هذا البحث يعرض الإعجاز العلمي والبياني في قول الله تعالى :﴿ وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّمَّا خَلَقَ ظِلاَلاً وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْجِبَالِ أَكْنَاناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ ﴾(النحل: 81) ؛ وذلك من خلال توضيح دور السرابيل في الوقاية من ظروف الجو ( الحار والبارد ) ، والوقاية من الأمراض الجسمية والنفسية والوقاية من أخطار السلاح القديم والحديث , والاستفادة من السرابيل في البحث العلمي عند الدراسة الجيدة للظروف الجديدة ، وكيفية التعامل معها انطلاقًا من المبدأ القائل :( الوقاية خير من العلاج ) .
فسبحان الذي أنزل القرآن على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم باللغة العربية في عصر البلاغة والفصاحة متحديًا الشعراء والبلغاء أن يأتوا بمثله ، أو بسورة من مثله ، ولو كان بعضهم لبعض ظهيرًا . وأكد سبحانه وتعالى أنهم لن يستطيعوا , لضعفهم مهما بلغوا من علوم اللغة وغيرها . والقرآن الكريم كتاب فيه من كل شيء مثل موصوف بتعبير دقيق وإيجاز وإعجاز مبهر .
لذلك كان لزامًا علينا عند قراءة الآيات القرآنية الوقوف عندها وقفة المتأملين المتفكرين؛ لنفهم معانيها، ونتعلم منها ما غاب عن عقولنا، ونحصل على الحياة الهنيئة في الدنيا، والسعادة الأبدية في الآخرة .
ثانيًا- المعنى اللغوي للسرابيل والوقاية :
السرابيل من سربل ، وهو جمع : سِرْيال . والسِّرْبالُ- كما في لسان العرب- القميص ، والدِّرْع . وقيل : كُلُّ ما لُبِسَ فهو سِرْبالٌ . وقد تَسَرْبَلَ به ، وسَرْبَلَه إِياه . وسَرْبَلْتُه فَتَسَرْبَل . أَي : أَلبسته السِّرْبالَ . وتَسَرْبَلَ هو : لبس السِّرْبال . قال لبيد بن أبي ربيعة العامري :
الحمد لله إذ لم يأتني أجلي *** حتى اكتسيت من الإسلام سِرْبالا
وقال الراغب الأصفهاني في مفردات غريب القرآن : السربال : القميص من أي جنس كان . قال الله تعالى :﴿ سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ ﴾(إبراهيم: 50) . وتطلق السَّرابيلُ على الدروع ، ومنه قول كعب بن زهير بن أبي سُلْمَى :
شُمُّ العَرانِينِ أَبْطالٌ لبَوسُهُمُ *** من نَسْجِ دَاوُدَ في الهَيْجا سَرابِيلُ
وقد جمع قوله تعالى :﴿ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ ﴾ المعنيين معًا : القمصان ، والدروع {2} .
والوقاية من وقى يقي ، ومعناها : حفظ الشيء مما يؤذيه ويضره . يقال : وَقَيْتُ الشيءَ ، أقيه وِقايةً ، ووِقاءً . أي : حفظته حفظًا . قال تعالى :
﴿ فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا ﴾(الإنسان: 11)
﴿ لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ ﴾(الدخان: 56)
ثالثًا- قال الله تعالى :﴿ وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُم مِّن جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثاً وَمَتَاعاً إِلَى حِينٍ * وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّمَّا خَلَقَ ظِلاَلاً وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْجِبَالِ أَكْنَاناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ ﴾( النحل : 80- 81)
من نعم الله سبحانه وتعالى أنه خلق الأنعام وسخرها لخدمة الإنسان ؛ لكي يستفيد منها ، وتؤمن له الراحة والأمان والطمأنينة والسكون , فمن جلودها يصنع بيوتًا خفيفة الوزن ، تحمل على ظهورها يوم الرحيل ، وتؤمن الراحة والظل ، الذي يكون أقل حرارة مما حوله في تلك الأرض ذات المناخ الحار , ونستطيع التعرف على هذه الحالة بالتجربة والبرهان عليها بالمعاينة .
لنأخذ مقياسًا للحرارة ، ولنسجل درجة الحرارة في الظل المتشكل , ونقيس أيضًا درجة الحرارة بدونه , فنلاحظ أن الحرارة في الظل تكون أقل ضمن شروط المادة التي شكلت الظل . ولملاحظة الفرق بين هذه البيوت ، والبيوت المصنوعة من المواد ذات الموصلية الجيدة التي تمتص الأشعة , سنأخذ بيتًا مصنوعًا من الحديد مثلاً , فنلاحظ أن الحرارة في ظله المتشكل ستكون أعلى من سابقتها ؛ وكأنه فرن حراري .
والآية الكريمة تخبرنا عن البيوت المصنوعة من جلود الأنعام ووظيفتها , فهي تحمينا من الحر ؛ لأنها تحجب بدورها أشعة الشمس من الوصول إلى داخلها مكونة الظل ؛ ولأن جلود الأنعام وأصوافها وأوبارها وأشعارها تتمتع بموصلية رديئة للحرارة ، يكون البيت أقل حرارة من الوسط المحيط ، وواقيًا من أشعة الشمس المحرقة التي يقوم على تشتيتها ، فيوفر لساكنيه الراحة والطمأنينة والسكون , وتحمينا من البرد أيضًا ؛ لأنها تحفظ الحرارة داخلها ، وتحول دون تسربها وفقدانها .
ومن حكمة الله تعالى وتكرمه علينا أنه سخر لنا هذه الأنعام ؛ لنستفيد منها بصنع الأثاث والبيوت واللباس الذي يحمينا من أيام البرد وأيام القيظ .
الملابس التي تقي الإنسان من ظروف الجو :
كيف لهذه الملابس ( السرابيل ) أن تحمينا في أيام البرد وأيام الحر ؟
قال الله تعالى :﴿ وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ ﴾
الملابس ( السرابيل ) هي موصل رديء للحرارة ، حيث تعرقل وصول الحرارة من الجسم إلى الوسط الخارجي ، وبالعكس . ففي أيام البرد عندما يكون الجو باردًا ، تكون درجة حرارة الجسم أعلى من درجة حرارة الجو ؛ لذلك يشعر الإنسان بالبرد . ولكن عندما يرتدي معطفًا مصنوعًا من الصوف ، أو الفرو مثلاً ، فإن الأخير يعمل على فصل جسمه عن الوسط المحيط به ، وبذلك يقوم المعطف بحفظ حرارة الجسم ، ويحول دون نقلها وتسربها ؛ لأنه لا يستطيع ذلك . أما في حالة الحر فإن المعطف ( السربال ) يقوم بنفس العمل الذي قام به عندما لبسناه في حالة البرد ؛ لأنه موصل رديء يمنع وصول أشعة الشمس المحرقة من الوسط الخارجي إلى الجسم ، الأمر الذي يحفظ للجسم حرارته .
ومن هنا نستطيع القول :« إن السرابيل لا تدفئ الجسم ، ولا تبرده ؛ وإنما تعمل على حفظ حرارته » . ولكن التجربة خير دليل على ما سبق أسوة بكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، رائد العلم النظري والتجريبي عندما قال :« ليس الخبر كالمعاينة » {4} .
التجربة الأولى :
لنأخذ مقياسًا حراريًا ، ونقرأ درجة حرارة الوسط ( الغرفة ) ، ثم نضعه بمعطف الفرو ، ونعود إليه بعد ساعات ، وعندما نقرأ درجة الحرارة بعد ذلك ، سنتأكد من عدم ارتفاعها ، ولو بمقدار ضئيل ؛ إذ ستبقى درجة الحرارة على ما كانت عليه سابقًا دون تغيير . وهذا دليل أن المعطف ( السربال ) لا يدفئ .
التجربة الثانية :
لنأخذ كيسين فيهما جليد ، نترك الأول مفتوحًا ومكشوفًا على الوسط الخارجي , ونضع الثاني بمعطف من الفرو ( سربال ) ، وكلاهما ضمن نفس الشروط الفيزيائية في جو الغرفة ، وعندما يذوب الجليد الموجود في الكيس الأول ، نرفع معطف الفرو عن الكيس الثاني ، فنرى أن الجليد الذي في داخله لم يبدأ بالذوبان بعد . وهذا يعني أن معطف الفرو ( السربال ) لم يدفئ الجليد ؛ بل عمل على حفظ حرارته ، فجعله يتأخر في الذوبان .
إذًا السرابيل هي مصدر وقاية للإنسان من ظروف الجو ، وحاميًا له من الأمراض الناتجة عن البرد والحر {5} .
السرابيل الواقية من الأمراض :
أثبتت الدراسات الحديثة أن الملابس تعكس وتشتت موجات الأشعة فوق البنفسجية الضارة ؛ لتقي الإنسان من الإصابة بكل أنواع سرطانات الجلد ؛ مثل السرطان القاعدي ، والحرشفي ، والقتامي . كما أثبتت الدراسات أن سرطان الجلد عادة يصيب الأجزاء الأكثر عرضة لأشعة الشمس ؛ كالوجه والقدمين والصدر وغيرها , مما جعل العلماء في جميع أنحاء العالم المتقدم يحذرون من التعرض لأشعة الشمس ، وينادون بارتداء الملابس الساترة للجسم {6} .
ومن هنا نجد الحكمة في التشريع الإلهي من اللباس الشرعي بالمعنى الحسي , والكل يعلم الأثر النفسي والأضرار الناتجة عن عدم التقيد بهذا اللباس على مستوى الفرد والجماعة .
هل كل السرابيل تقي من الحر والبرد ؟
قال الله تعالى في :﴿ وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ * سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ * لِيَجْزِي اللّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴾(الأنبياء: 49- 51)
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :« النائحة إذا لم تتب قبل موتها ، تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جَرَب » . رواه مسلم {7} .
والقطران مادة قابلة للاشتعال، وموصلة جيدة للحرارة، لا تستطيع رد الأشعة، ولا تقي من الحر .
السرابيل الواقية من السلاح بنوعيه :( القديم والجديد )
قال الله سبحانه وتعالى :﴿ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ ﴾
والسرابيل هنا هي الملابس الواقية التي يرتديها المحارب وقت البأس ( الحرب ) ؛ لتحصنه من سلاح عدوه ، سواء كان هذا السلاح قديمًا ، أو حديثا .
ملابس الحرب القديمة :
وهي الملابس التقليدية التي يلبسها الفارس وقت الحرب ؛ فمنها الدروع التي تقي الصدر والظهر. ومنها ما يوضع على الساعدين والقدمين . ومنها القلنسوة التي توضع على الرأس لحمايته . ومن فضل الله تعالى أنه علم نبيه داود- عليه السلام- التعامل مع الحديد ، وصناعة الدروع ، فهو أول من صنعها , بعد أن كانت قبله صفائح ، وهو أول من سردها وحلقها ؛ لتكون لصاحبها حصنًا ، ووقاية من سلاح الأعداء . قال الله تعالى :
﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ * أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾(سبأ: 10- 11) - ﴿ وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ ﴾( الأنبياء: 80 )
فامتن سبحانه وتعالى على داود- عليه السلام- بأن آتاه منه فضلاً ( حكمًا وعلمًا ) ، وسخر له الجبال ، والطير يسبحن معه ، وعلمه صنعة اللبوس . وفي ذلك دليل على فضل هذه الصنعة ؛ إذ أسند تعليمها إياه إليه تعالى :﴿ وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ ﴾. والمعنى : علمناه صنع الدروع لأجلكم . أو علمناه ذلك كائنًا لكم .
فالتعليم في الظاهر لداود عليه السلام، ولكنه في الحقيقة لأجلنا، أو كائن لنا؛ ولذلك امتن سبحانه علينا بها بقوله:﴿ لِتُحْصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ ﴾. أي: لتكون وقاية لكم في حربكم، وسببًا للنجاة من عدوكم. ﴿ فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ ﴾. وهو استفهام يتضمن الأمر. أي: اشكروا الله على ما أنعم به عليكم.
واللبوس في أصل اللغة هو اللباس . وصيغ على وزن : فعول ، بمعنى : مفعول ، للمبالغة . ويطلق ويراد به أحد معنيين :
أولهما : ما يلبس من ثوب ، أو غيره . والثاني : ما يتحصَّن به من درع ، أو غيرها من السلاح .
والمراد من الآية الكريمة : علمناه صنعة الدروع . قال قتادة : كانت الدروع قبل ذلك صفائح ، فأول من سردها ، وحلَّقها داود عليه السلام ، فجمعت الخفة والتحصين . وقيل : داود أول من صنع الدروع التي تسمَّى : الزرد . وقيل : إن الله تعالى ألان الحديد له ، يعمل منه بغير نار ؛ كأنه طين . وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى :
﴿ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ * أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ ﴾( سبأ: 11 )
وقال الشاعر :
عليها أسود ضاريات لبوسهم *** سوابغ بيض لا يخرّقها النبل
وقرأ الجمهور :﴿ لِيُحْصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ ﴾ ، بياء الغيبة ، فالضمير عائد إلى اللبوس ؛ لأنه في اللفظ مذكر . وقرأ ابن عامر وحفص والحسن وسلام وأبو جعفر وشيبه وزيد بن علي :﴿ لِتُحْصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ ﴾ ، بتاء الخطاب ، فالضمير عائد إلى الصنعة ، أو اللبوس على معنى الدرع . ودرع الحديد مؤنثة {8} .
ولكن هذه الملابس كانت في العصر القديم , فكيف لنا أن نستفيد منها اليوم في عصر التقدم والثورة التكنولوجية ووجود السلاح الناري ؟
ملابس الحرب الحديثة :
من صنعة اللبوس التي علمها الله سبحانه وتعالى لنبيه داود- عليه السلام- والتي من خلالها صنعت الدروع وآلات الحرب التي تواكب ذلك العصر ، وما يحتاجه من مقتضيات تذليل المعادن لخدمة الحرب ، والوقاية من السلاح بكافة أنواعه . لهذا عندما نقرأ الآية الكريمة ونتأمل لغويًا معانيها ، نجد أن الله سبحانه وتعالى علم الصنعة لسيدنا داود- عليه السلام- بمفرده ؛ ليعلمنا إياها بعد ذلك ، ونستفيد من هذا العلم التخصصي في علم المعادن ، وتسخيره لنا نحن بني البشر ، وكيفية التعامل معه بمرور الأيام ، ومتطلبات كل عصر ؛ ليكون لنا حصنًا وحرزًا منيعًا في وجه كافة تطورات الأسلحة التكنولوجية .
هذا بالنسبة لعلم المعادن وكيفية الاستفادة منه. ولكن ظهرت في هذه الأيام أنواع جديدة من الأسلحة ؛ مثل السلاح الناري ، وأسلحة التدمير الشامل ؛ مثل السلاح الكيميائي ، والسلاح النووي . فكيف للملابس أن تقينا من أخطار هذه الأسلحة ؟ قال الله تعالى :
﴿ وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ ﴾( الأنبياء: 80 )
المعدات والملابس الواقية من الطلقات والانفجارات :
منذ وقت ليس ببعيد ، تم صنع السترات الواقية من الرصاص التي تحمي الجسم من اختراقه ، حيث يمكن ملاحظة نوعين رئيسين لطرق عمل هذه السترات ؛ وهما :
1– عكس الرصاصة وانزلاقها بعيدًا عن الجسم . 2– امتصاص الطاقة الحركية للرصاصة ؛ لتتحول هذه الطاقة إلى عمل ، وتستقر في نسيج السترة ، فلا تصل إلى الجسم . أو يقل تأثيرها فتصل إلى الجسم ، وتحدث جرحًا طفيفًا مما يكفل الحماية والوقاية .
بعض أنواع الدروع الحديثة :
1– الدروع المعتمة : هي الدروع المصنوعة من المعدن . أو الدروع البلاستيكية المضغوطة ، ودروع السيراميك ، وغيرها من الدروع الواقية .
2– الدروع الزجاجية : يعتبر الزجاج من المواد الشفافة التي تكفل الوقاية والحماية من طلقات الرصاص ، بعد تعديلها بمواد تزيد من ممانعته .
3- الدروع البلاستيكية الشفافة : ومن أهمها الدروع المصنوعة من ألواح ( البولي كربونات ) ، فهي عندما تكون سميكة ، فإنها توفر حماية ملحوظة ضد الطلقات ذات السرعة البطيئة .
ويمكن استخدام المواد السابقة لصناعة أنواع من الملابس ( السرابيل ) التي توفر الحماية والوقاية من الرصاص .
4– السترات البالستية .
5– الكيفلار Aramid - Para: وهي مادة ( البارا – أراميد ) البالستية التي تشكل حماية ووقاية ذاتية للأفراد ضد الرصاص الحي ، عند استخدامها في صنع الخوذات والسترات الواقية . وتقي هذه السترات الواقية من الرصاص الحي وشظايا الانفجارات وغيرها {9} .
الملابس الواقية من السلاح الكيميائي :
صنعت الملابس المطاطية ؛ لتواكب التطور الكيميائي ، وتحمي مرتديها من خطر التلوث بالمواد الكيميائية السامة ، ومن المنتجات الأساسية في حقل الوقاية . والتدابير المتعلقة بالسلاح الكيميائي ، تبرز بصفة خاصة الألبسة المصنوعة من مواد محددة . وأقنعة التنفس التي تراعي متطلبات ومقاييس الوقاية والأمان ، مع توفير أسباب سهولة الاستخدام ، من مثل خفة الوزن ، ومرونة التجهيز ؛ لأنها مصممة لتجهيز العسكريين والمدنيين ضمن ظروف ، لا يمكن التحكم بها مسبقًا .
هناك إذاً ملابس ( سرابيل ) خاصة معدة للحماية من المكونات الكيميائية والبيولوجية بما في ذلك السموم والجراثيم ، وبالطبع تعتبر أقنعة التنفس مكملة لها .
صفات الملابس الواقية من السلاح الكيميائي :
1- إن الأقمشة المستعملة في هذه الملابس ، تتميز بمقاومة عالية للدفع الحراري الناتج عن عامل نووي ، أو كيميائي ، أو جرثومي .
2- عدم القابلية للاشتعال ، مما يساعد على الأمان المطلوب .
بعض أنواع هذه الألبسة :
الألبسة الوقاية من فئة :Safguard 3002 ( كاشر ) .
الألبسة الوقاية البريطانية من طراز : MKIV( إنتا ) .
الألبسة الوقاية الباكستانية : PMKINBC صنع شركة ( مارك كوربوريشن ) .
السرابيل الواقية من السلاح النووي :
ويرتدي من يعمل في المختبرات والمفاعلات النووية سرابيل خاصة ، تقيهم وتحميهم من خطر التلوث الإشعاعي ، خوفًا من تأثيره الذي يؤدي لأمراض السرطان ، وغيرها من الأمراض المستعصية . واللباس الواقي مفيد لصد أنواع من الأشعة ، وليس كلها . والتلوث الإشعاعي هو أشعة ضارة ، تشعها مواد إشعاعية ؛ كاليوانيوم . وهذه الأشعة هي أشعة ( إلفا – بتا – غاما ) , وهي على الترتيب ذرات الهليوم ، وإلكترونات سريعة ، وأشعة كهرطيسية ، وهي أخطرها .
ملابس خاصة لغزو الفضاء :
من أهم المشاكل التي يعانيها رائد الفضاء خارج نطاق الأرض ، مشكلة انعدام الجاذبية . ولأجل هذا الغرض ، تم اختراع لباس رائد الفضاء الخاص .
الأخطار التي يقي منها هذا اللباس :
إن انعدام الجاذبية يؤدي إلى تباطؤ شديد في حركة الدورة الدموية الكبرى ( حركة الدم من القلب إلى الأطراف وبشكل خاص الطرفين السفليين ) ، بينما تبقى حركة الدورة الدموية الصغرى ( حركة الدم من القلب إلى الدماغ ) طبيعية تقريبًا . وهذا يؤدي إلى زيادة نسبية في حجم الدم على مستوى الدماغ ، مما يؤدي إلى حدوث احتقان دموي في الجيوب الدماغية الوريدية . وهذا يؤدي إلى الشعور بالصداع الشديد . وآلية ذلك أن الدم يذهب إلى الدماغ تحت تأثير ضخ العضلة القلبية ، ويصب في الجيوب الوريدية التي تنفرغ تحت تأثير الجاذبية عادة ، وفي هذه الحالة يحدث تباطؤ في الانفراغ الوريدي ، مما يؤدي لحدوث الاحتقان الدماغي . وتحدث تلك الظاهرة عند بداية الدخول في الفضاء الخارجي ؛ ولكن الجسم يتعود على ذلك ، ويزول الصداع . ومن ناحية أخرى تعود مشكلة الجاذبية الأرضية عند عودة رائد الفضاء ، وقد تكون المشكلة أقسى وأشد . ولأجل هذا الغرض ، تم اختراع لباس رائد الفضاء الخاص .
ملابس للوقاية من العدوى :
يرتدي الأطباء ثيابًا خاصة معقمة ، وقفازات مطاطية ، تحول دون دخول الجراثيم إلى المريض عند إجراءات الفحص ، والعمل الجراحي والعكس .
السرابيل المعنوية :
لباس التقوى : قال الله تعالى :﴿ يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ﴾(الأعراف: 26)
ولباس التقوى هو لباس الإيمان والعمل الصالح والتقرب إلى الله تعالى ، والعمل بما أمر سبحانه من خلال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، بدءًا بأنفسنا ورعيتنا , لنقي أنفسنا وأهلينا نار جهنم ؛ لأنه أقوى وأفضل أنواع الوقاية .
فبتقوى الله عز وجل يرتقي الإنسان من عالم الماديات إلى عالم أخر ، يحس فيه بالنشوة عند ذكر الله تعالى ؛ لأن نفسه البشرية ارتقت عبر سلم درجاتها ؛ لتصل آخر المطاف إلى النفس المطمئنة . فبالتقوى نقي ونحمي أنفسنا ، وبالإيمان والورع تعتق رقابنا من النار . جعلنا الله تعالى ممن يلبسون لباس الإيمان والتقوى والورع ، إنه سميع مجيب .
أوجه الإعجاز :
قال الله تعالى:﴿ وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ ﴾
عبر القرآن الكريم في هذه الآية عن الدور الرئيسي للسرابيل بأنواعها , وبينت دورها في وقاية صاحبها الذي يرتديها من الآفات والأمراض في وقت السلم ، ومن الجروح والطعنات في وقت الحرب بكلمة واحدة ، وهي كلمة ( تقيكم ) . ومنها تعلمنا أن السرابيل المصنوعة من القطن والصوف والكتان وغيرها من المواد ذات الموصلية الحرارية الرديئة الوقاية فقط ؛ فهي لا تدفيء ، ولا تبرد ؛ وإنما تحفظ حرارة الجسم الذي بداخلها . ودور بعض الألبسة الحديثة التي تقوم بحماية الإنسان من أخطار سلاح التدمير الشامل .
ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا : من علم الحبيب المصطفى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم هذه الحقائق ، وكيف علم أنواع السرابيل ، وكيفية عملها ؟ إنه بلا شك ما كان إلا رسول كريم , أرسله الحليم العليم ، وأيده بسلطان مبين ؛ ليكون رحمة للعالمين وشفيعا للمسلمين .
فسبحان الذي أنزل القرآن على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم باللغة العربية في عصر البلاغة والفصاحة متحديًا الشعراء والبلغاء أن يأتوا بمثله ، أو بسورة من مثله ، ولو كان بعضهم لبعض ظهيرًا . وأكد سبحانه وتعالى أنهم لن يستطيعوا , لضعفهم مهما بلغوا من علوم اللغة وغيرها . والقرآن الكريم كتاب فيه من كل شيء مثل موصوف بتعبير دقيق وإيجاز وإعجاز مبهر .
لذلك كان لزامًا علينا عند قراءة الآيات القرآنية الوقوف عندها وقفة المتأملين المتفكرين؛ لنفهم معانيها، ونتعلم منها ما غاب عن عقولنا، ونحصل على الحياة الهنيئة في الدنيا، والسعادة الأبدية في الآخرة .
ثانيًا- المعنى اللغوي للسرابيل والوقاية :
السرابيل من سربل ، وهو جمع : سِرْيال . والسِّرْبالُ- كما في لسان العرب- القميص ، والدِّرْع . وقيل : كُلُّ ما لُبِسَ فهو سِرْبالٌ . وقد تَسَرْبَلَ به ، وسَرْبَلَه إِياه . وسَرْبَلْتُه فَتَسَرْبَل . أَي : أَلبسته السِّرْبالَ . وتَسَرْبَلَ هو : لبس السِّرْبال . قال لبيد بن أبي ربيعة العامري :
الحمد لله إذ لم يأتني أجلي *** حتى اكتسيت من الإسلام سِرْبالا
وقال الراغب الأصفهاني في مفردات غريب القرآن : السربال : القميص من أي جنس كان . قال الله تعالى :﴿ سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ ﴾(إبراهيم: 50) . وتطلق السَّرابيلُ على الدروع ، ومنه قول كعب بن زهير بن أبي سُلْمَى :
شُمُّ العَرانِينِ أَبْطالٌ لبَوسُهُمُ *** من نَسْجِ دَاوُدَ في الهَيْجا سَرابِيلُ
وقد جمع قوله تعالى :﴿ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ ﴾ المعنيين معًا : القمصان ، والدروع {2} .
والوقاية من وقى يقي ، ومعناها : حفظ الشيء مما يؤذيه ويضره . يقال : وَقَيْتُ الشيءَ ، أقيه وِقايةً ، ووِقاءً . أي : حفظته حفظًا . قال تعالى :
﴿ فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا ﴾(الإنسان: 11)
﴿ لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ ﴾(الدخان: 56)
ثالثًا- قال الله تعالى :﴿ وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُم مِّن جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثاً وَمَتَاعاً إِلَى حِينٍ * وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّمَّا خَلَقَ ظِلاَلاً وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْجِبَالِ أَكْنَاناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ ﴾( النحل : 80- 81)
من نعم الله سبحانه وتعالى أنه خلق الأنعام وسخرها لخدمة الإنسان ؛ لكي يستفيد منها ، وتؤمن له الراحة والأمان والطمأنينة والسكون , فمن جلودها يصنع بيوتًا خفيفة الوزن ، تحمل على ظهورها يوم الرحيل ، وتؤمن الراحة والظل ، الذي يكون أقل حرارة مما حوله في تلك الأرض ذات المناخ الحار , ونستطيع التعرف على هذه الحالة بالتجربة والبرهان عليها بالمعاينة .
لنأخذ مقياسًا للحرارة ، ولنسجل درجة الحرارة في الظل المتشكل , ونقيس أيضًا درجة الحرارة بدونه , فنلاحظ أن الحرارة في الظل تكون أقل ضمن شروط المادة التي شكلت الظل . ولملاحظة الفرق بين هذه البيوت ، والبيوت المصنوعة من المواد ذات الموصلية الجيدة التي تمتص الأشعة , سنأخذ بيتًا مصنوعًا من الحديد مثلاً , فنلاحظ أن الحرارة في ظله المتشكل ستكون أعلى من سابقتها ؛ وكأنه فرن حراري .
والآية الكريمة تخبرنا عن البيوت المصنوعة من جلود الأنعام ووظيفتها , فهي تحمينا من الحر ؛ لأنها تحجب بدورها أشعة الشمس من الوصول إلى داخلها مكونة الظل ؛ ولأن جلود الأنعام وأصوافها وأوبارها وأشعارها تتمتع بموصلية رديئة للحرارة ، يكون البيت أقل حرارة من الوسط المحيط ، وواقيًا من أشعة الشمس المحرقة التي يقوم على تشتيتها ، فيوفر لساكنيه الراحة والطمأنينة والسكون , وتحمينا من البرد أيضًا ؛ لأنها تحفظ الحرارة داخلها ، وتحول دون تسربها وفقدانها .
ومن حكمة الله تعالى وتكرمه علينا أنه سخر لنا هذه الأنعام ؛ لنستفيد منها بصنع الأثاث والبيوت واللباس الذي يحمينا من أيام البرد وأيام القيظ .
الملابس التي تقي الإنسان من ظروف الجو :
كيف لهذه الملابس ( السرابيل ) أن تحمينا في أيام البرد وأيام الحر ؟
قال الله تعالى :﴿ وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ ﴾
الملابس ( السرابيل ) هي موصل رديء للحرارة ، حيث تعرقل وصول الحرارة من الجسم إلى الوسط الخارجي ، وبالعكس . ففي أيام البرد عندما يكون الجو باردًا ، تكون درجة حرارة الجسم أعلى من درجة حرارة الجو ؛ لذلك يشعر الإنسان بالبرد . ولكن عندما يرتدي معطفًا مصنوعًا من الصوف ، أو الفرو مثلاً ، فإن الأخير يعمل على فصل جسمه عن الوسط المحيط به ، وبذلك يقوم المعطف بحفظ حرارة الجسم ، ويحول دون نقلها وتسربها ؛ لأنه لا يستطيع ذلك . أما في حالة الحر فإن المعطف ( السربال ) يقوم بنفس العمل الذي قام به عندما لبسناه في حالة البرد ؛ لأنه موصل رديء يمنع وصول أشعة الشمس المحرقة من الوسط الخارجي إلى الجسم ، الأمر الذي يحفظ للجسم حرارته .
ومن هنا نستطيع القول :« إن السرابيل لا تدفئ الجسم ، ولا تبرده ؛ وإنما تعمل على حفظ حرارته » . ولكن التجربة خير دليل على ما سبق أسوة بكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، رائد العلم النظري والتجريبي عندما قال :« ليس الخبر كالمعاينة » {4} .
التجربة الأولى :
لنأخذ مقياسًا حراريًا ، ونقرأ درجة حرارة الوسط ( الغرفة ) ، ثم نضعه بمعطف الفرو ، ونعود إليه بعد ساعات ، وعندما نقرأ درجة الحرارة بعد ذلك ، سنتأكد من عدم ارتفاعها ، ولو بمقدار ضئيل ؛ إذ ستبقى درجة الحرارة على ما كانت عليه سابقًا دون تغيير . وهذا دليل أن المعطف ( السربال ) لا يدفئ .
التجربة الثانية :
لنأخذ كيسين فيهما جليد ، نترك الأول مفتوحًا ومكشوفًا على الوسط الخارجي , ونضع الثاني بمعطف من الفرو ( سربال ) ، وكلاهما ضمن نفس الشروط الفيزيائية في جو الغرفة ، وعندما يذوب الجليد الموجود في الكيس الأول ، نرفع معطف الفرو عن الكيس الثاني ، فنرى أن الجليد الذي في داخله لم يبدأ بالذوبان بعد . وهذا يعني أن معطف الفرو ( السربال ) لم يدفئ الجليد ؛ بل عمل على حفظ حرارته ، فجعله يتأخر في الذوبان .
إذًا السرابيل هي مصدر وقاية للإنسان من ظروف الجو ، وحاميًا له من الأمراض الناتجة عن البرد والحر {5} .
السرابيل الواقية من الأمراض :
أثبتت الدراسات الحديثة أن الملابس تعكس وتشتت موجات الأشعة فوق البنفسجية الضارة ؛ لتقي الإنسان من الإصابة بكل أنواع سرطانات الجلد ؛ مثل السرطان القاعدي ، والحرشفي ، والقتامي . كما أثبتت الدراسات أن سرطان الجلد عادة يصيب الأجزاء الأكثر عرضة لأشعة الشمس ؛ كالوجه والقدمين والصدر وغيرها , مما جعل العلماء في جميع أنحاء العالم المتقدم يحذرون من التعرض لأشعة الشمس ، وينادون بارتداء الملابس الساترة للجسم {6} .
ومن هنا نجد الحكمة في التشريع الإلهي من اللباس الشرعي بالمعنى الحسي , والكل يعلم الأثر النفسي والأضرار الناتجة عن عدم التقيد بهذا اللباس على مستوى الفرد والجماعة .
هل كل السرابيل تقي من الحر والبرد ؟
قال الله تعالى في :﴿ وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ * سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ * لِيَجْزِي اللّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴾(الأنبياء: 49- 51)
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :« النائحة إذا لم تتب قبل موتها ، تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جَرَب » . رواه مسلم {7} .
والقطران مادة قابلة للاشتعال، وموصلة جيدة للحرارة، لا تستطيع رد الأشعة، ولا تقي من الحر .
السرابيل الواقية من السلاح بنوعيه :( القديم والجديد )
قال الله سبحانه وتعالى :﴿ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ ﴾
والسرابيل هنا هي الملابس الواقية التي يرتديها المحارب وقت البأس ( الحرب ) ؛ لتحصنه من سلاح عدوه ، سواء كان هذا السلاح قديمًا ، أو حديثا .
ملابس الحرب القديمة :
وهي الملابس التقليدية التي يلبسها الفارس وقت الحرب ؛ فمنها الدروع التي تقي الصدر والظهر. ومنها ما يوضع على الساعدين والقدمين . ومنها القلنسوة التي توضع على الرأس لحمايته . ومن فضل الله تعالى أنه علم نبيه داود- عليه السلام- التعامل مع الحديد ، وصناعة الدروع ، فهو أول من صنعها , بعد أن كانت قبله صفائح ، وهو أول من سردها وحلقها ؛ لتكون لصاحبها حصنًا ، ووقاية من سلاح الأعداء . قال الله تعالى :
﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ * أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾(سبأ: 10- 11) - ﴿ وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ ﴾( الأنبياء: 80 )
فامتن سبحانه وتعالى على داود- عليه السلام- بأن آتاه منه فضلاً ( حكمًا وعلمًا ) ، وسخر له الجبال ، والطير يسبحن معه ، وعلمه صنعة اللبوس . وفي ذلك دليل على فضل هذه الصنعة ؛ إذ أسند تعليمها إياه إليه تعالى :﴿ وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ ﴾. والمعنى : علمناه صنع الدروع لأجلكم . أو علمناه ذلك كائنًا لكم .
فالتعليم في الظاهر لداود عليه السلام، ولكنه في الحقيقة لأجلنا، أو كائن لنا؛ ولذلك امتن سبحانه علينا بها بقوله:﴿ لِتُحْصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ ﴾. أي: لتكون وقاية لكم في حربكم، وسببًا للنجاة من عدوكم. ﴿ فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ ﴾. وهو استفهام يتضمن الأمر. أي: اشكروا الله على ما أنعم به عليكم.
واللبوس في أصل اللغة هو اللباس . وصيغ على وزن : فعول ، بمعنى : مفعول ، للمبالغة . ويطلق ويراد به أحد معنيين :
أولهما : ما يلبس من ثوب ، أو غيره . والثاني : ما يتحصَّن به من درع ، أو غيرها من السلاح .
والمراد من الآية الكريمة : علمناه صنعة الدروع . قال قتادة : كانت الدروع قبل ذلك صفائح ، فأول من سردها ، وحلَّقها داود عليه السلام ، فجمعت الخفة والتحصين . وقيل : داود أول من صنع الدروع التي تسمَّى : الزرد . وقيل : إن الله تعالى ألان الحديد له ، يعمل منه بغير نار ؛ كأنه طين . وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى :
﴿ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ * أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ ﴾( سبأ: 11 )
وقال الشاعر :
عليها أسود ضاريات لبوسهم *** سوابغ بيض لا يخرّقها النبل
وقرأ الجمهور :﴿ لِيُحْصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ ﴾ ، بياء الغيبة ، فالضمير عائد إلى اللبوس ؛ لأنه في اللفظ مذكر . وقرأ ابن عامر وحفص والحسن وسلام وأبو جعفر وشيبه وزيد بن علي :﴿ لِتُحْصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ ﴾ ، بتاء الخطاب ، فالضمير عائد إلى الصنعة ، أو اللبوس على معنى الدرع . ودرع الحديد مؤنثة {8} .
ولكن هذه الملابس كانت في العصر القديم , فكيف لنا أن نستفيد منها اليوم في عصر التقدم والثورة التكنولوجية ووجود السلاح الناري ؟
ملابس الحرب الحديثة :
من صنعة اللبوس التي علمها الله سبحانه وتعالى لنبيه داود- عليه السلام- والتي من خلالها صنعت الدروع وآلات الحرب التي تواكب ذلك العصر ، وما يحتاجه من مقتضيات تذليل المعادن لخدمة الحرب ، والوقاية من السلاح بكافة أنواعه . لهذا عندما نقرأ الآية الكريمة ونتأمل لغويًا معانيها ، نجد أن الله سبحانه وتعالى علم الصنعة لسيدنا داود- عليه السلام- بمفرده ؛ ليعلمنا إياها بعد ذلك ، ونستفيد من هذا العلم التخصصي في علم المعادن ، وتسخيره لنا نحن بني البشر ، وكيفية التعامل معه بمرور الأيام ، ومتطلبات كل عصر ؛ ليكون لنا حصنًا وحرزًا منيعًا في وجه كافة تطورات الأسلحة التكنولوجية .
هذا بالنسبة لعلم المعادن وكيفية الاستفادة منه. ولكن ظهرت في هذه الأيام أنواع جديدة من الأسلحة ؛ مثل السلاح الناري ، وأسلحة التدمير الشامل ؛ مثل السلاح الكيميائي ، والسلاح النووي . فكيف للملابس أن تقينا من أخطار هذه الأسلحة ؟ قال الله تعالى :
﴿ وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ ﴾( الأنبياء: 80 )
المعدات والملابس الواقية من الطلقات والانفجارات :
منذ وقت ليس ببعيد ، تم صنع السترات الواقية من الرصاص التي تحمي الجسم من اختراقه ، حيث يمكن ملاحظة نوعين رئيسين لطرق عمل هذه السترات ؛ وهما :
1– عكس الرصاصة وانزلاقها بعيدًا عن الجسم . 2– امتصاص الطاقة الحركية للرصاصة ؛ لتتحول هذه الطاقة إلى عمل ، وتستقر في نسيج السترة ، فلا تصل إلى الجسم . أو يقل تأثيرها فتصل إلى الجسم ، وتحدث جرحًا طفيفًا مما يكفل الحماية والوقاية .
بعض أنواع الدروع الحديثة :
1– الدروع المعتمة : هي الدروع المصنوعة من المعدن . أو الدروع البلاستيكية المضغوطة ، ودروع السيراميك ، وغيرها من الدروع الواقية .
2– الدروع الزجاجية : يعتبر الزجاج من المواد الشفافة التي تكفل الوقاية والحماية من طلقات الرصاص ، بعد تعديلها بمواد تزيد من ممانعته .
3- الدروع البلاستيكية الشفافة : ومن أهمها الدروع المصنوعة من ألواح ( البولي كربونات ) ، فهي عندما تكون سميكة ، فإنها توفر حماية ملحوظة ضد الطلقات ذات السرعة البطيئة .
ويمكن استخدام المواد السابقة لصناعة أنواع من الملابس ( السرابيل ) التي توفر الحماية والوقاية من الرصاص .
4– السترات البالستية .
5– الكيفلار Aramid - Para: وهي مادة ( البارا – أراميد ) البالستية التي تشكل حماية ووقاية ذاتية للأفراد ضد الرصاص الحي ، عند استخدامها في صنع الخوذات والسترات الواقية . وتقي هذه السترات الواقية من الرصاص الحي وشظايا الانفجارات وغيرها {9} .
الملابس الواقية من السلاح الكيميائي :
صنعت الملابس المطاطية ؛ لتواكب التطور الكيميائي ، وتحمي مرتديها من خطر التلوث بالمواد الكيميائية السامة ، ومن المنتجات الأساسية في حقل الوقاية . والتدابير المتعلقة بالسلاح الكيميائي ، تبرز بصفة خاصة الألبسة المصنوعة من مواد محددة . وأقنعة التنفس التي تراعي متطلبات ومقاييس الوقاية والأمان ، مع توفير أسباب سهولة الاستخدام ، من مثل خفة الوزن ، ومرونة التجهيز ؛ لأنها مصممة لتجهيز العسكريين والمدنيين ضمن ظروف ، لا يمكن التحكم بها مسبقًا .
هناك إذاً ملابس ( سرابيل ) خاصة معدة للحماية من المكونات الكيميائية والبيولوجية بما في ذلك السموم والجراثيم ، وبالطبع تعتبر أقنعة التنفس مكملة لها .
صفات الملابس الواقية من السلاح الكيميائي :
1- إن الأقمشة المستعملة في هذه الملابس ، تتميز بمقاومة عالية للدفع الحراري الناتج عن عامل نووي ، أو كيميائي ، أو جرثومي .
2- عدم القابلية للاشتعال ، مما يساعد على الأمان المطلوب .
بعض أنواع هذه الألبسة :
الألبسة الوقاية من فئة :Safguard 3002 ( كاشر ) .
الألبسة الوقاية البريطانية من طراز : MKIV( إنتا ) .
الألبسة الوقاية الباكستانية : PMKINBC صنع شركة ( مارك كوربوريشن ) .
السرابيل الواقية من السلاح النووي :
ويرتدي من يعمل في المختبرات والمفاعلات النووية سرابيل خاصة ، تقيهم وتحميهم من خطر التلوث الإشعاعي ، خوفًا من تأثيره الذي يؤدي لأمراض السرطان ، وغيرها من الأمراض المستعصية . واللباس الواقي مفيد لصد أنواع من الأشعة ، وليس كلها . والتلوث الإشعاعي هو أشعة ضارة ، تشعها مواد إشعاعية ؛ كاليوانيوم . وهذه الأشعة هي أشعة ( إلفا – بتا – غاما ) , وهي على الترتيب ذرات الهليوم ، وإلكترونات سريعة ، وأشعة كهرطيسية ، وهي أخطرها .
ملابس خاصة لغزو الفضاء :
من أهم المشاكل التي يعانيها رائد الفضاء خارج نطاق الأرض ، مشكلة انعدام الجاذبية . ولأجل هذا الغرض ، تم اختراع لباس رائد الفضاء الخاص .
الأخطار التي يقي منها هذا اللباس :
إن انعدام الجاذبية يؤدي إلى تباطؤ شديد في حركة الدورة الدموية الكبرى ( حركة الدم من القلب إلى الأطراف وبشكل خاص الطرفين السفليين ) ، بينما تبقى حركة الدورة الدموية الصغرى ( حركة الدم من القلب إلى الدماغ ) طبيعية تقريبًا . وهذا يؤدي إلى زيادة نسبية في حجم الدم على مستوى الدماغ ، مما يؤدي إلى حدوث احتقان دموي في الجيوب الدماغية الوريدية . وهذا يؤدي إلى الشعور بالصداع الشديد . وآلية ذلك أن الدم يذهب إلى الدماغ تحت تأثير ضخ العضلة القلبية ، ويصب في الجيوب الوريدية التي تنفرغ تحت تأثير الجاذبية عادة ، وفي هذه الحالة يحدث تباطؤ في الانفراغ الوريدي ، مما يؤدي لحدوث الاحتقان الدماغي . وتحدث تلك الظاهرة عند بداية الدخول في الفضاء الخارجي ؛ ولكن الجسم يتعود على ذلك ، ويزول الصداع . ومن ناحية أخرى تعود مشكلة الجاذبية الأرضية عند عودة رائد الفضاء ، وقد تكون المشكلة أقسى وأشد . ولأجل هذا الغرض ، تم اختراع لباس رائد الفضاء الخاص .
ملابس للوقاية من العدوى :
يرتدي الأطباء ثيابًا خاصة معقمة ، وقفازات مطاطية ، تحول دون دخول الجراثيم إلى المريض عند إجراءات الفحص ، والعمل الجراحي والعكس .
السرابيل المعنوية :
لباس التقوى : قال الله تعالى :﴿ يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ﴾(الأعراف: 26)
ولباس التقوى هو لباس الإيمان والعمل الصالح والتقرب إلى الله تعالى ، والعمل بما أمر سبحانه من خلال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، بدءًا بأنفسنا ورعيتنا , لنقي أنفسنا وأهلينا نار جهنم ؛ لأنه أقوى وأفضل أنواع الوقاية .
فبتقوى الله عز وجل يرتقي الإنسان من عالم الماديات إلى عالم أخر ، يحس فيه بالنشوة عند ذكر الله تعالى ؛ لأن نفسه البشرية ارتقت عبر سلم درجاتها ؛ لتصل آخر المطاف إلى النفس المطمئنة . فبالتقوى نقي ونحمي أنفسنا ، وبالإيمان والورع تعتق رقابنا من النار . جعلنا الله تعالى ممن يلبسون لباس الإيمان والتقوى والورع ، إنه سميع مجيب .
أوجه الإعجاز :
قال الله تعالى:﴿ وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ ﴾
عبر القرآن الكريم في هذه الآية عن الدور الرئيسي للسرابيل بأنواعها , وبينت دورها في وقاية صاحبها الذي يرتديها من الآفات والأمراض في وقت السلم ، ومن الجروح والطعنات في وقت الحرب بكلمة واحدة ، وهي كلمة ( تقيكم ) . ومنها تعلمنا أن السرابيل المصنوعة من القطن والصوف والكتان وغيرها من المواد ذات الموصلية الحرارية الرديئة الوقاية فقط ؛ فهي لا تدفيء ، ولا تبرد ؛ وإنما تحفظ حرارة الجسم الذي بداخلها . ودور بعض الألبسة الحديثة التي تقوم بحماية الإنسان من أخطار سلاح التدمير الشامل .
ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا : من علم الحبيب المصطفى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم هذه الحقائق ، وكيف علم أنواع السرابيل ، وكيفية عملها ؟ إنه بلا شك ما كان إلا رسول كريم , أرسله الحليم العليم ، وأيده بسلطان مبين ؛ ليكون رحمة للعالمين وشفيعا للمسلمين .