السؤال:
الله تعالى يعرف تغير الأنفس قبل
أن تتغير فلماذا ونحن أجنة في بطون أمهاتنا ونولد ونحن فقراء ثم يغنينا
الله ؟ لماذا هذا الانتظار من الله تعالى ؟ لماذا لا نولد ونحن أغنياء ؟
كذلك الغني يولد وهو غني ثم يتغير حاله ويصبح فقيرا ، لماذا لا يغير أنفسنا
مباشرة منذ كنا أجنة ؟ أتمنى أن ألقى الإجابة الوافية التي تذهب هذا
الإشكال عني .
الجواب:
الحمد لله
سؤالك عن الحكمة من تغيير حال الإنسان من غنى إلى فقر ، أو من فقر إلى غنى ، وقد
كان الله قادرا على أن يجعله على صفة واحدة منذ كان جنينا ، جوابه من وجهين :
الأول : أن الله سبحانه هو الخالق العليم الحكيم الخبير ، فلا يُسأل عما يفعل . لا
يقال : لماذا فعل الله كذا ، ولماذا لم يفعل كذا ؟ لأنه سؤال من عبد ضعيف قاصر عاجز
، لرب عظيم قادر حكيم فعال لما يريد ، ولهذا قال الله سبحانه : ( لَا يُسْأَلُ
عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ) الأنبياء/23 ، وقال تعالى : ( وَرَبُّكَ
يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ
وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ) القصص/68 ، وقال تعالى : ( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ
وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ
الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ
ضَلَالًا مُبِينًا ) الأحزاب/46 ، فهذا هو الأدب مع الله ، أن يؤمن العبد بحكمته ،
وأن يسلّم لأمره ، وألا يعترض على خلقه واختياره وتدبيره .
الثاني : أننا مع قصور علمنا ، ندرك وجود حِكَمٍ عظيمةٍ بالغة من هذا التغير الذي
يعتري الإنسان ، وينقله من حال إلى حال ، كحال الغنى إلى الفقر ، أو الصحة إلى
المرض ، أو عكس ذلك ، ومن هذه الحِكم :
1- ابتلاء العبد واختباره حين يتغير حاله ، هل يصبر عند البأساء ، ويشكر عند السراء
، وهذا الامتحان لا ينجح فيه إلا أهل الإيمان ، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم
: ( عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ ، وَلَيْسَ ذَاكَ
لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا
لَهُ ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ ) رواه مسلم
(2999) . وأما ضعاف الإيمان فإنهم يطغون عند حصول النعمة ، فينسون الشكر ، ويجزعون
عند النقمة ، فيفوتهم الصبر .
2- أن يظل العبد معلقا قلبه بالله تعالى ، مدركا أن ما هو فيه من النعمة والغنى
إنما هو رزق من عند الله ، وأن الله قد يغير حاله ، ويبدل أمره ، فيظل مستمسكا بأمر
الله ، حذِرا من الوقوع في معصية الله .
3- أن لا ييأس صاحب البلاء والفقر والمرض ، بل يعلم أن ربه عظيم قدير ، يغير
الإنسان من حال إلى حال ، فكم من مريض أضحى صحيحاً ، وكم من فقير أمسى غنيا ، ولو
كان الإنسان يثبت على حال واحد ، لما كان لهذا المبتلى من رجاء ولا رجاء .
4- أن هذا التغيير جزء من الابتلاء الذي أقيمت عليه الحياة الدنيا ، يُبتلى فيها
الإنسان بالخير والشر ، والسراء والضراء ، والنعمة والبأساء ، حتى ينتقل إلى دار
الجزاء ، فهناك سعادة أبدية ، أو شقاوة سرمدية ، كما قال سبحانه : (وَنَبْلُوكُمْ
بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) الأنبياء/35 ، وقال
تعالى : (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ
فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا) الإنسان/2 ، وقال تعالى : (يَوْمَ يَأْتِ لَا
تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) هود/105 .
5- أن هذا التغيير فيه تذكير لأهل الغفلة ، وتنبيه لأهل المعصية ، حتى يرجعوا إلى
ربهم ، ويتوبوا إلى بارئهم ، ويعلموا أن لهم ربا عظيما يأخذ بالذنب ويعاقب عليه ،
كما قال الله سبحانه : ( وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ
لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) الأعراف/168 ، وقال تعالى : ( وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ
فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ )
الأعراف/130 ، وقال تعالى : ( فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا
وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا
يَعْمَلُونَ ) الأنعام/43 ، وقال تعالى : ( أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ
فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ
يَذَّكَّرُونَ ) التوبة/126 ، فبين أن هذه الفتنة إنما هي لدعوتهم للتوبة والذكرى .
إلى غير ذلك من الحكم التي يعلمها الخالق العليم الحكيم الخبير .
ومن كلام ابن القيم رحمه الله : " : أنه سبحان يجب أن يشكر ، ويحب أن يشكر ، عقلا
وشرعا وفطرة . فوجوب شكره أظهر من وجوب كل واجب .
وكيف لا يجب على العباد حمده وتوحيده ومحبته وذكر آلائه وإحسانه وتعظيمه وتكبيره
والخضوع له والتحدث بنعمته والإقرار بها بجميع طرق الوجوب ؟
فالشكر أحب شيء إليه وأعظم ثوابا ، وإنه خلق الخلق وأنزل الكتب وشرع الشرائع وذلك
يستلزم خلق الأسباب التي يكون الشكر بها أكمل .
ومن جملتها : أن فاوت بين عباده في صفاتهم الظاهرة والباطنة ، في خلقهم وأخلاقهم
وأديانهم وأرزاقهم ومعايشهم وآجالهم فإذا رأى المعافى المبتلى ، والغنيُّ الفقيرَ ،
والمؤمنُ الكافرَ ، عظم شكره لله ، وعرف قدر نعمته عليه ، وما خصه به وفضّله على
غيره ، فازداد شكرا وخضوعا واعترافا بالنعمة ...
ولولا خلق القبيح لما عرفت فضيلة الجمال والحسن ، ولولا خلق الظلام لما عرفت فضيلة
النور ، ولولا خلق أنواع البلاء لما عرف قدر العافية ، ولولا الجحيم لما عرف قدر
الجنة .
ولو جعل الله سبحانه النهار سرمدا لما عُرف قدره ، ولو جعل الليل سرمدا لما عرف
قدره ، وأعرف الناس بقدر النعمة من ذاق البلاء ، وأعرفهم بقدر الغنى من قاسى مرائر
الفقر والحاجة .
ولو كان الناس كلهم على صورة واحدة من الجمال لما عرف قدر الجمال . وكذلك لو كانوا
كلهم مؤمنين لما عرف قدر الإيمان والنعمة به ، فتبارك من له في خلقه وأمره الحكم
البوالغ ، والنعم السوابغ " انتهى من "شفاء العليل" ص 443.
والله أعلم .
الإسلام سؤال وجواب
الله تعالى يعرف تغير الأنفس قبل
أن تتغير فلماذا ونحن أجنة في بطون أمهاتنا ونولد ونحن فقراء ثم يغنينا
الله ؟ لماذا هذا الانتظار من الله تعالى ؟ لماذا لا نولد ونحن أغنياء ؟
كذلك الغني يولد وهو غني ثم يتغير حاله ويصبح فقيرا ، لماذا لا يغير أنفسنا
مباشرة منذ كنا أجنة ؟ أتمنى أن ألقى الإجابة الوافية التي تذهب هذا
الإشكال عني .
الجواب:
الحمد لله
سؤالك عن الحكمة من تغيير حال الإنسان من غنى إلى فقر ، أو من فقر إلى غنى ، وقد
كان الله قادرا على أن يجعله على صفة واحدة منذ كان جنينا ، جوابه من وجهين :
الأول : أن الله سبحانه هو الخالق العليم الحكيم الخبير ، فلا يُسأل عما يفعل . لا
يقال : لماذا فعل الله كذا ، ولماذا لم يفعل كذا ؟ لأنه سؤال من عبد ضعيف قاصر عاجز
، لرب عظيم قادر حكيم فعال لما يريد ، ولهذا قال الله سبحانه : ( لَا يُسْأَلُ
عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ) الأنبياء/23 ، وقال تعالى : ( وَرَبُّكَ
يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ
وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ) القصص/68 ، وقال تعالى : ( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ
وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ
الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ
ضَلَالًا مُبِينًا ) الأحزاب/46 ، فهذا هو الأدب مع الله ، أن يؤمن العبد بحكمته ،
وأن يسلّم لأمره ، وألا يعترض على خلقه واختياره وتدبيره .
الثاني : أننا مع قصور علمنا ، ندرك وجود حِكَمٍ عظيمةٍ بالغة من هذا التغير الذي
يعتري الإنسان ، وينقله من حال إلى حال ، كحال الغنى إلى الفقر ، أو الصحة إلى
المرض ، أو عكس ذلك ، ومن هذه الحِكم :
1- ابتلاء العبد واختباره حين يتغير حاله ، هل يصبر عند البأساء ، ويشكر عند السراء
، وهذا الامتحان لا ينجح فيه إلا أهل الإيمان ، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم
: ( عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ ، وَلَيْسَ ذَاكَ
لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا
لَهُ ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ ) رواه مسلم
(2999) . وأما ضعاف الإيمان فإنهم يطغون عند حصول النعمة ، فينسون الشكر ، ويجزعون
عند النقمة ، فيفوتهم الصبر .
2- أن يظل العبد معلقا قلبه بالله تعالى ، مدركا أن ما هو فيه من النعمة والغنى
إنما هو رزق من عند الله ، وأن الله قد يغير حاله ، ويبدل أمره ، فيظل مستمسكا بأمر
الله ، حذِرا من الوقوع في معصية الله .
3- أن لا ييأس صاحب البلاء والفقر والمرض ، بل يعلم أن ربه عظيم قدير ، يغير
الإنسان من حال إلى حال ، فكم من مريض أضحى صحيحاً ، وكم من فقير أمسى غنيا ، ولو
كان الإنسان يثبت على حال واحد ، لما كان لهذا المبتلى من رجاء ولا رجاء .
4- أن هذا التغيير جزء من الابتلاء الذي أقيمت عليه الحياة الدنيا ، يُبتلى فيها
الإنسان بالخير والشر ، والسراء والضراء ، والنعمة والبأساء ، حتى ينتقل إلى دار
الجزاء ، فهناك سعادة أبدية ، أو شقاوة سرمدية ، كما قال سبحانه : (وَنَبْلُوكُمْ
بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) الأنبياء/35 ، وقال
تعالى : (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ
فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا) الإنسان/2 ، وقال تعالى : (يَوْمَ يَأْتِ لَا
تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) هود/105 .
5- أن هذا التغيير فيه تذكير لأهل الغفلة ، وتنبيه لأهل المعصية ، حتى يرجعوا إلى
ربهم ، ويتوبوا إلى بارئهم ، ويعلموا أن لهم ربا عظيما يأخذ بالذنب ويعاقب عليه ،
كما قال الله سبحانه : ( وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ
لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) الأعراف/168 ، وقال تعالى : ( وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ
فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ )
الأعراف/130 ، وقال تعالى : ( فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا
وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا
يَعْمَلُونَ ) الأنعام/43 ، وقال تعالى : ( أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ
فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ
يَذَّكَّرُونَ ) التوبة/126 ، فبين أن هذه الفتنة إنما هي لدعوتهم للتوبة والذكرى .
إلى غير ذلك من الحكم التي يعلمها الخالق العليم الحكيم الخبير .
ومن كلام ابن القيم رحمه الله : " : أنه سبحان يجب أن يشكر ، ويحب أن يشكر ، عقلا
وشرعا وفطرة . فوجوب شكره أظهر من وجوب كل واجب .
وكيف لا يجب على العباد حمده وتوحيده ومحبته وذكر آلائه وإحسانه وتعظيمه وتكبيره
والخضوع له والتحدث بنعمته والإقرار بها بجميع طرق الوجوب ؟
فالشكر أحب شيء إليه وأعظم ثوابا ، وإنه خلق الخلق وأنزل الكتب وشرع الشرائع وذلك
يستلزم خلق الأسباب التي يكون الشكر بها أكمل .
ومن جملتها : أن فاوت بين عباده في صفاتهم الظاهرة والباطنة ، في خلقهم وأخلاقهم
وأديانهم وأرزاقهم ومعايشهم وآجالهم فإذا رأى المعافى المبتلى ، والغنيُّ الفقيرَ ،
والمؤمنُ الكافرَ ، عظم شكره لله ، وعرف قدر نعمته عليه ، وما خصه به وفضّله على
غيره ، فازداد شكرا وخضوعا واعترافا بالنعمة ...
ولولا خلق القبيح لما عرفت فضيلة الجمال والحسن ، ولولا خلق الظلام لما عرفت فضيلة
النور ، ولولا خلق أنواع البلاء لما عرف قدر العافية ، ولولا الجحيم لما عرف قدر
الجنة .
ولو جعل الله سبحانه النهار سرمدا لما عُرف قدره ، ولو جعل الليل سرمدا لما عرف
قدره ، وأعرف الناس بقدر النعمة من ذاق البلاء ، وأعرفهم بقدر الغنى من قاسى مرائر
الفقر والحاجة .
ولو كان الناس كلهم على صورة واحدة من الجمال لما عرف قدر الجمال . وكذلك لو كانوا
كلهم مؤمنين لما عرف قدر الإيمان والنعمة به ، فتبارك من له في خلقه وأمره الحكم
البوالغ ، والنعم السوابغ " انتهى من "شفاء العليل" ص 443.
والله أعلم .
الإسلام سؤال وجواب