الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد .
فقد اختلف العلماء رحمهم الله في حكم تغطيتهما وكثير من الناس يجهل ويخلط في هذه المسألة ، ولذا لابد من تحرير محل النزاع بين العلماء فيها .
أولاً :
محل الخلاف إنما هو الوجه واليدين ، أما ما عداهما فيجب فيها التغطية
بالاتفاق ؛ كالقدم ، والساعد ، وشعر الرأس ، كل هذا عورة بالاتفاق .
ثانياً : اتفق العلماء على وجوب تغطية الوجه واليدين إذا كان فيهما زينة كالكحل في العين ، والذهب والحناء في اليدين .
ثالثاً :
اتفق العلماء على وجوب تغطية الوجه واليدين إذا كان في كشفهما فتنة . وقد
نص كثير من العلماء القائلين بأن وجه المرأة ليس بعورة على وجوب تغطية
الشابة لوجهها دفعاً للفتنة .
وعليه فإن كشف أكثر النساء اليوم لوجوههن
أمر محرم باتفاق العلماء ؛ لكونها كاشفة عن مقدمة الرأس والشعر ، أو لأنها
قد وضعت زينة في وجهها أويديها ؛ كالكحل أو الحمرة في الوجه ، أو الخاتم في
اليد .
فمحل الخلاف إذاً بين العلماء
هو الوجه واليدين فقط ، إذا لم يكن فيهما زينة ، ولم يكن في كشفهما فتنة ،
واختلفوا على قولين : الوجوب والاستحباب . فالقائلون بأن وجه المرأة عورة
قالوا بوجوب التغطية ، والقائلون بأن وجه المرأة ليس بعورة قالوا يستحب
تغطيته .
ولم يقل أحد من أهل العلم إن المرأة يجب عليها كشف وجهها ، أو أنه الأفضل . إلا دعاة الفتنة ومرضى القلوب .
أما العلماء فإنهم لما بحثوا
المسألة بحثوا عورة المرأة ؛ هل الوجه عورة ؟ أو ليس بعورة . بمعنى هل تأثم
المرأة إذا كشفت وجهها أو لا تأثم ؟ أما استحباب تغطية الوجه للمرأة فهو
محل اتفاق بين القائلين بأن وجه المرأة ليس بعورة .
ومن العلماء المعاصرين
القائلين بأن وجه المرأة ليس بعورة الألباني رحمه الله ، لكنه يقول
بالاستحباب ويدعو النساء إلى تغطية الوجه تطبيقاً للسنة حتى قال في كتابه
جلباب المرأة المسلمة : " ولقد علمت أن كتابنا هذا كان له الأثر الطيب ـ
والحمد لله ـ عند الفتيات المؤمنات ، والزوجات الصالحات ، فقد استجاب لما
تضمنه من الشروط الواجب توافرها في جلباب المرأة المسلمة الكثيرات منهن ،
وفيهن من بادرت إلى ستر وجهها أيضاً ، حين علمت أن ذلك من محاسن الأمور ،
ومكارم الأخلاق ، مقتديات فيه بالنساء الفضليات من السلف الصالح ، وفيهن
أمهات المؤمنين رضي الله عنهن " انتهى كلامه رحمه الله . ( جلباب المرأة
المسلمة ص26 )
وأردت بهذا أن يتميز كلام العلماء القائلين بأن وجه المرأة ليس بعورة ، وبين دعاة الرذيلة .
فإن العلماء لم يدعُ واحد
منهم إلى أن تكشف المرأة وجهها ، بل أقل ما قيل بينهم إن التغطية هو
الأفضل. بخلاف دعاة السوء الذين يطالبون بكشف المرأة لوجهها . وما الذي
يَضُرهم ، و ما الذي يُغيظهم من تغطية المرأة لوجهها ؟! إنه سؤال يحتاج منا
إلى جواب . نسأل الله الكريم أن يحفظ نساء المسلمين من كيدهم .
وأعود
مرةً أخرى إلى محل النزاع في حكم تغطية المرأة لوجهها ويديها هل هو واجب أو
مستحب ؟ الراجح من قولي العلماء وجوب تغطية المرأة لوجهها ويديها أمام
الرجال الأجانب .
والأدلة على ذلك كثيرة منها :
الدليل الأول :
قوله تعالى : " وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين
زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن " ( النور 30) .
فالله
جل وعلا يقول ( ولا يبدين زينتهن ) وقد استقر في فطر الناس أن أعظمَ زينة
في المرأة هو وجهها ، ولذلك فإن أهم ما يراه الخاطب هو الوجه ، وكذلك
الشعراء حاضراً وقديماً في غرض الغزل ، فالوجه أعظم مقياس عندهم للفتنة
والجمال .
وقد اتفق العلماء على وجب ستر المرأة لقدمها وشعرها أمام
الرجال الأجانب ؛ فأيهما أعظم زينة الوجه واليدين أم القدم ؟! ، و لاشك بأن
الوجه واليدين أعظم في الزينة وأولى بالستر .
بل قد جعل الله ضرب
المرأة بقدمها الأرض أثناء مشيها لسماع الرجال صوت الخلخال من الزينة
المحرم ابداؤها كما في الآية التي تليها ( ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما
يخفين من زينتهن ) (النور 31) وكشف المرأة لوجهها ويديها أمام الرجال
الأجانب أعظم زينة من سماعهم لصوت خلخالها ، فوجوب ستر الوجه واليدين ألزم
وأوجب .
الدليل الثاني :
حديث ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( المرأة
عورة فإذا خرجت استشرفها الشيطان) . أخرجه الترمذي بإسناد صحيح ( الإرواء
1/303) (وأصل الاستشراف: وضع الكف فوق الحاجب ورفع الرأس للنظر. والمعنى أن
المرأة إذا خرجت من بيتها طمع بها الشيطان ليغويها أو يغوي بها).
وهذا الحديث نص في أن المرأة كلها عورة ولم يستثن النبي صلى الله عليه وسلم منها شيء .
الدليل الثالث :
حديث عائشة رضي الله عنها في قصة الإفك وهم راجعون من غزوة بني المصطلق
وقد نزلوا في الطريق فذهبت عائشة لقضاء حاجتها ثم عادت إليهم وقد آذنوا
بالرحيل فلم تجد عقدها فرجعت تتلمسه في المكان الذي ذهبت إليه فلما عادت لم
تجد أحداً فجلست . وقد حملوا هودجها على البعير ظناً منهم أنها فيه ولم
يستنكروا خفة الهودج ؛ لأنها كانت خفيفة حديثة السن.
وكان من فطنتها أن جلست في مكانها الذي كانت فيه ، فإنهم إن فقدوها رجعوا إليها .
قالت
رضي الله عنها : فبينما أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني فنمت ، وكان صفوان
بن المعطل السلمي ثم الذكواني من وراء الجيش ، فأصبح عند منزلي فرأى سواد
إنسان نائم فعرفني حين رآني وكان رآني قبل الحجاب فاستيقظت باسترجاعه حين
عرفني ، فخمرت " وفي رواية : فسترت " وجهي عنه بجلبابي ...) متفق عليه .
فصفوان
بن المعطل رأى سواد إنسان فأقبل إليه . وهذا السواد هو عائشة ـ رضي الله
عنها ـ وكانت نائمة ، كاشفة عن وجهها ، فعرفها صفوان ، فاستيقظتْ باسترجاعه
؛ أي بقوله : ( إنا لله وإنا إليه راجعون) فعائشة رضي الله عنها لما قالت (
فعرفني حين رآني ) بررت سبب معرفته لها ولم تسكت فكأن في ذهن السامع إشكال
: كيف يعرفها وتغطية الوجه واجب . فقالت : (وكان رآني قبل الحجاب ) .
وفي قولها (وكان رآني قبل الحجاب ) فائدة أخرى ، ودليل على أن تغطية الوجه هو المأمور به في آية الحجاب .
ثم قالت عائشة ـ رضي الله عنها ـ (فخمرت " وفي رواية : فسترت " وجهي عنه بجلبابي ) وقولها هذا في غاية الصراحة .
الدليل الرابع :
قول عائشة -رضي الله عنها-: "كان الركبان يمرون بنا ونحن مع رسول الله صلى
الله عليه وسلم محرمات ، فإذا حاذوا بنا أسدلت إحدانا جلبابها على وجهها،
فإذا جاوزونا كشفناه” أخرجه أحمد وأبو داود وسنده حسن .
الدليل الخامس :
عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت : ( كنا نغطي وجوهنا من الرجال ،
وكنا نمتشط قبل ذلك في الإحرام ) إسناده صحيح أخرجه الحاكم وصححه ، ووافقه
الذهبي ( انظر الإرواء 4/212) .
ويقول بعض الناس إن النصوص
الواردة في تغطية الوجه خاص بزوجات النبي صلى الله عليه وسلم . وهذه الشبهة
الضعيفة تروج عند كثير من العامة والجواب عنها أن يقال :
إن الأصل في نصوص الشرع هو العموم إلا إذا دل الدليل على التخصيص ، ولا دليل . هذا أولاً.
ثانياً :
أنه قد ثبت عن نساء الصحابة تغطية الوجه كما في أثر أسماء السابق ( كنا
نغطي وجوهنا من الرجال) فأسماء ليست من زوجات النبي ، وقولها ( كنا نغطي )
يعم نساء الصحابة .
ثالثاً :
أن الأمر بالحجاب ورد مصرحاً به لجميع نساء المؤمنين في قوله تعالى : " يا
أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك
أدنى أن يعرفن فلا يؤذين وكان الله غفوراً رحيماً ".
وأنقل هنا أقوال بعض العلماء في وجوب تغطية المرأة لوجهها أمام الرجال الأجانب :
قال أبو بكر الرازي الجصاص الحنفي (ت370هـ)
في تفسيره لقوله تعالى : ( يدنين عليهن من جلابيبهن ) : " في هذه الآية
دلالة على أن المرأة الشابة مأمورة بستر وجهها عن الأجنبيين ، وإظهار الستر
و العفاف عند الخروج لئلا يطمع أهل الريب فيهن ".( أحكام القرآن 3/371) .
قال أبو بكر بن العربي المالكي رحمه الله (ت 543هـ)
عند تفسيره لقوله تعالى ( وإذا سألتموهن متاعاً فاسألوهن من وراء حجاب ) :
" و المرأة كلها عورة ؛ بدنها وصوتها ، فلا يجوز كشف ذلك إلا لضرورة أو
لحاجة ، كالشهادة عليها ، أو داء يكون ببدنها " (أحكام القرآن 3/616).
قال النووي رحمه الله (ت676هـ)
في المنهاج ( وهو عمدة في مذهب الشافعية ) : " و يحرم نظر فحل بالغ إلى
عورة حرة كبيرة أجنبية وكذا وجهها وكفها عند خوف الفتنة ( قال الرملي في
شرحه : إجماعاً ) وكذا عند الأمن على الصحيح " . قال ابن شهاب الدين الرملي
رحمه الله (ت1004هـ) في شرحه لكلام النووي السابق : " و وجهه الإمام :
باتفاق المسلمين على منع النساء أن يخرجن سافرات الوجوه ، وبأن النظر مظنة
الفتنة ، و محرك للشهوة .. وحيث قيل بالتحريم وهو الراجح : حرم النظر إلى
المنتقبة التي لا يبين منها غير عينيها و محاجرها كما بحثه الأذرعي ، و
لاسيما إذا كانت جميلة ، فكم في المحاجر من خناجر "اهـ (نهاية المحتاج إلى
شرح المنهاج في الفقه على مذهب الشافعي 6/187ـ188) .
قال النسفي الحنفي رحمه الله (ت701هـ) في تفسيره لقوله تعالى : ( يدنين عليهن من جلابيبهن ): " يرخينها عليهن ، و يغطين بها وجوههن وأعطافهن " (مدارك التنزيل 3/79) .
قال
شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (ت728هـ): " وكشف النساء وجوههن بحيث
يراهن الأجانب غير جائز. وعلى ولي الأمرِ الأمرُ بالمعروف والنهى عن هذا
المنكر وغيره ، ومن لم يرتدع فإنه يعاقب على ذلك بما يزجره " ( مجموع
الفتاوى 24 / 382 ) .
قال ابن جزي الكلبي المالكي رحمه الله (ت741هـ)
في تفسيره لقوله تعالى : ( يدنين عليهن من جلابيبهن ) : " كان نساء العرب
يكشفن وجوههن كما تفعل الإماء ، وكان ذلك داعياً إلى نظر الرجال لهن ،
فأمرهن الله بإدناء الجلابيب ليستر بذلك وجوههن " ( التسهيل لعلوم التنزيل
3/144).
قال ابن القيم رحمه الله (ت751هـ)
في إعلام الموقعين ( 2/80) : " العورة عورتان : عورة النظر ، وعورة في
الصلاة ؛ فالحرة لها أن تصلي مكشوفة الوجه والكفين ، وليس لها أن تخرج في
الأسواق و مجامع الناس كذلك ، والله أعلم ".
وقال تقي الدين السبكي الشافعي رحمه الله (ت756هـ) : " الأقرب إلى صنيع الأصحاب أن وجهها و كفيها عورة في النظر " ( نهاية المحتاج 6/187) .
قال ابن حجر في شرح حديث عائشة رضي الله عنها
وهو في صحيح البخاري أنها قالت : " لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ (
وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ ) أَخَذْنَ أُزْرَهُنَّ
فَشَقَّقْنَهَا مِنْ قِبَلِ الْحَوَاشِي فَاخْتَمَرْنَ بِهَا " . قال ابن
حجر (ت852هـ) في الفتح (8/347) : " قوله ( فاختمرن ) أي غطين وجوههن " .
قال السيوطي (ت911هـ)
عند قوله تعالى : ( يدنين عليهن من جلابيبهن ) : " هذه آية الحجاب في حق
سائر النساء ، ففيها وجوب ستر الرأس والوجه عليهن " (عون المعبود 11/158 ) .
قال البهوتي الحنبلي رحمه الله (ت1046هـ) في كشاف القناع ( 1/266) : " الكفان والوجه من الحرة البالغة عورة خارج الصلاة باعتبار النظر كبقية بدنها " .
وغيرهم كثير ولولا خشية الإطالة لنقلت أقوالهم .
وقد قال بوجوب تغطية المرأة لوجهها وكفيها جمع كبير من العلماء المعاصرين ، منهم أصحاب الفضيلة :
عبدالرحمن بن سعدي ، ومحمد بن إبراهيم آل الشيخ ، ومحمد الأمين الشنقيطي ،
و عبدالعزيز بن عبدالله بن باز ، وأبو بكر جابر الجزائري ، و محمد بن
عثيمين ، وعبدالله بن جبرين ، وصالح الفوزان ، وبكر بن عبدالله أبو زيد ـ
رحمهم الله ، وحفظ الأحياء منهم ـ وغيرهم كثير .
و أنقل هنا كلام العلامة محمد بن عثيمين .
قال رحمه الله بعد أن قرر وجوب تغطية المرأة لوجهها وكفيها : " وإني لأعجب
من قوم يقولون : إنه يجب على المرأة أن تستر قدمها ، ويجوز أن تكشف كفيها
!! فأيهما أولى بالستر ؟! أليس الكفان ؛ لأن نعمة الكف وحسن أصابع المرأة
وأناملها في اليدين أشد جاذبية من ذلك في الرجلين .
وأعجب أيضاً من قوم
يقولون : إنه يجب على المرأة أن تستر قدميها ، ويجوز أن تكشف وجهها !!
فأيهما أولى بالستر ؟! هل من المعقول أن نقول إن الشريعة الإسلامية الكاملة
التي جاءت من لدن حكيم خبير توجب على المرأة أن تستر القدم ، وتبيح لها أن
تكشف الوجه ؟! .
الجواب : أبداً هذا تناقض ؛ لأن تعلق الرجال بالوجوه أكثر بكثير من تعلقهم بالأقدام .
(
إلى أن قال رحمه الله ) : " أنا أعتقد أن أي إنسان يعرف مواضع الفتن
ورغبات الرجال لا يمكنه إطلاقاً أن يبيح كشف الوجه مع وجوب ستر القدمين ،
وينسب ذلك إلى شريعة هي أكمل الشرائع وأحكمها .
ولهذا رأيت لبعض
المتأخرين القول بأن علماء المسلمين اتفقوا على وجوب ستر الوجه لعظم الفتنة
؛ كما ذكره صاحب نيل الأوطار عن ابن رسلان .. " ( فتاوى المرأة المسلمة
1/403ـ404 ) .
فقد اختلف العلماء رحمهم الله في حكم تغطيتهما وكثير من الناس يجهل ويخلط في هذه المسألة ، ولذا لابد من تحرير محل النزاع بين العلماء فيها .
أولاً :
محل الخلاف إنما هو الوجه واليدين ، أما ما عداهما فيجب فيها التغطية
بالاتفاق ؛ كالقدم ، والساعد ، وشعر الرأس ، كل هذا عورة بالاتفاق .
ثانياً : اتفق العلماء على وجوب تغطية الوجه واليدين إذا كان فيهما زينة كالكحل في العين ، والذهب والحناء في اليدين .
ثالثاً :
اتفق العلماء على وجوب تغطية الوجه واليدين إذا كان في كشفهما فتنة . وقد
نص كثير من العلماء القائلين بأن وجه المرأة ليس بعورة على وجوب تغطية
الشابة لوجهها دفعاً للفتنة .
وعليه فإن كشف أكثر النساء اليوم لوجوههن
أمر محرم باتفاق العلماء ؛ لكونها كاشفة عن مقدمة الرأس والشعر ، أو لأنها
قد وضعت زينة في وجهها أويديها ؛ كالكحل أو الحمرة في الوجه ، أو الخاتم في
اليد .
فمحل الخلاف إذاً بين العلماء
هو الوجه واليدين فقط ، إذا لم يكن فيهما زينة ، ولم يكن في كشفهما فتنة ،
واختلفوا على قولين : الوجوب والاستحباب . فالقائلون بأن وجه المرأة عورة
قالوا بوجوب التغطية ، والقائلون بأن وجه المرأة ليس بعورة قالوا يستحب
تغطيته .
ولم يقل أحد من أهل العلم إن المرأة يجب عليها كشف وجهها ، أو أنه الأفضل . إلا دعاة الفتنة ومرضى القلوب .
أما العلماء فإنهم لما بحثوا
المسألة بحثوا عورة المرأة ؛ هل الوجه عورة ؟ أو ليس بعورة . بمعنى هل تأثم
المرأة إذا كشفت وجهها أو لا تأثم ؟ أما استحباب تغطية الوجه للمرأة فهو
محل اتفاق بين القائلين بأن وجه المرأة ليس بعورة .
ومن العلماء المعاصرين
القائلين بأن وجه المرأة ليس بعورة الألباني رحمه الله ، لكنه يقول
بالاستحباب ويدعو النساء إلى تغطية الوجه تطبيقاً للسنة حتى قال في كتابه
جلباب المرأة المسلمة : " ولقد علمت أن كتابنا هذا كان له الأثر الطيب ـ
والحمد لله ـ عند الفتيات المؤمنات ، والزوجات الصالحات ، فقد استجاب لما
تضمنه من الشروط الواجب توافرها في جلباب المرأة المسلمة الكثيرات منهن ،
وفيهن من بادرت إلى ستر وجهها أيضاً ، حين علمت أن ذلك من محاسن الأمور ،
ومكارم الأخلاق ، مقتديات فيه بالنساء الفضليات من السلف الصالح ، وفيهن
أمهات المؤمنين رضي الله عنهن " انتهى كلامه رحمه الله . ( جلباب المرأة
المسلمة ص26 )
وأردت بهذا أن يتميز كلام العلماء القائلين بأن وجه المرأة ليس بعورة ، وبين دعاة الرذيلة .
فإن العلماء لم يدعُ واحد
منهم إلى أن تكشف المرأة وجهها ، بل أقل ما قيل بينهم إن التغطية هو
الأفضل. بخلاف دعاة السوء الذين يطالبون بكشف المرأة لوجهها . وما الذي
يَضُرهم ، و ما الذي يُغيظهم من تغطية المرأة لوجهها ؟! إنه سؤال يحتاج منا
إلى جواب . نسأل الله الكريم أن يحفظ نساء المسلمين من كيدهم .
وأعود
مرةً أخرى إلى محل النزاع في حكم تغطية المرأة لوجهها ويديها هل هو واجب أو
مستحب ؟ الراجح من قولي العلماء وجوب تغطية المرأة لوجهها ويديها أمام
الرجال الأجانب .
والأدلة على ذلك كثيرة منها :
الدليل الأول :
قوله تعالى : " وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين
زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن " ( النور 30) .
فالله
جل وعلا يقول ( ولا يبدين زينتهن ) وقد استقر في فطر الناس أن أعظمَ زينة
في المرأة هو وجهها ، ولذلك فإن أهم ما يراه الخاطب هو الوجه ، وكذلك
الشعراء حاضراً وقديماً في غرض الغزل ، فالوجه أعظم مقياس عندهم للفتنة
والجمال .
وقد اتفق العلماء على وجب ستر المرأة لقدمها وشعرها أمام
الرجال الأجانب ؛ فأيهما أعظم زينة الوجه واليدين أم القدم ؟! ، و لاشك بأن
الوجه واليدين أعظم في الزينة وأولى بالستر .
بل قد جعل الله ضرب
المرأة بقدمها الأرض أثناء مشيها لسماع الرجال صوت الخلخال من الزينة
المحرم ابداؤها كما في الآية التي تليها ( ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما
يخفين من زينتهن ) (النور 31) وكشف المرأة لوجهها ويديها أمام الرجال
الأجانب أعظم زينة من سماعهم لصوت خلخالها ، فوجوب ستر الوجه واليدين ألزم
وأوجب .
الدليل الثاني :
حديث ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( المرأة
عورة فإذا خرجت استشرفها الشيطان) . أخرجه الترمذي بإسناد صحيح ( الإرواء
1/303) (وأصل الاستشراف: وضع الكف فوق الحاجب ورفع الرأس للنظر. والمعنى أن
المرأة إذا خرجت من بيتها طمع بها الشيطان ليغويها أو يغوي بها).
وهذا الحديث نص في أن المرأة كلها عورة ولم يستثن النبي صلى الله عليه وسلم منها شيء .
الدليل الثالث :
حديث عائشة رضي الله عنها في قصة الإفك وهم راجعون من غزوة بني المصطلق
وقد نزلوا في الطريق فذهبت عائشة لقضاء حاجتها ثم عادت إليهم وقد آذنوا
بالرحيل فلم تجد عقدها فرجعت تتلمسه في المكان الذي ذهبت إليه فلما عادت لم
تجد أحداً فجلست . وقد حملوا هودجها على البعير ظناً منهم أنها فيه ولم
يستنكروا خفة الهودج ؛ لأنها كانت خفيفة حديثة السن.
وكان من فطنتها أن جلست في مكانها الذي كانت فيه ، فإنهم إن فقدوها رجعوا إليها .
قالت
رضي الله عنها : فبينما أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني فنمت ، وكان صفوان
بن المعطل السلمي ثم الذكواني من وراء الجيش ، فأصبح عند منزلي فرأى سواد
إنسان نائم فعرفني حين رآني وكان رآني قبل الحجاب فاستيقظت باسترجاعه حين
عرفني ، فخمرت " وفي رواية : فسترت " وجهي عنه بجلبابي ...) متفق عليه .
فصفوان
بن المعطل رأى سواد إنسان فأقبل إليه . وهذا السواد هو عائشة ـ رضي الله
عنها ـ وكانت نائمة ، كاشفة عن وجهها ، فعرفها صفوان ، فاستيقظتْ باسترجاعه
؛ أي بقوله : ( إنا لله وإنا إليه راجعون) فعائشة رضي الله عنها لما قالت (
فعرفني حين رآني ) بررت سبب معرفته لها ولم تسكت فكأن في ذهن السامع إشكال
: كيف يعرفها وتغطية الوجه واجب . فقالت : (وكان رآني قبل الحجاب ) .
وفي قولها (وكان رآني قبل الحجاب ) فائدة أخرى ، ودليل على أن تغطية الوجه هو المأمور به في آية الحجاب .
ثم قالت عائشة ـ رضي الله عنها ـ (فخمرت " وفي رواية : فسترت " وجهي عنه بجلبابي ) وقولها هذا في غاية الصراحة .
الدليل الرابع :
قول عائشة -رضي الله عنها-: "كان الركبان يمرون بنا ونحن مع رسول الله صلى
الله عليه وسلم محرمات ، فإذا حاذوا بنا أسدلت إحدانا جلبابها على وجهها،
فإذا جاوزونا كشفناه” أخرجه أحمد وأبو داود وسنده حسن .
الدليل الخامس :
عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت : ( كنا نغطي وجوهنا من الرجال ،
وكنا نمتشط قبل ذلك في الإحرام ) إسناده صحيح أخرجه الحاكم وصححه ، ووافقه
الذهبي ( انظر الإرواء 4/212) .
ويقول بعض الناس إن النصوص
الواردة في تغطية الوجه خاص بزوجات النبي صلى الله عليه وسلم . وهذه الشبهة
الضعيفة تروج عند كثير من العامة والجواب عنها أن يقال :
إن الأصل في نصوص الشرع هو العموم إلا إذا دل الدليل على التخصيص ، ولا دليل . هذا أولاً.
ثانياً :
أنه قد ثبت عن نساء الصحابة تغطية الوجه كما في أثر أسماء السابق ( كنا
نغطي وجوهنا من الرجال) فأسماء ليست من زوجات النبي ، وقولها ( كنا نغطي )
يعم نساء الصحابة .
ثالثاً :
أن الأمر بالحجاب ورد مصرحاً به لجميع نساء المؤمنين في قوله تعالى : " يا
أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك
أدنى أن يعرفن فلا يؤذين وكان الله غفوراً رحيماً ".
وأنقل هنا أقوال بعض العلماء في وجوب تغطية المرأة لوجهها أمام الرجال الأجانب :
قال أبو بكر الرازي الجصاص الحنفي (ت370هـ)
في تفسيره لقوله تعالى : ( يدنين عليهن من جلابيبهن ) : " في هذه الآية
دلالة على أن المرأة الشابة مأمورة بستر وجهها عن الأجنبيين ، وإظهار الستر
و العفاف عند الخروج لئلا يطمع أهل الريب فيهن ".( أحكام القرآن 3/371) .
قال أبو بكر بن العربي المالكي رحمه الله (ت 543هـ)
عند تفسيره لقوله تعالى ( وإذا سألتموهن متاعاً فاسألوهن من وراء حجاب ) :
" و المرأة كلها عورة ؛ بدنها وصوتها ، فلا يجوز كشف ذلك إلا لضرورة أو
لحاجة ، كالشهادة عليها ، أو داء يكون ببدنها " (أحكام القرآن 3/616).
قال النووي رحمه الله (ت676هـ)
في المنهاج ( وهو عمدة في مذهب الشافعية ) : " و يحرم نظر فحل بالغ إلى
عورة حرة كبيرة أجنبية وكذا وجهها وكفها عند خوف الفتنة ( قال الرملي في
شرحه : إجماعاً ) وكذا عند الأمن على الصحيح " . قال ابن شهاب الدين الرملي
رحمه الله (ت1004هـ) في شرحه لكلام النووي السابق : " و وجهه الإمام :
باتفاق المسلمين على منع النساء أن يخرجن سافرات الوجوه ، وبأن النظر مظنة
الفتنة ، و محرك للشهوة .. وحيث قيل بالتحريم وهو الراجح : حرم النظر إلى
المنتقبة التي لا يبين منها غير عينيها و محاجرها كما بحثه الأذرعي ، و
لاسيما إذا كانت جميلة ، فكم في المحاجر من خناجر "اهـ (نهاية المحتاج إلى
شرح المنهاج في الفقه على مذهب الشافعي 6/187ـ188) .
قال النسفي الحنفي رحمه الله (ت701هـ) في تفسيره لقوله تعالى : ( يدنين عليهن من جلابيبهن ): " يرخينها عليهن ، و يغطين بها وجوههن وأعطافهن " (مدارك التنزيل 3/79) .
قال
شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (ت728هـ): " وكشف النساء وجوههن بحيث
يراهن الأجانب غير جائز. وعلى ولي الأمرِ الأمرُ بالمعروف والنهى عن هذا
المنكر وغيره ، ومن لم يرتدع فإنه يعاقب على ذلك بما يزجره " ( مجموع
الفتاوى 24 / 382 ) .
قال ابن جزي الكلبي المالكي رحمه الله (ت741هـ)
في تفسيره لقوله تعالى : ( يدنين عليهن من جلابيبهن ) : " كان نساء العرب
يكشفن وجوههن كما تفعل الإماء ، وكان ذلك داعياً إلى نظر الرجال لهن ،
فأمرهن الله بإدناء الجلابيب ليستر بذلك وجوههن " ( التسهيل لعلوم التنزيل
3/144).
قال ابن القيم رحمه الله (ت751هـ)
في إعلام الموقعين ( 2/80) : " العورة عورتان : عورة النظر ، وعورة في
الصلاة ؛ فالحرة لها أن تصلي مكشوفة الوجه والكفين ، وليس لها أن تخرج في
الأسواق و مجامع الناس كذلك ، والله أعلم ".
وقال تقي الدين السبكي الشافعي رحمه الله (ت756هـ) : " الأقرب إلى صنيع الأصحاب أن وجهها و كفيها عورة في النظر " ( نهاية المحتاج 6/187) .
قال ابن حجر في شرح حديث عائشة رضي الله عنها
وهو في صحيح البخاري أنها قالت : " لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ (
وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ ) أَخَذْنَ أُزْرَهُنَّ
فَشَقَّقْنَهَا مِنْ قِبَلِ الْحَوَاشِي فَاخْتَمَرْنَ بِهَا " . قال ابن
حجر (ت852هـ) في الفتح (8/347) : " قوله ( فاختمرن ) أي غطين وجوههن " .
قال السيوطي (ت911هـ)
عند قوله تعالى : ( يدنين عليهن من جلابيبهن ) : " هذه آية الحجاب في حق
سائر النساء ، ففيها وجوب ستر الرأس والوجه عليهن " (عون المعبود 11/158 ) .
قال البهوتي الحنبلي رحمه الله (ت1046هـ) في كشاف القناع ( 1/266) : " الكفان والوجه من الحرة البالغة عورة خارج الصلاة باعتبار النظر كبقية بدنها " .
وغيرهم كثير ولولا خشية الإطالة لنقلت أقوالهم .
وقد قال بوجوب تغطية المرأة لوجهها وكفيها جمع كبير من العلماء المعاصرين ، منهم أصحاب الفضيلة :
عبدالرحمن بن سعدي ، ومحمد بن إبراهيم آل الشيخ ، ومحمد الأمين الشنقيطي ،
و عبدالعزيز بن عبدالله بن باز ، وأبو بكر جابر الجزائري ، و محمد بن
عثيمين ، وعبدالله بن جبرين ، وصالح الفوزان ، وبكر بن عبدالله أبو زيد ـ
رحمهم الله ، وحفظ الأحياء منهم ـ وغيرهم كثير .
و أنقل هنا كلام العلامة محمد بن عثيمين .
قال رحمه الله بعد أن قرر وجوب تغطية المرأة لوجهها وكفيها : " وإني لأعجب
من قوم يقولون : إنه يجب على المرأة أن تستر قدمها ، ويجوز أن تكشف كفيها
!! فأيهما أولى بالستر ؟! أليس الكفان ؛ لأن نعمة الكف وحسن أصابع المرأة
وأناملها في اليدين أشد جاذبية من ذلك في الرجلين .
وأعجب أيضاً من قوم
يقولون : إنه يجب على المرأة أن تستر قدميها ، ويجوز أن تكشف وجهها !!
فأيهما أولى بالستر ؟! هل من المعقول أن نقول إن الشريعة الإسلامية الكاملة
التي جاءت من لدن حكيم خبير توجب على المرأة أن تستر القدم ، وتبيح لها أن
تكشف الوجه ؟! .
الجواب : أبداً هذا تناقض ؛ لأن تعلق الرجال بالوجوه أكثر بكثير من تعلقهم بالأقدام .
(
إلى أن قال رحمه الله ) : " أنا أعتقد أن أي إنسان يعرف مواضع الفتن
ورغبات الرجال لا يمكنه إطلاقاً أن يبيح كشف الوجه مع وجوب ستر القدمين ،
وينسب ذلك إلى شريعة هي أكمل الشرائع وأحكمها .
ولهذا رأيت لبعض
المتأخرين القول بأن علماء المسلمين اتفقوا على وجوب ستر الوجه لعظم الفتنة
؛ كما ذكره صاحب نيل الأوطار عن ابن رسلان .. " ( فتاوى المرأة المسلمة
1/403ـ404 ) .