سورة المنافقون (2)
[rtl]
الكـاتب : عبد العظيم بدوي الخلفي
وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله لووا رءوسهم ورأيتهم يصدون وهم مستكبرون (5) سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم إن الله لا يهدي القوم الفاسقين (6) هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا ولله خزائن السموات والأرض ولكن المنافقين لا يفقهون (7) يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون ( يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون (9) وأنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين (10) ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها والله خبير بما تعملون (11)
المنافقون: 5 11
الحمد لله رب العالمين، والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد:
نواصل في هذه الحلقة تفسير سورة المنافقون، ونقول وبالله التوفيق:
قال القاسمي - رحمه الله -: "قال ابن جرير: عَنَى بهذه الآيات كلّها فيما ذكر عبد الله ابن أُبَيِّ بن سلول؛ وذلك أنه قال لأصحابه: لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضُّوا. وقال: لئن رجعْنا إلى المدينة ليُخرجن الأعزُّ منها الأذل. فسمع بذلك زيدُ بن أرقم، فأخبر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فدعاه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فسأله عما أُخبر به عنه، فحلف أنه ما قال. وقيل له: لو أتيتَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فسألته أنْ يستغفرَ لك، فجعل يَلْوي رأسَه ويحرّكُه استهزاءً، ويعني بذلك أنه غيرُ فاعلٍ ما أشاروا به عليه، فأنزل الله - عز وجل - فيه هذه السورة من أولِها إلى آخرها.
ثم أورد ابنْ جرير الروايات في ذلك. وتقدّم الإمامُ البخاري فأسندها من طرق، ويجمعها كلها ما رواه ابن إسحاق في غزوة بني المصطلق: أنّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لقيهم على ماءٍ لهم يقال له المريسيع وأظفره الله بهم. قال: فَبَيْنا الناسُ على ذلك الماء، وردتْ واردةُ الناس، ومع عمر بن الخطاب أجيرُ له من بني غفار، يقال له (جهجاه) يقودُ فرسه، فازدحم جهجاهُ وسِنانٌ الجهنّي حليف بني عوفِ بن الخزرج على الماء فاقتتلا، فصرخ الجهنيّ: يا معشرَ الأنصار! وصرخ جهجاه: يا معشرَ المهاجرين! فغضب عبدُ الله بن أُبَيِّ بن سلول، وعنده رهط من قومه فيهم زيدُ بن أرقم، غلامٌ حدثٌ، فقال: أَوَ قَدْ فعلوها؟ قد نافرونا وكاثرونا في بلادنا! والله ما أُعِدُّنا وجلابيب قريش هذه إلا كما قال الأوّل: سمّن كلبك يأكلك! أما والله لئن رجعْنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزُّ منها الأذلَّ. ثم أقبل على من حضر مِن قومه فقال لهم: هذا ما فعلتم بأنفسكم! أحللتموهم بلدتكم، وقاسمتموهم أموالكم، أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحولوا إلى غير داركم. فسمع ذلك زيدُ بنُ أرقم، فمشى به إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وذلك عند فراغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عدوّه، فأخبره الخبر، وعنده عمر بن الخطاب، فقال: مُرْ به عبّادَ بن بِشْرٍ فليقتله. فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "فكيفَ يا عُمر إذا تحدّثَ الناسُ أنّ محمدًا يقتل أصحابه؟! لا، ولكن أذّن بالرحيل"، في ساعةٍ لم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرتحل فيها. فارتحل الناس. وقد مشى عبدُ الله بنُ أبي ابن سلول إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين بلغه أنَّ زيدَ بن أرقم قد بلَّغه ما سمع منه، فحلف بالله ما قلتُ ولا تكلمت به وكان في قومه شريفًا عظيمًا فقال مَنْ حَضَرَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مِنَ الأنصار؛ مِنْ أصحابه: يا رسول الله، عسى أنْ يكونَ الغلام قد أوهم في حديثه، ولم يحفظ ما قال الرجل. حَدَبًا على ابن سلول ودفعًا عنه.
قال ابن إسحاق: فلما استقلَّ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لقيه أُسَيْدُ بنُ حُضَير، فحيّاه بتحية النُّبوّة وسلّم عليه ثم قال: يا نبي الله، والله لقد رُحْتَ في ساعةٍ مُنكَرَةٍ، ما كنتَ تروحُ في مثلها. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَوَما بلغك ما قال صاحبُكم؟ " قال: وأيُّ صاحبٍ يا رسول الله؟ قال: "عبدُ الله بن أُبَي". قال: وما قال؟ قال: "زعم أنه إن رجع إلى المدينة أخرجَ الأعزُّ منها الأذلّ". قال: فأنتَ يا رسول الله والله تخرجه منها إن شئت. هو والله الذليل، وأنت العزيز. ثم قال: يا رسول الله، ارفقْ به؛ فوالله لقد جاءنا اللهُ بك وإنّ قومه لينْظُمون له الخرزَ ليتوّجُوه، فإنّه ليرى أنك قد استلبته مُلْكًا، ثم مشى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يومَهم ذلك حتى أمسى، وليلتهم حتى أصبح، وصدرَ يومهم ذلك حتى آذتْهم الشمسُ ثم نزلَ بالناس، فلم يلبثُوا أنْ وجَدُوا مسَّ الأرض، فوقعوا نياما، وإنما فعل ذلك رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ليشْغَلَ الناسَ عن الحديث الذي كان بالأمس، من حديث عبد الله بن أبي، ثم راح رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بالناس، وقدم المدينة، ونزلتِ السورةُ التي ذكر الله فيها المنافقين؛ في ابن أُبيّ ومَن كان على مثل أمره، فلما نزلت أخذ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بأُذُنِ زيدٍ بن أرقم، ثم قال: "هذا الذي أَوَفَى لله بأذنه".
اه من محاسن التأويل للقاسمي.
وقول ابن أُبي لعنه الله لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضُوا. هذا ما يعرف بلغة اليوم بسياسة التجويع، أو الحصار الاقتصادي، وهو سلاح استخدمته من قبلُ قريش مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين معه في مكة، فحاصروهم في الشِعْب، وأمروا بعدم بيعهم والشراء منهم، ليموتوا جوعًا أو يرجعوا عن دينهم.
ومساكينُ هؤلاء الذين يحاولون أن يقطعوا رزق الناس، أَهُمْ يملكون رزق أنفسهم فضلا عن غيرهم، حتى يقطعوه؟!
إن من رحمة الله بعباده أن جعل أهم الضروريات بيده؛ وهو الرزق والأجل، فلا أَحَد يستطيعُ أن يقطع رزق أحد، ولا أحد يستطيع أن يقدم أجل أحد، ولو كان الرزق والأجل بيد غير الله لمات الناس جوعا قبل أن يستوفوا أرزاقهم وآجالهم، ولذا قال - تعالى -: أم لهم نصيب من الملك فإذا لا يؤتون الناس نقيرا النساء: 53، وقال - تعالى -: قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذا لأمسكتم خشية الإنفاق وكان الإنسان قتورا الإسراء: 100، فلله الحمد أن كان لله خزائن السموات والأرض فهو الذي يرزق الجميع، وهو الذي يستطيع أن يقطع رزق من شاء أمن هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه بل لجوا في عتو ونفور الملك: 21، ولكن المنافقين لا يفقهون فظنّوا أنهم يستطيعون أن يقطعوا الرزق عمن شاءوا، وغفلوا عن قول الله - تعالى -: وما من دآبة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين هود: 6.
ولما قال عدوّ الله ابن أُبي: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزُّ منها الأذلَّ، أذلَّه الله على يد أقربِ الناس إليه؛ ولده عبد الله، فقام في وجهه عند دخوله المدينة وقال: والله لا تدخُلها حتى يأذن لك رسول الله، فهو والله العزيز، وأنت الذليل. قال ابن كثير - رحمه الله -: قال محمد بن إسحاق: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة أن عبد الله بن عبد الله بن أُبي لما بلغه ما كان من أمر أبيه، أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، إنّه بلغني أنّك تريدُ قتل عبد الله بن أُبيّ فيما بلغك عنه، فإن كنت فاعلا فمرني به، فأنا أحمل إليك رأسَه، فوالله لقد علمتِ الخزرجُ ما كان لها من رجلٍ أبرَّ بوالده منّي، إنّي أخشى أن تأمر به غيري فيقتله، فلا تدعني نفسي أنظرُ إلى قاتل عبد الله بن أُبي يمشي في الناس، فأقتل مؤمنًا بكافر فأدخل النار. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "بل نترفق به ونُحسن صحبته ما بقي معنا".
وذكر عكرمة وابن زيد وغيرهما أن الناس لما قفلوا راجعين إلى المدينة، وقف عبدُ الله بنُ عبد الله هذا على باب المدينة، واستلَّ سيفه، فجعل الناس يمرّون عليه، فلما جاء أبوه عبد الله بن أُبَيَّ قال له ابنُه: وراءك. فقال: مالك ويلك؟! فقال: والله لا تجوز من ههنا حتى يأذن لك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإنّه العزيزُ وأنت الذليل، فلما جاء رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان إنما يسير ساقةً، فشكا إليه عبد الله بنُ أُبيٍّ ابنَه، فقال ابنُه عبدُ الله: والله يا رسول الله لا يدخلها حتى تأذن له. فأذن له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: أمَا إذا أذن لك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجُز الآن. اه.
وهكذا يفعل الإيمانُ بأهله: لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم المجادلة: 22، إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا المائدة: 55، قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده الممتحنة: 4.
ومما يجب أن يُعْلَم أن العزة للمؤمنين طالما كانوا مؤمنين قائمين بمقتضى الإيمان، مِنْ صلاةٍ وصيامٍ وزكاةٍ وحجٍ وجهادٍ وأمر بالمعروف ونهيٍ عن المنكر، ونحو ذلك، فإن هم لم يقوموا بذلك، وتركوه كلَّه أو بعضه، ضُرِبت عليهم الذلّة، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إذا تبايعتم بالعِينةِ، واتبعتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلّط الله عليكم ذُلا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم".
ولذا قيل لأحد العلماء: أليس الله يقول: ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين، فأين عزةُ المؤمنين؟ فقال العالم: لا تقل أين العزة؟ ولكن قل أين المؤمنون؟!!
ثم تختم السورة بأمر المؤمنين بذكر الله، ونهيهم عن التشاغل بالأموال والأولاد عن ذكر الله، فيقول - تعالى -: يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين، ثم حثهم على الإنفاق في سبيله فقال: وأنفقوا من ما رزقناكم فالرزق رزق الله، والمال ماله، وهو يأمركم بإنفاق بعض ما آتاكم، ولا يأمركم أن تنفقوا كل ما آتاكم؛ فلا تبخلوا، ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه محمد: 38 وسيندم عند الاحتضار، ويتمنّى أن يردّ إلى الدنيا لينفق مما آتاه اللهُ، ولن يُجَابَ إلى ما تمنّى، وأنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين (10) ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها والله خبير بما تعملون. كما قال - تعالى -: حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون (99) لعلي أعمل صالحا فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون المؤمنون: 99، 100.
فاتقوا الله عباد الله، ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون (18) ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون (19) لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون الحشر: 18 20.
جعلنا الله وسائر إخواننا المسلمين من الفائزين.آمين.[/rtl]
[rtl]
الكـاتب : عبد العظيم بدوي الخلفي
وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله لووا رءوسهم ورأيتهم يصدون وهم مستكبرون (5) سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم إن الله لا يهدي القوم الفاسقين (6) هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا ولله خزائن السموات والأرض ولكن المنافقين لا يفقهون (7) يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون ( يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون (9) وأنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين (10) ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها والله خبير بما تعملون (11)
المنافقون: 5 11
الحمد لله رب العالمين، والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد:
نواصل في هذه الحلقة تفسير سورة المنافقون، ونقول وبالله التوفيق:
قال القاسمي - رحمه الله -: "قال ابن جرير: عَنَى بهذه الآيات كلّها فيما ذكر عبد الله ابن أُبَيِّ بن سلول؛ وذلك أنه قال لأصحابه: لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضُّوا. وقال: لئن رجعْنا إلى المدينة ليُخرجن الأعزُّ منها الأذل. فسمع بذلك زيدُ بن أرقم، فأخبر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فدعاه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فسأله عما أُخبر به عنه، فحلف أنه ما قال. وقيل له: لو أتيتَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فسألته أنْ يستغفرَ لك، فجعل يَلْوي رأسَه ويحرّكُه استهزاءً، ويعني بذلك أنه غيرُ فاعلٍ ما أشاروا به عليه، فأنزل الله - عز وجل - فيه هذه السورة من أولِها إلى آخرها.
ثم أورد ابنْ جرير الروايات في ذلك. وتقدّم الإمامُ البخاري فأسندها من طرق، ويجمعها كلها ما رواه ابن إسحاق في غزوة بني المصطلق: أنّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لقيهم على ماءٍ لهم يقال له المريسيع وأظفره الله بهم. قال: فَبَيْنا الناسُ على ذلك الماء، وردتْ واردةُ الناس، ومع عمر بن الخطاب أجيرُ له من بني غفار، يقال له (جهجاه) يقودُ فرسه، فازدحم جهجاهُ وسِنانٌ الجهنّي حليف بني عوفِ بن الخزرج على الماء فاقتتلا، فصرخ الجهنيّ: يا معشرَ الأنصار! وصرخ جهجاه: يا معشرَ المهاجرين! فغضب عبدُ الله بن أُبَيِّ بن سلول، وعنده رهط من قومه فيهم زيدُ بن أرقم، غلامٌ حدثٌ، فقال: أَوَ قَدْ فعلوها؟ قد نافرونا وكاثرونا في بلادنا! والله ما أُعِدُّنا وجلابيب قريش هذه إلا كما قال الأوّل: سمّن كلبك يأكلك! أما والله لئن رجعْنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزُّ منها الأذلَّ. ثم أقبل على من حضر مِن قومه فقال لهم: هذا ما فعلتم بأنفسكم! أحللتموهم بلدتكم، وقاسمتموهم أموالكم، أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحولوا إلى غير داركم. فسمع ذلك زيدُ بنُ أرقم، فمشى به إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وذلك عند فراغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عدوّه، فأخبره الخبر، وعنده عمر بن الخطاب، فقال: مُرْ به عبّادَ بن بِشْرٍ فليقتله. فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "فكيفَ يا عُمر إذا تحدّثَ الناسُ أنّ محمدًا يقتل أصحابه؟! لا، ولكن أذّن بالرحيل"، في ساعةٍ لم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرتحل فيها. فارتحل الناس. وقد مشى عبدُ الله بنُ أبي ابن سلول إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين بلغه أنَّ زيدَ بن أرقم قد بلَّغه ما سمع منه، فحلف بالله ما قلتُ ولا تكلمت به وكان في قومه شريفًا عظيمًا فقال مَنْ حَضَرَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مِنَ الأنصار؛ مِنْ أصحابه: يا رسول الله، عسى أنْ يكونَ الغلام قد أوهم في حديثه، ولم يحفظ ما قال الرجل. حَدَبًا على ابن سلول ودفعًا عنه.
قال ابن إسحاق: فلما استقلَّ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لقيه أُسَيْدُ بنُ حُضَير، فحيّاه بتحية النُّبوّة وسلّم عليه ثم قال: يا نبي الله، والله لقد رُحْتَ في ساعةٍ مُنكَرَةٍ، ما كنتَ تروحُ في مثلها. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَوَما بلغك ما قال صاحبُكم؟ " قال: وأيُّ صاحبٍ يا رسول الله؟ قال: "عبدُ الله بن أُبَي". قال: وما قال؟ قال: "زعم أنه إن رجع إلى المدينة أخرجَ الأعزُّ منها الأذلّ". قال: فأنتَ يا رسول الله والله تخرجه منها إن شئت. هو والله الذليل، وأنت العزيز. ثم قال: يا رسول الله، ارفقْ به؛ فوالله لقد جاءنا اللهُ بك وإنّ قومه لينْظُمون له الخرزَ ليتوّجُوه، فإنّه ليرى أنك قد استلبته مُلْكًا، ثم مشى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يومَهم ذلك حتى أمسى، وليلتهم حتى أصبح، وصدرَ يومهم ذلك حتى آذتْهم الشمسُ ثم نزلَ بالناس، فلم يلبثُوا أنْ وجَدُوا مسَّ الأرض، فوقعوا نياما، وإنما فعل ذلك رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ليشْغَلَ الناسَ عن الحديث الذي كان بالأمس، من حديث عبد الله بن أبي، ثم راح رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بالناس، وقدم المدينة، ونزلتِ السورةُ التي ذكر الله فيها المنافقين؛ في ابن أُبيّ ومَن كان على مثل أمره، فلما نزلت أخذ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بأُذُنِ زيدٍ بن أرقم، ثم قال: "هذا الذي أَوَفَى لله بأذنه".
اه من محاسن التأويل للقاسمي.
وقول ابن أُبي لعنه الله لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضُوا. هذا ما يعرف بلغة اليوم بسياسة التجويع، أو الحصار الاقتصادي، وهو سلاح استخدمته من قبلُ قريش مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين معه في مكة، فحاصروهم في الشِعْب، وأمروا بعدم بيعهم والشراء منهم، ليموتوا جوعًا أو يرجعوا عن دينهم.
ومساكينُ هؤلاء الذين يحاولون أن يقطعوا رزق الناس، أَهُمْ يملكون رزق أنفسهم فضلا عن غيرهم، حتى يقطعوه؟!
إن من رحمة الله بعباده أن جعل أهم الضروريات بيده؛ وهو الرزق والأجل، فلا أَحَد يستطيعُ أن يقطع رزق أحد، ولا أحد يستطيع أن يقدم أجل أحد، ولو كان الرزق والأجل بيد غير الله لمات الناس جوعا قبل أن يستوفوا أرزاقهم وآجالهم، ولذا قال - تعالى -: أم لهم نصيب من الملك فإذا لا يؤتون الناس نقيرا النساء: 53، وقال - تعالى -: قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذا لأمسكتم خشية الإنفاق وكان الإنسان قتورا الإسراء: 100، فلله الحمد أن كان لله خزائن السموات والأرض فهو الذي يرزق الجميع، وهو الذي يستطيع أن يقطع رزق من شاء أمن هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه بل لجوا في عتو ونفور الملك: 21، ولكن المنافقين لا يفقهون فظنّوا أنهم يستطيعون أن يقطعوا الرزق عمن شاءوا، وغفلوا عن قول الله - تعالى -: وما من دآبة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين هود: 6.
ولما قال عدوّ الله ابن أُبي: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزُّ منها الأذلَّ، أذلَّه الله على يد أقربِ الناس إليه؛ ولده عبد الله، فقام في وجهه عند دخوله المدينة وقال: والله لا تدخُلها حتى يأذن لك رسول الله، فهو والله العزيز، وأنت الذليل. قال ابن كثير - رحمه الله -: قال محمد بن إسحاق: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة أن عبد الله بن عبد الله بن أُبي لما بلغه ما كان من أمر أبيه، أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، إنّه بلغني أنّك تريدُ قتل عبد الله بن أُبيّ فيما بلغك عنه، فإن كنت فاعلا فمرني به، فأنا أحمل إليك رأسَه، فوالله لقد علمتِ الخزرجُ ما كان لها من رجلٍ أبرَّ بوالده منّي، إنّي أخشى أن تأمر به غيري فيقتله، فلا تدعني نفسي أنظرُ إلى قاتل عبد الله بن أُبي يمشي في الناس، فأقتل مؤمنًا بكافر فأدخل النار. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "بل نترفق به ونُحسن صحبته ما بقي معنا".
وذكر عكرمة وابن زيد وغيرهما أن الناس لما قفلوا راجعين إلى المدينة، وقف عبدُ الله بنُ عبد الله هذا على باب المدينة، واستلَّ سيفه، فجعل الناس يمرّون عليه، فلما جاء أبوه عبد الله بن أُبَيَّ قال له ابنُه: وراءك. فقال: مالك ويلك؟! فقال: والله لا تجوز من ههنا حتى يأذن لك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإنّه العزيزُ وأنت الذليل، فلما جاء رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان إنما يسير ساقةً، فشكا إليه عبد الله بنُ أُبيٍّ ابنَه، فقال ابنُه عبدُ الله: والله يا رسول الله لا يدخلها حتى تأذن له. فأذن له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: أمَا إذا أذن لك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجُز الآن. اه.
وهكذا يفعل الإيمانُ بأهله: لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم المجادلة: 22، إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا المائدة: 55، قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده الممتحنة: 4.
ومما يجب أن يُعْلَم أن العزة للمؤمنين طالما كانوا مؤمنين قائمين بمقتضى الإيمان، مِنْ صلاةٍ وصيامٍ وزكاةٍ وحجٍ وجهادٍ وأمر بالمعروف ونهيٍ عن المنكر، ونحو ذلك، فإن هم لم يقوموا بذلك، وتركوه كلَّه أو بعضه، ضُرِبت عليهم الذلّة، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إذا تبايعتم بالعِينةِ، واتبعتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلّط الله عليكم ذُلا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم".
ولذا قيل لأحد العلماء: أليس الله يقول: ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين، فأين عزةُ المؤمنين؟ فقال العالم: لا تقل أين العزة؟ ولكن قل أين المؤمنون؟!!
ثم تختم السورة بأمر المؤمنين بذكر الله، ونهيهم عن التشاغل بالأموال والأولاد عن ذكر الله، فيقول - تعالى -: يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين، ثم حثهم على الإنفاق في سبيله فقال: وأنفقوا من ما رزقناكم فالرزق رزق الله، والمال ماله، وهو يأمركم بإنفاق بعض ما آتاكم، ولا يأمركم أن تنفقوا كل ما آتاكم؛ فلا تبخلوا، ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه محمد: 38 وسيندم عند الاحتضار، ويتمنّى أن يردّ إلى الدنيا لينفق مما آتاه اللهُ، ولن يُجَابَ إلى ما تمنّى، وأنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين (10) ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها والله خبير بما تعملون. كما قال - تعالى -: حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون (99) لعلي أعمل صالحا فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون المؤمنون: 99، 100.
فاتقوا الله عباد الله، ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون (18) ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون (19) لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون الحشر: 18 20.
جعلنا الله وسائر إخواننا المسلمين من الفائزين.آمين.[/rtl]