هناك
باب في لغة العرب يسمى باب (التعدي)، ويقابله باب (اللازم)، وأهل العربية
يجعلون هذين البابين قسماً من جملة أقسام الفعل؛ فيقولون: إن الفعل ينقسم
إلى فعل لازم، وفعل متعد، ويقررون على ضوء هذا التقسيم، أن الفعل (اللازم)
هو الفعل الذي لا يطلب مفعولاً، والفعل (المتعدي) هو الذي يطلب مفعولاً .
و(التعدي)
عند أهل العربية يُقصد منه: أن هناك أفعالاً ترتبط بمفاعيلها عن طريق حروف
الجر، فيكون حرف الجر هو الوساطة التي يتم من خلالها الربط بين
(الفعل)كحدث، وبين (المفعول) كحادث؛ فأنت إذا قلت: مررت بزيد، تكون قد
عدَّيت فعل المرور إلى مفعوله عن طريق حرف الجر (الباء)، وتكون بذلك قد
ربطت بين فعل المرور، وبين مَن مررت به، ويعبرون عن هذه العلاقة بقولهم:
تعدى الفعل إلى مفعوله بحرف الجر .
وهذه
الحروف الرابطة بين الأفعال ومفاعيلها لها أهمية في فهم الكلام العربي؛
فقولك: رغبت عنه، غير قولك: رغبت فيه، بل بينهما تنافر في المعنى، أفاده
حرف الجر؛ وقولك: عدلت إليه، غير قولك: عدلت عنه، وبينهما أيضاً تقابل في
المعنى؛ وقولك: ملت إليه، غير قولك: ملت عنه؛ فبينهما افتراق في المعنى؛
وقولك: سعيت إليه، غير قولك: سعيت به، فبينهما اختلاف في المعنى، وهذا مطرد
في كثير من الأفعال في لغة العرب .
وتأسيساً
على هذا، فقد وضع علماء العربية من خلال تتبعهم واستقرائهم لكلام العرب
مصطلح (التعدي)، حيث ذكروا لكل فعل يتعدى إلى مفعول أو أكثر حرفَ الجر الذي
يتعدى به، ويُعرف هذا عادة بالرجوع إلى معاجم العربية .
ولا
شك، فإن القرآن الكريم نزل على وفق لغة العرب وأسلوبها في الكلام، ومع هذا
فإن المتأمل للقرآن الكريم، يقف على أمر يستحق النظر؛ حيث يجد أن بعضاً من
الأفعال التي وردت في القرآن - وهي ليست قليلة - قد تعدت إلى مفعولها بحرف
جر غير الحرف الذي تتعدى به في أصل الوضع اللغوي، ونمثل لذلك بأمثلة:
فالفعل (قَبِلَ) يتعدى بحرف الجر (من)، تقول: قبل منه اعتذاره، وفي القرآن جاء قوله تعالى: { وهو الذي يقبل التوبة عن عباده } (الزمر:25)، فجاء الفعل (قَبِلَ) متعدياً بحرف الجر (عن) خلافاً لما هو معروف من كلام العرب .
والفعل (نَطَقَ) يتعدى بحرف الجر (الباء)، تقول: نطق القاضي بالحكم؛ وفي القرآن جاء قوله تعالى: { وما ينطق عن الهوى } (النجم:3)، فجاء الفعل (نَطَقَ) متعدياً بحرف الجر (عن) خلافاً لما هو مسموع من كلام العرب .
والفعل (سأل) يتعدى بحرف الجر (عن)، تقول: سألت عن حكم كذا؛ وفي القرآن جاء قوله تعالى: { سأل سائل بعذاب واقع } (المعارج:1)، فجاء الفعل (سأل) متعدياً بحرف الجر (الباء) خلافاً لما هو معهود من كلام العرب .
ثم إن أهل العربية والمفسرين سلكوا في توجيه هذه الظاهرة القرآنية مسلكين، هما على النحو التالي:
المسلك
الأول: يرى أصحابه أن حروف الجر في العربية تأتي على أكثر من معنى، ويقوم
بعضها مقام بعض؛ فهم يقولون مثلاً: إن حرف الجر (الباء) يأتي - كما يقول
ابن هشام - لأربعة عشر معنى، يذكر منها: أنها تكون بمعنى (مع)، وعليه قوله
تعالى: { اهبط بسلام } (هود:48) أي: اهبط مصحوباً بالسلامة؛ ويأتي بمعنى (على)، وعليه قوله تعالى: { ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار } (آل عمران:75)، أي: على قنطار؛ ويأتي بمعنى (إلى)، وعليه قوله تعالى: { وقد أحسن بي }
(يوسف:100)، أي: إليَّ. وهم يذكرون لباقي حروف الجر معان عديدة، ويعبرون
عن هذه الظاهرة اللغوية بقولهم: حروف الجر يتعاور بعضها بعضاً، وهم يقصدون
بذلك أن بعضها يقوم مقام بعض .
وأصحاب هذا المسلك، يقولون - مثلاً - في توجيه قوله تعالى: { وإذا خلا بعضهم إلى بعض } (البقرة:76): إن حرف الجر (إلى) في الآية بمعنى (الباء)؛ لأن الفعل (خلا) يتعدى بـ (الباء)، ولا يتعدى بحرف الجر (إلى) .
ويقولون في قوله تعالى: { ولأصلبنكم في جذوع النخل }
(طه:71)، إن حرف الجر (في) هنا معناه (على)؛ لأن الفعل (صلب) يتعدى بحرف
الجر (على)، ولا يتعدى بحرف الجر (في). وعلى هذا النحو يحملون كل حرف جر
أتى مع فعل غير الفعل الذي يتعدى به عادة .
المسلك
الثاني: يذهب أصحابه إلى أن الفعل هو الذي ينبغي أن يضمَّن معنى يليق بحرف
الجر الذي تعدى به، وحرف الجر يبقى على معناه الأصلي؛ فمثلاً، عند حال رفع
الإمام من الركوع، نجده يقول: سمع الله لمن حمده، مع أن الفعل (سمع) لا
يتعدى بحرف جر، وإنما يتعدى بنفسه، فأنت تقول: سمعت نداء المؤذن، قالوا: إن
الفعل (سمع) هنا ضُمن معنى الفعل (استجاب)، وكأن المعنى: استجاب الله دعاء
من حمده. وأصحاب هذا المسلك يسمون هذا الضَّرب من التوجيه (التضمين) .
و(التضمين)
بحسب القائلين به هو: إعطاء فعل معنى فعل آخر، فيكون فيه معنى الفعلين
معاً؛ وعرَّفه ابن جني - وهو من أئمة اللغة - بأنه: " اتصال الفعل بحرف ليس
مما يتعدى به؛ لأنه في معنى فعل يتعدى به " .
هذا،
و(التضمين) بحسب أهل العربية " باب من هذه اللغة واسع لطيف طريف "، وهو
كثير في كلام العرب، قال عنه ابن العربي: " وكذلك عادة العرب أن تحمل معاني
الأفعال على الأفعال؛ لما بينهما من الارتباط والاتصال "؛ وقال عنه ابن
تيمية: " والعرب تُضمِّن الفعل معنى الفعل، وتعديه تعديته "، وبحسب هذا
المسلك حملوا الآيات التي تعدت بحرف جر غير حرف الجر الذي تتعدى به عادة .
وحيث
إن أسلوب (التضمين) شائع في لغة العرب، وجار في كلامهم، فقد وجَّه على
وَفْقه المفسرون - ولا سيما المتأخرين - كثيراً من الآيات القرآنية الكريمة
.
وحُقَّ
لسائل أن يسأل: ما حجة القائلين بـ (التضمين) على أن الفعل - الذي ضمنوه
معنى آخر - لا يتعدى بالحرف الذي جاء بعده؟ ولماذا لا نقول: إن هذا الفعل
يتعدى بهذا الحرف نفسه، من غير حاجة إلى التضمين ؟
والجواب
من وجهين: الأول: أن تعدي الأفعال بحروف الجر طريقه السماع من العرب،
وبالتالي فهو أمر توقيفي؛ لأن قواعد العربية وضعت بحسب ما سُمع من كلام
العرب، فإذا لم يُسمع منهم تعدي فعل بحرف جر غير الحرف الذي سمع منهم، فإن
ذلك يعتبر خروجاً عن أسلوبهم في الكلام، ومعهودهم في البيان .
الثاني:
أن أهل العربية قرروا أن التوسع في الأفعال أكثر في كلام العرب من التوسع
في الحروف، بمعنى أن تضمين فعل معنى فعل آخر أمر معهود في كلام العرب، أكثر
من إعطاء حروف الجر معان غير المعاني الأصلية التي وضعت لها؛ ولهذا وضعوا
هنا قاعدة مفادها أن: " التجوز في الفعل أسهل منه في الحرف " .
ثم
إن المفسرين للقرآن عموماً، لم يلتزموا مسلكاً محدداً في توجيه الأفعال
التي تعدت بحرف جر غير الحرف الذي تتعدى به عادة، فهم أحياناً يعتمدون منهج
التضمين، وأحياناً أخرى يعتمدون منهج تناوب الحروف؛ فالطبري مثلاً - شيخ
المفسرين - وجَّه عدداً من الآيات وفق أسلوب التضمين، كما فعل في قوله
تعالى: { ولا تعد عيناك عنهم } (الكهف:28)، لكنه لم يقدمه على القول بتناوب الحروف .
والزمخشري في "الكشاف" مع قوله بأسلوب (التضمين) إلا أنه لم يحظ بعنايته في كل المواضع، بل قال به في مواضع، وأعرض عنه في أخرى .
وابن
عطية في "المحرر الوجيز" مع ثنائه على أسلوب (التضمين)، ووصفه له بأنه قول
الحذاق، إلا أنه لم يُعن به كثيراً، ولم يقدمه على القول بتناوب الحروف .
وابن كثير في "التفسير العظيم" استحسن القول بأسلوب (التضمين ) في مواضع من تفسيره، كما فعل في قوله تعالى: { وإذا خلوا إلى شياطينهم } (البقرة:14)، وأغفله في مواضع أخرى .
أما
ابن تيمية فقد غلَّط من قال بتناوب الحروف، وقرر أن المعروف من كلام العرب
هو (التضمين)، وسار على دربه تلميذه ابن القيم ووصف الأخير هذا المسلك،
بقوله: " وهذه قاعدة شريفة جليلة المقدار، تستدعي فطنة ولطافة في الذهن " .
هذا،
وأكثر من اعتمد على أسلوب (التضمين) من المفسرين المتأخرين، الآلوسي في
"روح المعاني"، وابن عاشور في "التحرير والتنوير"، فقد توسعا جداً في توجيه
الآيات بحسب أسلوب (التضمين) .
وبعد إذ تبين لنا المقصود بأسلوب (التضمين)، وموقف المفسرين منه، لا بأس أن نقف على بعض الأمثلة التي توضح هذا المسلك من التفسير .
فقوله تعالى: { وإذا خلوا إلى شياطينهم }،
فالفعل (خلا) يتعدى بحرف الجر (الباء)، يقال: خلوت به، أي: انفردت به، لكن
في الآية ضُمِّن معنى ذهبوا وانصرفوا؛ قال ابن كثير في تفسير الآية: "
يعني: إذا انصرفوا وذهبوا وخلصوا إلى شياطينهم، فضمَّن { خلوا } معنى انصرفوا؛ لتعديته بـ (إلى)؛ ليدل على الفعل المضمر، والفعل الملفوظ به "؛ وقال القرطبي: " { خلوا } هنا بمعنى ذهبوا وانصرفوا " .
وقوله تعالى: { أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم } (البقرة:187)؛ فإنه لا يقال: رفث إلى المرأة، لكن لما تضمَّن { الرفث } معنى الإفضاء، الذي يُراد به الملابسة، ساغ ذلك، ورشَّح هذا التضمين، قوله تعالى في آية أخرى: { وقد أفضى بعضكم إلى بعض } (النساء:21) .
وقوله تعالى: { ولا تعد عيناك عنهم }،
فإن الفعل (عدا) يتعدى بنفسه، لكن لما ضُمِّن الفعل (تعدو) معنى تَصْرِف
وتجاوز، تعدى بحرف الجر (عن). قال الطبري في معنى الآية: " ولا تصرف عيناك
عن هؤلاء الذين أمرتك يا محمد أن تصبر نفسك معهم إلى غيرهم من الكفار، ولا
تجاوزهم إليه. وأصله من قولهم: عدوت ذلك، فأنا أعدوه: إذا جاوزته". وقد نقل
ابن كثير عن ابن عباس رضي الله عنهما في معنى الآية قوله: ( ولا تجاوزهم
إلى غيرهم، يعني تطلب بدلهم أصحاب الشرف والثروة ) .
وقوله تعالى: { أو لتعودن في ملتنا }
(الأعراف:88)، فالفعل (عاد) يتعدى بحرف الجر (إلى)، يقال: عاد إلى بلده،
لكن في الآية ضُمِّن معنى الفعل (صار). قال القرطبي: " أي: لتصيرن إلى
ملتنا "؛ وقال الآلوسي: " وقال غير واحد: تعود بمعنى تصير، كما أثبته بعض
النحاة واللغويين " .
وقوله تعالى: { وأخبتوا إلى ربهم }
(هود:23)، فالفعل (خبت) يتعدى بـحرف الجر (اللام)، يقال: أخبت لله: إذا
خشع وأناب، وفي الآية ضُمِّن الفعل (أخبتوا) معنى (أنابوا )، فعدِّي بحرف
الجر (إلى)، قال تعالى: { وأنابوا إلى الله } (الزمر:17)؛ قال ابن عباس: ( أخبتوا: أنابوا ) .
وقوله تعالى: { ونصرناه من القوم الذين كذبوا بآياتنا }
(الأنبياء:77)، فالفعل (نصر) يتعدى بحرف الجر (على)، يقال: انتصر الحق على
الباطل، لكن ضُمِّن في الآية معنى المنع والحماية، فعُدِّيَ بحرف الجر
(من)، قال ابن عاشور: " وعدي (نصرناه) بحرف (من) لتضمينه معنى المنع
والحماية، كما في قوله تعالى: { إنكم منا لا تنصرون }
(المؤمنون:65)، وهو أبلغ من تعديته بـ (على)؛ لأنه يدل على نصر قوي، تحصل
به المَنَعَة والحماية، فلا يناله العدو بشيء. وأما نصره عليه فلا يدل إلا
على المدافعة والمعونة " .
وقوله تعالى: { ولقد أتوا على القرية التي أمطرت مطر السوء }
(الفرقان:40)، فالفعل (أتى)يتعدى بنفسه، يقال: أتى أرض بني فلان، لكن في
الآية جاء الفعل (أتوا) مضمَّناً معنى (مروا)، فعُدِّي بحرف الجر (على) .
وقوله تعالى: { فليحذر الذين يخالفون عن أمره }
(النور:63)، فالفعل (خالف) يتعدى بنفسه، لأنك تقول: خالفت زيداً، لكن لما
ضُمِّنَ في الآية معنى الصدِّ والإعراض والانحراف ساغ تعديته بحرف الجر
(عن)، قال القرطبي: " حُمِلَ على معنى ينحرفون عن أمره، أو يروغون عن أمره
"؛ وعلل البيضاوي التعدية بـحرف الجر (عن) بقوله: " لتضمنه معنى الإعراض،
أو يصدون عن أمره دون المؤمنين، مِنْ خالفه عن الأمر: إذا صد عنه دونه "؛
وقال ابن عاشور: " وتعدية فعل المخالف بحرف (عن)؛ لأنه ضُمِّن معنى الصدود،
كما عُدِّيَ بـ (إلى) في قوله تعالى: { وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه } (هود:88)، لما ضُمِّن معنى الذهاب، يقال: خالفه إلى الماء، إذا ذهب إليه دونه " .
وقوله تعالى: { فاستحبوا العمى على الهدى }
(فصلت:17)، فالفعل (أحب) يتعدى بنفسه، لكن لما ضُمِّن معنى (فضَّلوا) تعدى
بحرف الجر (على)؛ ليفيد معنى التفضيل والاختيار، قال ابن عاشور: " وهيَّأ
لهذا التضمين اقترانه بالسين والتاء للمبالغة؛ لأن المبالغة في المحبة
تستلزم التفضيل على بقية المحبوبات "؛ ومثل ذلك يقال في قوله تعالى: { استحبوا الكفر على الإيمان } (التوبة:23)، وقوله سبحانه: { استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة } (النحل:107) .
وقوله تعالى: { عينا يشرب بها عباد الله } (الإنسان:6)، فالفعل (شرب) يتعدى بحرف الجر (من)، يقال: شرب من النهر، قال تعالى: { فمن شرب منه }
(البقرة:249)، لكن لما ضُمِّن في الآية معنى يُروى، ساغ تعديته بحرف الجر
(الباء)، قال ابن كثير: " ضَمَّن يشرب معنى يروى، حتى عداه بالباء " .
هذا،
ولا بد من الإشارة هنا إلى أن أسلوب (التضمين) لا يطرد في جميع الأفعال
التي تعدت بغير حروفها المسموعة، بل ثمة بعض الآيات لا يستقيم فهمها إلا عن
طريق أسلوب التوسع في معنى حروف الجر؛ فمثلاً قوله تعالى: { ولأصلبنكم في جذوع النخل }
(طه:71)، ففعل (الصلب) هنا حقيقة، ولم يُسمع في لغة العرب أن الفعل
(صلب)يتعدى بـحرف الجر (في)، وإنما المسموع من كلامهم، أنه يتعدى بـحرف
الجر (على)، ولا يستقيم هنا تضمين فعل (الصلب)معنى فعل آخر، يصح تعديته بحر
الجر (في)؛ لذلك كان من المتعين في مثل هذا الأخذ بالقول الذي يرى أن حروف
الجر يقوم بعضها مقام بعض، وعليه يكون معنى قوله تعالى: { ولأصلبنكم في جذوع النخل } أي: على جذوع النخل، قال الطبري: " (في) توضع موضع (على)، و(على) في موضع (في)، كل واحدة منهما تعاقب صاحبتها في الكلام " .