من الآيات المفتاحية في القرآن الكريم ما ذكره سبحانه؛ تبياناً لمنهج الدعوة في سبيله، قوله تعالى: { ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن }
(النحل:125)، فقد بينت الآية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولمن بعده من
الدعاة أن منهج الدعوة إلى الإسلام قائم على هذه الأسس الثلاثة: الحكمة،
والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن. وفيما يلي مزيد بسط لمضمون هذا
الآية ومقصودها.
مفردات الآية
(سبيل ربك): هو الصراط المستقيم، كما قال تعالى: { وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم } (الشورى:25)، قال البغوي : يعني الإسلام.
و(الحكمة): اسم جامع لكل كلام أو علم يراعى فيه إصلاح حال الناس واعتقادهم إصلاحاً مستمراً لا يتغير.
و(الموعظة):
هي المقالة الحسنة التي يستحسنها السامع، وتكون في نفسها حسنة باعتبار
انتفاع السامع بها. وقيل: القول الذي يُلِّين نفس المقول له لعمل الخير.
وهي أخص من الحكمة؛ لأنها حكمة في أسلوب خاص لإلقائها.
و(المجادلة):
من الجدل: وهو المفاوضة على سبيل المنازعة والمغالبة، وأصل هذا اللفظ من:
جدلت الحبل، أي: أحكمت فتله، وجدلت البناء: أحكمته.
المنهج القرآني في الدعوة
تبين
هذه الآية الكريمة منهج الدعوة إلى الله، وترشد كل من يقوم مقاماً من
مقامات الرسول صلى الله عليه وسلم في الدعوة إلى الإسلام، أن عليه أن يكون
سالكاً للطرائق الثلاث: الحكمة، والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن،
وإلا كان منصرفاً عن منهج القرآن في الدعوة إلى الإسلام، وغير خليق بأن
يكون في صفوف الداعين إلى الله؛ لأن عدم التزامه بهذا المنهج سيؤدي إلى
خلاف ما هو مقصود ومأمول.
ولا
يلزم الداعي إلى الله أن يلزم الطرائق الثلاث مع كل مدعو، بل اللازم أن
يسلك الطريقة الأنسب والأجدى مع كل مدعو؛ إذ ليس كل الناس سواء، فمن الناس
من يَحْسُن مخاطبته بطريق الحجة والبرهان (الحكمة)، ومن الناس من يكون
الأليق بمخاطبته طريق الموعظة والاعتبار، وثمة فريق ثالث لا يجدي معه إلا
منهج المجادلة؛ ومن هنا كان على الداعي أن يتخير لكل مدعو ما يغلب على ظنه
أنه الأفضل في حقه، والأقرب إلى قبول دعوته.
على
أنه قد يكون من الأنسب أن يُجمع في دعوة بعض المدعوين بين هذه الطرائق
الثلاث، وذلك بدعوته عن طريق الحجة والبرهان، ومن ثم الانتقال معه بالدعوة
بالموعظة الحسنة. ويراعى في كل ذلك ما هو أقرب إلى الأذهان، وما هو أسرع
إلى القبول.
ومن
مقتضى طريق (الحكمة) في الدعوة البدء بدعوة الأهم فالأهم، فدعوة العالم
أولى من دعوة الجاهل، ودعوة القريب مقدمة على دعوة البعيد، ودعوة من يُرجى
إسلامه أجدر ممن لا يُرجى إسلامه.
فعلى
هذه الأسس الثلاثة يرسي القرآن الكريم قواعد الدعوة ومبادئها، ويعين
وسائلها وطرائقها، ويرسم المنهج للرسول الكريم، وللدعاة من بعده.
من لطائف الآية
اشتملت هذه الآية على جملة من اللطائف والفوائد، جدير بنا أن نسلط الضوء على شيء منها:
أولاً:
لما كان الناس من حيث الجملة ينقسمون إلى أقسام ثلاثة: حكماء محققون،
وعوام مسلِّمون، وخصماء مجادلون، جاءت هذه الآية لتبين المناهج الثلاث التي
توافق ما عليه أقسام الناس. فالحكماء يخاطَبون بالحكمة، والعوام يخاطَبون
بالموعظة، والخصماء يجادلون بالتي هي أحسن. وبهذا تكون الآية قد جمعت بين
أصول الاستدلال العقلي الحق: البرهان، والخطابة، والجدل. وهي الأصول
المعتبرة في الاستدلال عند أهل المنطق.
ثانياً:
قُيدت (الموعظة) بالحسنة، ولم تقيد (الحكمة) بمثل ذلك؛ لأن الموعظة لما
كان المقصود منها غالباً الردع عن أعمال سيئة واقعة أو متوقعة، كانت مِظنة
لصدور غلظة من الواعظ، ولحصول انكسار في نفس الموعوظ، فتوخَّت الآية كون
الموعظة حسنة، وذلك بالقول اللين، والترغيب في الخير، كما قال تعالى: { فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى }
(طه:44). أما الحكمة فهي تعليم لمتطلبي الكمال من معلم يهتم بتعليم طلابه،
فلا تكون إلا في حالة حسنة، فلا حاجة إلى التنبيه على أن تكون حسنة.
ثالثاً:
اشتمل القران الكريم على الحكمة والموعظة والمجادلة؛ ففيه بيان آيات الله
في الكون من خلق السموات والأرض والشمس والقمر والنجوم المسخرات بأمره،
وإنزال الماء، وإنبات النبات، وفلق الحب والنوى، فهذا كله من الحكمة. وفيه
قصص الأقوام السابقة، وما نزل بالعصاة من خسف وزلزال وريح صرصر عاتية، وهذا
من الموعظة الحسنة. وفيه مجادلة المخاصمين، كمجادلة الذي { مر على قرية وهي خاوية على عروشها } (البقرة:259).
رابعاً:
يستبين مما أرشدت إليه الآية الكريمة من مناهج الدعوة واقعية هذا القرآن
ومراعاته لكافة المستويات الإنسانية، فالنفس البشرية لها كبرياؤها وعنادها،
وهي لا تنزل عن الرأي الذي تدافع عنه إلا بالرفق، حتى لا تشعر بالهزيمة،
وسرعان ما تختلط على النفس قيمة الرأي وقيمتها هي عند الناس، فتعتبر
التنازل عن الرأي تنازلاً عن هيبتها واحترامها وكيانها. والجدل بالحسنى هو
الذي يخفف من هذه الكبرياء الحساسة، ويشعر المجادل أن ذاته مصونة، وقيمته
كريمة، وأن الداعي لا يقصد إلا كشف الحقيقة في ذاتها، والاهتداء إليها. في
سبيل الله، لا في سبيل ذاته ونصرة رأيه وهزيمة الرأي الآخر.
ونختم القول حول هذه الآية بما جاء في "الموطأ" من أن عمر بن الخطاب رضي
الله عنه قال في خطبة خطبها في آخر عمره: "أيها الناس قد سُنَّت لكم
السنن، وفُرضت لكم الفرائض، وتُركتم على الواضحة، إلا أن تضلوا بالناس
يميناً وشمالاً". وضرب بإحدى يديه على الأخرى. وهذا الضرب علامة على أنه
ليس وراء ما ذُكر مطلب للناس في حكم لم يسبق له بيان في الشريعة.