لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبقٍ
قال الله عز وجل :﴿
فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ *
وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ *
وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ *
لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ * فَمَا
لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا
قُرِىءَ عَلَيْهِمُ القرآن لاَ يَسْجُدُونَ ﴾(الانشقاق:16-
21) .
أولاً- هذه الآيات وردت في بداية
المقطع الثالث والرابع من سورة الانشقاق , وفيها يعرض الحق جل وعلا بعض الظواهر
الكونية الحاضرة ، مما يقع تحت حس الإنسان ، مع التلويح بالقسم بها ، تشريفًا لها وتعريضًا للاعتبار بها ، على أن الناس متقلبون في أحوال مقدرة مدبرة , لا مفر
لهم من ركوبها ومعاناة أهوالها وشدائدها . فاليد التي تمسك بأقدار هذا الكون ،
وترسم خطواته ، وتبدل أحواله ، قادرة أن تبدل أحوال الناس الذين يعيشون في هذا
الكون ، وتنقلهم من حياة إلى موت ، ومن بعث إلى حساب ، فما لهؤلاء القوم لا يؤمنون
بصحة البعث والقيامة ، وإذا قرىء عليهم القرآن لا يسجدون بعد أن وضحت لهم الدلائل
؟
وأول ما ينبغي التنبيه إليه هو
أن قوله تعالى :﴿ فَلَا أُقْسِمُ ﴾ تلويح بالقسم ، خلافًا لما أجمع عليه علماء النحو والتفسير من أنه قسم
صريح ، و( لا
) فيه ليست بزائدة
، أو لنفي ما قبلها ، أو لنفي القسم ؛ وإنما هي لنفي الحاجة إلى القسم . والفرق
بين القسم ، والتلويح به : أن القسم لا يكون إلا على الأشياء التي تكون موضع شك
عند المخاطب . أما التلويح بالقسم فيكون على الأشياء اليقينية الثابتة التي لا
يتطرق إليها الشك أبدًا . وبيان ذلك وتفصيل القول فيه
موجود في المقال الآتي :( لا أقسم : أقسم هو ، أم
غير قسم ؟ )
.
وقوله تعالى :﴿ لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَن طَبَقٍ ﴾ جواب للتلويح بالقسم ، وهو كما قال ابن عاشور :« جملة نُسِجَ نظمُها نسجًا مجملاً ، لتوفير المعاني التي تذهب إليْها
أفهام السامعين ، فجاءت على أبدع ما يُنْسَج عليه الكلام الذي يُرسَل إرسال الأمثال
من الكلام الجامع البديع النسْج الوافر المعنى ؛ ولذلك كثرت تأويلات المفسرين لها
. فلمعاني الركوب المجازية ، ولمعاني الطبَق من حقيقي ومجازي ، مُتَّسَع لما تفيده
الآية من المعاني ، وذلك ما جعَل لإِيثار هذين اللفظين في هذه الآية خصوصية من
أفنان الإعجاز القرآني » .
والظواهر الملوح بالقسم بها هي :﴿
الشَّفَقِ * وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ *
وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ ﴾ ، وهي من الظواهر
الكونية الرائعة وآياته المبهرة التي تدل على عظمة الخالق جل وعلا ، وتشهد له
بالألوهية والربوبية والوحدانية ، يعرضها الخالق جل وعلا في لمحات سريعة خاطفة
تغمر النفس رهبة وجلالاً ، وتملأ القلب خوفًا وخشوعًا ، وهي ذات ظلال موحية تتفق مع ظلال مطلع السورة ،
ومشاهدها بصفة عامة ، وتتناسب مع ما يدل عليه قوله
تعالى :﴿ لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَن طَبَقٍ ﴾ من تفاوت الأحوال التي يختبط الناس فيها يوم القيامة .
أما ﴿ الشَّفَقُ ﴾ فهو ضياء من شعاع الشمس يظهر في الأفق عندما يحجبها عن عيون الناس بعض جرم الأرض ، بعد غروب الشمس وقبل شروقها ، ويمثل فترة الانتقال من النهار
إلى الليل ، ومن الليل إلى النهار . وقيل : سُمِّيَ
بالشفق لرقَّته ، ومنه الشفقة التي هي عبارةٌ عن رقَّة القلب .
وتعد ظاهرة الشفق من روائع الظواهر الكونية التي حيَّرت العلماء ، وربما يكون
أجمل أنواع الشفق ذلك الذي يتجلى في منطقة ( القطب الشمالي ) للكرة
الأرضية ، وهو ما سماه العلماء ( الشفق القطبي ) ، حيث تظهر السماء بألوان زاهية
بالأخضر والأحمر والأصفر والأزرق وغير ذلك . وسبب تكونه هو وجود أشعة
أو رياح شمسية تأتي من الشمس ، وتتفاعل مع طبقات الغلاف الجوي العليا للأرض ، ومع
المجال المغنطيسي المحيط بها ، فيكون الناتج تلك الصور الإلهية الرائعة .
وأما ﴿ اللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ ﴾ فالمراد به : الليل وما جمع وضم . وقيل : الليل وما علا ، فلم يمتنع منه شيء . فإذا جلَّل
الليل الجبال والأشجار والبحار والأرض والنجوم فاجتمعت له ،
فقد وسقها . و( ما ) تفيد التعميم والتهويل ، وتحتمل المصدرية والموصولة ، والجمهور على الثاني ، والعائد
محذوف . أي : والذي وسقه . والوَسْق : جمع الأشياء المتفرقة بعضها
إلى بعض . وأصل الوسق : الحمل المحمول على ظهر البعير .
وأما ﴿ الْقَمَرِ
إِذَا اتَّسَقَ ﴾
فالمراد به : إذا اجتمع نوره واكتمل بدرًا . والاتساق : الاجتماع ، وهو
افتعال من الوَسْق بمعنى الجمع - كما تقدم آنفًا - يقال : وَسَقَهُ فاتَّسَقَ . أي
: جمعه فاجتمع . وأصل اتَّسَقَ : اوْتَسَقَ ، قلبت الواو تاء فوقية ، ثم أدغمت في
تاء الافتعال ، وهو قلب مطَّرد .
ثانيًا- ويزعم بعض الباحثين في أسرار الإعجاز العلمي للقرآن أن في قوله
تعالى :﴿ لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَن
طَبَقٍ ﴾(الانشقاق: 19) إشارة علمية إلى إمكانية
الصعود إلى القمر والكواكب الأخرى . ولعل آخر من كتب في هذا الموضوع الباحث عبد
الدايم الكحيل ، فقد كتب في موقعه ( أسرار الإعجاز العلمي في القرآن والسنة )
مقالاً قصيرًا بعنوان :( الوصول إلى القمر ) ، بدأه بشرح الآيات السابقة ،
فقال ما نصُّه :
« يقسم تبارك وتعالى بظاهرة الشفق ، وهذه الظاهرة من أجمل الظواهر الكونية ،
والله يقسم بما يشاء من مخلوقاته ، ويقسم كذلك بالليل وما حوى ، وبالقمر ومنازله ،
أن الناس سيركبون طبقًا عن طبق » .
ثم تحدث عن الحقيقة العلمية ، فقال :
« في 20 تموز
من عام 1969 نزل رائدا الفضاء الأمريكيان : نيل أمسترنغ ، وأدوين الدري إلى سطح
القمر ، وكانت هذه هي المرة الأولى التي يهبط فيها الإنسان على سطح القمر . لقد
استخدموا في هذه الرحلة مركبة الفضاء التي هي عبارة عن طبق من المعدن ، ومن ثم
تطور علم الفلك كثيرًا وتطورت مراكب الفضاء ، ففي كل عام يبتكر العلماء مراكب فضاء
بتقنيات متطورة أكثر حتى إنهم اخترعوا آلاف الأنواع لهذه المراكب ، وأصبحت المركبة
الواحدة تتألف من عدة طوابق أو طبقات »
.
وانتهى من ذلك إلى بيان وجه الإعجاز في الآية الأخيرة فقال :
« من خلال
الآية الكريمة ﴿ لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَن
طَبَقٍ ﴾ نرى إشارة
إلى إمكانية صعود الإنسان إلى القمر ، خصوصًا أن هذه الآية تأتي بعد ذكر القمر ﴿
وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ ﴾
، وهذه الإشارة تحققت في القرن العشرين ، بما يدل على أن القرآن
كتاب الله ، وأنه يتطابق مع العلم الحديث » .
وهذا يعني أن المراد
بركوب الطبق في الآية الكريمة : ركوب المركبة الفضائية ، وأن الله سبحانه– كما قال
بعضهم - يقسم بهذه الظواهر الكونية على أن الإنسان لن يقتصر على ركوب الدواب
والسفن والإبل التي سخرها الله له خلال آلاف السنين ؛ بل سيأتي زمن تتطور فيه
العلوم ، ويركب هذا الإنسان طبقًا بعد طبق . أي : تتطور
هذه الوسائل المستخدمة للنقل من القطار مثلاً ، إلى الطائرة ، ثم إلى المراكب
الفضائية ، ثم إلى المراكب الفضائية المتطورة جدًا .
وقال الباحث محمد سمير العرش :« ولفظ طبق وطباق وأطباق ورد في القرآن إشارة لمستويات السموات المتعددة
، بمعنى أننا سنصعد لطبقات عدة في الفضاء ، وبالفعل بدأنا بالبالون الذي ارتفع 300 متر ، ثم المنطاد الذي
ارتفع إلى 3 كلم ، ثم طائرات الحرب العالمية الأولى التي ارتفعت إلى 3 كلم ، ثم
طائرات الحرب العالمية الثانية التي ارتفعت إلى 6 كلم ، ثم الطائرات النفاثة التي
ارتفعت إلى 10-20 كلم ، ثم الصواريخ التي ارتفعت إلى 400 كلم فما فوق حتى وصلنا
القمر ، ثم مكوك الفضاء ، ثم تعدينا القمر للكواكب الأخرى عن طريق المسابير
الفضائية حتى خرجنا من المجموعة الشمسية » .
وأضاف
هذا الباحث قائلاً :« والذين يزعمون أن المقصود بالطبقات هو أحوال الموت والحياة ، أسألهم : هل
ورد في القرآن الكريم لفظ ( طبق - طباق – أطباق ) إلا فيما يخص السماوات فقط ؟
» .
والغريب في أمر هذا الباحث أنه ذهب إلى أن
المراد بالسموات السبع التي ورد ذكرها في القرآن هو الغلاف الجوي بطبقاته السبع ،
وأن السماء الدنيا هي الطبقة الأولى من هذا الغلاف الذي يحفظ الأرض وسكانها من
النيازك المدمرة والإشعاعات القاتلة القادمة إلينا من الشمس والكواكب الأخرى في
الكون الفسيح . ولولا هذا الغلاف الجوي الذي يحفظ الأرض ، لانعدمت الحياة على
الأرض كما انعدمت على القمر . ويستشهد على ذلك بقوله تعالى :﴿ وَجَعَلْنَا
السَّمَاء سَقْفاً مَّحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ ﴾(الأنبياء: 32)
. ثم يقول بعد هذا كله :« وباختراع الصواريخ ارتفع
الإنسان إلى 400 كم
، ثم نفذ من الغلاف الجوي بطبقاته السبع لكوكب الأرض ، ثم سافر للقمر والكواكب
الأخرى القريبة كالمريخ والزهرة ، ثم تطور للمكوك الفضائي ذي المسافات الأبعد
والاستخدامات المتعددة ، وخرج المسبار بايونير 10 خارج المجموعة الشمسية بعد أن
تعدى كوكب بلوتو ، ثم يخطط العلماء لسفن فضائية أحدث تقلهم لنجوم أخرى » .
ثالثًا- ومن قبل هؤلاء الباحثين الذين رأوا في الآية
الكريمة سبقًا علميًّا إعجازيًا ، ذهب الشيخ محمد أمين الشنقيطي في تفسيره ( أضواء البيان ) إلى عدم إمكانية
الوصول إلى القمر ، وأنكر قول القائلين به ، ووصفهم بالجهل بكتاب الله سبحانه ،
وساق الأدلة على ذلك من آيات القرآن الكريم ؛ ومنها قول الله عز وجل :
﴿ وَلَقَدْ
جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ *
وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ
شَيْطَانٍ رَجِيمٍ ﴾(الحجر: 16- 17) .
وتعقيبًا على الآية الثانية قال الشيخ الشنقيطي رحمه الله :« صرح تعالى في هذه الآية أنه حفظ السماء من كل شيطان رجيم ، وبين هذا
المعنى في مواضع أخر ؛ كقوله :﴿ وَحِفْظاً مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ ﴾(الصافات: 7) ، وقوله :﴿ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِّلشَّيَاطِينِ ﴾(الملك:
5) ، وقوله :﴿ فَمَن يَسْتَمِعِ الآن يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً ﴾(الجن: 9) ، وقوله :﴿ إِنَّهُمْ عَنِ السمع لَمَعْزُولُونَ ﴾(الشعراء:
212) ، وقوله :﴿ أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُم
بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ ﴾(الطور: 38) .. إلى غير ذلك من الآيات » .
ثم قال :« يؤخذ من هذه الآيات التي ذكرنا أن كل ما يتشدق به أصحاب الأقمار
الصناعية ، من أنهم سيصلون إلى السماء ويبنون على القمر كله كذب وشقشقة لا طائل
تحتها . ومن اليقين الذي لا شك فيه أنهم سيقفون عند حدهم ويرجعون خاسئين أذلاء
عاجزين » .
ووجه دلالة الآيات المذكورة عنده على ما ذهب
إليه أن اللسان العربي الذي نزل به القرآن يطلق اسم الشيطان على كل عات متمرد من
الجن والإنس والدواب . ولا شك أن أصحاب الأقمار الصناعية يدخلون في
اسم الشياطين دخولاً أولياً لعتوهم وتمردهم .. وانتهى من
ذلك إلى القول :
« وإذا علمت ذلك ، فاعلم أنه تعالى صرح بحفظ
السماء من كل شيطان كائنًا من كان ، في عدة آيات من كتابه ؛ كقوله هنا :﴿ وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ ﴾(الحجر: 17) ، وقوله :﴿ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ العزيز العليم ﴾(فصلت
: 12) .. إلى غير ذلك من
الآيات . وصرح بأن من أراد استراق السمع ، أتبعه شهاب راصد في مواضع أخر ؛ كقوله :﴿ فَمَن يَسْتَمِعِ الآن يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً ﴾(الجن:
9) ، وقوله :﴿ إِلاَّ مَنِ استرق السمع فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُّبِين ﴾(الحجر: 18) ، وقوله :﴿ إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الخطفة فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ ﴾(الصافات:
10) ، وقال :﴿ إِنَّهُمْ عَنِ السمع لَمَعْزُولُونَ ﴾(الشعراء:
212) ، وقال :﴿ أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُم بِسُلْطَانٍ
مُّبِينٍ ﴾(الطور:
38) ؛ وهو تعجيز دال على
عجز البشر عن ذلك عجزًا مطلقًا » .
وأما بخصوص الآية
التي نحن بصدد الحديث عنها فقال الشيخ الشنقيطي رحمه الله :« وكذلك ما يزعمه من لا علم عنده بمعنى كتاب الله جل وعلا أن الله
تعالى أشار بقوله :﴿ لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَن طَبَقٍ ﴾(الانشقاق: 19) إلى أن أهل الأرض سيصعدون إلى السموات واحدة
بعد أخرى ، زاعمًا أن معنى الآية الكريمة : لتركبن أيها الناس طبقًا . أي : سماء عن طبق . أي : بعد سماء حتى تصعدوا فوق السموات ، فهو
أيضًا جهل بكتاب الله ، وحمل له على غير ما يراد به » .
وأضاف الشيخ الشنقيطي
قائلاً : «اعلم أولاً أن في هذا الحرف قراءتين سبعيتين
مشهورتين :
إحداهما : ﴿ لَتَرْكَبَنَّ ﴾ ، بفتح الباء ، وبها قرأ من السبعة : ابن كثير
وحمزة والكسائي . وعلى هذه القراءة ففي فاعل ﴿ لَتَرْكَبَنَّ ﴾ ثلاثة أوجه معروفة عند العلماء :
الأول :
وهو أشهرها أن الفاعل ضمير الخطاب الواقع على النبي . أي :
لتركبن أنت يا نبيَّ الله طبقًا عن طبق . أي : بعد طبق .
حالاً بعد حال . أي : فترتقي في الدرجات درجة بعد درجة . وقال ابن مسعود والشعبي
ومجاهد وابن عباس في إحدى الروايتين والكلبي وغيرهم :﴿ لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَن طَبَقٍ ﴾ . أي : لتصعدن يا
محمد سماء بعد سماء . وقد وقع ذلك ليلة الإسراء .
والثاني
: أن الفاعل ضمير السماء
. أي : لتركبن هي . أي : سماء طبقًا . أي : لتنتقلن
السماء من حال إلى حال . أي : تصير تارة كالدهان ، وتارة
كالمهل ، وتارة تتشقق بالغمام ، وتارة تطوى كطي السجل للكتب .
والثالث
: أن الفاعل ضمير يعود
إلى الإنسان المذكور في قوله :﴿ يا أيها الإنسان إِنَّكَ كَادِحٌ إلى رَبِّكَ كَدْحاً ﴾(الانشقاق: 6) الآية
. أي : لتركبن أيها الإنسان حالاً بعد حال ، من صغر إلى
كبر ، ومن صحة إلى سقم كالعكس ، ومن غنى إلى فقر كالعكس ، ومن موت إلى حياة كالعكس
، ومن هول من أهوال القيامة إلى آخر .. وهكذا .
والقراءة الثانية : وبها قرأ من السبعة
: نافع وابن عامر وأبو عمرو وعاصم :﴿ لَتَرْكَبُنَّ ﴾ ، بضم الباء ، وهو خطاب عام للناس المذكورين في قوله :﴿ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ ﴾(الانشقاق: 7) ، إلى قوله :﴿ وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَآءَ ظَهْرِهِ ﴾(الانشقاق: 10) الآية . ومعنى الآية :
لتركبن أيها الناس حالاً بعد حال ، فتنتقلون في دار الدنيا من طور إلى طور ، وفي
الآخرة من هول إلى هول » .
واستطرد الشيخ الشنقيطي
رحمه الله قائلاً :« فإن قيل : يجوز بحسب وضع
اللغة العربية التي نزل بها القرآن ، على قراءة ضم الباء ، أن يكون المعنى :
لتركبُّن أيها الناس طبقًا بعد طبق . أي : سماء بعد سماء ، حتى تصعدوا فوق السماء
السابعة ؛ كما تقدم نظيره في قراءة فتح الباء ، خطابًا للنبي صلى الله عليه وسلم ،
وإذا كان هذا جائزًا في لغة القرآن فما المانع من حمل الآية عليه ؟ فالجواب من
ثلاثة أوجه :
الأول : أن ظاهر القرآن يدل على أن المراد بالطبق
الحالُ المتنقل إليها من موت ونحوه ، وهول القيامة ، بدليل قوله بعده مرتبًا له
عليه بالفاء :﴿ فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا قُرِىءَ
عَلَيْهِمُ القرآن لاَ يَسْجُدُونَ ﴾(الانشقاق: 20-21) ؛ فهو قرينة ظاهرة على أن المراد : إذا كانوا ينتقلون
من حال إلى حال ، ومن هول إلى هول ، فما المانع لهم من أن يؤمنوا ، ويستعدوا لتلك
الشدائد ؟ ويؤيده أن العرب تسمي الدواهي : بناتِ طبق ؛ كما هو معروف في لغتهم .
الوجه الثاني : أن الصحابة - رضي الله عنهم - هم المخاطبون
الأولون بهذا الخطاب ، وهم أولى الناس بالدخول فيه ، بحسب الوضع العربي ، ولم يركب
أحد منهم سماء بعد سماء بإجماع المسلمين ، فدل ذلك على أن ذلك ليس معنى الآية .
ولو كان ، لما خرج منه المخاطبون الأولون بلا قرينة على ذلك .
الوجه الثالث : هو ما قدمنا من الآيات القرآنية المصرحة بحفظ
السماء وحراستها من كل شيطان رجيم كائنًا من كان . فبهذا يتضح أن الآية الكريمة
ليس فيها دليل على صعود أصحاب الأقمار الصناعية فوق السبع الطباق
، والواقع المستقبل سيكشف حقيقة تلك الأكاذيب والمزاعم الباطلة » .
رابعًا- وتعقيبًا على ذلك كله نقول :
1- إذا كان لا يجوز حمل الآية ، على قراءة :﴿ لَتَرْكَبُنَّ ﴾ بضم الباء ، على معنى : لتركبُّن أيها
الناس سماء بعد سماء ، حتى تصعدوا فوق السماء السابعة ، فكذلك لا يجوز حملها ، على
قراءة :﴿ لَتَرْكَبَنَّ ﴾ بفتح الباء ، على معنى : لتصعدن يا محمد سماء بعد سماء ، خلافًا لقائله
؛ لأن القراءتين متواترتان ، ولا يجوز حمل إحداهن على معنى مناقض لمعنى الأخرى .
وبالتالي لا يوجد في الآية ، على القراءتين ،
دليل على صعود الإنسان إلى القمر ، أو السموات السبع الطباق . وبيان ذلك :
أن قوله تعالى :﴿ فَلَا
أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ * وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ * وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ * لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَن
طَبَقٍ ﴾(16 - 19) جاء تفريعًا بالفاء على ما أجمل وفصل
قبله في المقطع السابق ؛ وهو قوله تعالى :
﴿ يَا أَيُّهَا
الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ * فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ
بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ
حِسَابًا يَسِيرًا * وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا * وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ
كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا * وَيَصْلَى سَعِيرًا * إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ
مَسْرُورًا * إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ
يَحُورَ * بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ
بِهِ بَصِيرًا ﴾(6 - 15) .
وهو خطاب يشمل الإنسان
المؤمن والكافر ؛ كما يؤذن به التقسيم بعده إلى :﴿ مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ ﴾ ، وهو المؤمن ، و﴿ مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ ﴾ ، وهو الكافر . هذا الإنسان الذي يكدح في عمله
طوال حياته ؛ إنما يكدح إلى لقاء ربه كدحًا . أي : يكدح
إلى الموت وما بعده من أهوال يوم القيامة وشدائدها كدحًا ، من غير صارف يلويه عن
ذلك .
فأما المؤمن فسوف يحاسب
حسابًا هيِّنًا ، وينقلب إلى أهله مسرورًا بما أعد الله
تعالى له في الجنة من النعيم .. وأما الكافر فسوف يدعو ثبورًا ، ويصلى سعيرًا ؛
إنه كان في أهله فرحًا بطرًا مترفًا ، بما أعطي في الدنيا من النعيم ، لا يعرف
الله ولا يفكر في عاقبته ، فلم يعمل شيئًا للآخرة ، ظنًّا منه أن لن يرجع إلى ربه
، ولن يتغير عن حاله ، تكذيبًا منه بالمعاد والحساب والجزاء ، ولم يخطر بباله
أبدًا أن ربه الذي خلقه كان بصيرًا به وبأعماله ، بحيث لا يخفى عنه منها خافية ،
فلا بدَّ من رجعه وحسابه عليها حسابًا عسيرًا ، وجزائه بما يستحق من عقاب .
هذا الإنسان الكافر الذي ظن أن لن يحور . أي : أن لن
يبعث ، هو المقصود الأول من هذا الوعيد الذي تضمنه هذا الخطاب ؛ لأنه هو الذي أنكر
البعث وكذب به ، بخلاف المؤمن . فالخطاب بالنسبة إلى المؤمن زيادة تذكير وتبشير ، وهو بالنسبة إلى هذا الكافر زيادة للإنذار ؛ ولهذا
جاء الرد عليه بقوله تعالى :﴿ بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا ﴾(15) . أي
: بلى ليحورنَّ . أي : ليبعثن ؛ فربه الذي خلقه كان بصيرًا به وبأعماله . ثم عقَّب
سبحانه وتعالى على ذلك بقوله :
﴿ فَلَا
أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ * وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ * وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ * لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَن
طَبَقٍ ﴾(16 - 19) .
ملوِّحًا بالقسم بهذه
الظواهر الكونية التي تقع تحت حس هذا الإنسان على أن الناس ليركبن طبقًا عن طبق . أو أن الإنسان ليركبن طبقًا عن طبق .
فعلى الأول يكون الخطاب لجنس الإنسان باعتبار شموله لأفراده ، وهو المنادى أولاً
بقوله تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا
الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ ﴾(6) . وعلى الثاني يكون الخطابِ للإنسانِ باعتبارِ لفظه .
والفاء في قوله تعالى :﴿
فَلَا أُقْسِمُ ﴾- كما قال الألوسي- واقعة في جواب شرط مقدر . أي
: إذا عرفت هذا . أو : إذا تحقق الحور بالبعث ، فلا أقسم بالشفق .. » . ونظير ذلك قوله تعالى :
﴿ زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ
لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا
عَمِلْتُمْ ﴾(التغابن: 7) .
فقوله تعالى :﴿ زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا ﴾ كقوله تعالى :﴿ إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ ﴾ .
وقوله تعالى :﴿ قُلْ بَلَى ﴾
كقوله تعالى :﴿ بَلَى
إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا ﴾ . وقوله تعالى :﴿ وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ
﴾ كقوله تعالى :﴿ فَلَا
أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ
* وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ *
وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ * لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا
عَن طَبَقٍ ﴾ .
والمخاطب في الموضعين
واحد ، وهو الكافر المكذب بالبعث . والفرق بينهما هو فرق بين القسم ، والتلويح بالقسم
. فإذا علمت ذلك ، تبين أنه لا يجوز حمل قوله تعالى :﴿ لَتَرْكَبَنَّ طَبَقًا عَن طَبَقٍ ﴾ بفتح
الباء
، على أن المخاطب هو رسول
الله صلى الله عليه وسلم . ويؤيد ذلك ما ذهب إليه بعضهم من أن المراد بالإنسان
المخاطب بقوله تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا
فَمُلَاقِيهِ ﴾(6) الأسود بن هلال المخزومي ، جادل أخاه أبا سلمة
في أمر البعث ، فقال أبو سلمة : إي ، والذي خلقك ، لتركبن الطبقة ، ولتوافين
العقبة . فقال الأسود : فأين الأرض والسماء ؟ وما حال
الناس ؟ لاحظ قوله :« لتركبن الطبقة ، ولتوافين العقبة » .
2- أما ( الركوب ) في قوله تعالى :﴿ لَتَرْكَبُنَّ
طَبَقًا عَن طَبَقٍ ﴾ فالمراد به : الملاقاة والمعاناة . والعرب تعبر عن ملاقاة الأمور ومعاناتها بركوبها . والتعبير بركوب الأهوال والأخطار مألوف في اللسان العربي ؛ كقولهم :« إن المضطر يركب
الصعب من الأمور » ؛ وكأن تلك الأهوال والأخطار مطايا يركبها الناس تنقلهم من
حال إلى حال .
وأما ( الطبق ) في اللغة
فيطلق على كل غطاء لازم ، ويجمع على : أطباق وأطبِقة . والطَّبَقُ أيضا من كل شيءٍ
: ما ساواه . والطَّبَقُ : وجه الأرضِ ، والذي يُؤْكَلُ عليه . وعَظْمٌ رقيق يفصل
بين كل فَقارَيْنِ . والطَّبَقُ : الأمة بعد الأمة . والقَرْنُ من الزمان ، أو عشرون سنة . والطَّبَقُ من الناس : الجماعةُ
يعدلون جماعة مثلهم . والطَّبَقُ من المطر : العامُّ . ومن الليل والنهار معظمهما
. والطَّبَقُ : سد الجراد عين الشمس . والطَّبَقُ :
انطباق الغيم في الهواء . والطَّبَقُ : الدَّرَكُ من
أدراك جهنم . والسموات طباقٌ ، بعضها فوق بعض . الواحدة : طَبَقَةٌ ، ويُذكَّر ،
فيقال : طَبَقٌ واحد . والطَّبَقُ : الشدة والمشقة . وبِنْتُ الطَّبَق : الداهية ، والعَربُ تقولُ : وقَع فلانٌ في بَناتِ طَبَق :
إذا وقَع في الأمر الشّديد . والطَّبَقُ والطَّبَقَةُ :
الحال على اختلافها . يقال : كان فلان على أطباق وطبقات شتى من الدنيا . أي : على
أحوال وحالات ؛ ومنه
حديث عَمْرو بن العاص :« إنّي كُنتُ على أطْباقٍ
ثلاث » . أي : أحْوال . وقول الأقرع بن حابس التميمي :
إني امرؤ قد حلبت الدهر أشطره
... وساقني طبق منها إلى طبق
أي : ساقني حال منها إلى
حال .
وهذا القول الأخير في
تفسير معنى الطبق هو أشهر الأقوال وأولاها ، وعليه حمل الجمهور قوله تعالى :﴿ لَتَرْكَبُنَّ
طَبَقًا عَن طَبَقٍ ﴾ ، والمعنى : لتُلاقُنَّ حالاً عن حال ، كلُّ
واحدة منها مطابقة لأختها في الشدةِ والفظاعةِ » . والأوفقُ للركوبِ المنبىءُ عن الاعتلاءِ على ما قيل : أن يكون طبق جمع : طبقة ، وهي المرتبةُ ،
والمَعْنَى : لتركَبُنَّ أحوالاً عن أحوال ، هي طبقاتٌ في الشدةِ ، بعضُها أرفعُ
من بعضٍ ، وهي الموت وما بعده من مواطنِ القيامةِ ودواهيها . ويؤيد ذلك أن الغرض من تنكير ( طبق ) هو التعظيم والتهويل .
ومن هنا يخطىء كل من حمل الركوب في الآية على
حقيقته ، ثم فسر الطبق فيها بغير ما فسره أئمة اللغة ؛ فركوب الطبق في الآية ليس
كروب المركبة أو الطائرة ؛ كما أن قولك : ركب الصعب ، ليس كقولك : ركب الحمار .
وقولك : ركب رأسه ، ليس كقولك : ركب فرسه . والظاهر أن أولئك الذين زعموا أن في
الآية إشارة أو دليلاً على الصعود إلى السموات السبع قد ركبوا رؤوسهم حين فسروا
ركوب الطبق بركوب المركبة الفضائية .
3- وأما
( عن ) في اللغة فتقتضي مجاوزة
ما أضيفت إليه ، وتفيد في نحو قولك : فعلت هذا عن أمرك ، أن ما بعدها مصدر وسبب
لما قبلها ، فيكون المعنى : فعلته مجاوزًا أمرك وبسببه . أي : إن أمرك سببٌ لحصول
فعلي . ونظير ذلك قولك : أطعمته عن جوع ، معناه : أن
الجوع سببٌ لحصول الإطعام ؛ ومن ذلك قوله تعالى :﴿[/b:5