سر دخول الواو على جواب: حتى إذا
قال الله تعالى في حق أهل النار :﴿ وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ ﴾(الزمر: 71) ، ثم قال تعالى في حق أهل الجنة :﴿ وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ ﴾(الزمر: 73) .
فأدخل سبحانه ( واو الجمع ) على جواب ﴿ حَتَّى إِذَا ﴾ في آية أهل الجنة ﴿ وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا ﴾ ، ونزعها منه في آية أهل النار ﴿ فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا ﴾ . والسؤال الذي يتردد كثيرًا : لمَ أدخلت هذه ( الواو ) في آية أهل الجنة على الجواب ، ونزعت منه في آية أهل النار ، والكلام في الموضعين واحد ؟
أولاً- وقبل الإجابة عن ذلك أقول : اختلف علماء النحو والتفسير في الإجابة عن ذلك على أقوال ، أشهرها ثلاثة :
القول الأول : أن جواب ﴿ حَتَّى إِذَا ﴾ ، في الآيتين واحد ، وهو قوله تعالى :﴿ فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا ﴾ ، وأدخلت الواو صلة في آية أهل الجنة :﴿ وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا ﴾ ، ومعنى الكلام على سقوطها . وعلى هذا القول جمهور الكوفيين ، وحجتهم أن العرب تزيد الواو في كلامها . وزعم بعض المتأخرين والمحدثين أن زيادة الحرف في الكلام يقوم مقام تكرار الجمله مرتين . فبدلاً من أن يقال :﴿ فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا ، فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا ﴾ ، قيل :﴿ وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا ﴾ ، بإدخال الواو على الجواب ، فأغنت عن تكرار الجملة مرتين ، وهو قول لا تخفى غرابته .
والقول الثاني : أن جواب ﴿ حَتَّى إِذَا ﴾ في آية أهل الجنة محذوف للعلم به ، والواو في قوله تعالى :﴿ وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا ﴾ ؛ إما عاطفة على ما قبلها ، أو حالية و( قد ) معها مقدرة ، والتقدير : وقد فتحت أبوابها . وعلى هذا القول جمهور البصريين ، ومن تبعهم من المتأخرين والمعاصرين . وحجتهم في ذلك أن العرب قد تترك في مثل ذلك الجواب ؛ لتذهب النفس في تقديره كل مذهب ؛ كما في قوله تعالى :﴿ وََلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ ﴾(البقرة: 165) ، ويعدون حذفه من بلاغة القرآن وإعجازه .
وحكى الأخفش عن الحسن أنه فسر آية أهل الجنة على إلقاء ( الواو ) من قوله تعالى :﴿ وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا ﴾ ، ثم قال :« فالواو في مثل هذا زائدة » ، وما بعدها جواب ﴿ حَتَّى إِذَا ﴾ . وقال في موضع آخر :« وإضمار الخبر أحسن في الآية » . ومراده بإضمار الخبر : حذفه للعلم به ، وهو مذهب الخليل وسيبويه وجمهور البصريين .
والقول الثالث : أن الواو في قوله تعالى :﴿ وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا ﴾ هي ( واو الثمانية ) . حكى ذلك القرطبي عن أبي بكر بن عيَّاش ، وذكر أن من عادة قريش إذا عدوا ، قالوا : خمسة ، ستة ، سبعة ، وثمانية . ولما كانت أبواب الجنة ثمانية ، وأبواب النار سبعة ، أدخلت الواو في آية أهل الجنة ، ولم تدخل في آية أهل النار . وقد ضُعِّفَ هذا القول من قبل الكثيرين .
وأخيرًا استقرَّ رأي جمهور المتأخرين على أن هذه الواو هي ( واو الحال ) ، وأن الجواب محذوف ، وتقدير الكلام عليه : حتى إذا جاؤوها ، وقد فتحت أبوابها ، دخلوها . أو ما شابه ذلك . وقد ذهب الدكتور فضل حسن عباس إلى أبعد من ذلك حين زعم أن الجواب في آية أهل النار محذوف أيضًا ، وقدره بقوله :« ﴿ حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا ( وجدوا من الهول والحسرة والندامة والأسى ما يعجز عنه الوصف ) وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا ﴾ : كذا وكذا » ، فقدر الجواب محذوفًا ، وجعل جملة :﴿ فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا ﴾ استئنافية ، وانتهى من ذلك إلى القول :« فإن قبلت هذا القول فخذ به ، ولكل وجهة هو مولِّيها » . وهو قول أغرب من الخيال !
وعن الحكمة في حذف هذه الواو من آية ، وإثباتها في آية قال بعضهم :« لمَّا قال الله عز وجل في أهل النار :﴿ حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا ﴾ ، دل على أنها كانت مغلقة . ولمّا قال في أهل الجنة :﴿ حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا ﴾ ، دل على أنها كانت مفتحة قبل أن يجيئوها » . وإلى هذا القول ذهب الدكتور فاضل السامرائي في ( لمسات بيانية ) ، وكان قد سئل السؤال الآتي : ما دلالة ذكر الواو مع أهل الجنة ، وعدم ذكرها مع أهل النار ؟ فأجاب بالآتي :
« أولاً : قال ربنا : إن النار عليهم مؤصدة . يعني : أبوابها مغلقة ، سجن ، والسجن لا يُفتح بابه إلا لداخل فيه أو خارج منه . إذن جهنم مغلقة أبوابها﴿ إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ ﴾(الهمزة: ، لا تفتح إلا إذا جاؤوها ؛ لذلك قال :﴿ حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا ﴾ ؛ لأنها كانت مغلقة . الجنة مفتحة أبوابها ، ليست مغلقة ﴿ جَنَّاتِ عَدْنٍ مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الْأَبْوَابُ ﴾(ص: 5) ، ﴿ حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا ﴾ ، الواو هنا حاليّة ، جاؤوها في هذه الحالة ، جاؤوها وقد فتحت أبوابها حال كون أبوابها مفتحة ﴿ مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الْأَبْوَابُ ﴾ .. بدون واو :﴿ حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا ﴾ معناها : أن الأبواب مغلقة ، وحتى لا تتبدد الحرارة . أما في الجنة فأبوابها مفتحة ، حتى في الحديث : الذي يخرج من النار يرى أهل الجنة منعمين . إذن هي مفتوحة ، وإلا كيف يراهم ؟ وأهل الأعراف يرونهم ؛ لذا قال :﴿ حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا ﴾ .
الأمر الآخر : ذكر جواب الشرط :﴿ حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا ﴾ . في أهل الجنة لم يذكر جواب الشرط :﴿ وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ ﴾ ، هنا جواب الشرط محذوف ؛ للتفخيم . وأحيانًا يحذف جواب الشرط للتفخيم والتعظيم ؛ سواء كان في العذاب ، أو في الإكرام :﴿ فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمْ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ ﴾(محمد: 27) . المشهد أكبر من الحديث ، وحتى في كلامنا العادي نقول : والله لئن قمت إليك ، وتسكت . أنت تريد ألا تكمل حتى لا يعلم السامع ماذا ستفعل ؛ لأنه لو ذكرت أمرًا معينًا ، لاتّقاه وتهيأ له ، فهذا من التهويل . وهنا نفس الشيء ﴿ وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ ﴾ . هذه كلها عطف ، ولا تجد جواب الشرط مطلقًا ، فحذف جواب الشرط ؛ لتفخيم وتعظيم ما يلقونه ؛ لأن ما يلقونه يضيق عنه الكلام . يعني : اللغة الحالية الآن لا تستطيع أن تعبر عما يجدون ، تضيق عنه ( فيها ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ) . إذن ما يجدونه أكبر من اللغة ، ولا تستطيع اللغة أن تعبر عنه . الجواب هناك ، الجواب ما تراه لا ما تسمعه » .
هذا ما أجاب به الدكتور السامرائي بنصه ، وقد ذكر فيه من الحكم ما يضيق عنه الكلام .. واللغة الحالية الآن لا تستطيع أن تعبر عما يجده أهل الجنة وتضيق عنه ؛ وكأن هذه ( اللغة الحالية الآن ) لا تعجز عن أن تعبر عما يجده أهل النار من العذاب ولا تضيق عنه ، وتعجز أن تعبر عما يجده أهل الجنة من النعيم وتضيق عنه ؛ ولهذا حذف جواب ( حتى إذا ) في آية أهل الجنة ، ولم يحذف في آية أهل النار .. فسبحان الله !
ولعل أغرب وأعجب ما ورد في هذا الجواب قول السامرائي في آية أهل النار ﴿ فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا ﴾ ، بدون واو :« معناها : أن الأبواب مغلقة ، وحتى لا تتبدد الحرارة » . وأقل منه غرابة قوله في آية أهل الجنة ﴿ وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا ﴾ :« الذي يخرج من النار يرى أهل الجنة منعمين . إذن هي مفتوحة ، وإلا كيف يراهم ؟ » ..
وهكذا زعم أن أبواب النار مغلقة حتى لا تتبدد الحرارة . وإذا كان الأمر كما زعم ، فلم لا تكون أبواب الجنة مغلقة حتى لا تتبدد البرودة ؟ ولو أنه قرأ ما جاء في الدُّرِّ المنثور للسيوطي عن الحسن- رضي الله عنه- من قوله في وصف الجنة :« يُرَى ظاهرُها من باطنها ، وباطنُها من ظاهرها ، ويقال لها : انفتحي ، وانغلقي ، تكلمي ، فتفهم ، وتتكلم » ، لعلم أولاً أن أبواب الجنة مغلقة ، ولعلم ثانيًا كيف يرى الخارج من النار أهل الجنة !
ثانيًا- وأعود بعد هذا إلى الجواب ، فأقول بعون الله وتعليمه :
1- لـ( الواو ) في لغة العرب وظيفة لغوية في التركيب ، وهي الربط بين مفردين ، أو جملتين ، ولها معنيان : أولهما : العطف . وثانيهما : الجمع . وكثيرًا ما تُخلَعُ عنها دلالتها على العطف ، فتخلص لمعنى الجمع فقط . وهذا ما أشار إليه ابن جني في باب ( خلع الأدلة ) ، من كتابه ( الخصائص ) ، فقال :« ومن ذلك واو العطف ، فيها معنيان : العطف ، ومعنى الجمع . فإذا وضعت موضع ( مع ) ، خلُصت للاجتماع ، وخلِعت عنها دلالة العطف ؛ نحو قولهم : استوى الماء ، والخشبة » .
ومثل ذلك هذه ( الواو ) التي أدخلت في قوله تعالى :﴿ وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا ﴾ ، فهي واو قد أخلِصَت لمعنى الجمع ، بعد أن خُلِعَتْ عنها دلالتها على العطف ، فدلت بذلك على حدوث اجتماع فعلين في وقت واحد : أولهما : مجيء المؤمنين إلى الجنة . والثاني : فتح الجنة أبوابها لهم ؛ كما دلت على الجمع بين استواء الماء ، واستواء الخشبة ، في قولهم :« استوى الماء ، والخشبة » . ونظيرها في الدلالة على معنى الجمع دون معنى العطف ( الواو ) التي في قوله تعالى :﴿ فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءكُمْ ﴾(يونس: 71) . أي : فأجمعوا أمركم مع شركائكم . ويحمل على ذلك أيضًا قوله تعالى :﴿ وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ ﴾(الحشر: 9) . أي : تبوَّؤوا الدار الآخرة مع الإيمان .
وأما تفسيرهم لهذه ( الواو ) بالحالية ، أو العاطفة فهو محكوم بالقاعدة النحوية التي تنصُّ على أن جواب الشرط لا يقترن في حالات مخصوصة ، بغير ( الفاء ) ، أو ( إذا الفجائية ) . فلما اعترضتهم نصوص من القرآن الكريم ولغة العرب تخالف ما اصطلحوا عليه من قواعد ، أخذوا يلوون بأعناق هذه النصوص ، ويخضعونها لقواعدهم ، وبذلك ارتضوا القواعد النحوية مركبًا ، فقتلوا أنفسهم ، وقتلوا معها النصوص ، متجاهلين أن النصوص القرآنية لا تخضع لقواعد النحاة ، وتأويلاتهم المنطقية .
وإذا أردت أن تعرف ذلك ، فاسمع أبا حيان صاحب تفسير البحر المحيط ، وهو يقول :« التأويل إنما يسوغ إذا كانت الجادة على شيء ، ثم جاء شيء يخالف الجادة ، فيُتأَوَّل » . ويقصد أبو حيان بالجادة – هنا - القواعد النحوية التي قعَّدها النحاة ، فما خرج عنها يجب أن يتأوَّل حتى يعود إليها . وبهذا التأويل الذي يخضع للجهد الذهني العميق ، جعلوا من النصوص القرآنية تبعًا للقواعد النحوية ، والعكس هو الذي ينبغي أن يكون .
2- إذا ثبت حذف جواب ﴿ إِذَا ﴾ ، و﴿ لََوْ ﴾ في بعض المواضع ، فإن حذف جواب ﴿ حَتَّى إِذَا ﴾ لم يثبت أبدًا في أيٍّ من تلك المواضع . وليس من الصواب في شيء أن يقاس جواب ﴿ حَتَّى إِذَا ﴾ على جواب ﴿ إِذَا ﴾ ، أو جواب ﴿ لََوْ ﴾ ؛ لأن من شروط القياس المعتبرة في اللغة أن تقاس الظاهرة اللغوية بأمثالها . ثم إن القياس النحوي لم يصلح يومًا لأن يكون منهجًا للبحث العلمي ؛ إنما الذي يصلح لذلك هو الاستقراء اللغوي ؛ ولهذا نجد الفرَّاء ينكر بأسلوب مهذب رقيق قول من جعل ﴿ وَأَذِنَتْ ﴾ جوابًا لـ﴿ إِذَا ﴾ ، في قول الله تعالى :﴿ ِإِذَا السَّمَاء انشَقَّتْ * وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ ﴾(الانشقاق: 2) ، فيقول :« ونرى أنه رأيٌ ارتآه المفسِّرُ ، وشبَّهه بقوله تبارك وتعالى :﴿ حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا ﴾ ؛ لأنا لم نسمع جوابًا بالواو في ﴿ إِذَا ﴾ مبتدأة ولا قبلها كلام ، ولا في ﴿ فَلَمَّا ﴾ ، إذا ابتُدِئت ؛ وإنما تجيب العرب بـ( الواو ) في قوله : حتى إذا كان ، وفلمَّا أن كانت ، لم يجاوزوا ذلك » .
والفراء عالم من علماء اللغة المشهورين ، وهو راوية ثقة لا يشك أحد فيما يرويه عن العرب ، وقد شهد له بذلك أبو حيان الذي تقدم ذكره . ومن المؤسف أن كل الذين نقلوا عن الفراء ، نسبوا إليه القول بوجوب طرح ( الواو ) من جواب ( إذا ) ، وفي مقدمتهم الدكتور فضل حسن عباس .
3- ولما تقدم من معنى هذه ( الواو ) ، لا يجوز القول بأنها عاطفة ، أو حالية . أما الأول فلأنها- هنا- مسلوبة الدلالة على العطف . وأما الثاني فلأن واو الحال لا يجوز أن تدخل على الفعل إلا ومعها ( قد ) ظاهرة ، لا مقدرة . وجعلها حالية يقتضي تقدير جواب محذوف مع ( قد ) ، وهذا ما لجئوا إليه ، وهو تكلف ظاهر لا داعي له ، لما فيه من إخلال بنظم الكلام ، وإفساد لمعناه . وفرق كبير بين أن يقال :
( حتى إذا جاءوها ، فتحت أبوابها مع مجيئهم إليها ) ، وأن يقال :
( حتى إذا جاءوها ، وقد فتحت أبوابها قبل مجيئهم إليها ) .
أقول فرق كبير بين هذين القولين ؛ لأن القول الثاني فيه حذف للجواب ، وتقدير ( قد ) بين الواو والفعل ، والقول الأول لا حذف فيه ، ولا تقدير . وصَوْنُ النظم الكريم من العبث بالزيادة والتقدير هو الأولى ، وهو الذي ينبغي أن يكون .
4- أما مجيء الجواب في آية أهل النار غير مقترن بالواو فللدلالة على أن النار لا تفتح أبوابها لأهلها إلا بعد مجيء أهلها إليها . وقد يطول وقوفهم ، وانتظارهم ، وهذا أنكى لهم ، ثم تفتح لهم الأبواب بعد طول انتظار ، ويدخلون غير مأسوف عليهم ، خلافًا لأهل الجنة الذين يدخلونها دون انتظار ؛ لأنهم يجدون أبوابها قد فتحت لهم مع مجيئهم إليها . وما أشبه هذا بما نشاهده اليوم من الأبواب الزجاجية لبعض المحال والبنوك والدوائر الرسمية التي تفتح للقادمين إليها من أول وطأة قدم أمامها ، ثم تعود إلى الانغلاق بعد الدخول ؛ وذلك بخلاف أبواب السجون وغيرها من الأبواب التي لا تفتح للذين يساقون إليها إلا بعد طول انتظار .
5- وأما ما استدلوا عليه من قولهم :« إن الجنة تفتح أبوابها لأهلها قبل مجيئهم إليها إكرامًا لهم » بقوله تعالى :﴿ جَنَّاتِ عَدْنٍ مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الْأَبْوَابُ ﴾(ص: 50) ؛ كمنازل الأفراح والسرور ، وأبواب الجنان في الدنيا ، فليس كذلك ؛ لأن أبواب الجنة مغلقة ، لا تفتح إلا وقت مجيء أهلها من المؤمنين إليها . وتفتح بالأمر كما تغلق بالأمر . والآية السابقة دليل عليهم ، لا دليل لهم . يدلك على ذلك أن قوله تعالى :﴿ مُّفَتَّحَةً ﴾ صفة مبنيَّة للمفعول . وكونها منونة يدل على أن زمنها المستقبل لا الماضي ، وأن التشديد فيها للمبالغة وتكرُّر الفتح . وهذا يعني أن أبواب الجنة تفتح كلما جاء الجنة وفد من المؤمنين ، ثم تغلق ، وأن الفتح يتكرر بتكرر المجيء .
قال القرطبي :« وإنما قال :﴿ مُفَتَّحَةً ﴾، ولم يقل : مفتوحة ؛ لأنها تفتح لهم بالأمر ، لا بالمسِّ . أي : بالأيدي . قال الحسن : تُكَلَّمُ : انفتحي فتنفتح ، انغلقي فتنغلق » . وجاء في الدُّرِّ المنثور للسيوطي عن الحسن :« يُرَى ظاهرُها من باطنها ، وباطنُها من ظاهرها ، ويقال لها : انفتحي ، وانغلقي ، تكلمي ، فتفهم ، وتتكلم » . وقيل : إن الملائكة الموكلين بالجنان ، إذا رأوا صاحب الجنة ، فتحوا له أبوابها ، وحيوه بالسلام ، فيدخل محفوفًا بالملائكة على أعز حال ، وأجمل هيئة . وورد أن أول من يفتح له باب الجنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم . فلو كان الفتح قبل المجيء إكرامًا ، لوجدها مفتوحة قبل . وعن أبي هريرة أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم ، قال :« إذا دخل شهر رمضان فُتِّحَتْ أبوابُ الجنة ، وغُلِّقَتْ أبوابُ النار ، وصُفِّدَتْ الشياطينُ » . فقوله عليه الصلاة والسلام :« فُتِّحَتْ أَبْوَاب الْجَنَّة » يدل على أن أبواب الجنة كانت مغلَقةً قبل ، ولا ينافيه- كما جاء في حاشية السِّنْدِيِّ- قول الله عز وجل :﴿ جَنَّاتِ عَدْنٍ مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الْأَبْوَابُ ﴾ ؛ إذ ذلك لا يقتضي دوام كونها مفتَّحة .
وفيما ذكرته كفاية لمن أراد الهداية ، نسأله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من الذين يفقهون كلامه ، ويدركون أسرار بيانه ، ولا يقولون فيه إلا صوابًا ، والحمد لله رب العالمين
قال الله تعالى في حق أهل النار :﴿ وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ ﴾(الزمر: 71) ، ثم قال تعالى في حق أهل الجنة :﴿ وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ ﴾(الزمر: 73) .
فأدخل سبحانه ( واو الجمع ) على جواب ﴿ حَتَّى إِذَا ﴾ في آية أهل الجنة ﴿ وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا ﴾ ، ونزعها منه في آية أهل النار ﴿ فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا ﴾ . والسؤال الذي يتردد كثيرًا : لمَ أدخلت هذه ( الواو ) في آية أهل الجنة على الجواب ، ونزعت منه في آية أهل النار ، والكلام في الموضعين واحد ؟
أولاً- وقبل الإجابة عن ذلك أقول : اختلف علماء النحو والتفسير في الإجابة عن ذلك على أقوال ، أشهرها ثلاثة :
القول الأول : أن جواب ﴿ حَتَّى إِذَا ﴾ ، في الآيتين واحد ، وهو قوله تعالى :﴿ فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا ﴾ ، وأدخلت الواو صلة في آية أهل الجنة :﴿ وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا ﴾ ، ومعنى الكلام على سقوطها . وعلى هذا القول جمهور الكوفيين ، وحجتهم أن العرب تزيد الواو في كلامها . وزعم بعض المتأخرين والمحدثين أن زيادة الحرف في الكلام يقوم مقام تكرار الجمله مرتين . فبدلاً من أن يقال :﴿ فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا ، فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا ﴾ ، قيل :﴿ وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا ﴾ ، بإدخال الواو على الجواب ، فأغنت عن تكرار الجملة مرتين ، وهو قول لا تخفى غرابته .
والقول الثاني : أن جواب ﴿ حَتَّى إِذَا ﴾ في آية أهل الجنة محذوف للعلم به ، والواو في قوله تعالى :﴿ وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا ﴾ ؛ إما عاطفة على ما قبلها ، أو حالية و( قد ) معها مقدرة ، والتقدير : وقد فتحت أبوابها . وعلى هذا القول جمهور البصريين ، ومن تبعهم من المتأخرين والمعاصرين . وحجتهم في ذلك أن العرب قد تترك في مثل ذلك الجواب ؛ لتذهب النفس في تقديره كل مذهب ؛ كما في قوله تعالى :﴿ وََلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ ﴾(البقرة: 165) ، ويعدون حذفه من بلاغة القرآن وإعجازه .
وحكى الأخفش عن الحسن أنه فسر آية أهل الجنة على إلقاء ( الواو ) من قوله تعالى :﴿ وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا ﴾ ، ثم قال :« فالواو في مثل هذا زائدة » ، وما بعدها جواب ﴿ حَتَّى إِذَا ﴾ . وقال في موضع آخر :« وإضمار الخبر أحسن في الآية » . ومراده بإضمار الخبر : حذفه للعلم به ، وهو مذهب الخليل وسيبويه وجمهور البصريين .
والقول الثالث : أن الواو في قوله تعالى :﴿ وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا ﴾ هي ( واو الثمانية ) . حكى ذلك القرطبي عن أبي بكر بن عيَّاش ، وذكر أن من عادة قريش إذا عدوا ، قالوا : خمسة ، ستة ، سبعة ، وثمانية . ولما كانت أبواب الجنة ثمانية ، وأبواب النار سبعة ، أدخلت الواو في آية أهل الجنة ، ولم تدخل في آية أهل النار . وقد ضُعِّفَ هذا القول من قبل الكثيرين .
وأخيرًا استقرَّ رأي جمهور المتأخرين على أن هذه الواو هي ( واو الحال ) ، وأن الجواب محذوف ، وتقدير الكلام عليه : حتى إذا جاؤوها ، وقد فتحت أبوابها ، دخلوها . أو ما شابه ذلك . وقد ذهب الدكتور فضل حسن عباس إلى أبعد من ذلك حين زعم أن الجواب في آية أهل النار محذوف أيضًا ، وقدره بقوله :« ﴿ حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا ( وجدوا من الهول والحسرة والندامة والأسى ما يعجز عنه الوصف ) وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا ﴾ : كذا وكذا » ، فقدر الجواب محذوفًا ، وجعل جملة :﴿ فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا ﴾ استئنافية ، وانتهى من ذلك إلى القول :« فإن قبلت هذا القول فخذ به ، ولكل وجهة هو مولِّيها » . وهو قول أغرب من الخيال !
وعن الحكمة في حذف هذه الواو من آية ، وإثباتها في آية قال بعضهم :« لمَّا قال الله عز وجل في أهل النار :﴿ حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا ﴾ ، دل على أنها كانت مغلقة . ولمّا قال في أهل الجنة :﴿ حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا ﴾ ، دل على أنها كانت مفتحة قبل أن يجيئوها » . وإلى هذا القول ذهب الدكتور فاضل السامرائي في ( لمسات بيانية ) ، وكان قد سئل السؤال الآتي : ما دلالة ذكر الواو مع أهل الجنة ، وعدم ذكرها مع أهل النار ؟ فأجاب بالآتي :
« أولاً : قال ربنا : إن النار عليهم مؤصدة . يعني : أبوابها مغلقة ، سجن ، والسجن لا يُفتح بابه إلا لداخل فيه أو خارج منه . إذن جهنم مغلقة أبوابها﴿ إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ ﴾(الهمزة: ، لا تفتح إلا إذا جاؤوها ؛ لذلك قال :﴿ حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا ﴾ ؛ لأنها كانت مغلقة . الجنة مفتحة أبوابها ، ليست مغلقة ﴿ جَنَّاتِ عَدْنٍ مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الْأَبْوَابُ ﴾(ص: 5) ، ﴿ حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا ﴾ ، الواو هنا حاليّة ، جاؤوها في هذه الحالة ، جاؤوها وقد فتحت أبوابها حال كون أبوابها مفتحة ﴿ مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الْأَبْوَابُ ﴾ .. بدون واو :﴿ حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا ﴾ معناها : أن الأبواب مغلقة ، وحتى لا تتبدد الحرارة . أما في الجنة فأبوابها مفتحة ، حتى في الحديث : الذي يخرج من النار يرى أهل الجنة منعمين . إذن هي مفتوحة ، وإلا كيف يراهم ؟ وأهل الأعراف يرونهم ؛ لذا قال :﴿ حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا ﴾ .
الأمر الآخر : ذكر جواب الشرط :﴿ حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا ﴾ . في أهل الجنة لم يذكر جواب الشرط :﴿ وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ ﴾ ، هنا جواب الشرط محذوف ؛ للتفخيم . وأحيانًا يحذف جواب الشرط للتفخيم والتعظيم ؛ سواء كان في العذاب ، أو في الإكرام :﴿ فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمْ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ ﴾(محمد: 27) . المشهد أكبر من الحديث ، وحتى في كلامنا العادي نقول : والله لئن قمت إليك ، وتسكت . أنت تريد ألا تكمل حتى لا يعلم السامع ماذا ستفعل ؛ لأنه لو ذكرت أمرًا معينًا ، لاتّقاه وتهيأ له ، فهذا من التهويل . وهنا نفس الشيء ﴿ وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ ﴾ . هذه كلها عطف ، ولا تجد جواب الشرط مطلقًا ، فحذف جواب الشرط ؛ لتفخيم وتعظيم ما يلقونه ؛ لأن ما يلقونه يضيق عنه الكلام . يعني : اللغة الحالية الآن لا تستطيع أن تعبر عما يجدون ، تضيق عنه ( فيها ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ) . إذن ما يجدونه أكبر من اللغة ، ولا تستطيع اللغة أن تعبر عنه . الجواب هناك ، الجواب ما تراه لا ما تسمعه » .
هذا ما أجاب به الدكتور السامرائي بنصه ، وقد ذكر فيه من الحكم ما يضيق عنه الكلام .. واللغة الحالية الآن لا تستطيع أن تعبر عما يجده أهل الجنة وتضيق عنه ؛ وكأن هذه ( اللغة الحالية الآن ) لا تعجز عن أن تعبر عما يجده أهل النار من العذاب ولا تضيق عنه ، وتعجز أن تعبر عما يجده أهل الجنة من النعيم وتضيق عنه ؛ ولهذا حذف جواب ( حتى إذا ) في آية أهل الجنة ، ولم يحذف في آية أهل النار .. فسبحان الله !
ولعل أغرب وأعجب ما ورد في هذا الجواب قول السامرائي في آية أهل النار ﴿ فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا ﴾ ، بدون واو :« معناها : أن الأبواب مغلقة ، وحتى لا تتبدد الحرارة » . وأقل منه غرابة قوله في آية أهل الجنة ﴿ وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا ﴾ :« الذي يخرج من النار يرى أهل الجنة منعمين . إذن هي مفتوحة ، وإلا كيف يراهم ؟ » ..
وهكذا زعم أن أبواب النار مغلقة حتى لا تتبدد الحرارة . وإذا كان الأمر كما زعم ، فلم لا تكون أبواب الجنة مغلقة حتى لا تتبدد البرودة ؟ ولو أنه قرأ ما جاء في الدُّرِّ المنثور للسيوطي عن الحسن- رضي الله عنه- من قوله في وصف الجنة :« يُرَى ظاهرُها من باطنها ، وباطنُها من ظاهرها ، ويقال لها : انفتحي ، وانغلقي ، تكلمي ، فتفهم ، وتتكلم » ، لعلم أولاً أن أبواب الجنة مغلقة ، ولعلم ثانيًا كيف يرى الخارج من النار أهل الجنة !
ثانيًا- وأعود بعد هذا إلى الجواب ، فأقول بعون الله وتعليمه :
1- لـ( الواو ) في لغة العرب وظيفة لغوية في التركيب ، وهي الربط بين مفردين ، أو جملتين ، ولها معنيان : أولهما : العطف . وثانيهما : الجمع . وكثيرًا ما تُخلَعُ عنها دلالتها على العطف ، فتخلص لمعنى الجمع فقط . وهذا ما أشار إليه ابن جني في باب ( خلع الأدلة ) ، من كتابه ( الخصائص ) ، فقال :« ومن ذلك واو العطف ، فيها معنيان : العطف ، ومعنى الجمع . فإذا وضعت موضع ( مع ) ، خلُصت للاجتماع ، وخلِعت عنها دلالة العطف ؛ نحو قولهم : استوى الماء ، والخشبة » .
ومثل ذلك هذه ( الواو ) التي أدخلت في قوله تعالى :﴿ وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا ﴾ ، فهي واو قد أخلِصَت لمعنى الجمع ، بعد أن خُلِعَتْ عنها دلالتها على العطف ، فدلت بذلك على حدوث اجتماع فعلين في وقت واحد : أولهما : مجيء المؤمنين إلى الجنة . والثاني : فتح الجنة أبوابها لهم ؛ كما دلت على الجمع بين استواء الماء ، واستواء الخشبة ، في قولهم :« استوى الماء ، والخشبة » . ونظيرها في الدلالة على معنى الجمع دون معنى العطف ( الواو ) التي في قوله تعالى :﴿ فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءكُمْ ﴾(يونس: 71) . أي : فأجمعوا أمركم مع شركائكم . ويحمل على ذلك أيضًا قوله تعالى :﴿ وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ ﴾(الحشر: 9) . أي : تبوَّؤوا الدار الآخرة مع الإيمان .
وأما تفسيرهم لهذه ( الواو ) بالحالية ، أو العاطفة فهو محكوم بالقاعدة النحوية التي تنصُّ على أن جواب الشرط لا يقترن في حالات مخصوصة ، بغير ( الفاء ) ، أو ( إذا الفجائية ) . فلما اعترضتهم نصوص من القرآن الكريم ولغة العرب تخالف ما اصطلحوا عليه من قواعد ، أخذوا يلوون بأعناق هذه النصوص ، ويخضعونها لقواعدهم ، وبذلك ارتضوا القواعد النحوية مركبًا ، فقتلوا أنفسهم ، وقتلوا معها النصوص ، متجاهلين أن النصوص القرآنية لا تخضع لقواعد النحاة ، وتأويلاتهم المنطقية .
وإذا أردت أن تعرف ذلك ، فاسمع أبا حيان صاحب تفسير البحر المحيط ، وهو يقول :« التأويل إنما يسوغ إذا كانت الجادة على شيء ، ثم جاء شيء يخالف الجادة ، فيُتأَوَّل » . ويقصد أبو حيان بالجادة – هنا - القواعد النحوية التي قعَّدها النحاة ، فما خرج عنها يجب أن يتأوَّل حتى يعود إليها . وبهذا التأويل الذي يخضع للجهد الذهني العميق ، جعلوا من النصوص القرآنية تبعًا للقواعد النحوية ، والعكس هو الذي ينبغي أن يكون .
2- إذا ثبت حذف جواب ﴿ إِذَا ﴾ ، و﴿ لََوْ ﴾ في بعض المواضع ، فإن حذف جواب ﴿ حَتَّى إِذَا ﴾ لم يثبت أبدًا في أيٍّ من تلك المواضع . وليس من الصواب في شيء أن يقاس جواب ﴿ حَتَّى إِذَا ﴾ على جواب ﴿ إِذَا ﴾ ، أو جواب ﴿ لََوْ ﴾ ؛ لأن من شروط القياس المعتبرة في اللغة أن تقاس الظاهرة اللغوية بأمثالها . ثم إن القياس النحوي لم يصلح يومًا لأن يكون منهجًا للبحث العلمي ؛ إنما الذي يصلح لذلك هو الاستقراء اللغوي ؛ ولهذا نجد الفرَّاء ينكر بأسلوب مهذب رقيق قول من جعل ﴿ وَأَذِنَتْ ﴾ جوابًا لـ﴿ إِذَا ﴾ ، في قول الله تعالى :﴿ ِإِذَا السَّمَاء انشَقَّتْ * وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ ﴾(الانشقاق: 2) ، فيقول :« ونرى أنه رأيٌ ارتآه المفسِّرُ ، وشبَّهه بقوله تبارك وتعالى :﴿ حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا ﴾ ؛ لأنا لم نسمع جوابًا بالواو في ﴿ إِذَا ﴾ مبتدأة ولا قبلها كلام ، ولا في ﴿ فَلَمَّا ﴾ ، إذا ابتُدِئت ؛ وإنما تجيب العرب بـ( الواو ) في قوله : حتى إذا كان ، وفلمَّا أن كانت ، لم يجاوزوا ذلك » .
والفراء عالم من علماء اللغة المشهورين ، وهو راوية ثقة لا يشك أحد فيما يرويه عن العرب ، وقد شهد له بذلك أبو حيان الذي تقدم ذكره . ومن المؤسف أن كل الذين نقلوا عن الفراء ، نسبوا إليه القول بوجوب طرح ( الواو ) من جواب ( إذا ) ، وفي مقدمتهم الدكتور فضل حسن عباس .
3- ولما تقدم من معنى هذه ( الواو ) ، لا يجوز القول بأنها عاطفة ، أو حالية . أما الأول فلأنها- هنا- مسلوبة الدلالة على العطف . وأما الثاني فلأن واو الحال لا يجوز أن تدخل على الفعل إلا ومعها ( قد ) ظاهرة ، لا مقدرة . وجعلها حالية يقتضي تقدير جواب محذوف مع ( قد ) ، وهذا ما لجئوا إليه ، وهو تكلف ظاهر لا داعي له ، لما فيه من إخلال بنظم الكلام ، وإفساد لمعناه . وفرق كبير بين أن يقال :
( حتى إذا جاءوها ، فتحت أبوابها مع مجيئهم إليها ) ، وأن يقال :
( حتى إذا جاءوها ، وقد فتحت أبوابها قبل مجيئهم إليها ) .
أقول فرق كبير بين هذين القولين ؛ لأن القول الثاني فيه حذف للجواب ، وتقدير ( قد ) بين الواو والفعل ، والقول الأول لا حذف فيه ، ولا تقدير . وصَوْنُ النظم الكريم من العبث بالزيادة والتقدير هو الأولى ، وهو الذي ينبغي أن يكون .
4- أما مجيء الجواب في آية أهل النار غير مقترن بالواو فللدلالة على أن النار لا تفتح أبوابها لأهلها إلا بعد مجيء أهلها إليها . وقد يطول وقوفهم ، وانتظارهم ، وهذا أنكى لهم ، ثم تفتح لهم الأبواب بعد طول انتظار ، ويدخلون غير مأسوف عليهم ، خلافًا لأهل الجنة الذين يدخلونها دون انتظار ؛ لأنهم يجدون أبوابها قد فتحت لهم مع مجيئهم إليها . وما أشبه هذا بما نشاهده اليوم من الأبواب الزجاجية لبعض المحال والبنوك والدوائر الرسمية التي تفتح للقادمين إليها من أول وطأة قدم أمامها ، ثم تعود إلى الانغلاق بعد الدخول ؛ وذلك بخلاف أبواب السجون وغيرها من الأبواب التي لا تفتح للذين يساقون إليها إلا بعد طول انتظار .
5- وأما ما استدلوا عليه من قولهم :« إن الجنة تفتح أبوابها لأهلها قبل مجيئهم إليها إكرامًا لهم » بقوله تعالى :﴿ جَنَّاتِ عَدْنٍ مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الْأَبْوَابُ ﴾(ص: 50) ؛ كمنازل الأفراح والسرور ، وأبواب الجنان في الدنيا ، فليس كذلك ؛ لأن أبواب الجنة مغلقة ، لا تفتح إلا وقت مجيء أهلها من المؤمنين إليها . وتفتح بالأمر كما تغلق بالأمر . والآية السابقة دليل عليهم ، لا دليل لهم . يدلك على ذلك أن قوله تعالى :﴿ مُّفَتَّحَةً ﴾ صفة مبنيَّة للمفعول . وكونها منونة يدل على أن زمنها المستقبل لا الماضي ، وأن التشديد فيها للمبالغة وتكرُّر الفتح . وهذا يعني أن أبواب الجنة تفتح كلما جاء الجنة وفد من المؤمنين ، ثم تغلق ، وأن الفتح يتكرر بتكرر المجيء .
قال القرطبي :« وإنما قال :﴿ مُفَتَّحَةً ﴾، ولم يقل : مفتوحة ؛ لأنها تفتح لهم بالأمر ، لا بالمسِّ . أي : بالأيدي . قال الحسن : تُكَلَّمُ : انفتحي فتنفتح ، انغلقي فتنغلق » . وجاء في الدُّرِّ المنثور للسيوطي عن الحسن :« يُرَى ظاهرُها من باطنها ، وباطنُها من ظاهرها ، ويقال لها : انفتحي ، وانغلقي ، تكلمي ، فتفهم ، وتتكلم » . وقيل : إن الملائكة الموكلين بالجنان ، إذا رأوا صاحب الجنة ، فتحوا له أبوابها ، وحيوه بالسلام ، فيدخل محفوفًا بالملائكة على أعز حال ، وأجمل هيئة . وورد أن أول من يفتح له باب الجنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم . فلو كان الفتح قبل المجيء إكرامًا ، لوجدها مفتوحة قبل . وعن أبي هريرة أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم ، قال :« إذا دخل شهر رمضان فُتِّحَتْ أبوابُ الجنة ، وغُلِّقَتْ أبوابُ النار ، وصُفِّدَتْ الشياطينُ » . فقوله عليه الصلاة والسلام :« فُتِّحَتْ أَبْوَاب الْجَنَّة » يدل على أن أبواب الجنة كانت مغلَقةً قبل ، ولا ينافيه- كما جاء في حاشية السِّنْدِيِّ- قول الله عز وجل :﴿ جَنَّاتِ عَدْنٍ مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الْأَبْوَابُ ﴾ ؛ إذ ذلك لا يقتضي دوام كونها مفتَّحة .
وفيما ذكرته كفاية لمن أراد الهداية ، نسأله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من الذين يفقهون كلامه ، ويدركون أسرار بيانه ، ولا يقولون فيه إلا صوابًا ، والحمد لله رب العالمين