السؤال: هل خلق
الله البشر أولا أم الملائكة ؟ وإذا كان الملائكة ، فكيف عرفوا أن البشر
سيفسدون في الأرض كما في سورة البقره آيه 30 ؟
الله البشر أولا أم الملائكة ؟ وإذا كان الملائكة ، فكيف عرفوا أن البشر
سيفسدون في الأرض كما في سورة البقره آيه 30 ؟
الجواب :
الحمد لله
أولا :
لا
شك أن خلق الملائكة كان سابقا على خلق آدم عليه السلام ، فقد أخبرنا الله
تعالى في أكثر من موضع من كتابه العزيز أنه أعلم الملائكة بأنه سيخلق بشرا
من طين ، ثم أمرهم بالسجود له حين يتم خلقه ، وذلك دليل ظاهر على أن
الملائكة كانوا موجودين قبل خلق البشر .
يقول
الله تعالى : ( إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ
بَشَراً مِن طِينٍ ، فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي
فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ) ص/71-72
ثانيا :
وقد أخبر سبحانه وتعالى في سورة البقرة عن حواره مع الملائكة قبل خلق آدم ، وذلك دليل ظاهر أيضا على وجودهم قبل آدم عليه السلام .
قال
تعالى : ( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي
الأَرْضِ خَلِيفَةً ، قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا
وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ،
قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ) البقرة/30
ولكن كيف عرفت الملائكة أن الخليفة الجديد في الأرض سيفسد فيها ويسفك الدماء ؟
اختلف في ذلك أهل العلم على أقوال :
القول الأول : أنهم علموا ذلك بإعلام الله تعالى لهم ، وإن كان ذلك لم يذكر في السياق .
قاله ابن مسعود وابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة وابن زيد وابن قتيبة .
كما في "زاد المسير" لابن الجوزي (1/60)
وهو قول أكثر المفسرين كما قاله ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" (7/382)
يقول
ابن القيم رحمه الله : " وفي هذا دلالة على أن الله قد كان أعلمهم أن بني
آدم سيفسدون في الأرض ، وإلا فكيف كانوا يقولون ما لا يعلمون ، والله تعالى
يقول وقوله الحق ( لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعلمون ) ، والملائكة لا
تقول ولا تعمل إلا بما تؤمر به لا غير ، قال الله تعالى ( ويفعلون ما
يؤمرون ) " انتهى . "مفتاح دار السعادة" (1/12) .
القول
الثاني : أنهم قاسوه على أحوال من سلف قبل آدم على الأرض ، وهم الجن ، فقد
سبقوا الإنسان في الأرض وكانوا يفسدون فيها ويسفكون الدماء ، فعلمت
الملائكة أن البشر سيكونون على حال من سبقهم .
روي نحو هذا عن ابن عباس وأبي العالية ومقاتل . انظر "زاد المسير" (1/61)
يقول
الشيخ ابن عثيمين رحمه الله : " قول الملائكة : ( أتجعل فيها من يفسد فيها
ويسفك الدماء ) يرجِّحُ أنهم خليفة لمن سبقهم ، وأنه كان على الأرض
مخلوقات قبل ذلك تسفك الدماء وتفسد فيها ، فسألت الملائكة ربها عزّ وجلّ : (
أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ) كما فعل من قبلهم " انتهى .
"تفسير القرآن الكريم" (1/آية 30) .
القول الثالث : أنهم فهموا ذلك من الطبيعة البشرية .
وهو الذي يبدو من اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في "منهاج السنة" (6/149)
يقول
العلامة الطاهر ابن عاشور : " وإنما ظنوا هذا الظن بهذا المخلوق من جهة ما
استشعروه من صفات هذا المخلوق المستخلف ، بإدراكهم النوراني لهيئة تكوينه
الجسدية والعقلية والنطقية ، إما بوصف الله لهم هذا الخليفة ، أو برؤيتهم
صورة تركيبه قبل نفخ الروح فيه وبعده ، والأظهر أنهم رأوه بعد نفخ الروح
فيه ، فعلموا أنه تركيب يستطيع صاحبه أن يخرج عن الجبلة إلى الاكتساب ، وعن
الامتثال الى العصيان ... ، ومجرد مشاهدة الملائكة لهذا المخلوق العجيب
المراد جعله خليفة في الأرض كاف في إحاطتهم بما يشتمل عليه من عجائب الصفات
.. "
قال
: " وفي هذا ما يغنيك عما تكلف له بعض المفسرين من وجه اطلاع الملائكة على
صفات الإنسان قبل بدوها منه .. " انتهى مختصرا من "التحرير والتنوير"
(1/230) .
القول الرابع : أنهم فهموا من قوله تعالى ( خليفة ) أنه الذي يفصل بين الناس ما يقع بينهم من المظالم ، ويردعهم عن المحارم والمآثم ، قاله القرطبي "الجامع لأحكام القرآن" (1/302) .
والمعنى : أنه إذا كان هناك خليفة يحكم بين الناس في المظالم ، فإنه يلزم من ذلك أن هؤلاء الناس تقع منهم المظالم .
وأنت
ترى أخي السائل أنها أقوال مختلفة ليس على أي منها نصوص صريحة من الكتاب
والسنة ، إنما هي استنباطات لأهل العلم ، قد تصيب وقد تخطئ ، وإنما أراد
الله تعالى أن نتعلم ما في هذه القصة من العبرة والعظة ، وما كرم الله
تعالى به الإنسان حين خلق آدم فأسجد له الملائكة ، وما سوى ذلك من تفاصيل
القصة ، لا يضر الجهل بها ، لذلك لم يأت الكتاب ببيانها ، والله تعالى أعلم
بالصواب .
تنبيه
: ليس في هذا السؤال من الملائكة المكرمين لرب العزة سبحانه ، عن خلق آدم
وذريته اعتراض على الحكمة ، أو معارضة لله سبحانه ، فإنهم منزهون عن ذلك .
قال ابن كثير رحمه الله : وقول الملائكة هذا ليس على وجه الاعتراض على الله
، ولا على وجه الحسد لبني آدم ، كما قد يتوهمه بعض المفسرين , وقد وصفهم
الله تعالى بأنهم لا يسبقونه بالقول ، أي : لا يسألونه شيئاً لم يأذن لهم
فيه , .. وإنما هو سؤال استعلام واستكشاف عن الحكمة في ذلك ؛ يقولون: يا
ربنا ما الحكمة في خلق هؤلاء ، مع أن منهم من يفسد في الأرض ويسفك الدماء
؟!! فإن كان المراد عبادتك فنحن نسبح بحمدك ونقدس لك ، أي نصلي لك ... ولا
يصدر منا شيء من ذلك, وهلا وقع الاقتصار علينا ؟
قال
الله تعالى مجيباً لهم عن هذا السؤال : {إني أعلم مالا تعلمون} أي : إني
أعلم من المصلحة الراجحة في خلق هذا الصنف ، على المفاسد التي ذكرتموها ،
مالا تعلمون أنتم ؛ فإني جاعل فيهم الأنبياء ، وأرسل فيهم الرسل ، ويوجد
منهم الصديقون والشهداء والصالحون والعباد والزهاد والأولياء والأبرار
والمقربون والعلماء والعاملون والخاشعون والمحبون له تبارك وتعالى المتبعون
رسله صلوات الله وسلامه عليهم .. ) تفسير ابن كثير (1/69) .