولا حزن، ولا وصبٍ ولا نصبٍ ولا أذى، إلا كُفر به عنه، ولو سلم أحد من استهزاء الناس، لسلم منه خيرُ البشر - صلى الله عليه وسلم - : {وإذا رآك الذين كفرُوا إنْ يتخذُونك إلا هُزُوا} [الأنبياء:36].