بسم الله الرحمن الرحيم :﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَاب ﴾[ سورة النور: 39]
أولاً- السراب عند المفسرين الأوائل :
هذا مثل ضربه اللّه تعالى للكفار الذين يحسبون أنهم على شيء من الأعمال والاعتقادات . فمثلهم في ذلك بالسراب بقيعة ، يحسبه الظمآن ماء . والسراب : ما يرى نصف النهار وقت اشتداد الحر كالماء في المفاوز يلتصق بالأرض . وأما الآل فهو الذي يكون وقت الضحى كالماء ؛ إلا أنه يرتفع عن الأرض حتى يصير كأنه بين الأرض والسماء . وسمِّي : السراب سرابًا ؛ لأنه يسرب سروبًا . أي : يجري كالماء , ولانسرابه في مرأى العين . ويقال : سرب الفحل . أي : مضى وسار في الأرض . ولا يكون السراب إلا في الأرض القيعة وقت الحر ، فيغتر به العطشان . قال الشاعر :
فلما كففنا الحرب كانت عهودهم ** لمع سراب بالفلا متألق
وقال ذو الرمة يصف السَّرابَ :
يَجْرِي ، فَيَرْقُد أَحْيانًا ، ويَطْرُدُه ** نَكْباءُ ظَمْأَى ، من القَيْظِيَّةِ الهُوج
والقيعة جمع القاع ؛ مثل جيرة وجار . والقاع ما انبسط من الأرض واتسع ، ولم يكن فيه نبت ، وفيه يكون السراب . وأصل القاع : الموضع المنخفض الذي يستقر فيه الماء ، وجمعه : قيعان . وقال الجوهري : القاع : المستوي من الأرض .
والحسبان في قوله تعالى :﴿ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ﴾ يدل على أن الشيء الذي تحسبه موجود , وهو في الحقيقة ليس كذلك , فهو غير موجود حقيقة . وبالتالي فهو مناقض لما ترى . والظمآن هو العطشان . وقال الزجاج : هو أَشدُّه . والظَّمْآن : العَطْشانُ . وقد ظمِئَ فلان يَظْمَأُ ظَمَأً ، إِذا اشتدَّ عَطَشُه . وهو ظَمِئٌ وظَمْآنُ , والأُنثى ظَمْأَى ، وقوم ظِماءٌ . أَي : عِطاشٌ . ورجل مِظْماءٌ : مِعطاشٌ ، وظَمِئَ إِلى لِقائه : اشْتاقَ . قال الكميت :
إِلَيْكُم ذَوي آلِ النبيِّ تَطَلَّعَتْ ** نَوازِعُ من قَلْبِي ، ظِماءٌ ، وأَلْبُبُ
استعار الظِّماء للنَّوازِعِ ، وأَظْمَأْتُه : أَعْطَشْتُه . فيكون المعنى : إذا رأى السراب من هو محتاجٌ إلى الماء , يقصده ؛ ليشرب منه ؛ لأنه على حد علمه ماء يشرب , فلما انتهى إليه ، لم يجده شيئا ً. فكذلك الكفار , يُعوِّلون على ثواب أعمالهم , فإذا حاسبهم اللّه سبحانه وتعالى يوم القيامة عليها ، لم يجدوا منها شيئًا ؛ كما قال الله تعالى :﴿ وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا ﴾[الفرقان: 23]
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الطويل :« أنه يقال يوم القيامة لليهود ما كنتم تعبدون ؟ فيقولون : كنا نعبد عزير ابن اللّه ، فيقال كذبتم ، ما اتخذ اللّه من ولد ، ماذا تبغون ؟ فيقولون : يا رب عطشنا فاسقنا ، فيقال : ألا ترون ؟ فتتمثل لهم النار كأنها سراب يحطم بعضها بعضًا ، فينطلقون فيتهافتون فيها » . صحيح مسلم بشرح النووي ، للإمام النووي كتاب. باب معرفة طريق الرؤية .
فالسراب كما فهمه السلف الصالح وعلماء اللغة العربية أنه فيما لا حقيقة له . وكانت العرب تضرب به المثل في الكذب ؛ فمن أمثالهم :« السَّرَاب أكْذَبُ مِنْ يَلْمَع » . وقال الشاعر :
وإنك ، والتماس الأجر بعدي ** كباغي الماء يتبع السرابا
فالسراب في الحقيقة خدعة بصرية يحسبه الرائي ماء لا وجود له .
السبق العلمي لدراسة ظاهرة السراب:
كان السبق في دراسة هذه الظاهرة إلى علمائنا المسلمون الكبار وعلى رأسهم صاحب كتاب المناظر في البصريات العالم المسلم الحسن ابن الهيثم البصري الذي كان رائداً في هذا المجال وكان أول من أعطى تفسيراً لهذه الظاهرة بشكل علمي وفيزيائي.
ثانيًا- تفسير السراب من الناحية العلمية :
يعتبر انتشار الضوء على هيئة خطوط مستقيمة ومتوحدة الخواص إحدى المسلمات الأساسية في علم البصريات ، حيث ينتشر الضوء بالوسط الشفاف والمتجانس وموحد الخواص على هيئة خطوط مستقيمة ، طالما لم يعترضه عائق . ويتميز الوسط البصري بوجود معامل يطلق عليه : معامل الانكسار الذي يقيس سرعة الضوء بهذا الوسط . فكلما زاد هذا المعامل ، كلما كانت سرعة انتشار الضوء بالوسط صغيرة . ويتوقف معامل الانكسار للهواء على كثافته ، وبالتالي على درجة حرارته . فكلما زادت كثافة الهواء ، كلما انخفض معامل الانكسار . ويتكون السراب نتيجة لانكسار الضوء في الهواء ، وهو يحدث عندما تكون طبقات الهواء القريبة من سطح الأرض أقل كثافة من طبقات الهواء الأعلى . فعندما تسطع الشمس في أيام الصيف في الصحراء ، أو على الطرق المرصوفة ، ترتفع درجة حرارة سطح الأرض ، وترتفع درجة حرارة طبقة الهواء الملامسة والقريبة من سطح الأرض ، فتتمدد وتقل كثافتها ، وكذلك كثافتها الضوئية ومعامل انكسارها . وبذلك يزداد معامل انكسار الهواء تدريجيًّا ، كلما ارتفعنا إلى أعلى ، حيث يبرد الهواء .
تعريف ظاهرة السراب :
هي خدعة بصرية ( ضوئية ) تحدث نتيجة ظروف البيئة المحيطة ، من اشتداد درجة الحرارة والأرض المستوية ، واختلاف في معامل الانكسار ، مما يجعلها في حالة توهج شديد ، حيث تبدو كالماء الذي يلتصق بالأرض ؛ ليعكس صورًا وهمية للأجسام ، وكأنها منعكسة عن سطح مرآة كبيرة . وترجع تسمية السراب عند العرب إلى سرب الماء . أي : جريه . أما التسمية الإنكليزية لهذه الظاهرة فتعود إلى كلمة/ mirage / وتعني : المرآة باللغة الفرنسية .
أنواع السراب :
السراب أنواع : السراب السفلي . والسراب الجانبي . والسراب القطبي .
أولاً- أما السراب السفلي ؛ فمنه ما يسمَّى بالسراب الصحراوي ، ومنه ما يسمَّى بسراب المدن .
أ- السراب الصحراوي : يحدث هذا النوع من السراب في الصحراء نتيجة الحرارة الشديدة التي تنعكس عن رمالها مما يجعلها في حالة توهج شديد ؛ ليأخذ شكل سطح مائي أمام عين الناظر ( المسافر ) ، فيعكس صورًا عديدة وهمية تمثل انعكاسًا للمسافة الممتدة أمامه , ويفسر ذلك بأن كثافة طبقة الهواء الساخنة القريبة من الأرض تكون أقل من الطبقات الأعلى منها ، مما يجعل الضوء المنعكس عن هذه المنطقة يصاب بدرجة من التقوس والانحناء تجعله يرتد عنها إلى أعلى ، فيبدو لعين الناظر ؛ وكأنه سطح مرآة ينعكس عليه صفحة الماء الهادئ ، ويمتد أمامه إلى مالا نهاية بسبب شدة الحرارة ، بدليل أنه كلما اقترب منه ابتعد عنه {10} .
ب- سراب المدن : يحدث هذا النوع من السراب في المدن وخاصة على الطرق المبلطة والمعبدة بالإسفلت الذي يسخن بشدة تحت تأثير أشعة الشمس ، وبفضل لونه الأسود ، فيبدو سطح الطريق من بعيد ، وكأنه مغطى ببركة من المياه ، ويعكس الأجسام البعيدة ؛ وبذلك يدرك الناظر أن هذه الظاهرة خدعة بصرية ؛ لأنه كلما اقترب منها ، ابتعدت عنه , وتبقى المسافة ثابتة بين البركة الخادعة وعينه .
ثانيًا- وأما السراب الجانبي : فهو انعكاس لأحد الجدران العمودية الساخنة بتأثير الشمس , وقد أتى على وصفه أحد المؤلفين الفرنسيين ، حين لاحظ عند اقترابه من سور القلعة أن الجدار المسطح للسور بدأ يلمع فجأة مثل المرآة ، وقد انعكس فيه المنظر الطبيعي بما فيه الأرض والسماء ، وعند اقترابه عدة خطوات إلى الأمام ، لاحظ نفس التغيير قد طرأ على الجدار الآخر للسور ، وبدا له وكأن السطح الرمادي غير المنتظم قد تحول إلى سطح لماع ، وكان يومًا شديد الحر أدى إلى تسخين الجدار بشدة ، واختلفت الكثافة بين طبقات الهواء ، وبالتالي اختلفت معاملات الانكسار ، وهذا السبب الفيزيائي لرؤية الجدار يلمع .
والسبب الفيزيائي للسراب السفلي ، والجانبي : يكون الهواء في الحالات الثلاث السابقة أسخن بالقرب من الأرض ومعامل الانكسار ضعيفًا ، مما يجعل الضوء يسير بسرعة أكبر ، وتنحني أشعة الضوء إلى الأعلى ؛ لذا نرى انعكاس السماء ، أو جسم بعيد على الأرض ، كما لو كان هناك ماء . وما يحدث في هذه الحالة ليس مجرد انعكاس ؛ بل ما يسمى بلغة الفيزياء بالانعكاس الكلي . ولكي يحدث هذا الانعكاس ، يجب أن يكون الشعاع الداخل في طبقات الهواء مائلاً أكثر من الميل الذي هو عليه ، وفيما عدا ذلك لا تتكون لديه ( الزاوية الحرجة ) لسقوط الشعاع ، التي لا يحدث بدونها انعكاس كلي . ولكي يحدث هذا الانعكاس ، يجب أن تكون طبقات الهواء الكثيفة أعلى من الطبقات التي تقل عنها كثافة , وتتحقق هذه الحالة بوجود الهواء المتحرك ، حيث لا تتحقق بدونه ، وعند الاقتراب من السراب تزداد قيمة الزاوية المنحصرة بين الأشعة والأرض ، فيقل انحناء الأشعة ، فيختفي الماء الخادع {11} .
ثالثًا- وأما السراب القطبي : فهو ظاهرة مألوفة لسكان الشواطئ خاصة في المناطق الباردة ، وفيه تبدو الأجسام الموجودة على سطح الأرض ، وكأنها مقلوبة ومعلقة في السماء . وتحدث هذه الظاهرة عندما تكون طبقات الهواء السفلي باردة ، بينما تهب في الطبقات العليا تيارات ساخنة ؛ وبذلك تقل كثافة طبقات الهواء بزيادة بعدها عن سطح الأرض ، وبالتالي تقل معاملات انكسار طبقات الهواء المتتالية صعودًا .. لذلك إذا تتبعت شعاعًا ضوئيًّا صادرًا من مركب شراعي ، تجده ينكسر في طبقات الهواء المتتالية بعدًا عن العمود ، ومتِّخذًا مسارًا منحنيًا ، حتى تصبح زاوية سقوطه في إحدى الطبقات أكبر من الزاوية الحرجة لهذه الطبقة بالنسبة للطبقة التي تعلوها ، فينعكس انعكاسًا كليًّا ؛ ليتخذ مسارًا منحنيًا في الاتجاه المضاد ؛ ليصل إلى العين ، فيبدو المركب معلق في الهواء ، وهو مقلوب .
تفسير حدوثه :
1- عندما تكون طبقات الهواء السفلي باردة وطبقات الهواء العليا دافئة ، فإنه كلما ارتفعنا إلى أعلى ، تقل كثافة الهواء ، وبالتالي تقل معاملات الانكسار لطبقات الهواء المتتالية .
2- الشعاع الصادر من مركب شراعي ينتقل من طبقة معامل ، انكسارها كبير إلى طبقة أخرى معامل ، انكسارها صغير ؛ لذا ينكسر الشعاع مبتعدًا عن العمود المقام على الحد الفاصل .
3- يستمر انكسار الأشعة الضوئية بين طبقات الهواء المتتالية مبتعدة عن العمود المقام ، حتى تصبح زاوية السقوط في إحدى الطبقات أكبر من الزاوية الحرجة لهذه الطبقة بالنسبة للطبقة التي تليها ، فينعكس الشعاع انعكاسًا كليًّاً داخليًّ متخذًا مسارًا منحنيًا إلى أسفل .
4- عندما يصل الشعاع إلى العين ، تُرَى صورة المركب على امتداد الشعاع ، فتبدو الصورة مقلوبة ، وكأنها معلقة في السماء.
وجه الإعجاز العلمي :
لقد عبَّر القرآن الكريم عن ظاهرة السراب تعبيرًا رائعًا ، ووصفها وصفًا علميًا دقيقًا يضاهي تعريف العلماء وأصحاب الاختصاص , كما جاء وصفها أيضًا بكلام النبي المصطفى عليه صلوات الله وسلامه في الحديث الشريف . وقبل شرح أوجه الإعجاز دعونا نتذكر صفات السراب ؛ لنبين الإيجاز في تعبير آيات القرآن الكريم ، والوصف العلمي الدقيق لها .
صفات ظاهرة السراب :
1- المكان المناسب لحدوثها .
2- اشتداد الحرارة .
3- السراب يشبه سطح الماء .
4- وجود الهواء المتحرك .
5- كلما اقتربنا منه ، ابتعد عنا . ( ثبات المسافة بين عين الناظر والسراب )
قال الله تعالى في محكم تنزيله في سورة النور :
﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَاب ﴾ [ سورة النور: 39]
أما قوله سبحانه :﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ ﴾ فيعني أن السراب لا يحدث إلا في الأرض القيعة ، والتي تعني الأرض المستوية ، أو ما انبسط من الأرض ، ولا يتكون السراب إلا بوجود هذا المكان الخاص .
ولكن الكفار ليسوا فقط من أهل الصحراء الذين ألفوا السراب وعرفوه ؛ بل هم في كل مكان مأهول , فمنهم من يعيش في المدن ذات الطرقات المرصوفة والأبنية الشاهقة , ومنهم من يعيش في المناطق الساحلية .
وهنا يكمن إعجاز القرآن الكريم في أن السراب يحدث في كل الأماكن التي تكون فيها الأرض منبسطة ومستوية , وهذه المعلومات عن أنواع السراب سابقة الذكر ، لم تكن معروفة في زمن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ؛ لأنها اقتصرت على السراب الصحراوي .
وأما قوله عزّ من قائل :﴿ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء ﴾ فالظمآن هو ما اشتد عطشه ، ويصبح كذلك تحت ظروف الجو الحار . وهذا يدل على الشرط الثاني .
والإعجاز المبهر ، والذي لا جدال فيه عند أصحاب الاختصاص , تشبيه السراب بالماء ، وليس بالمرآة كما قال العلماء الغربيون ، فشتان ما بين الانعكاس عن سطح الماء ، وسطح المرآة ؛ لان حادثة السراب لا تحدث إلا بوجود الهواء المتحرك ( تيارات الحمل ) ، فتظهر طبقات الهواء متموجة مثل الماء . وهذا هو الشرط الثالث والرابع .
والمعادلة الفيزيائية لظاهرة السراب تكمن في قوله تعالى :﴿ حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا ﴾ . نستنبط من هذه الكلمات الربانية أنه كلما اقتربنا من السراب ، ابتعد عنا ، وبالتالي فإن المسافة بين عين الناظر ، والسراب ثابتة . وهذا هو الشرط الخامس .
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا : من أخبر النبي المصطفى عليه صلوات الله وسلامه قبل أكثر من أربعة عشر قرنًا عن ظاهرة السراب ، وشروطها ، وتفسيرها العلمي والفيزيائي ؟ ومن علمه أسرار اللغة العربية وفنونها , وهو النبي الأمي ؟ إنه بلا شك الله العليم التواب ، والذي نرجو برحمته لنا ولكم ولكافة المسلمين الأجر والثواب
أولاً- السراب عند المفسرين الأوائل :
هذا مثل ضربه اللّه تعالى للكفار الذين يحسبون أنهم على شيء من الأعمال والاعتقادات . فمثلهم في ذلك بالسراب بقيعة ، يحسبه الظمآن ماء . والسراب : ما يرى نصف النهار وقت اشتداد الحر كالماء في المفاوز يلتصق بالأرض . وأما الآل فهو الذي يكون وقت الضحى كالماء ؛ إلا أنه يرتفع عن الأرض حتى يصير كأنه بين الأرض والسماء . وسمِّي : السراب سرابًا ؛ لأنه يسرب سروبًا . أي : يجري كالماء , ولانسرابه في مرأى العين . ويقال : سرب الفحل . أي : مضى وسار في الأرض . ولا يكون السراب إلا في الأرض القيعة وقت الحر ، فيغتر به العطشان . قال الشاعر :
فلما كففنا الحرب كانت عهودهم ** لمع سراب بالفلا متألق
وقال ذو الرمة يصف السَّرابَ :
يَجْرِي ، فَيَرْقُد أَحْيانًا ، ويَطْرُدُه ** نَكْباءُ ظَمْأَى ، من القَيْظِيَّةِ الهُوج
والقيعة جمع القاع ؛ مثل جيرة وجار . والقاع ما انبسط من الأرض واتسع ، ولم يكن فيه نبت ، وفيه يكون السراب . وأصل القاع : الموضع المنخفض الذي يستقر فيه الماء ، وجمعه : قيعان . وقال الجوهري : القاع : المستوي من الأرض .
والحسبان في قوله تعالى :﴿ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ﴾ يدل على أن الشيء الذي تحسبه موجود , وهو في الحقيقة ليس كذلك , فهو غير موجود حقيقة . وبالتالي فهو مناقض لما ترى . والظمآن هو العطشان . وقال الزجاج : هو أَشدُّه . والظَّمْآن : العَطْشانُ . وقد ظمِئَ فلان يَظْمَأُ ظَمَأً ، إِذا اشتدَّ عَطَشُه . وهو ظَمِئٌ وظَمْآنُ , والأُنثى ظَمْأَى ، وقوم ظِماءٌ . أَي : عِطاشٌ . ورجل مِظْماءٌ : مِعطاشٌ ، وظَمِئَ إِلى لِقائه : اشْتاقَ . قال الكميت :
إِلَيْكُم ذَوي آلِ النبيِّ تَطَلَّعَتْ ** نَوازِعُ من قَلْبِي ، ظِماءٌ ، وأَلْبُبُ
استعار الظِّماء للنَّوازِعِ ، وأَظْمَأْتُه : أَعْطَشْتُه . فيكون المعنى : إذا رأى السراب من هو محتاجٌ إلى الماء , يقصده ؛ ليشرب منه ؛ لأنه على حد علمه ماء يشرب , فلما انتهى إليه ، لم يجده شيئا ً. فكذلك الكفار , يُعوِّلون على ثواب أعمالهم , فإذا حاسبهم اللّه سبحانه وتعالى يوم القيامة عليها ، لم يجدوا منها شيئًا ؛ كما قال الله تعالى :﴿ وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا ﴾[الفرقان: 23]
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الطويل :« أنه يقال يوم القيامة لليهود ما كنتم تعبدون ؟ فيقولون : كنا نعبد عزير ابن اللّه ، فيقال كذبتم ، ما اتخذ اللّه من ولد ، ماذا تبغون ؟ فيقولون : يا رب عطشنا فاسقنا ، فيقال : ألا ترون ؟ فتتمثل لهم النار كأنها سراب يحطم بعضها بعضًا ، فينطلقون فيتهافتون فيها » . صحيح مسلم بشرح النووي ، للإمام النووي كتاب. باب معرفة طريق الرؤية .
فالسراب كما فهمه السلف الصالح وعلماء اللغة العربية أنه فيما لا حقيقة له . وكانت العرب تضرب به المثل في الكذب ؛ فمن أمثالهم :« السَّرَاب أكْذَبُ مِنْ يَلْمَع » . وقال الشاعر :
وإنك ، والتماس الأجر بعدي ** كباغي الماء يتبع السرابا
فالسراب في الحقيقة خدعة بصرية يحسبه الرائي ماء لا وجود له .
السبق العلمي لدراسة ظاهرة السراب:
كان السبق في دراسة هذه الظاهرة إلى علمائنا المسلمون الكبار وعلى رأسهم صاحب كتاب المناظر في البصريات العالم المسلم الحسن ابن الهيثم البصري الذي كان رائداً في هذا المجال وكان أول من أعطى تفسيراً لهذه الظاهرة بشكل علمي وفيزيائي.
ثانيًا- تفسير السراب من الناحية العلمية :
يعتبر انتشار الضوء على هيئة خطوط مستقيمة ومتوحدة الخواص إحدى المسلمات الأساسية في علم البصريات ، حيث ينتشر الضوء بالوسط الشفاف والمتجانس وموحد الخواص على هيئة خطوط مستقيمة ، طالما لم يعترضه عائق . ويتميز الوسط البصري بوجود معامل يطلق عليه : معامل الانكسار الذي يقيس سرعة الضوء بهذا الوسط . فكلما زاد هذا المعامل ، كلما كانت سرعة انتشار الضوء بالوسط صغيرة . ويتوقف معامل الانكسار للهواء على كثافته ، وبالتالي على درجة حرارته . فكلما زادت كثافة الهواء ، كلما انخفض معامل الانكسار . ويتكون السراب نتيجة لانكسار الضوء في الهواء ، وهو يحدث عندما تكون طبقات الهواء القريبة من سطح الأرض أقل كثافة من طبقات الهواء الأعلى . فعندما تسطع الشمس في أيام الصيف في الصحراء ، أو على الطرق المرصوفة ، ترتفع درجة حرارة سطح الأرض ، وترتفع درجة حرارة طبقة الهواء الملامسة والقريبة من سطح الأرض ، فتتمدد وتقل كثافتها ، وكذلك كثافتها الضوئية ومعامل انكسارها . وبذلك يزداد معامل انكسار الهواء تدريجيًّا ، كلما ارتفعنا إلى أعلى ، حيث يبرد الهواء .
تعريف ظاهرة السراب :
هي خدعة بصرية ( ضوئية ) تحدث نتيجة ظروف البيئة المحيطة ، من اشتداد درجة الحرارة والأرض المستوية ، واختلاف في معامل الانكسار ، مما يجعلها في حالة توهج شديد ، حيث تبدو كالماء الذي يلتصق بالأرض ؛ ليعكس صورًا وهمية للأجسام ، وكأنها منعكسة عن سطح مرآة كبيرة . وترجع تسمية السراب عند العرب إلى سرب الماء . أي : جريه . أما التسمية الإنكليزية لهذه الظاهرة فتعود إلى كلمة/ mirage / وتعني : المرآة باللغة الفرنسية .
أنواع السراب :
السراب أنواع : السراب السفلي . والسراب الجانبي . والسراب القطبي .
أولاً- أما السراب السفلي ؛ فمنه ما يسمَّى بالسراب الصحراوي ، ومنه ما يسمَّى بسراب المدن .
أ- السراب الصحراوي : يحدث هذا النوع من السراب في الصحراء نتيجة الحرارة الشديدة التي تنعكس عن رمالها مما يجعلها في حالة توهج شديد ؛ ليأخذ شكل سطح مائي أمام عين الناظر ( المسافر ) ، فيعكس صورًا عديدة وهمية تمثل انعكاسًا للمسافة الممتدة أمامه , ويفسر ذلك بأن كثافة طبقة الهواء الساخنة القريبة من الأرض تكون أقل من الطبقات الأعلى منها ، مما يجعل الضوء المنعكس عن هذه المنطقة يصاب بدرجة من التقوس والانحناء تجعله يرتد عنها إلى أعلى ، فيبدو لعين الناظر ؛ وكأنه سطح مرآة ينعكس عليه صفحة الماء الهادئ ، ويمتد أمامه إلى مالا نهاية بسبب شدة الحرارة ، بدليل أنه كلما اقترب منه ابتعد عنه {10} .
ب- سراب المدن : يحدث هذا النوع من السراب في المدن وخاصة على الطرق المبلطة والمعبدة بالإسفلت الذي يسخن بشدة تحت تأثير أشعة الشمس ، وبفضل لونه الأسود ، فيبدو سطح الطريق من بعيد ، وكأنه مغطى ببركة من المياه ، ويعكس الأجسام البعيدة ؛ وبذلك يدرك الناظر أن هذه الظاهرة خدعة بصرية ؛ لأنه كلما اقترب منها ، ابتعدت عنه , وتبقى المسافة ثابتة بين البركة الخادعة وعينه .
ثانيًا- وأما السراب الجانبي : فهو انعكاس لأحد الجدران العمودية الساخنة بتأثير الشمس , وقد أتى على وصفه أحد المؤلفين الفرنسيين ، حين لاحظ عند اقترابه من سور القلعة أن الجدار المسطح للسور بدأ يلمع فجأة مثل المرآة ، وقد انعكس فيه المنظر الطبيعي بما فيه الأرض والسماء ، وعند اقترابه عدة خطوات إلى الأمام ، لاحظ نفس التغيير قد طرأ على الجدار الآخر للسور ، وبدا له وكأن السطح الرمادي غير المنتظم قد تحول إلى سطح لماع ، وكان يومًا شديد الحر أدى إلى تسخين الجدار بشدة ، واختلفت الكثافة بين طبقات الهواء ، وبالتالي اختلفت معاملات الانكسار ، وهذا السبب الفيزيائي لرؤية الجدار يلمع .
والسبب الفيزيائي للسراب السفلي ، والجانبي : يكون الهواء في الحالات الثلاث السابقة أسخن بالقرب من الأرض ومعامل الانكسار ضعيفًا ، مما يجعل الضوء يسير بسرعة أكبر ، وتنحني أشعة الضوء إلى الأعلى ؛ لذا نرى انعكاس السماء ، أو جسم بعيد على الأرض ، كما لو كان هناك ماء . وما يحدث في هذه الحالة ليس مجرد انعكاس ؛ بل ما يسمى بلغة الفيزياء بالانعكاس الكلي . ولكي يحدث هذا الانعكاس ، يجب أن يكون الشعاع الداخل في طبقات الهواء مائلاً أكثر من الميل الذي هو عليه ، وفيما عدا ذلك لا تتكون لديه ( الزاوية الحرجة ) لسقوط الشعاع ، التي لا يحدث بدونها انعكاس كلي . ولكي يحدث هذا الانعكاس ، يجب أن تكون طبقات الهواء الكثيفة أعلى من الطبقات التي تقل عنها كثافة , وتتحقق هذه الحالة بوجود الهواء المتحرك ، حيث لا تتحقق بدونه ، وعند الاقتراب من السراب تزداد قيمة الزاوية المنحصرة بين الأشعة والأرض ، فيقل انحناء الأشعة ، فيختفي الماء الخادع {11} .
ثالثًا- وأما السراب القطبي : فهو ظاهرة مألوفة لسكان الشواطئ خاصة في المناطق الباردة ، وفيه تبدو الأجسام الموجودة على سطح الأرض ، وكأنها مقلوبة ومعلقة في السماء . وتحدث هذه الظاهرة عندما تكون طبقات الهواء السفلي باردة ، بينما تهب في الطبقات العليا تيارات ساخنة ؛ وبذلك تقل كثافة طبقات الهواء بزيادة بعدها عن سطح الأرض ، وبالتالي تقل معاملات انكسار طبقات الهواء المتتالية صعودًا .. لذلك إذا تتبعت شعاعًا ضوئيًّا صادرًا من مركب شراعي ، تجده ينكسر في طبقات الهواء المتتالية بعدًا عن العمود ، ومتِّخذًا مسارًا منحنيًا ، حتى تصبح زاوية سقوطه في إحدى الطبقات أكبر من الزاوية الحرجة لهذه الطبقة بالنسبة للطبقة التي تعلوها ، فينعكس انعكاسًا كليًّا ؛ ليتخذ مسارًا منحنيًا في الاتجاه المضاد ؛ ليصل إلى العين ، فيبدو المركب معلق في الهواء ، وهو مقلوب .
تفسير حدوثه :
1- عندما تكون طبقات الهواء السفلي باردة وطبقات الهواء العليا دافئة ، فإنه كلما ارتفعنا إلى أعلى ، تقل كثافة الهواء ، وبالتالي تقل معاملات الانكسار لطبقات الهواء المتتالية .
2- الشعاع الصادر من مركب شراعي ينتقل من طبقة معامل ، انكسارها كبير إلى طبقة أخرى معامل ، انكسارها صغير ؛ لذا ينكسر الشعاع مبتعدًا عن العمود المقام على الحد الفاصل .
3- يستمر انكسار الأشعة الضوئية بين طبقات الهواء المتتالية مبتعدة عن العمود المقام ، حتى تصبح زاوية السقوط في إحدى الطبقات أكبر من الزاوية الحرجة لهذه الطبقة بالنسبة للطبقة التي تليها ، فينعكس الشعاع انعكاسًا كليًّاً داخليًّ متخذًا مسارًا منحنيًا إلى أسفل .
4- عندما يصل الشعاع إلى العين ، تُرَى صورة المركب على امتداد الشعاع ، فتبدو الصورة مقلوبة ، وكأنها معلقة في السماء.
وجه الإعجاز العلمي :
لقد عبَّر القرآن الكريم عن ظاهرة السراب تعبيرًا رائعًا ، ووصفها وصفًا علميًا دقيقًا يضاهي تعريف العلماء وأصحاب الاختصاص , كما جاء وصفها أيضًا بكلام النبي المصطفى عليه صلوات الله وسلامه في الحديث الشريف . وقبل شرح أوجه الإعجاز دعونا نتذكر صفات السراب ؛ لنبين الإيجاز في تعبير آيات القرآن الكريم ، والوصف العلمي الدقيق لها .
صفات ظاهرة السراب :
1- المكان المناسب لحدوثها .
2- اشتداد الحرارة .
3- السراب يشبه سطح الماء .
4- وجود الهواء المتحرك .
5- كلما اقتربنا منه ، ابتعد عنا . ( ثبات المسافة بين عين الناظر والسراب )
قال الله تعالى في محكم تنزيله في سورة النور :
﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَاب ﴾ [ سورة النور: 39]
أما قوله سبحانه :﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ ﴾ فيعني أن السراب لا يحدث إلا في الأرض القيعة ، والتي تعني الأرض المستوية ، أو ما انبسط من الأرض ، ولا يتكون السراب إلا بوجود هذا المكان الخاص .
ولكن الكفار ليسوا فقط من أهل الصحراء الذين ألفوا السراب وعرفوه ؛ بل هم في كل مكان مأهول , فمنهم من يعيش في المدن ذات الطرقات المرصوفة والأبنية الشاهقة , ومنهم من يعيش في المناطق الساحلية .
وهنا يكمن إعجاز القرآن الكريم في أن السراب يحدث في كل الأماكن التي تكون فيها الأرض منبسطة ومستوية , وهذه المعلومات عن أنواع السراب سابقة الذكر ، لم تكن معروفة في زمن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ؛ لأنها اقتصرت على السراب الصحراوي .
وأما قوله عزّ من قائل :﴿ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء ﴾ فالظمآن هو ما اشتد عطشه ، ويصبح كذلك تحت ظروف الجو الحار . وهذا يدل على الشرط الثاني .
والإعجاز المبهر ، والذي لا جدال فيه عند أصحاب الاختصاص , تشبيه السراب بالماء ، وليس بالمرآة كما قال العلماء الغربيون ، فشتان ما بين الانعكاس عن سطح الماء ، وسطح المرآة ؛ لان حادثة السراب لا تحدث إلا بوجود الهواء المتحرك ( تيارات الحمل ) ، فتظهر طبقات الهواء متموجة مثل الماء . وهذا هو الشرط الثالث والرابع .
والمعادلة الفيزيائية لظاهرة السراب تكمن في قوله تعالى :﴿ حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا ﴾ . نستنبط من هذه الكلمات الربانية أنه كلما اقتربنا من السراب ، ابتعد عنا ، وبالتالي فإن المسافة بين عين الناظر ، والسراب ثابتة . وهذا هو الشرط الخامس .
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا : من أخبر النبي المصطفى عليه صلوات الله وسلامه قبل أكثر من أربعة عشر قرنًا عن ظاهرة السراب ، وشروطها ، وتفسيرها العلمي والفيزيائي ؟ ومن علمه أسرار اللغة العربية وفنونها , وهو النبي الأمي ؟ إنه بلا شك الله العليم التواب ، والذي نرجو برحمته لنا ولكم ولكافة المسلمين الأجر والثواب