سر دخول اللام على جواب ( لو )
قال الله تبارك وتعالى:﴿ أَفَرَأَيْتُمْ مَّا تَحْرُثُونَ * أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ * لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ ﴾(الواقعة: 63- 65) . ثم قال سبحانه :﴿ أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ* أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ* لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ ﴾(الواقعة: 68- 70) ، فأدخل اللام على جواب ﴿ لَوْ ﴾ في قوله :﴿ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا ﴾، ونزعها منه في قوله :﴿ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا ﴾ . ولسائل أن يسأل : لمَ أدخِلت هذه اللام على الجواب الأول ، ونزعت منه في الثاني ؟ وفي الإجابة عن ذلك نقول بعون الله وتعليمه :
أولاً- للنحاة والمفسرين أقوالٌ في الإجابة عن ذلك والتعليل له ، ليس بعضها بأولى من بعض ، وتتلخص في : أن هذه اللام تدخل على جواب ﴿ لَوْ ﴾ زائدة لغرض التوكيد . وأما خروجها منه فالغرض منه الإيجاز والاختصار ، وأنه لما كان الوعيد بتحويل الزرع إلى حطام أشد وأصعب من الوعيد بتحويل الماء العذب إلى ملح أجاج ، احتاج الأول إلى تأكيده باللام ، دون الثاني .. وحجتهم في ذلك : أن الموجود من الماء الملح أكثر من الموجود من الماء العذب ، وأنه كثيرًا ما إذا جرت المياه العذبة على الأراضي المتغيرة التربة ، أو السبخة أحالتها إلى الملوحة ؛ فلذلك لم يحتج في جعل الماء العذب ملحًا إلى زيادة تأكيد . وأما الزرع فإن جعله حطامًا من الأشياء الخارجة عن المعتاد ، وإذا وقع فلا يكون إلا عن سخط من الله شديد ؛ فلذلك قرن بلام التأكيد زيادة في تحقيق أمره ، وتقريره إيجاده ... إلى غير ذلك من الأقوال التي لا تفسِّر أسلوبًا ، ولا توضح معنى .
ومما يدلك على ضعف هذه الأقوال ، وتكلفها في التأويل والتعليل ما ذكره الزركشي من تشبيه التوعُّد بجعل الماء أجاجًا بتوعُّد الإنسان عبده بالضرب بالعصا ونحوه ، وتشبيه التوعُّد بجعل الزرع حطامًا بتوعُّده بالقتل . ولما كان الأول أسهل وأيسر ، لم يحتج إلى تأكيد احتياج الثاني إليه .
وإلى نحو هذا القول ذهب الدكتور فاضل السامرائي في لمسات بيانية ، فقال في ذلك ما نصُّه :« والآيتان فيهما تهديد ، الأولى : أنه تعالى لو شاء يجعل الزرع حطامًا ، فلا يمكن أن يكون طعامًا ، أو يستفاد منه ، وهذه عقوبة أشد من جعل الماء أجاجًا ؛ لأن الماء الأجاج يمكن أن يحول إلى ماء عذب . والتهديد لم يأت في الآية بغور الماء كليًّا ؛ كما في تهديد جعل الزرع حطامًا ، فكانت العقوبة في الزرع أشد من العقوبة في الماء ، فجاء باللام لتأكيد التهديد في آية الزرع ، وحذفها من آية التهديد بالماء » .
ولست أدري ما وجه الشبَه بين توعُّد الله تعالى الكفار بجعل ماء السحاب أجاجًا ، وتوعُّد الإنسان عبده بضربه بالعصا ، وبين توعُّدهم بجعل الزرع حطامًا بتوعُّد العبد بالقتل ، حتى يقاس أحدهما بالآخر ؟ ثم إذا كان لدى الناس القدرة على تحويل الماء الأجاج إلى ماء عذب ، فما قيمة أن يتوعَّدهم الله تعالى بذلك ؟ ثم كيف يمكن أن نفهَم من جعل الماء أجاجًا أن التهديد في الآية لم يأت بغَوْر الماء كليًّا ؟ وهل جاء التهديد فيها بغور الماء أصلاً ، حتى يقال مثل هذا القول ؟
وليت شعري ماذا يقول أولئك الذين لا همَّ لهم سوى الطعن في بلاغة القرآن وفصاحته ، عندما يقرؤون مثل تلك الأقوال في تفسير كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، فضلاً عن أنه أنزل بلسان عربي مبين ؛ ليبين للناس أمور دينهم ، ويهديهم سنن الذين من قبلهم ، ويرشدهم إلى ما فيه خير الدنيا والآخرة ؟
ثانيًا- والمتأمل في الآيتين السابقتين يجد أن في نزع اللام من جواب ﴿ لَوْ ﴾ في قوله تعالى :﴿ لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا ﴾ إشارة إلى التعجيل بوقوع العقوبة عقب المشيئة فورًا دون تأخير . ويجد في إدخالها عليه في قوله تعالى :﴿ لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا ﴾ إشارة إلى تأجيل العقوبة لعقوبة أشدَّ منها ؛ كما قال تعالى :﴿ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ ﴾(يونس: 24) .
وقد جعل الله تعالى هلاك المهلَكين من الأمم الطاغية حصيدًا ، عقوبة لهم ، فقال سبحانه :﴿ ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ ﴾(هود: 100) . أي : منها هلك أهله دونه فهو باقٍ ، ومنها هلك بأهله فلا أثر له ؛ كالزرع المحصود بالمناجل ، بعضه قائمٌ على ساقه ، وبعضه حصيدٌ . وحصيدُ هو فَعيلٌ من الحصْد ، بمعنى : مفعول ، وهو قطع الزرع في إبَّانه ، واستئصاله من جذوره . وقد أفاد في الآية السابقة قطع الزرع واستئصاله في غير إبَّانه على سبيل الإفساد ، ومنه استعير قولهم : حصدَهم السيفُ . ومنه- كما في مسند أحمد- قوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ :« وهل يكب الناس على مناخرهم في جهنم إلا حصائد ألسنتهم » .
وعليه يكون معنى الآية : لو يشاء الله تعالى ، لجعل الزرع الذي ينبته من الحب حطامًا ، عقوبة لهم على شركهم به ، وتكذيبهم بآياته ؛ ولكن اقتضت مشيئته سبحانه أن يؤجل هذه العقوبة لأشدَّ منها ، كان ذلك ﴿ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ ﴾(الروم:6 ) ، ﴿ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ ﴾(الحج: 47) .
والمراد من جعل الزرع حطامًا جعله متكسِّرًا قبل الانتفاع به . وأما ما يؤول إليه الزرع من الحطام بعد الانتفاع به فذلك معلوم لكل أحد ، ولا يكون التعبير عنه مشروطًا بـ﴿ لَوْ ﴾ ؛ كما في قوله تعالى :﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا ﴾(الزمر: 21) ؛ فلإفادة هذا المعنى- أعني : تأجيل العقوبة لأشدَّ منها- أدخلت اللام على جواب ﴿ لَوْ ﴾ ، هذه اللام التي أجمعوا على القول بزيادتها للتوكيد ، وهم معذورون في ذلك ، فأسرار القرآن الكريم أجلُّ ، وأعظم من أن تحيط بها عقول البشر !
وأما قوله تعالى عن الماء :﴿ لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا ﴾ فالمعنى المراد منه : لو يشاء الله تعالى ، جعل الماء المنزَّل من السحاب أجاجًا لوقته دون تأخير ، فلا ينتفع به في شرب ، ولا زرع ، ولا غيرهما ؛ ولكنه تعالى لم يشأ ذلك رحمة بعباده ، وفضلاً منه تعالى عليهم . أما ما يؤول إليه الماء من الملوحة بعد نزوله من السحاب ، وجريه على الأراضي المتغيرة التربة ، أو السبخة- كما قالوا- فذلك ما لم يُرَدْ من الآية الكريمة ، وليس في الإخبار عنه أية فائدة تذكر .
ويبيِّن لك ذلك أن الله تعالى قال :﴿ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا ﴾ ، ولم يقل :﴿ جَعَلْنَاهُ ملحًا ﴾ ؛ لأن مياه الأرض كلها تحتوي على نسب من الأملاح متباينة . ومن هنا قلَّ الاقتصار على وصف الماء الذي لا ينتفع به ، بالملح في لغة العرب . وكثيرًا ما كانوا يقرنون هذا الوصف بوصف الأجاج ؛ كما كانوا يقرنون وصف الماء العذب بوصف الفرات ؛ وفي ذلك يقول الله تعالى :
﴿ وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا ﴾(فاطر: 12) .
فقابل سبحانه وتعالى بين العذب والملح ، وبين الفرات والأجاج . والماء العذب هو الطيب البارد . والماء الملح هو الذي تغير طعمه . وإذا كان لا ينتفع به في شرب ، فإنه ينتفع به في غيره . والماء الفرات ما كان مذاقه مستساغًا ، يضرب طعمه إلى الحلاوة ، بسبب انحلال بعض المعادن والغازات فيه . والماء الأجاج هو الماء الزُّعَاقُ ، وهو المرُّ الذي لا يطاق ، ولا ينتفع به في شرب ، ولا غيره ، لشدَّة مرارته وحرارته ، وهو من قولهم : أجيج النار .
فإذا عرفت ذلك ، تبيَّن لك سر الجمع بين الملح ، والأجاج في وصف ماء البحر ؛ إذ لو اقتصر في وصفه على كونه ملحًا ، كان مثل أي ماء يجري على التربة المتغيرة ، ويستقر في أعماق الأرض . ولو اقتصر في وصفه على كونه أجاجًا ، كان ماؤه فاسدًا ، لا ينتفع به في شيء مطلقًا .. وكذلك جعل ماء المزن أجاجًا . والمزن هو السحاب الأبيض المثقل بماء المطر ، وهو أنقى ماء وأعذب . ولئن اجتمع الإنس والجن بما أوتوا من قوة على أن يعيدوا هذا الماء بعد جعله أجاجًا إلى حالته الأولى ، لعجزوا عن ذلك ، ولو كان بعضهم لبعض ظهيرًا .
ومن هنا كان جعل هذا الماء أجاجًا- أي : شديد المرارة والحرارة لوقته دون تأخير- أدلَّ على قدرة الله تعالى ، من جعل الزرع حطامًا ، وإن كان الكل أمام قدرة الله سواء . ويدلك على ذلك أن قوله تعالى :﴿ لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا ﴾ قيل على طريقة الإخبار ؛ لأن جعل الماء المنزل من المزن أجاجًا لوقته عقب المشيئة ، لم يشاهد في الواقع ؛ لأنه لم يقع ، بخلاف جعل الزرع حطامًا ؛ فإنه كثيرًا ما وقع كونه حطامًا بعد أن كان أخضرَ يانعًا ، خلافًا لمن زعم غير ذلك . فلو قيل : جعلناه حطامًا بإسقاط اللام ؛ كما قيل : جعلناه أجاجًا ، لتُوُهِّم منه الإخبار .
ثالثًا- ومما يدلك على صحة ما تقدم أن دخول هذه اللام على جواب ﴿ لَوْ ﴾ لا يكون إلا في الأفعال التي لا يُتخيَّل وقوعها ؛ كما في قوله تعالى :
﴿ قَالُوا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا ﴾(الأنفال: 31)
﴿ قَالُوا لَوْ شَاء رَبُّنَا لَأَنزَلَ مَلَائِكَةً ﴾(فصلت: 14)
﴿ وَلَوْ نَشَاء لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ ﴾(يس: 66)
﴿ وَلَوْ نَشَاء لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ ﴾(يس: 67)
﴿ وَلَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَا مِنكُم مَّلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ ﴾(الزخرف: 60)
ومثل ذلك قوله تعالى :﴿ لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا ﴾ . فجعل الزرع حطامًا ممّا لا يتخيل وقوعه ، وإن كان يقع ؛ ولهذا قال تعالى عقِبه :﴿ فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ ﴾ ، فأتى بفعل التفكُّه ؛ لأن ذكر الحطام يلائم التفكُّه . ومعنى الاعتداد بالزرع ، يقتضي الاعتداد بصلاحه وعدم فساده ، فحصل التفكُّه . والمعنى : فظلتم تعجبون من هلاك زرعكم ، وتندمون على ما أنفقتم فيه . وقيل : تلاومون وتندمون على ما سلف منكم من معصية الله التي أوجبت عقوبتكم ، حتى نالتكم في زرعكم . والقولان مرادان يكمل أحدهما الآخر ، والدليل على ذلك قوله تعالى :
﴿ وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا ﴾(الكهف: 35) إلى قوله تعالى :﴿ وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً ﴾(الكهف: 42) ؛ ألا ترى إلى قول هذا الكافر لفرط غفلته وطول أمله واغتراره بجنته :﴿ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا ﴾ . إنه لم يتخيل هلاكها أبدًا ، فلما ظهر له أنها مما يعتريه الهلاك ندم على ما صنع .
أما جعل الماء العذب أجاجًا فهو مما يتخيل وقوعه ، وإن لم يقع . ولهذا عقَّب تعالى على جعل الماء أجاجًا بقوله :﴿ فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ ﴾ ، وهو تحضيض لهم على الشكر بإخلاص العبادة لله تعالى وحده على هذه النعمة التي هي أعظم النعم . ومثله في تخيل الوقوع والتعجيل به عقب المشيئة ، قوله تعالى :﴿ أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِن بَعْدِ أَهْلِهَا أَن لَّوْ نَشَاء أَصَبْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ ﴾(الأعراف: 100) . ومثل تهديد الكفار بجعل الماء المنزل من المزن أجاجًا تهديدهم بجعل ماء الأرض غورًا ، وإليه الإشارة بقول الله عز وجل :﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَن يَأْتِيكُم بِمَاء مَّعِينٍ ﴾(الملك: 30) ؟
فكيف يمكن القول بعد هذا : إن جعل الماء أجاجًا أسهل وأكثر من جعل الزرع حطامًا ، وإن الوعيد بفقد الزرع أشد وأصعب من الوعيد بفقد الماء ، فاحتاج الأول إلى تأكيده باللام ، دون الثاني ؟ ألا ترى أنه لولا الماء ، لما كان هناك زرع ، ولا شجر ، ولا حيوان ، ولا بشر ؟ ألم يسمعوا قول الله تعالى :﴿ وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ ﴾(الأنبياء: 30) ؟
ومما يدلك أيضًا على فساد ما ذهبوا إليه أن من يتأمل الآيات التي أدخلت اللام فيها على جواب ﴿ لَوْ ﴾ ، يجد أن هذه اللام تقوم مقام السين وسوف ، في الدلالة على التسويف والمماطلة في إيقاع الفعل . وأوضح ما يكون ذلك في قوله تعالى في صفة الكافرين :﴿ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ﴾(الأنفال: 31) . أي: لو يشاؤون ، لقالوا مثل هذا القرآن لعنهم الله . وهم لم يقولوا ، ولن يقولوا ، ولا يمكنهم أن يقولوا ؛ ولهذا أتوا بهذه اللام التي دلت على تسويفهم ومماطلتهم . وهذا بخلاف قولهم :﴿ لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم حَتَّى ذَاقُواْ بَأْسَنَا ﴾(الأنعام : 148 ) . لاحظ كيف قرنوا شركهم بالله تعالى ، وتحريمهم ما أحل بمشيئته سبحانه مباشرة دون تأخير . ولو قالوا : لما أشركنا ، لدل قولهم على أن شركهم جاء متأخرًا عن المشيئة ، فيحتمل حينئذٍ أن يكونوا آمنوا ، ثم أشركوا .. ثم تأمل ذلك في بقية الآيات التي جاء فيها جواب الشرط مجردًا من اللام ، والآيات التي اقترن فيها جواب الشرط باللام ، تجدها كلها على ما ذكرت ، إن شاء الله !
رابعًا- وإن كنت ممن يتأملون الكلام ، ويتلذذون بإدراك أسرار البيان ، فتأمل قول كُثيِّر عَزَّةَ :
رهبانُ مَدينَ والذين عهدتـهم ** يبكون من أثر السجود قعودا
لو يسمعون كما سمعت كلامها ** خرُّوا لعَزَّةَ رُكَّعًا، وسجـودا
ثم لاحظ قوله :« خرُّوا لعَزَّةَ رُكَّعًا ، وسجـودا » ، تجده قد وقع عقِب سماعهم كلامها دون تأخير ؛ ولهذا أتى به مجردًا من اللام . وتأمل بعد ذلك قول توْبةَ بن الحُمَيِّر :
ولو أَنَّ لَيْلَى الأَخْيَلِيَّةَ سَلَّمَـتْ ** علىَّ، ودُونِى جَنْدَلٌ وصَفائـــحُ
لَسَلَمْتُ تَسْليمَ البَشَاشَةِ، أَو زَقَا ** إِليْها صَدًى من جانب القَبْرِ صائحُ
ثم لاحظ قوله :« لَسَلَمْتُ تَسْليمَ البَشَاشَةِ » ، كيف أدخل عليه اللام التي تدل على المماطلة والتسويف في إيقاع الفعل الذي لا يتخيَّل وقوعه .
ولو أردت أن تتبيَّن الفرق بين الموضعين ، فقارن بين قول أحدهم :« لو جاءني زيد أكرمته » ، وبين قول الآخر :« لو جاءني زيد لأكرمته » ، تجد أن الأول صادق في قوله ، والثاني مماطل مسوِّف ، ثم تذكر أن القول بزيادة اللام في الثاني للتوكيد من أخطر الأقوال التي يفسَّر بها كلام الله جل وعلا ؛ ولهذا أقول : ينبغي أن تسمَّى هذه اللام : لام التسويف ؛ لأنها تفيد ما يفيده كلٌّ من السين وسوف ، من دلالة على التأخير والتسويف والمماطلة في إيقاع الفعل . وأختم بقولي : ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ، فلا علم لنا إلا ما علمتنا ، لك الشكر على ما أنعمت ، ولك الحمد على ما تفضلت به علينا من نعمة العلم والفهم والدين ، وسلام على المرسلين
قال الله تبارك وتعالى:﴿ أَفَرَأَيْتُمْ مَّا تَحْرُثُونَ * أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ * لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ ﴾(الواقعة: 63- 65) . ثم قال سبحانه :﴿ أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ* أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ* لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ ﴾(الواقعة: 68- 70) ، فأدخل اللام على جواب ﴿ لَوْ ﴾ في قوله :﴿ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا ﴾، ونزعها منه في قوله :﴿ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا ﴾ . ولسائل أن يسأل : لمَ أدخِلت هذه اللام على الجواب الأول ، ونزعت منه في الثاني ؟ وفي الإجابة عن ذلك نقول بعون الله وتعليمه :
أولاً- للنحاة والمفسرين أقوالٌ في الإجابة عن ذلك والتعليل له ، ليس بعضها بأولى من بعض ، وتتلخص في : أن هذه اللام تدخل على جواب ﴿ لَوْ ﴾ زائدة لغرض التوكيد . وأما خروجها منه فالغرض منه الإيجاز والاختصار ، وأنه لما كان الوعيد بتحويل الزرع إلى حطام أشد وأصعب من الوعيد بتحويل الماء العذب إلى ملح أجاج ، احتاج الأول إلى تأكيده باللام ، دون الثاني .. وحجتهم في ذلك : أن الموجود من الماء الملح أكثر من الموجود من الماء العذب ، وأنه كثيرًا ما إذا جرت المياه العذبة على الأراضي المتغيرة التربة ، أو السبخة أحالتها إلى الملوحة ؛ فلذلك لم يحتج في جعل الماء العذب ملحًا إلى زيادة تأكيد . وأما الزرع فإن جعله حطامًا من الأشياء الخارجة عن المعتاد ، وإذا وقع فلا يكون إلا عن سخط من الله شديد ؛ فلذلك قرن بلام التأكيد زيادة في تحقيق أمره ، وتقريره إيجاده ... إلى غير ذلك من الأقوال التي لا تفسِّر أسلوبًا ، ولا توضح معنى .
ومما يدلك على ضعف هذه الأقوال ، وتكلفها في التأويل والتعليل ما ذكره الزركشي من تشبيه التوعُّد بجعل الماء أجاجًا بتوعُّد الإنسان عبده بالضرب بالعصا ونحوه ، وتشبيه التوعُّد بجعل الزرع حطامًا بتوعُّده بالقتل . ولما كان الأول أسهل وأيسر ، لم يحتج إلى تأكيد احتياج الثاني إليه .
وإلى نحو هذا القول ذهب الدكتور فاضل السامرائي في لمسات بيانية ، فقال في ذلك ما نصُّه :« والآيتان فيهما تهديد ، الأولى : أنه تعالى لو شاء يجعل الزرع حطامًا ، فلا يمكن أن يكون طعامًا ، أو يستفاد منه ، وهذه عقوبة أشد من جعل الماء أجاجًا ؛ لأن الماء الأجاج يمكن أن يحول إلى ماء عذب . والتهديد لم يأت في الآية بغور الماء كليًّا ؛ كما في تهديد جعل الزرع حطامًا ، فكانت العقوبة في الزرع أشد من العقوبة في الماء ، فجاء باللام لتأكيد التهديد في آية الزرع ، وحذفها من آية التهديد بالماء » .
ولست أدري ما وجه الشبَه بين توعُّد الله تعالى الكفار بجعل ماء السحاب أجاجًا ، وتوعُّد الإنسان عبده بضربه بالعصا ، وبين توعُّدهم بجعل الزرع حطامًا بتوعُّد العبد بالقتل ، حتى يقاس أحدهما بالآخر ؟ ثم إذا كان لدى الناس القدرة على تحويل الماء الأجاج إلى ماء عذب ، فما قيمة أن يتوعَّدهم الله تعالى بذلك ؟ ثم كيف يمكن أن نفهَم من جعل الماء أجاجًا أن التهديد في الآية لم يأت بغَوْر الماء كليًّا ؟ وهل جاء التهديد فيها بغور الماء أصلاً ، حتى يقال مثل هذا القول ؟
وليت شعري ماذا يقول أولئك الذين لا همَّ لهم سوى الطعن في بلاغة القرآن وفصاحته ، عندما يقرؤون مثل تلك الأقوال في تفسير كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، فضلاً عن أنه أنزل بلسان عربي مبين ؛ ليبين للناس أمور دينهم ، ويهديهم سنن الذين من قبلهم ، ويرشدهم إلى ما فيه خير الدنيا والآخرة ؟
ثانيًا- والمتأمل في الآيتين السابقتين يجد أن في نزع اللام من جواب ﴿ لَوْ ﴾ في قوله تعالى :﴿ لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا ﴾ إشارة إلى التعجيل بوقوع العقوبة عقب المشيئة فورًا دون تأخير . ويجد في إدخالها عليه في قوله تعالى :﴿ لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا ﴾ إشارة إلى تأجيل العقوبة لعقوبة أشدَّ منها ؛ كما قال تعالى :﴿ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ ﴾(يونس: 24) .
وقد جعل الله تعالى هلاك المهلَكين من الأمم الطاغية حصيدًا ، عقوبة لهم ، فقال سبحانه :﴿ ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ ﴾(هود: 100) . أي : منها هلك أهله دونه فهو باقٍ ، ومنها هلك بأهله فلا أثر له ؛ كالزرع المحصود بالمناجل ، بعضه قائمٌ على ساقه ، وبعضه حصيدٌ . وحصيدُ هو فَعيلٌ من الحصْد ، بمعنى : مفعول ، وهو قطع الزرع في إبَّانه ، واستئصاله من جذوره . وقد أفاد في الآية السابقة قطع الزرع واستئصاله في غير إبَّانه على سبيل الإفساد ، ومنه استعير قولهم : حصدَهم السيفُ . ومنه- كما في مسند أحمد- قوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ :« وهل يكب الناس على مناخرهم في جهنم إلا حصائد ألسنتهم » .
وعليه يكون معنى الآية : لو يشاء الله تعالى ، لجعل الزرع الذي ينبته من الحب حطامًا ، عقوبة لهم على شركهم به ، وتكذيبهم بآياته ؛ ولكن اقتضت مشيئته سبحانه أن يؤجل هذه العقوبة لأشدَّ منها ، كان ذلك ﴿ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ ﴾(الروم:6 ) ، ﴿ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ ﴾(الحج: 47) .
والمراد من جعل الزرع حطامًا جعله متكسِّرًا قبل الانتفاع به . وأما ما يؤول إليه الزرع من الحطام بعد الانتفاع به فذلك معلوم لكل أحد ، ولا يكون التعبير عنه مشروطًا بـ﴿ لَوْ ﴾ ؛ كما في قوله تعالى :﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا ﴾(الزمر: 21) ؛ فلإفادة هذا المعنى- أعني : تأجيل العقوبة لأشدَّ منها- أدخلت اللام على جواب ﴿ لَوْ ﴾ ، هذه اللام التي أجمعوا على القول بزيادتها للتوكيد ، وهم معذورون في ذلك ، فأسرار القرآن الكريم أجلُّ ، وأعظم من أن تحيط بها عقول البشر !
وأما قوله تعالى عن الماء :﴿ لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا ﴾ فالمعنى المراد منه : لو يشاء الله تعالى ، جعل الماء المنزَّل من السحاب أجاجًا لوقته دون تأخير ، فلا ينتفع به في شرب ، ولا زرع ، ولا غيرهما ؛ ولكنه تعالى لم يشأ ذلك رحمة بعباده ، وفضلاً منه تعالى عليهم . أما ما يؤول إليه الماء من الملوحة بعد نزوله من السحاب ، وجريه على الأراضي المتغيرة التربة ، أو السبخة- كما قالوا- فذلك ما لم يُرَدْ من الآية الكريمة ، وليس في الإخبار عنه أية فائدة تذكر .
ويبيِّن لك ذلك أن الله تعالى قال :﴿ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا ﴾ ، ولم يقل :﴿ جَعَلْنَاهُ ملحًا ﴾ ؛ لأن مياه الأرض كلها تحتوي على نسب من الأملاح متباينة . ومن هنا قلَّ الاقتصار على وصف الماء الذي لا ينتفع به ، بالملح في لغة العرب . وكثيرًا ما كانوا يقرنون هذا الوصف بوصف الأجاج ؛ كما كانوا يقرنون وصف الماء العذب بوصف الفرات ؛ وفي ذلك يقول الله تعالى :
﴿ وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا ﴾(فاطر: 12) .
فقابل سبحانه وتعالى بين العذب والملح ، وبين الفرات والأجاج . والماء العذب هو الطيب البارد . والماء الملح هو الذي تغير طعمه . وإذا كان لا ينتفع به في شرب ، فإنه ينتفع به في غيره . والماء الفرات ما كان مذاقه مستساغًا ، يضرب طعمه إلى الحلاوة ، بسبب انحلال بعض المعادن والغازات فيه . والماء الأجاج هو الماء الزُّعَاقُ ، وهو المرُّ الذي لا يطاق ، ولا ينتفع به في شرب ، ولا غيره ، لشدَّة مرارته وحرارته ، وهو من قولهم : أجيج النار .
فإذا عرفت ذلك ، تبيَّن لك سر الجمع بين الملح ، والأجاج في وصف ماء البحر ؛ إذ لو اقتصر في وصفه على كونه ملحًا ، كان مثل أي ماء يجري على التربة المتغيرة ، ويستقر في أعماق الأرض . ولو اقتصر في وصفه على كونه أجاجًا ، كان ماؤه فاسدًا ، لا ينتفع به في شيء مطلقًا .. وكذلك جعل ماء المزن أجاجًا . والمزن هو السحاب الأبيض المثقل بماء المطر ، وهو أنقى ماء وأعذب . ولئن اجتمع الإنس والجن بما أوتوا من قوة على أن يعيدوا هذا الماء بعد جعله أجاجًا إلى حالته الأولى ، لعجزوا عن ذلك ، ولو كان بعضهم لبعض ظهيرًا .
ومن هنا كان جعل هذا الماء أجاجًا- أي : شديد المرارة والحرارة لوقته دون تأخير- أدلَّ على قدرة الله تعالى ، من جعل الزرع حطامًا ، وإن كان الكل أمام قدرة الله سواء . ويدلك على ذلك أن قوله تعالى :﴿ لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا ﴾ قيل على طريقة الإخبار ؛ لأن جعل الماء المنزل من المزن أجاجًا لوقته عقب المشيئة ، لم يشاهد في الواقع ؛ لأنه لم يقع ، بخلاف جعل الزرع حطامًا ؛ فإنه كثيرًا ما وقع كونه حطامًا بعد أن كان أخضرَ يانعًا ، خلافًا لمن زعم غير ذلك . فلو قيل : جعلناه حطامًا بإسقاط اللام ؛ كما قيل : جعلناه أجاجًا ، لتُوُهِّم منه الإخبار .
ثالثًا- ومما يدلك على صحة ما تقدم أن دخول هذه اللام على جواب ﴿ لَوْ ﴾ لا يكون إلا في الأفعال التي لا يُتخيَّل وقوعها ؛ كما في قوله تعالى :
﴿ قَالُوا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا ﴾(الأنفال: 31)
﴿ قَالُوا لَوْ شَاء رَبُّنَا لَأَنزَلَ مَلَائِكَةً ﴾(فصلت: 14)
﴿ وَلَوْ نَشَاء لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ ﴾(يس: 66)
﴿ وَلَوْ نَشَاء لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ ﴾(يس: 67)
﴿ وَلَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَا مِنكُم مَّلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ ﴾(الزخرف: 60)
ومثل ذلك قوله تعالى :﴿ لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا ﴾ . فجعل الزرع حطامًا ممّا لا يتخيل وقوعه ، وإن كان يقع ؛ ولهذا قال تعالى عقِبه :﴿ فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ ﴾ ، فأتى بفعل التفكُّه ؛ لأن ذكر الحطام يلائم التفكُّه . ومعنى الاعتداد بالزرع ، يقتضي الاعتداد بصلاحه وعدم فساده ، فحصل التفكُّه . والمعنى : فظلتم تعجبون من هلاك زرعكم ، وتندمون على ما أنفقتم فيه . وقيل : تلاومون وتندمون على ما سلف منكم من معصية الله التي أوجبت عقوبتكم ، حتى نالتكم في زرعكم . والقولان مرادان يكمل أحدهما الآخر ، والدليل على ذلك قوله تعالى :
﴿ وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا ﴾(الكهف: 35) إلى قوله تعالى :﴿ وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً ﴾(الكهف: 42) ؛ ألا ترى إلى قول هذا الكافر لفرط غفلته وطول أمله واغتراره بجنته :﴿ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا ﴾ . إنه لم يتخيل هلاكها أبدًا ، فلما ظهر له أنها مما يعتريه الهلاك ندم على ما صنع .
أما جعل الماء العذب أجاجًا فهو مما يتخيل وقوعه ، وإن لم يقع . ولهذا عقَّب تعالى على جعل الماء أجاجًا بقوله :﴿ فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ ﴾ ، وهو تحضيض لهم على الشكر بإخلاص العبادة لله تعالى وحده على هذه النعمة التي هي أعظم النعم . ومثله في تخيل الوقوع والتعجيل به عقب المشيئة ، قوله تعالى :﴿ أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِن بَعْدِ أَهْلِهَا أَن لَّوْ نَشَاء أَصَبْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ ﴾(الأعراف: 100) . ومثل تهديد الكفار بجعل الماء المنزل من المزن أجاجًا تهديدهم بجعل ماء الأرض غورًا ، وإليه الإشارة بقول الله عز وجل :﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَن يَأْتِيكُم بِمَاء مَّعِينٍ ﴾(الملك: 30) ؟
فكيف يمكن القول بعد هذا : إن جعل الماء أجاجًا أسهل وأكثر من جعل الزرع حطامًا ، وإن الوعيد بفقد الزرع أشد وأصعب من الوعيد بفقد الماء ، فاحتاج الأول إلى تأكيده باللام ، دون الثاني ؟ ألا ترى أنه لولا الماء ، لما كان هناك زرع ، ولا شجر ، ولا حيوان ، ولا بشر ؟ ألم يسمعوا قول الله تعالى :﴿ وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ ﴾(الأنبياء: 30) ؟
ومما يدلك أيضًا على فساد ما ذهبوا إليه أن من يتأمل الآيات التي أدخلت اللام فيها على جواب ﴿ لَوْ ﴾ ، يجد أن هذه اللام تقوم مقام السين وسوف ، في الدلالة على التسويف والمماطلة في إيقاع الفعل . وأوضح ما يكون ذلك في قوله تعالى في صفة الكافرين :﴿ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ﴾(الأنفال: 31) . أي: لو يشاؤون ، لقالوا مثل هذا القرآن لعنهم الله . وهم لم يقولوا ، ولن يقولوا ، ولا يمكنهم أن يقولوا ؛ ولهذا أتوا بهذه اللام التي دلت على تسويفهم ومماطلتهم . وهذا بخلاف قولهم :﴿ لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم حَتَّى ذَاقُواْ بَأْسَنَا ﴾(الأنعام : 148 ) . لاحظ كيف قرنوا شركهم بالله تعالى ، وتحريمهم ما أحل بمشيئته سبحانه مباشرة دون تأخير . ولو قالوا : لما أشركنا ، لدل قولهم على أن شركهم جاء متأخرًا عن المشيئة ، فيحتمل حينئذٍ أن يكونوا آمنوا ، ثم أشركوا .. ثم تأمل ذلك في بقية الآيات التي جاء فيها جواب الشرط مجردًا من اللام ، والآيات التي اقترن فيها جواب الشرط باللام ، تجدها كلها على ما ذكرت ، إن شاء الله !
رابعًا- وإن كنت ممن يتأملون الكلام ، ويتلذذون بإدراك أسرار البيان ، فتأمل قول كُثيِّر عَزَّةَ :
رهبانُ مَدينَ والذين عهدتـهم ** يبكون من أثر السجود قعودا
لو يسمعون كما سمعت كلامها ** خرُّوا لعَزَّةَ رُكَّعًا، وسجـودا
ثم لاحظ قوله :« خرُّوا لعَزَّةَ رُكَّعًا ، وسجـودا » ، تجده قد وقع عقِب سماعهم كلامها دون تأخير ؛ ولهذا أتى به مجردًا من اللام . وتأمل بعد ذلك قول توْبةَ بن الحُمَيِّر :
ولو أَنَّ لَيْلَى الأَخْيَلِيَّةَ سَلَّمَـتْ ** علىَّ، ودُونِى جَنْدَلٌ وصَفائـــحُ
لَسَلَمْتُ تَسْليمَ البَشَاشَةِ، أَو زَقَا ** إِليْها صَدًى من جانب القَبْرِ صائحُ
ثم لاحظ قوله :« لَسَلَمْتُ تَسْليمَ البَشَاشَةِ » ، كيف أدخل عليه اللام التي تدل على المماطلة والتسويف في إيقاع الفعل الذي لا يتخيَّل وقوعه .
ولو أردت أن تتبيَّن الفرق بين الموضعين ، فقارن بين قول أحدهم :« لو جاءني زيد أكرمته » ، وبين قول الآخر :« لو جاءني زيد لأكرمته » ، تجد أن الأول صادق في قوله ، والثاني مماطل مسوِّف ، ثم تذكر أن القول بزيادة اللام في الثاني للتوكيد من أخطر الأقوال التي يفسَّر بها كلام الله جل وعلا ؛ ولهذا أقول : ينبغي أن تسمَّى هذه اللام : لام التسويف ؛ لأنها تفيد ما يفيده كلٌّ من السين وسوف ، من دلالة على التأخير والتسويف والمماطلة في إيقاع الفعل . وأختم بقولي : ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ، فلا علم لنا إلا ما علمتنا ، لك الشكر على ما أنعمت ، ولك الحمد على ما تفضلت به علينا من نعمة العلم والفهم والدين ، وسلام على المرسلين