فَأْتُوا
بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ
قال تعالى عز وجل :﴿ وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ
مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا
شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ *فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا
فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ
لِلْكَافِرِينَ ﴾(البقرة:23-24) .
أولاً- هذه الآية الكريمة من سورة
البقرة ، وهي سورة مدنية ، والغرض منها أن الله جل وعلا ، بعد أن قرَّر في مكة المكرمة
عجز الإنس والجن مجتمعين عن الإتيان بمثل هذا القرآن العظيم في قوله تعالى :﴿ قُلْ
لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا
الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ﴾(الإسراء:
88) ، وتحدَّى الخلق عامة ، والمكذبين خاصة أن يأتوا :﴿ بِسُورَةٍ
مِثْلِهِ ﴾(يونس: 37) ،
و﴿بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ ﴾(هود: 13) ،
و﴿ بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ ﴾(الطور: 34) ،
أعاد سبحانه وتعالى هذا التحدي في المدينة المنورة بعد الهجرة ، فأمر الناس جميعهم
عامة ، والمرتابين في القرآن الكريم من كفار العرب ، ومشركيهم خاصة أن يأتوا بسورة
واحدة من هذا المِثل للقرآن ، وأسجل عليهم إسجالاً عامًا إلى يوم القيامة ، أنهم
لم يفعلوا ، ولن يفعلوا ذلك أبدًا ، فليتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة ،
أعدت للكافرين ، من أمثالهم .
ويبدأ هذا التحدي بلفتة لها قيمتها في هذا المجال ، هي وصف
الرسول عليه الصلاة والسلام بالعبودية لله الواحد القهار . ولهذا الوصف في هذا الموضع دلالات منوعة متكاملة : فهو أولاً تشريف للنبي
صلى الله عليه وسلم، وتقريب بإضافة عبوديته لله تعالى ، دلالة على أن مقام
العبودية لله جل وعلا هو أسمى مقام يدعى إليه بشر ، ويدعى به كذلك . وهو ثانيًا تقرير لمعنى العبودية في مقام دعوة الناس كافة إلى عبادة ربهم وحده , واطِّراح الأنداد كلها من دونه . فها هو ذا النبي صلى الله عليه وسلم في مقام الوحي-
وهو أعلى مقام- يدعَى بالعبودية لله الخالق ,
ويشرَّف بهذه النسبة في هذا المقام .
وقيل في سبب نزول هذه الآية الكريمة
: أنها نزلت في جميع الكفار . وروي عن ابن عباس- رضي الله عنهما- ومقاتل : أنها نزلت في اليهود . وسبب ذلك أنهم قالوا : هذا الذي يأتينا به محمد لا يشبه الوحي ، وإنا لفي شك
منه .. والأظهر هو القول الأول .
ومناسبة الآية لما قبلها: أن الله
عز وجل بعد أن فرغ من تقرير الإلهية والوحدانية ، شرع سبحانه في تقرير النبوة ،
واحتج بهذه الآية الكريمة على صدق نبوة رسوله عليه الصلاة والسلام ، وصحة ما جاء
به من القرآن ، وأنه من عنده وأنه كلامه الذي يتكلم به ، وأنه ليس من صنعة البشر
، ولا من كلامهم .
وتقرير الإلهية والوحدانية
، وتقرير النبوةتوأمان ، لا ينفك أحدهما عن الآخر .
فالآية وإن سيقت لبيان الإعجاز ، إلا أن الغرض من هذا الإعجاز إثبات النبوة .
ثانيًا- قوله تعالى :﴿ وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا
فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ ﴾ تنبيه على أن القرآن الذي
نزَّله الله تعالى على عبده ، لا رَيْبَ فيه ؛ كما قال تعالى في أول السورة :﴿ ذَلِكَ الْكِتَابُ
لَا رَيْبَ فِيهِ ﴾(البقرة: 2) ، فنفى جنس الرَّيب فيه على سبيل
الاستغراق . وتنكير الرَّيْب ، للإشعار بأن حقه- إن كان- أن يكون ضعيفًا قليلاً ،
لسطوع ما يدفعه ، وقوة ما يزيله .ومثله في ذلك قوله تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن
كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ ﴾(الحج: 5)
والرَّيْب- في اللغة- أن تتوَّهم
بالشيء أمرًا مَّا ، فينكشف عمَّا تتوَّهمه ، وحقيقته : قَلَقُ النفس . يقال :
رابني الشيء وأرابني . وقيل : دَعْ ما يريبك إلى ما لا
يريبك ؛ فإن الشك ريبة ، وإن الصدق طمأنينة . والرِّيبةُ :
اسم من الرَّيْب . والارتيابُ يجرى مجرى الإرابة . وقد أثبت الله تعالى وقوع
الارتياب من الكافرين والمشركين والمنافقين ، فقال سبحانه :﴿ وَتَرَبَّصْتُمْ
وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ ﴾(الحديد:
14) ، ونفاه تعالى من الذين أوتوا الكتاب ، ومن المؤمنين ، فقال سبحانه
:﴿ وَلَا
يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ ﴾(المدّثر:
31) . وقوله تعالى:﴿ رَيْبَ
الْمَنُونِ ﴾(الطور: 30) ، سمَّاه رَيْبًا ، لا أنه
مُشكَّكٌ في كونه ؛ بل من حيث تشكُّكٍ في وقت حصوله . فالإنسان أبدًا في رَيْبِ المنون ، من جهة وقته ، لا من جهة كونه .
وقال تعالى هنا :
﴿ وَإِنْ
كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا ﴾(البقرة:
23) ،
وقال في يونس :
﴿ إِن كُنتُمْ فِي شَكٍّ مِّن
دِينِي﴾(يونس: 104) ،
فاستعمل الرَّيْب في الأول ، والشَّكَّ في الثاني . والسرُّ في ذلك أن الشَّكَّ هو
تردُّدُ الذهن بين أمرين على حدٍّ سواء . أما الرَّيْبُ
فهو شَكٌّ بتهمة ، وهو من قولهم : رَابَ : حقَّق التهمة .
قال الشاعر :
ليس في الحق يا أميْمةُ رَيْبٌ ** إنما
الرَّيبُ ما يقول الكذوب
ولما كان المشركون ، مع شكِّهم في القرآن ، يتهمون النبي صلى
الله عليه وسلم بأنه هو الذي افترى القرآن وأعانه عليه قوم آخرون ، نفى الله تعالى
عنه أولاً جنس الرَّيب على سبيل الاستغراق بقوله تعالى :﴿ ذَلِكَ الْكِتَابُ
لَا رَيْبَ فِيهِ ﴾(البقرة: 2) ، ثم نبَّه ثانيًا على أنه لا ريب فيه بقوله :﴿ وَإِنْ كُنْتُمْ فِي
رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا ﴾(البقرة: 23) .
وأما قوله تعالى :﴿ إِن كُنتُمْ فِي شَكٍّ
مِّن دِينِي ﴾(يونس: 104) فيمكن أن يكون الخطاب مع أهل
الكتاب ، أو غيرهم ممَّن كان يعرف النبي صلى الله عليه وآله بالصدق والأمانة ، ولا
ينسبه إلى الكذب والخيانة .
فإن قيل : كيف نفى سبحانه وتعالى أن يكون
في القرآن رَيْبٌ ، ثم خاطب المشركين بقوله :﴿ وَإِنْ كُنْتُمْ فِي
رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا ﴾(البقرة: 23) ؟ فالجواب :
أنه لا تنافيَ بين كونهم في رَيْبٍ من القرآن ، وبين نفي الرَّيب عن القرآن ؛ لأن
نفيَ الرَّيب يدل على نفي الماهيَّة . أي : ليس ممَّا
يحلُّه الرَّيْبُ ، ولا يكون فيه ، ولا يدل على نفي الارتياب فيه ؛ لأنه قد وقع
ارتياب فيه من ناس كثيرين .
ولا يردُّ على ذلك بقوله تعالى :﴿ وَإِنْ
كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ ﴾ ، لاختلاف في الحالِّ والمحلول فيه
. فالمحلول فيه هنا هم المخاطبون ، والرَّيْبُ هو
الحالُّ فيهم . والحالُّ في قوله تعالى :﴿ لاَ
رَيْبَ فِيهِ ﴾ مَنفيُّ ، والمحلُّ هو الكتاب ، فلا
تنافي بين كونهم في رَيْبٍ من القرآن ، وكون الرَّيْب منفيًّا عن القرآن .
ووجهُ الإتيان بـ﴿ فِيْ
﴾ الدالة على الظرفية هو الإشارةُ إلى أنهم قد امتلكهم الريب ، وأحاط
بهم إحاطة الظرف بالمظروف . واستعارة ﴿ فِيْ
﴾ لمعنى الملابسة شائعة في كلام العرب ؛
كقولهم :« هو في نعمة »
.
وفي قوله تعالى :﴿
نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا ﴾ التفات ؛ لأنه انتقال من
ضمير الغائب إلى ضمير المتكلم ؛ لأن قبله قوله تعالى :﴿
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ ﴾(البقرة: 21)
، وقوله تعالى :﴿ فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً
وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾(البقرة: 22) .
فلو جرى الكلام على هذا السياق ، لكان نظم الكلام هكذا :﴿ مِمَّا
أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِه ﴾ ؛ لكن في هذا الالتفات من التفخيم
للمنزَّل ، والمنزَّل عليه ما لا يؤدِّيه ضمير غائب ، لا سيَّما كونه أتى بـ{
نَا }المشعرة بالتعظيم التام ، وتفخيم الأمر . ونظير ذلك قوله تعالى:﴿
وَهُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ مِنَ
السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ ﴾(الأنعام:
99) .
وفي تعدي ﴿
نَزَّلَ ﴾ بـ﴿ عَلَى ﴾ إشارة
إلى استعلاء المنزَّل على المنزَّل عليه ، وتمكُّنه منه ، وأنه قد صار كالملابس له
، بخلاف ﴿ إِلَى ﴾ ؛ فإنها تدل على الانتهاء
والوصول ؛ كما في قوله تعالى :﴿ وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا
إِلَيْهِمُ الْمَلآئِكَةَ ﴾(الأنعام: 111)
.
ولما كانوا في ريب من القرآن حقيقة
، وكانت ﴿ إِنْ ﴾
الشرطية ؛ إنما تدخل على المُمْكِن ، أو المحقَّقِ
المبهمِ زمانُ وقوعه ، ادَّعى بعضهم أنَّ ﴿ إِنْ ﴾
ههنا معناها :﴿ إِذَا ﴾ ؛
لأن ﴿ إِذَا ﴾ تفيد
مضيَّ ما أضيفت إليه . ومذهب المحققين أنَّ ﴿ إِنْ
﴾ لا تكون بمعنى :﴿
إِذَا ﴾ . والذي قالوه :
إن الواقع ، ولا بد ، يعلق بـ﴿ إِذَا
﴾ . وأما ما يجوز أن يقع ، وأن لا يقع ، فهو
الذي يعلق بـ﴿ إِنْ ﴾
، وإن كان بعد وقوعه متعيِّن الوقوع .
وقوله تعالى :﴿ فَأْتُوا
بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ ﴾ أمرٌ من الإتيان ، وهو المجيء بسهولة
، كيفما كان . يقال : أتى بالشيء من مكان كذا إلى مكان كذا ، إذا جاء به بسهولة
ويسر . وهذا لا يقدر عليه إلا من آتاه الله تعالى بسطة في الجسم ، أو العقل والعلم
. تأمل قوله تعالى :﴿ قَالَ
عِفْريتٌ مِّنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ
وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ *
قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن
يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ ﴾(النمل: 39- 40) ،
كيف نبَّه تعالى على أن الذي عنده علم من الكتاب ، وهو رجل من أهل الحكمة ، اقتدر على
الإتيان بعرش بلقيس ، وتغلب على العفريت ، مع ما فيه من قوة وشدة ، بقوة العلم !
وصيغة الأمر
﴿ فَأْتُوا ﴾ للتهكم
، ومذهب جمهور المفسرين أنها للتعجيز ؛ لأن المراد بها ليس طلب
ذلك منهم ، بل المراد بها إظهار عجزهم . والمعروف أن الأمر ضد النهي ، وهو طلب الفعل ، وصيغته : افعل ، وليفعل . وهي حقيقة
في الإيجاب ؛ نحو قوله تعالى :
﴿ وَأَقِيمُواْ
الصَّلاَةَ ﴾(البقرة: 43) ، وقوله
تعالى :
﴿ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ ﴾(النساء:
102). ومثل ذلك قوله تعالى:
﴿ فَأْتُوا بِسُورَةٍ
مِنْ مِثْلِهِ ﴾- ﴿ فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ ﴾ .
فالأمر فيهما باقٍ على حقيقته ، بدليل أن الله تعالى لم يطلب ذلك منهم مطلقًا ؛ بل
إنما قال عقب كل منهما :﴿ إِنْ
كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ ..
ومثل ذلك قوله تعالى :
﴿ قُلْ
فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾(آل
عمران: 93) .
﴿ قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ
مِّنْ عِندِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِن
كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾(القصص: 49) .
﴿ قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا
تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ
شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ اِِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ
مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾(الأحقاف: 4)
.
﴿ فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِن
كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾(الصافات: 157) .
﴿ فَلْيَأْتُوا
بِشُرَكَائِهِمْ إِن كَانُوا صَادِقِينَ ﴾(القلم: 41) .
وعلى هذا التقدير ووجود ذلك الشرط ،
يجب الإتيان بالشيء المأمور به .. أما أمر التعجيز في كلام الله تعالى فمثاله قوله
إبراهيم- عليه السلام- لنمرود الكافر :
﴿ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي
بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي
كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾(البقرة:
258) .
والتنوين في ﴿ ِسُورَةٍ
﴾ للتنكير . أي : ائتوا بسورة مَّا ، وهي
القطعة من القرآن التي أقلها ثلاث آيات . وفيه من التبكيت والتخجيل لهم في
الارتياب ما لا يخفى .
ثالثًا- واختلف
المفسرون في مرجع الضمير في قوله :﴿ مِنْ
مِثْلِهِ ﴾ على قولين :
أحدهما : أنه يعود
على قوله تعالى :﴿ مِمَّا
نَزَّلْنَا ﴾ . أي : على القرآن . والثاني
: أنه يعود على قوله تعالى :﴿ عَبْدِنَا ﴾
. أي يعود على النبي صلى الله عليه وسلم .
واختلفوا في المراد بالمثلية على
كون الضمير عائدًا على القرآن على أقوال هي إلى التأويل البعيد أقرب منها إلى
التفسير الصحيح ؛ لأنها مبنيَّة أولاً على فهم غير صحيح لمعنى المثل ؛ ولأن
قائلوها ثانيًا لم يفرقوا بين الإتيان بالشيء ، وقول الشيء. وكلاهما أوضح من أن
ينبَّه عليه ، أو يشار إليه . وهذه الأقوال هي كما ذكرها
أبو حيَّان :
الأول : من
مثله : في حسن النظم ، وبديع الرصف ، وعجيب السرد ، وغرابة الأسلوب ، وإيجازه ،
وإتقان معانيه .
الثاني : من
مثله : في غيوبه من إخباره بما كان ، وبما يكون .
الثالث : من
مثله : في احتوائه على الأمر والنهي ، والوعد والوعيد ، والحكم والمواعظ ، والقصص
والأمثال .
الرابع : من مثله :
في صدقه وسلامته من التبديل والتحريف .
الخامس : من
مثله : أي : من كلام العرب الذي هو من جنسه .
السادس : من
مثله : في أنه لا يخلق على كثرة الرد ، ولا تمله الأسماع ، ولا يمحوه الماء ، ولا
تفنى عجائبه ، ولا تنتهي غرائبه .
السابع : من
مثله : في دوام آياته ، وكثرة معجزاته .
الثامن : من
مثله : في كونه من كتب الله المنزلة على من قبله ، تشهد لكم بأن ما جاءكم به ليس
هو من عند الله .
ومذهب أكثر المفسرين أن ذكر
المِِثْل في قوله :﴿ مِنْ
مِثْلِهِ ﴾ هو على سبيل الفرض . ومذهب
بعضهم أن المراد به : كلام العرب الذي هو من جنسه ،
فيكون ذكره ليس على سبيل الفرض .
ثم اختلفوا في معنى ﴿ مِنْ
﴾ ،
فقيل : هي للتبعيض ، وهو مذهب الجمهور . وقيل : هي لبيان الجنس ، وإليه ذهب الشيخ
ابن عطية والمَهدَويُّ وغيرهما . وذهب بعضهم إلى أنها زائدة ؛
ولهذا حذفت في قوله تعالى :﴿ فَأْتُوا بِسُورَةٍ
مِثْلِهِ ﴾(يونس: 38) .
أما كون ﴿
مِنْ ﴾ لبيان الجنس فلا يجوز على مذهب البصريين .
وأما كونها زائدة في هذا الموضع فلا يجوز على مذهب الكوفيين وجمهور البصريين . وليس في قوله تعالى:﴿
فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ ﴾(يونس: 38)
دليل على زيادتها ؛ لأن المراد به : فأتوا بكلام مثل
القرآن . أو بقرآن مثل القرآن . وإذا كان كذلك ، فلا وجه
لدخول ﴿ مِنْ ﴾ فيه . وأما قوله تعالى :﴿ بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ ﴾(البقرة:
23) فالمراد به : فأتوا بسورة واحدة من مثل القرآن ، طويلة كانت ،
أو قصيرة ؛ لأن لفظ ﴿ سُورَة ﴾ يعمُّ
كل سورة في القرآن ؛ لأنه نكرة في سياق الشرط ، فتعمُّ ؛ كما هي في سياق النفي .
وعليه فإن ﴿ مِنْ ﴾ فيه لابتداء الغاية ، وهي متعلقة بقوله :﴿
فَأْتُوا ﴾ .
وأما المراد بالمثليّة هنا فهو
كالمراد بها في قوله تعالى :
﴿ قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ
وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ
بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ﴾(الإسراء: 88)
وهذا ما فصَّلت القول فيه في مقالي السابق :( هـذا
القـرآن ) ، فأغنى
ذلك عن إعادته هنا .
رابعًا- لما طالب
سبحانه وتعالى المشركين أن يأتوا بسورة من مثل القرآن- على تقدير حصولهم في ريب من
كون هذا القرآن من عند الله- لم يكتف بقولهم ذلك بأنفسهم ، حتى طلب منهم أن يدعو
شهداءهم على الاجتماع على ذلك ، والتظافر والتعاون والتناصر ، فقال سبحانه :﴿
وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾
.
وصيغة الأمر هنا :﴿ ادْعُوا
﴾ للإباحة ، بخلاف صيغة الأمر قبلها ﴿
فَأْتُوا ﴾ ، فتلك للتهكم بهم ؛ لأنهم غير قادرين على ذلك
. وفسر بعضهم الدعاء- هنا- بطلب الغوث . يقال : دعا فلانًا : استغاث به . وبالاستحضار . يقال : دعا فلان فلانًا إلى الحاكم : استحضره
إليه .
والشهداء في قوله تعالى :﴿ شُهَدَاءَكُمْ
﴾ مقيَّد بلفظه ، وهو جمع : شهيد ، بمعنى : شاهد ، من شهد ، إذا حضر .
وجيء به على: فعيل ، لما فيه من المبالغة ؛ وكأنه تعالى
أشار إلى أن يأتوا بشهداء بالغين في الشهادة يصلحون أن تقام بهم الحجة . والشهيد
كما قال الراغب : كل من يُعتَدُّ بحضوره ممن له الحل
والعقد ؛ ولذا سمُّوا غيره : مُخلِفًا . وقوله تعالى :﴿ إِنْ
كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ عبارة شرطية ، جيء بها قيْدًا على
الجملة قبلها . وفيها إثارة لحماسهم ، أو تهكم بهم .
خامسًا- ولما كان
أمره جل وعلا إياهم بالإتيان بسورة من مثله أمر تحدٍّ وتهكم ؛ لأنهم غير قادرين
على ذلك ، انتقل سبحانه وتعالى إلى إرشادهم ، فقال لهم :﴿
فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا
النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ﴾(البقرة:
24) ، فذكر ههنا أمرين :
أحدهما : أنهم لم يفعلوا . والثاني : أنهم لن يفعلوا ؛ لأنهم ليسوا
بقادرين على ذلك . ولكونه عاجزين عن الفعل أمرهم تعالى باتقاء النار التي أعدَّها
للكافرين من أمثالهم .
وأتى بـ﴿
إِنْ ﴾ الشرطية التي تدل على إمكان ما بعدها وعدم
إمكانه ، ولم يأت بـ﴿ إِذَا ﴾ التي
تدل على تحقُّق ما بعدها زيادة في التهكُّم بهم ؛ كما يقول القائل : إن غلبتك ، لم
أبق عليك ، وهو يعلم أنه غالب .
و﴿
لَنْ ﴾ لنفي المستقبل . فقد ثبت الخبر أنهم
فيما يستقبل من الزمان ، لن يأتوا ﴿
بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ ﴾ ؛ وذلك مبالغة في التحدي ، وإفحامًا
لهم . ولو كان في طاقتهم تكذيبه
، ما توانوا عنه لحظة واحدة .
وقال تعالى :﴿
فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا ﴾ ،
ولم يقل سبحانه :﴿ فَإِنْ
لَمْ تَأْتُوا وَلَنْ تَأْتُوا ﴾ ؛ لأن
( فَعَلَ ) عامٌّ في الأفعال كلها ، ويجري مجرى الكناية ، فيعبَّر
به عن كل فعل ، إيجازًا واختصارًا ، وحيث أطلق في كلام الله تعالى ، فهو محمول على
الوعيد الشديد ؛ كقوله تعالى :﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ
رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ ﴾(الفيل: 1) .
وقوله تعالى :﴿ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ
كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ ﴾(إبراهيم:
45) .
وجملة ﴿
لَنْ تَفْعَلُوا ﴾ اعتراضية
بين الشرط وجوابه ، وفيها من تأكيد المعنى ما لا يخفى ؛ لأنه لما قال :﴿
فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا ﴾ ، وكان
معناه : نفي في المستقبل ، مخرجًا ذلك مخرج الممكن ، أخبر أن ذلك لن يقع ، وهو
إخبار صدق ، فكان في ذلك تأكيد على عجزهم . وفي ذلك إثارة لهممهم
؛ ليكون عجزهم بعد ذلك أبلغ وأبدع ، وفيه أيضًا دليلان على إثبات النبوة :
أحدهما :
صحة كون المتحدَّى به معجزًا ، وأنه من عند الله تعالى .
والثاني : الإخبار
بالغيب من أنهم لن يفعلوا في المستقبل .
ولما كان الفعل المنفي بـ﴿
لَمْ ﴾ في قوله تعالى :﴿
وَلَمْ تَفْعَلُوا ﴾ مرادًا به الاستقبال ، لدخول أداة
الشرط عليه ، حسُن تأكيده بقوله :﴿ وَلَنْ
تَفْعَلُوا ﴾ . وكان من حقه أن يؤكَّد بقول :﴿ وَلَا
تَفْعَلُون ﴾ ، فيقال :( فَإِنْ
لَمْ تَفْعَلُوا وَلَا تَفْعَلُون ) ؛ لأن قبله في أول السورة :﴿
ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ ﴾(البقرة:
2) ، و﴿ لاَ رَيْبَ فِيهِ ﴾
نفيٌ لجنس الريب عن القرآن الكريم على سبيل الاستغراق والشمول . وهذا النفي يناسبه
أن يقال :﴿ وَلَا
تَفْعَلُون ﴾ ؛ كما قال تعالى في آية الإسراء :﴿
لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ﴾(الإسراء: 88) ،
فنفى الإتيان بمثله بـ( لا ) ، ولم
ينفها بـ( لن ) .
والسر في هذا العدول من النفي بـ﴿ لَا
﴾ إلى النفي بـ﴿ لَنْ
﴾ أن العرب تنفي بـ﴿ لَنْ
﴾ ما كان ممكنًا عند المخاطب ، مظنونًا أنه سيكون ، فتقول : لن يكون ،
لما يمكن أن يكون ؛ لأن ﴿ لَنْ
﴾ فيها معنى ﴿ أَنْ
﴾ . و﴿ أَنْ
﴾ تدل على إمكان الفعل ، دون الوجوب والاستحالة . وإذا كان الأمر عندهم
على الشك ، لا على الظن : أيكون أم لا يكون ؟ قالوا في
النفي : لا يكون .
وقوله تعالى :﴿
فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ
لِلْكَافِرِينَ ﴾ جواب للشرط . ولقائل أن يقول : ما معنى اشتراطه في اتقاء النار انتفاء إتيانهم بسورة
من مثله ؟ والجواب : إذا ظهر عجزهم عن الإتيان بسورة من
مثل القرآن ، صح عندهم صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم . وإذا صح ذلك ، ثم لزموا
العناد ، استوجبوا العقاب بالنار . فاتقاء النار يوجب ترك العناد . فأقيم المؤثر
مقام الأثر ، وجعل قوله :﴿ فَاتَّقُوا
النَّارَ ﴾ قائمًا
مقام قوله :( فاتركوا العناد ) . وهذا هو
الإيجاز الذي هو أحد أبواب البلاغة . وفيه تهويل لشأن
العناد ؛ لإنابة اتقاء النار منابه ، مُتبعًا ذلك بتهويل صفة النار .
والوَقود ،
بفتح الواو ، ما يلقى في النار لإضرامها ؛ كالحطب ونحوه . ولفظ الناس
يراد به : الخصوص ممَّن شاء الله دخولهم هذه النار ، وإن كان لفظه
عامًا . والحجارة يراد بها : الأصنام . وقد جعل كلاهما
وقودًا لهذه النار ، فدل على أنها نار ممتازة من النيران
، بأنها لا تتَّقد إلا بالناس والحجارة ؛ وذلك يدل- أيضًا- على قوتها من وجهين :
الأول : أن
سائر النيران إذا أريد إحراق الناس بها أو إحماء الحجارة ، أوقدت أولاً بوقود ، ثم
طرح فيها ما يراد إحراقه أو إحماؤه . وهذه توقد بنفس ما تحرق .
والثاني : أنها
لإفراط حرِّها تتَّقد في الحجر .
وإنما قرن
الله سبحانه الناس بالحجارة ، وجعلها معهم وقودًا ؛ لأنهم قرنوا بها أنفسهم في
الدنيا ، حيث نحتوها أصنامًا ، وجعلوها لله أندادًا ، وعبدوها من دونه سبحانه .
وإلى ذلك أشار تعالى بقوله :﴿ إِنَّكُمْ
وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ *
لَوْ كَانَ هَؤُلَاء آلِهَةً مَّا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا
خَالِدُونَ ﴾(الأنبياء: 98- 99) .
وهذه الآية مفسرة لها ، فقوله تعالى :﴿ إِنَّكُمْ
وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ ﴾ في معنى :﴿
النَّاس وَالْحِجَارَة ﴾ . وقوله :﴿ حَصَبُ
جَهَنَّمَ ﴾ في معنى :﴿
وَقُودهَا ﴾ .
ولما اعتقد الكفار في حجارتهم
المعبودة من دون الله أنها الشفعاء والشهداء الذين يستشفعون بهم ، ويستدفعون
المضار عن أنفسهم تمسكًا بهم ، وجعلها الله عذابهم ، قرنهم بها محماة في نار جهنم
إبلاغًا وإغرابًا في تحسرهم ؛ ونحو ذلك ما يفعله تعالى بالكافرين الذين جعلوا
ذهبهم وفضتهم عدة وذخيرة ، فشحوا بها ، ومنعوها من الحقوق ، حيث يُحمَى عليها في
نار جهنم ، فتُكوَى بها جباهم وجنوبهم وظهورهم ؛ كما أخبر بذلك سبحانه وتعالى
بقوله :﴿ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى
بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَـذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ
فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ ﴾(التوبة: 35)
.
وقد استدل كثير من أئمة السنة بهذه
الآية على أن النار موجودة الآن ، لقوله تعالى :﴿ أُعِدَّتْ
﴾ .أي : أرصدت وهيئت . وقد وردت أحاديث
كثيرة في ذلك ؛ منها :« تحاجَّت
الجنة والنار » . ومنها :« استأذنت
النار ربها ، فقالت : ربِّ ! أكل بعضي بعضًا ، فأذنَ لها
بنفسين : نفس في الشتاء ، ونفس في الصيف »
. ومنها حديث ابن مسعود رضي الله عنه :« سمعنا
وجبة ، فقلنا ما هذه ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هذا حجر ألقي به من
شفير جهنم ، منذ سبعين سنة ، الآن وصل إلى قعرها »
.
وغير ذلك من الأحاديث المتواترة
التي تؤكد على أن النار التي أعدَّها الله تعالى للكافرين ، وجعل وقودها الناس
والحجارة ، موجودة ، نسأل الله تعالى أن يعيذنا منها برحمته الواسعة !